المقالات
سبتمبر 2023

من وحي القرى الأحسائية

في القرية الأحسائية تتجلَّى الأشياء على حقيقتها، فالحقولُ ليستْ مَرافقَ على هامش الحياة، وإنما هي القلوب التي تضخُّ الدماء في عروق الحياة وشرايينها. والأسواق في القرية ليست ساحاتِ تحريرٍ للغرائز الإنسانية المكبوتة في سجونها الاجتماعية كما يحدث في مجمَّعات التسوُّق في المدن، وإنما هي مواضعُ حقيقية يتمُّ فيها تداول البضائع الخفيفة عبر البيع والشراء كما ينبغي.

مصدر الصورة:
قد تواجه بعض المشاكل في التصفح عبر الجوال عند وجود جداول في المنشور، ولتصفح أفضل ؛ ننصحك بالتصفح عبر شاشة أكبر أو التصفح بعرض الشاشة.

منذ أنْ كانت الطفولةُ تمارسُ عملَها بإتقان في الزُّقاق الذي كان يستدرجُنا صِغارا إلى اللعب البريء والخطايا العفيفة.. منذ ذلك الحين، إلى أنْ كبرنا وأصبحنا نرى أطفالَنا جواهرَ تلمع في جُيوب الأزقَّة، ما زالت الأحساء هي الأحساء بكاملِ قُراها: مكانٌ لا يأتي عليه الغدُ على صعيد التغيير الإنساني.  كانت الجغرافيا تتنفَّس تنفُّسًا طبيعيًا حينما انبسطتْ سهولاً شاسعة على امتداد الأحساء؛ وكلما جرَّت من صدرها آهةَ حُزن، تمخَّضتْ عن آهتها نخلةٌ حتى أصبحَ عددُ نخيلها بعدد آهاتـها.  وحينما شهقت الجغرافيا، تنتَّأَتْ من شهقاتـها جبالٌ عديدة مثل (جبل القارة)، (جبل الأربع)، (جبل كنزان)، وغيرها. فإذا لم تكن الأحساءُ روايةً سقطتْ سهوا من أساطير (ألف ليلة وليلة)، فهي على تـماسٍّ كاملٍ بهذا السقوط الساهي.  ففي الواقع الأحسائي، لا تستقيل الأسطورةُ، ولا يتقاعد الخيالُ من العمل، ولا ينقطع وحيُ الشعر.  هذه الأرض بطنٌ ولاَّدةٌ لم تضقْ قَطُّ بتفريخ القصص المبدعة؛ وها هي منذُ البدايات، واقفة تصهر سبائكَ الرمال الذهبيَّة في شمس الأبديَّة، وتصنع السوارَ الساحليَّ الذي يطرِّز ذراعَ (الخليج) بالذهب. بينما أبوها التاريخ هو الـحُجَّةُ العظمى الذي يفرش عباءته على حاضرها، ويُوَزِّع بركاته؛ لذلك، تبقَى علاقتنا نحن الأحسائيِّين بالأحساء هي ذاتـها علاقتنا بالماضي، وهي علاقةٌ طوباويّةٌ.. هلاميَّةٌ.. شاخصةٌ في أعماق الذاكرة، وعندما ندخل في تفاصيلها نتيه في الزواريب التي تختبئ فيها الحقائق.

ولا يمكن الحديث عن الأحساء دون الحديث عن القرية، فالأحساء سربٌ حالـمٌ من القُرى مسافرٌ باتجاه المدينة، وآمَلُ له أنْ لا يصل. تدور الأحاديث بين أبناءِ الأحساء عن القرى التي تحوَّلت إلى مُدُن، بعد أن اتَّسعتْ الرقعةُ العُمرانية فيها وتزايد عددُ السُّكَّان، وانكمشتْ المساحة الزراعية. لكنَّني لا أنظر إلى القرية على صعيد المبنى، وإنما أنظرُ إليها على صعيد المعنى حيث القُرى هي خزائنُ الأرواح التي تحتفظ بالوجدان البريء، والملامح الأولى، والإحساس العذريّ، والنقاء الأوَّل. هكذا تصبح القرية عنوان الأصالة، ورمز المعاني الداخلية العميقة.

