تُشهد صناعة السينما السعودية نموًا مُتسارعًا في ظل رؤية 2030، مدفوعةً باستثمارات ضخمة ومبادرات حكومية نوعية. إلا أن هذا القطاع الواعد يواجه تحديات هيكلية في مسيرته نحو الاستدامة، أبرزها غياب نموذج إنتاجي مُتكامل يضمن الربحية والتنافسية. يتناول هذا البحث، بأسلوب تحليلي مُعمق، واقع صناعة السينما السعودية، ويستكشف تأثير نماذج الإنتاج السينمائي المختلفة (المحلي، العالمي، والمشترك) على مُدخلات ومُخرجات القطاع، بما في ذلك القدرة المالية، البنية التحتية، والوصول إلى الجماهير. ويُقدم البحث دراسة حالة مُقارنة لفيلمي "سطار" و "قندهار" كنموذجين مُختلفين للإنتاج، ليُسلط الضوء على الآثار الاقتصادية والثقافية لكل نموذج. ويُختتم البحث بتوصيات عملية لتعزيز استدامة صناعة الأفلام السعودية، من خلال إعادة تدوير رأس المال، وتطوير البنية التحتية، وتحسين آليات التوزيع والعرض، بهدف بناء قطاع سينمائي مُزدهر ومُنافس عالميًا.
الكلمات المفتاحية: صناعة السينما، الاستدامة، الإنتاج السينمائي، البنية التحتية، سلسلة القيمة، النمو الاقتصادي، التوزيع والعرض السينمائي.
في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة التي تشهدها المملكة العربية السعودية، منذ تدشين سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد لرؤية المملكة 2030 الطموحة، يتنامى دور قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية بوصفها رافدًا أساسيًا للنمو الاقتصادي غير النفطي، ورافعةً لخلق فرص العمل، ومعززًا للهوية الوطنية. وفي هذا السياق، تُشكل صناعة الأفلام، بوصفها أحد أبرز مكونات هذا القطاع الحيوي، أداةً فعّالة لتحقيق هذه الأهداف الإستراتيجية، من خلال قدرتها الفريدة على سرد القصص المحلية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز التبادل الثقافي والسياحي، وبناء جسور التواصل مع العالم. ويتجلى هذا الاهتمام المتزايد بصناعة الأفلام في الاستثمارات الضخمة والمبادرات النوعية التي أطلقتها المملكة لتطوير هذا القطاع الواعد، التي تتضمن إنشاء هيئة الأفلام، والهيئة العامة للترفيه، ومدينة نيوم للإنتاج الإعلامي، وإدارة فيلم العلا، واستوديوهات MBC، وصندوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي، والصندوق الثقافي. وتسعى هذه الجهات، من خلال تضافر جهودها، إلى توفير بنية تحتية متطورة، وتقديم حوافز مالية جاذبة، ودعم الإنتاجات السينمائية المحلية والدولية، للإسهام في بناء منظومة سينمائية متكاملة.
مع ذلك، وعلى الرغم من الدعم الحكومي المتزايد والفرص الواعدة التي يزخر بها هذا القطاع، لا تزال صناعة الأفلام في المملكة تواجه تحدياتٍ هيكلية في مسيرتها نحو تحقيق الاستدامة. ويتمثل أحد أبرز هذه التحديات في غياب نموذج إنتاج سينمائي واضح المعالم، قادر على ضمان الربحيّة والتنافسيّة على المدى الطويل. ومن هنا، تنبع أهمية هذه الدراسة التي تهدف إلى استقصاء عوامل استدامة قطاع إنتاج الأفلام السعودية، ومعالجة الإشكالية المحورية التالية: ما هو تأثير نماذج الإنتاج السينمائي المختلفة (المحلي، العالمي، والمشترك) على مدخلات ومخرجات القطاع، وكيف يمكن تطوير نموذج إنتاج مثالي يضمن استدامة صناعة الأفلام ويسهم في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030؟
لتحقيق فهم أعمق لعوامل الاستدامة في صناعة الأفلام السعودية، تعتمد هذه الدراسة على مفهومي "العوائق الرأسية" و "العوائق الأفقية" اللذين طرحتهما "أراليا مونوز لاروا" في دراستها لسينما ولينغتون، نيوزيلندا، لتحليل التحديات التي تواجه قطاع السينما في المملكة<span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">Muñoz Larroa, A. (2020). Sustainability as a Framework of Analysis and a Guide for Policy-Making: The Film Industry in Wellington, New Zealand. In A. Rajala, D. Lindblom, & M. Stocchetti (Eds.), The Political Economy of Local Cinema: A Critical Introduction (pp. 221-247). Peter Lang.</span></span>. كما تستلهم الدراسة من أطروحات الباحث "توبي ميلر" في مجموعة أبحاثه عن سينما هوليوود، التي قدم فيها تحليلا شاملا لاقتصاديات صناعة السينما العالمية وكيف يمكن للعوامل الاقتصادية أن تشكل أنماط إنتاج الأفلام المحلية<span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext">Miller, T., Govil, N., McMurria, J., Maxwell, R., & Wang, T. (2005). Global Hollywood 2. London: British Film Institute.</span></span>. وبتطبيق هذا الإطار التحليلي، سيتم دراسة تأثير نماذج الإنتاج السينمائي في السعودية على ثلاث مجالات رئيسة ضرورية للاستدامة، وهي: القدرة المالية، تطوير البنية التحتية، والوصول إلى الجماهير. وستقوم الدراسة بتحليل هذه العوامل لتقديم مقترحات عملية لتعزيز استدامة صناعة الأفلام في المملكة، بما يُسهم في ازدهارها وتحقيق أثرٍ إيجابي على المستوى الثقافي والاقتصادي.
وتتكون الدراسة من ثلاثة أجزاء رئيسة:
- أولاً: تقديم إطار نظري يشمل مفهوم الاستدامة في قطاع صناعة الأفلام في سياق الخطاب الأوسع حول الثقافة والاستدامة.
- ثانيًا: تحليل العلاقة بين نماذج الإنتاج السينمائي السائدة في المملكة العربية السعودية (المحلي، العالمي، والمشترك) وإمكانية تحقيق الاستدامة من خلال التكامل الرأسي والأفقي في سلسلة القيمة.
- ثالثًا: مناقشة النتائج وتقديم مقترحات للتدخل السياساتي بهدف تعزيز استدامة صناعة الأفلام السعودية.
تُعرّف الاستدامة غالبًا بأنها القدرة على الاستمرار والتطور دون استنزاف الموارد أو الإضرار بالطبيعة<span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext">World Commission on Environment and Development (1987). Our common future. Oxford University Press.</span></span>. ولا يقتصر مفهوم الاستدامة في هذا السياق على البُعد البيئي فحسب، بل يمتد ليشمل القدرة على البقاء والازدهار على المدى الطويل، متضمنًا الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية<span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext">Elkington, J. (1997). Cannibals with forks: The triple bottom line of 21st century business. Capstone.</span></span>. وانطلاقًا من كون مفهوم "الاستدامة" مطبقًا على نطاق واسع في المجالات البيئية والاقتصادية، فقد برزت في الآونة الأخيرة جهود حثيثة لتوسيع نطاقه ليشمل القطاع الثقافي<span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext">Throsby, David. "Sustainability and culture some theoretical issues." International journal of cultural policy 4.1 (1997): 7-19.</span></span>. وجاءت هذه الجهود مدفوعةً بتوجيهات منظمات دولية رائدة مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي دعت إلى تكثيف التمعّن حول العلاقة الوثيقة بين الثقافة والاستدامة<span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext">UNESCO. (2015). Transforming our world: the 2030 Agenda for Sustainable Development.</span></span>. وقد أثرت هذه الدعوات حقل الدراسات المعنية بهذا الشأن، الذي شهد تقدمًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة. وتسعى هذه الدراسة للمساهمة في إثراء هذا الحقل المعرفي، من خلال التركيز على مجالين رئيسين. أولًا: مفهوم "الثقافة في الاستدامة"، الذي يتناول فكرة أن الثقافة، باعتبارها ركيزة أساسية من ركائز الحياة البشرية، تمتلك مقومات الاستدامة<span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext">Dessein, Joost, et al., editors. Culture in, for and as Sustainable Development: Conclusions from the COST Action IS1007 Investigating Cultural Sustainability. University of Jyväskylä, 2015.</span></span>. ثانيًا: مفهوم "السياسة الثقافية"، الذي ينظر إلى السياسات بوصفها أدوات تنظيم وحماية للتراث والممارسات والحقوق الثقافية، معتبرا إياها قيمًا جوهرية<span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext">Kangas, Anita, Nancy Duxbury, and Christiaan De Beukelaer. "Introduction: cultural policies for sustainable development." International Journal of Cultural Policy 23.2 (2017): 129-132.</span></span>.