في القرية الأحسائية تتجلَّى الأشياء على حقيقتها، فالحقولُ ليستْ مَرافقَ على هامش الحياة، وإنما هي القلوب التي تضخُّ الدماء في عروق الحياة وشرايينها. والأسواق في القرية ليست ساحاتِ تحريرٍ للغرائز الإنسانية المكبوتة في سجونها الاجتماعية كما يحدث في مجمَّعات التسوُّق في المدن، وإنما هي مواضعُ حقيقية يتمُّ فيها تداول البضائع الخفيفة عبر البيع والشراء كما ينبغي.  وهذا ينطبق على كلّ عناصر القرية، فهي لا تكاد تتجاوز هدفَها الذي وُجِدَتْ من أجله، وكأنَّ المكان توأمُ الحقيقة الصافية. لذلك، فإنَّ الشعورَ بالاغتراب الفادح، والحنين للعودة إلى القرية بعد أن نغادرَها فترةً من الزمن.. هذا الشعور ليسَ محاولةً لإعادة عقارب الزمن إلى الوراء، وإنَّما هو حاجةُ الإنسان للعودة إلى مفردات الطبيعة التي شكَّلتْ مراتعَ طفولته ومنابعَ الصفاء الأوَّل في حياته حتى بات يشعر بالأمان النفسي.

وعلى الرغم من أنَّ القرية الأحسائية قد تَضَرَّجَتْ شوارعُها بالأسفلت، وغرقتْ في طوفان الأسمنت والفولاذ، وأصبحتْ أعناقُ الأبراج الحديدية فيها أعلى من أعناق النخيل.. على الرغم من كلِّ ذلك، إلا أنَّ الإنسان الأحسائي ما زال يمتلك المهارةَ للعبور من هذه الهاوية إلى الـهُوِيَّة حيث يلتقي ذاته الأولى في المكان، فلا يعرفُ هذا الأحسائيُّ إلى أين يذهبُ بعد انحسار  النخيل:

كالأبجديَّةِ بعد حرفِ (الياءِ)

مُتَشَرِّدٌ أنا خارجَ (الأحساءِ)

مُتَشَرِّدٌ حدَّ التِباسِ هُوِيَّتي

مُتَشَرِّدٌ حدَّ اشتباهِ دمائي

وإذا تجاوزتُ النخيلَ، إِخالُني

جاوزتُ في قَدَري حدودَ قضائي

في القرية، نرى حياتَنا تعيش في الحقول والبساتين، تتنفَّس هناك، وتلعب وتركض وتمارس هواياتها، وتجد ذاتها.  لكنْ في الوقت ذاته، الحياةُ لا تتغيَّر إلا ببطءٍ شديدٍ وكأنَّها محمولةٌ على ظهرِ سلحفاة، أوْ مجمَّدةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ في ثلاجة الوقت، حيث الأعمار فقاعاتٌ معدنيَّةٌ منصهرةٌ على ماضيها لا ينفذ إليها الضوء، والفكرة هي الفكرة لم تمارسْ حراكًا منذ زمنٍ بعيد، ولا شيءَ سوى (الرومانس) يقود العواطفَ مثل قاطراتٍ تجيش منطلقةً بسرعتها القصوى على دروب الحب.  وهذا هو ما يبقى لنا: الحبُّ.. حبُّ هذه الأرض، وحقيقةُ أنَّ الخريطة الأحسائية لا تكتمل في ملامحها إلا إذا اشتبكتْ خطوطُها وأبعادُها بأحشائنا والملامح.  ويبقى للأحساء سِرُّها الذي يتجلَّى في مرآةِ إنسانـهـا.. هذا الإنسان الرومانسيِّ والـمُتمسِّك بالأرض تَمَسُّكًا وجوديًّا عميقا وعريقا، مشدودًا من كلِّ شرايينِ جسده إلى كلِّ حبّةِ تراب، حيث إنَّ الأحساء تتجاوز خارطتها الجغرافيَّة إلى خارطتها الأوسع في قلب ذلك الإنسان الذي يراهن أكثر ما يراهن على بقاءِ الذاكرة الأحسائية حيَّةً ومتماسكةً عبر الأجيال، لأنَّ أخطرَ موتٍ على قيدِ الحياة هو موتُ الذاكرة الوطنيَّة عند الناس.