وتتضمن الاستدامة الحفاظ على ظروف معينة في خضمّ التغيير، ويتطلب تطبيق ذلك على الثقافة ترجمة طبيعتها المجردة ومتعددة الأوجه إلى مفاهيم محددة وعملية. وكان عمل العالم الفرنسي "بيير بورديو" على رأس المال الثقافي بالغ الأهمية في ربط الثقافة والاستدامة<span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext">Bourdieu, Pierre. "The forms of capital.(1986)." Cultural theory: An anthology 1.81-93 (2011): 949.</span></span>. فقد قدّم منظوراً اقتصادياً يرسّخ الثقافة في مفاهيم ملموسة مثل العمل دون اختزالها إلى مجرد مصطلحات اقتصادية. وعرّف بورديو رأس المال الثقافي بأنه عمل متراكم، مُتجسّد في "تصرفات العقل والجسد" من خلال التعليم أو تمثّله في سلع ثقافية<span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext">Bourdieu, 243.</span></span>. ويتطلب هذا التراكم، مثل غيره من أشكال العمل، وقتاً وموارد. ويمكن تملّك رأس المال الثقافي مادياً، مما يتطلب رأس مال اقتصادي، ورمزياً، مما يتطلب رأس مال ثقافي<span class="tooltip">(11)<span class="tooltiptext">Bourdieu, 246.</span></span>. ويُسلّط هذا المفهوم الضوء على التفاعل بين الثقافة والموارد الاجتماعية والاقتصادية، مؤكداً على أهميتهما المتبادلة من أجل الاستدامة على المدى الطويل.
تقترح هذه الدارسة إطاراً مفاهيميًا لتعزيز الاستدامة داخل قطاع الأفلام من منظور اقتصادي. ويُسلّط هذا الإطار الضوء على شكلين رئيسين من العقبات: "العوائق الرأسية" التي تحدث داخل سلسلة قيمة الأفلام و"العوائق الأفقية" الناشئة عن عدم كفاية التعاون بين أصحاب المصلحة في الصناعة. تُشكل "العوائق الرأسية" تحديًا أساسيًا في صناعة الأفلام، حيث تُعيق التدفق الطبيعي للعمل داخل سلسلة القيمة، التي تتكون من مراحل مترابطة تبدأ بكتابة السيناريو، مرورًا بالإنتاج والتصوير وما بعد الإنتاج، وصولًا إلى التوزيع والعرض. وتُمثل هذه العوائق أيّة انقطاعات أو صعوبات في التنقل بين هذه المراحل. على سبيل المثال، قد يواجه منتج سعودي، حتى مع امتلاكه فيلمًا عالي الجودة، صعوبة في الوصول إلى دور العرض بسبب هيمنة الأفلام الأجنبية على شاشات السينما، أو بسبب عدم وجود اتفاقيات توزيع فعّالة. هذه الصعوبة في مرحلة التوزيع تُمثل عائقًا رأسيًا يعيق وصول الفيلم للجمهور ويُؤثر سلبًا على عائداته. وبالمثل، قد يؤدي نقص الكفاءات الفنية في مرحلة ما بعد الإنتاج إلى تدنّي جودة المؤثرات البصرية والصوتية، مما يُضعف من جودة المنتج النهائي ويُقلل من قدرته التنافسية. لذا، فإن معالجة هذه العوائق الرأسية داخل سلسلة القيمة أمر بالغ الأهمية لضمان تدفق سلس للعمل وتحقيق أقصى استفادة من كل مرحلة.
أما "العوائق الأفقية"، فتتمثل في انعدام التعاون أو التنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة في صناعة الأفلام، والتي تشمل شركات الإنتاج، والموزعين، ودور العرض، والمؤسسات الحكومية، والمواهب الفنية. يُمكن تشبيه هذه الجهات بشبكة مترابطة، يُؤدي ضعف الروابط بينها إلى ظهور عوائق أفقية تُعيق نمو الصناعة. فعلى سبيل المثال، قد يُعاني منتج سعودي من صعوبة في الحصول على التمويل اللازم لإنتاج فيلمه بسبب نقص التواصل والتنسيق مع الجهات الممولة، سواءً كانت حكومية أو خاصة. كذلك، قد يؤدي غياب منصة موحدة لتسويق الأفلام السعودية إلى صعوبة في الترويج للأفلام المحلية ووصولها إلى أوسع شريحة من الجمهور. هذه الأمثلة تُوضح كيف يُمكن للعوائق الأفقية أن تُؤثر سلبًا على مختلف جوانب صناعة الأفلام، بدءًا من التمويل وصولًا إلى التسويق. لذلك، فإن تعزيز التعاون وتنسيق الجهود بين مختلف الجهات الفاعلة يُعدّ أمرًا حاسمًا لنمو وتطور صناعة أفلام سعودية مُستدامة. ومن خلال تفعيل هذه المبادئ، تطمح الدراسة إلى تجاوز الاعتبارات النظرية وتوفير إطار عمل مناسب لتطوير سياسات ثقافية من شأنها أن تُنمّي صناعة أفلام مستدامة في السعودية.
غالبًا ما تتناول الأبحاث في مجال صناعة الأفلام مفهوم الاستدامة من خلال استعارات معينة مثل "دورة الإنتاج" و"عجلة الإنتاج"، فتبرز هذه الاستعارات الطبيعة الديناميكية المستمرة لعمليات صناعة الأفلام وقدرتها على البقاء مع مرور الوقت<span class="tooltip">(12)<span class="tooltiptext">Throsby, David, and Katya Petetskaya. "Making art work." Report for the Australian Council for the Arts (2017).</span></span>. وتُعد "الاستدامة الذاتية" هدفًا إستراتيجيًا يُتيح للصناعات السينمائية في مختلف أنحاء العالم التحرر من التبعيّة للدعم الخارجي، والتحكم في مُستقبلها بشكل أكبر. ولتوضيح مفهوم الاستدامة الذاتية، يمكن التفكير في مثال التمويل. فبينما تُعدّ المنح والدعم المالي الحكومي أدواتٍ مُهمة في المراحل الأولية لتطوير صناعة الأفلام، إلا أنّ جعلها ركيزة رئيسة على المدى الطويل قد يُضعف من قدرتها على تحقيق الاستدامة الذاتية. وتُستمدّ أهمية الاستدامة الذاتية من كونها تُعزز من استقلالية صناعة الأفلام وتُمكنها من التحكم في مُستقبلها بشكل أكبر، بعيدًا عن التأثيرات الخارجية المُحتملة. ولتحقيق ذلك، يتطلب الأمر بناء نموذج عمل قوي يرتكز على تنويع مصادر الدخل وتحقيق إيرادات كافية بالاستغلال الأمثل للفرص التجارية المُتاحة، سواء عبر شباك التذاكر، أو حقوق البث الرقمي، أو عقود التوزيع، واستقطاب وتدريب المواهب الفنية المحلية في مختلف التخصصات، وبناء بنية تحتية صلبة تشمل استوديوهات التصوير ومرافق ما بعد الإنتاج، أو غيرها من القنوات المُدرّة للربح.