في القرية، تكون الطبيعةُ مع الإنسان على مستوى واحدٍ من الولاء للتراب، ومن الإيمان به، خصوصا عندما تتجلَّى هذه الطبيعة في أشجارها الخالدة مثل سيِّدة الفصول الأربعة التي قَفَزَتْ من باطـن الأرض، وأَلْقَتْ بِجدائلها على الفضاء فابتلعتِ المكان والزمان: المكرَّمة النخلة. وهنا أحاول أن أتجاوز المعنى المباشر لهذه (العَمَّة) التي أمرنا الرسول (ص) بإكرامها كما ورد في الأثر النبوي، وأتعامل معها بوصفها دلالةً عميقة تشير إلى معنًى أعمق من عناصرها الماديَّة، وتُرَبِّي هذا المعنى داخل الإنسان كي يعمِّق انتماءه إلى وطنه.  

النخلة شجرةٌ لا تفقد ذاكرتَها القويَّة، ولا صورتَها المتوهِّجة في مرآة الوقت، وفي قلوبنا نحن الأحسائيِّين الذين ننتشي بالريح السَّموم وهي تطبخ لنا التمر في فُرنـِها الصيفيِّ بالوهج اللاهب. إنَّها النخلةُ القادرة قُدرةَ الأُمِّ على أن تحتفظ بخضرتها وعطائها الكريم على امتداد العمر، مهما تغيَّرتْ عليها فصولُ الوقت وتبدَّلتْ مواسمُ الحصاد.  تحت ظلال النخلة ترعرعنا حتَّى اخضرَّتْ عيونُنا من طول ما حَدَّقْنَا في خضرة السعفات في الأعلى، ومن طيبتِها توارثنا الطيبة في الجِينات حتَّى أصبحنا نخيلاً بشريَّةً تتمشَّى على أقدامها. لذلك، فإنَّنا حينما نحرسُ هذه الشجرة ونحافظ على امتدادها في سلالة الشجر، إنَّما نحافظ على حقيقة أجدادنا، وإرثنا من القيم العليا التي نشأنا عليها، وأصولنا المتجذِّرة في تربة الحياة القرويَّة :

سُلالتُنا تمتدُّ في كلِّ نخلةٍ

فإنْ لم نجدْ خالًا، وجدنا بها عَمَّا

وما النخلُ إلا الناسُ عزًّا وطيبةً

فثَمَّةَ نخلٌ يلبسُ اللحمَ والعَظما

بالنسبةِ للإنسانِ القرويّ، الوطنُ جغرافيَّةٌ عذراء تبتدئ بنخلةٍ وتنتهي بنخلة، والغرباءُ هُم أولئك الذين قطعوا رباطهم بالنخيل فأضاعوا بوصلة الذات. والنخلُ الواقفُ في القرية على قدمٍ راسخةٍ في الأزل ما يزال يستلهم فلسفة الهويَّة من جذوره، ويُعِدُّ محاضراته السنويَّة في مراحل التلقيح، ثمَّ يُلقيها على الحاصدين في مواسم التمر والرطب. النخلُ فيلسوف الانتماء الذي يتبوَّأ قامته في العلوِّ المديد، لا يعرف معنى الـ(ـهُناك) من فرط ما هو ثابتٌ في الـ(ـهُنا). وأتذكَّر أنني قلتُ  بين يدي قصيدة:

آهِ يا أيها الغرباء،

كلَّما رأيتُ الصحراءَ صرختُ: يا وطني؛

وكلَّما رأيتُ النخلَ، صرختُ: يا وطني.. مرَّتين.

أنا لستُ فلَّاحا بما يكفي الشعرَ، ولا شاعرًا إلى درجة الفلاحة؛ وحينما أريد الكتابة، أفكِّر في قريتي حيث القريةُ هي خارطةُ القصيدة، والقصيدةُ هي خارطة القرية. لذلك، عندما أتفقَّد قصيدتي، تغمرني حميميَّةُ البيوت الريفيَّة، وأرى المعاني جميعَها مفتوحة فليس في القرية قلبٌ لم يُشَرِّعْهُ الحبّ؛ والقوافي، حتى القوافي أراها (ساكنة) من فرط ما تتكثَّف السَّكينة في المكان. أمَّا أنا، فلا أراني أكتبُ قصيدة؛ الكتابةُ هي طريقتي في الاطمئنان على القرية، وحينما أُتِمُّ جولتي وأخرج، أسألُ العابرين في اللغة:

مَنِ الذي ألقَى بي خارجَ النَّصّ؟!

اطّلع على منشورات أخرى

تم تسجيلك .. ترقب ضوء معرفة مختلفة!
عذرًا، أعد المحاولة