ولتحقيق الاستدامة الذاتية، تعتمد استدامة صناعة الأفلام بشكل أساسي على عاملين رئيسين. أولًا: تُشكل سلسلة قيمة الإنتاج السينمائي، القائمة على العلاقات الرأسية، حجر الزاوية في استدامة صناعة الأفلام. ويُشير التكامل الرأسي إلى سيطرة جهة واحدة على معظم مراحل سلسلة قيمة الإنتاج السينمائي، بدءًا من الإنتاج، مرورًا بالتوزيع، وصولًا إلى العرض. ويكمن أحد عوامل نجاحها في الربط الوثيق بين الإنتاج والاستغلال التجاري، مما يُحفز على إعادة استثمار الإيرادات بكفاءة في إنتاج المزيد من الأفلام، ويُسرّع من دوران رأس المال<span class="tooltip">(13)<span class="tooltiptext">13 Garnham, N. (1990). Capitalism and Communication: Global Culture and the Economics of Information. Sage Publications.</span></span>. لذا كلّما كانت هذه العلاقات الرأسية قوية، زادت قدرة الصناعة على إعادة استثمار مواردها وخلق نظام بيئي مستدام ذاتيًا<span class="tooltip">(14)<span class="tooltiptext">Muñoz Larroa.</span></span>. وتُعدّ الصناعة الأمريكية السينمائية مثالًا بارزًا على التكامل الرأسي، حيث تُسيطر شركات عملاقة محددة على معظم مراحل سلسلة القيمة، مما يُسهم في استدامتها المالية وقدرتها على منافسة الكيانات الأخرى.
ثانيًا: يُركز الترابط الأفقي على التفاعل والتعاون المُستمر بين أصحاب المصلحة في صناعة الأفلام، من مُنتجين وموزعين وفنيين ونُقاد وجهات حكومية لبناء شبكة قوية ومرنة. وتُعدّ الترتيبات التعاونية، بدلاً من المركزية، العنصر الأهم في هذا الإطار. ويُسهم الترابط الأفقي في تعزيز الابداع والابتكار وتقوية مرونة الصناعة من خلال شبكة دعم متبادل بين الكيانات المُشاركة. وتُقدم صناعات الأفلام البريطانية والأوروبية أمثلةً ناجحةً على الترابط الأفقي، حيث تعمل شركات الإنتاج المستقلة، ومنازل ما بعد الإنتاج، ومختلف مُقدمي الخدمات ضمن شبكات مترابطة بشكل وثيق، مما يُسهم في توفير بيئة عمل مرنة وداعمة للإبداع<span class="tooltip">(15)<span class="tooltiptext">Hesmondhalgh, D. (2019). The Cultural Industries (4th ed.). Sage Publications.</span></span>.
ولا تقتصر متطلبات الاستدامة الذاتية على البُعدين الهيكليين المُتمثلين في التكامل الرأسي والترابط الأفقي فحسب، بل تتطلب أيضًا بناء نموذج عمل قوي يرتكز على تنويع مصادر الدخل وتحقيق إيرادات كافية من خلال الاستغلال الأمثل للفرص التجارية المُتاحة، سواء من خلال شباك التذاكر، أو حقوق البث الرقمي، أو عقود التوزيع. كما تُعدّ عملية استقطاب وتدريب المواهب الفنية المحلية في مختلف التخصصات أمرًا حيويًا لتقليل الاعتماد على الخبرات الأجنبية وتعزيز الاستقلالية الفنية. ويُعدّ تكوين بنية تحتية صلبة، تشمل استوديوهات التصوير ومرافق ما بعد الإنتاج ذات المواصفات العالمية، أمرًا أساسيًا لتقديم خدمات عالية الجودة بأسعار تنافسية، مما يُعزز جاذبية الصناعة للاستثمارات المحلية والأجنبية. وتُقدم التجارب العالمية في هذا المجال نماذج مُتنوعة تُلهم الصناعات السينمائية في مختلف أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال، تُعتبر هوليوود نموذجًا راسخًا للصناعة المستدامة ذاتيًا، حيث تتمتع بمصادر تمويل ضخمة من خلال شبكات التوزيع العالمية وحجم الجمهور الهائل، بالإضافة إلى البنية التحتية المتكاملة والمواهب الفنية الاستثنائية. ومن جهتها، تُقدم نوليوود في نيجيريا نموذجًا مُلهمًا للصناعات الصاعدة، حيث اعتمدت على إنتاج أفلام منخفضة التكلفة تستهدف الجمهور المحلي بشكل رئيس، مما أسهم في تحقيق نجاح تجاري كبير ودعم استمرارية الإنتاج.
ومع ذلك، فإن تحديد مفهوم "الاستدامة الذاتية" لا يُلغي حق كل مجتمع في تحديد هذا المفهوم وفقًا لسياقه الخاص. فعلى سبيل المثال، يمكن اعتبار صناعة الأفلام في هونغ كونغ، التي اعتمدت تاريخيًا على رأس المال والأسواق الأجنبية في الإنتاج والعرض، صناعةً مستدامةً ذاتيًا إذا نجحت في دمج هذه العناصر الأجنبية ضمن دوراتها الإنتاجية الداخلية. وبالإضافة إلى ذلك، لا ينبغي تقييم الاستدامة الذاتية من منظور تجاري بحت، بل ينبغي أيضًا مراعاة الصناعات التي تحصل على تمويل عام. فعلى سبيل المثال، تستفيد صناعة الأفلام الفرنسية من دعم حكومي كبير ودعم تنظيمي وتوفير التسهيلات المالية، بالإضافة إلى التعاون مع قطاع التلفزيون. وتوجد آليات مثل الحصص الإلزامية لعرض الأفلام المحلية، وحصص من إيرادات السينما والتلفزيون تُخصص لصناديق دعم الأفلام. ووفقًا لهذا المنظور، يمكن اعتبار هذه الصناعة مستدامةً ذاتيًا إذا استخدمت الدعم العام بشكل فعال لإنشاء دورات إيجابية داخلية لإنتاج أفلام ذات جودة فنية عالية وتعزيز تنافسيتها عالميًا.
لذلك، ينبغي أن يشمل إطار عمل تقييم الاستدامة الذاتية للصناعات السينمائية كلًا من الديناميكيات الاقتصادية الداخلية والتأثيرات الثقافية على المجتمعات ذات الصلة. وينبغي أن يُدرك هذا الإطار الأبعاد المكانية المتنوعة ومصادر التمويل التي تُسهم في إنشاء نظام مستدام ذاتيًا، مع الاستشهاد بصناعة الأفلام السعودية بوصفها مثالًا رئيسًا على كيفية قيام الاستثمار الإستراتيجي ورأس المال الثقافي ودمج رأس المال والأسواق الأجنبية بدفع عجلة الاستدامة في هذا القطاع. وتُعد الاستدامة الذاتية عملية ديناميكية تتطلب تضافر جهود كل الأطراف المُشاركة في صناعة الأفلام، بدءًا من الحكومات وصناع القرار، ووصولًا إلى الفنانين والمُنتجين والجمهور. كما تتطلب هذه العملية مُتابعة مستمرة للتطورات التكنولوجية والتغيرات السريعة في قطاع الترفيه، من أجل تطوير الآليات والتقنيات التي تضمن استمرارية هذه الصناعة وزيادة مساهمتها في التنمية الاقتصادية والثقافية.
شهد قطاع السينما في السعودية نموًا متسارعًا خلال الفترة الممتدة بين عامي 2018 و2023، متجليًا في دعم وتطوير البنية التحتية اللازمة للإنتاج والتوزيع السينمائي. وقد انعكس هذا التطور إيجابًا على الإنتاج السينمائي المحلي، في الكم والكيف. فعلى صعيد الكم، ازداد عدد شركات الإنتاج والتوزيع السينمائي بشكل ملحوظ، مُسهمًا في ارتفاع عدد الأفلام السعودية المعروضة إلى أكثر من 33 فيلمًا بحلول عام 2023. أما من من جانب الكيف، فقد سجلت بعض الأفلام المحلية، مثل "سطار" و "مندوب الليل" و"شباب البومب" (2022-2024)، نجاحًا جماهيريًا ملحوظًا، مما يعكس تنامي ثقة الجمهور بجودة المنتج الوطني وقدرته على المنافسة. ويُعزى هذا النجاح جزئيًا إلى الاستثمار في تطوير مواهب السينمائيين السعوديين ودعم المشاريع السينمائية المحلية.
أما على صعيد العرض، فقد شهد القطاع توسعًا كبيرًا في عدد شاشات العرض ومبيعات التذاكر. وقد أدى هذا التوسع إلى منافسة بين شركات السينما لتقديم خدمات جذب للجمهور، متضمنةً مرافق عرض حديثة بتقنيات متطورة، وخدمات كبار الضيوف، والتسويق الفعال للأفلام. وقد أسهمت هذه التحسينات في رفع مستوى تجربة المشاهدة وجذب شرائح أوسع من الجمهور، الأمر الذي انعكس إيجابًا في إيرادات شباك التذاكر. وبلغت إيرادات القطاع أكثر من 3 مليارات ريال سعودي بحلول عام 2023، وذلك ببيع أكثر من 51 مليون تذكرة. وتجاوز عدد الشاشات السينمائية 600 شاشة موزعة على 69 دار عرض في مختلف مناطق المملكة، مما يُسهل على السعوديين في مختلف المناطق الوصول إلى صالات السينما والاستمتاع بتجربة مشاهدة مُتميزة. وحقق فيلم "Top Gun: Maverick" أعلى إيرادات شباك التذاكر، بإجمالي بلغ أكثر من 84 مليون ريال، من خلال 1.2 مليون تذكرة<span class="tooltip">(16)<span class="tooltiptext">الجابر، مريم. "إيرادات السينما تتجاوز 3 مليارات منذ افتتاح دور العرض بالسعودية." العربية نت, 5 أيلول/سبتمبر 2023.</span></span>.
<div><table><div align="right"></div><tbody><tr><td width="76" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">الفترة</span></b><b><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></b></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">عدد شاشات السينما</span></b><b><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></b></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">عدد</span></b><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><b><span lang="AR-SA" dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span> </span><span lang="AR-SA">التذاكر (مليون)</span></b><b><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></b></p></td><td width="208" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">القيمة (مليون دولار)</span></b><b><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></b></p></td></tr><tr><td width="76" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span dir="LTR">2018<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">45<o:p></o:p></span></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">0.50<o:p></o:p></span></p></td><td width="208" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">7.62<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="76" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span dir="LTR">2019<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">70<o:p></o:p></span></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">6.60<o:p></o:p></span></p></td><td width="208" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">66.51<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="76" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span dir="LTR">2020<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">150<o:p></o:p></span></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">7.28<o:p></o:p></span></p></td><td width="208" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">48.34<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="76" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span dir="LTR">2021<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">385<o:p></o:p></span></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">13.49<o:p></o:p></span></p></td><td width="208" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">206.16<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="76" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span dir="LTR">2022<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">581<o:p></o:p></span></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">14<o:p></o:p></span></p></td><td width="208" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">240<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="76" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="EN-US" dir="LTR">2023<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="EN-US" dir="LTR">627<o:p></o:p></span></p></td><td width="180" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="EN-US" dir="LTR">17<o:p></o:p></span></p></td><td width="208" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">24</span><span lang="EN-US" dir="LTR">5<o:p></o:p></span></p></td></tr></tbody></table></div>
جدول (1) أرقام صالات السينما في السعودية <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext">جميع البيانات من التقارير الرسمية للهيئة العامة لتنظيم الإعلام.</span></span>
إضافة إلى ذلك، تحسنت جودة الأفلام السعودية بشكل ملحوظ، بفضل مساهمة العديد من المؤسسات التعليمية والمهرجانات السينمائية والمشاريع الثقافية في السعودية في تنفيذ برامج تدريبية وتأهيلية تهدف إلى تطوير مهارات صناع الأفلام والمحترفين في الصناعة. ومع زيادة جودة وكمية إنتاج الأفلام السعودية، زاد نطاق توزيع هذه الأفلام على الأسواق والمهرجانات الإقليمية والعالمية؛ إذ تلقى العديد من الأعمال السينمائية إشادة من النقاد في المهرجانات السينمائية الدولية المرموقة، وكذلك من جماهير صالات السينما ومدوّني حسابات التواصل الاجتماعية، مما أسهم في تسويق المنتج المحلي وجذب المستثمرين والسياح إلى السعودية، وفتح الأبواب للإنتاج المشترك والتعاون مع صناع الأفلام الدوليين؛ ليعزز ذلك نمو الصناعة ومكانتها الإقليمية والعالمية. هذا التحسن في الكمية والجودة هو مؤشر على العمل الجاد لصانعي الأفلام المحليين والدعم اللا محدود من الجهات المعنية، وإدراك لأهمية استمرار دوران عجلة إنتاج الأفلام المحلية، باعتبارها مفتاحًا رئيسًا لنمو المحتوى المحلي في صالات السينما، بعد أن كان الاعتماد بشكل حصري على الأفلام الأميركية والمصرية والهندية.
لكن صناعة الأفلام السعودية تواجه تحديًا بنيويًا يتمثل في غياب التكامل بين مراحل سلسلة القيمة، بدءًا من الإنتاج، مرورًا بالتوزيع، ووصولًا إلى التسويق. ويمكن تشخيص هذه المشكلة بالتحليل التاريخي والمؤشرات الهيكلية للصناعة. ففي مرحلة ما قبل افتتاح دور السينما (2001-2017)، اتسمت الصناعة باللامركزية وغياب التنسيق. حيث نشط مجتمع من صناع الأفلام العاملين بشكل فردي مع جهود ذاتية في التمويل والإنتاج والتوزيع، واقتصر عرض هذه الأفلام على نطاق ضيّق، غالباً في عروض خاصة أو ضمن سوق السينما الخليجي، مما حدّ من انتشارها ووصولها إلى جمهور أوسع وإعادة استثمار الأرباح في إنتاجات جديدة. ومع افتتاح دور السينما في 2018، برز تحدٍ جديد يتمثل في هيمنة المحتوى الأجنبي (هوليوود وبوليوود) على شاشات العرض، كما أنّ حملات التسويق للإنتاجات الأفلام السعودية تحظى بدعم أقل وتغطية محدودة، مما يحد من الفرص المتاحة.
ويعكس هذا الواقع استمرار انفصال سلسلة القيمة، حيث تسيطر شركات محدودة على صالات السينما (مثل موفي سينما، وفوكس سينما، وإيه إم سي سينما، والتي تسيطر على أكثر من 74٪ من شاشات السينما في المملكة العربية السعودية حتى سبتمبر 2024)، وجهات خارجية على قطاعي التوزيع والتسويق (شركات التوزيع اللبنانية لديها اتفاقيات حصرية مع استوديوهات أمريكية وهندية للتوزيع في منطقة الشرق الأوسط منذ التسعينيات، مثل "إمباير إنترناشيونال" و"شوتينج ستار" و"إيطاليا فيلم" و"فور ستار فيلم")، ما أضعف من قدرة المنتجين السعوديين على الاستفادة من أرباح عرض وتوزيع أعمالهم في بناء مشروعات مستقبلية. ومع ذلك فإن منصّات البث عبر الإنترنت (مثل نتفليكس وشاهد) قد أتاحت فرصة جديدة لتوزيع المحتوى السعودي، لكنها في الوقت نفسه خلقت منافسة شرسة مع كمّ هائل من المحتوى العالمي.
لذلك يُعد انفصال سلسلة القيمة عائقًا رئيسًا أمام تطور صناعة الأفلام السعودية وقدرتها على الوصول إلى جمهور واسع وتحقيق عائدات مالية تُمكنها من الاستمرار والتطور، مما يدفع بالعديد من صنّاع الأفلام إلى الاعتماد على الدعم الحكومي لتأمين تمويل إنتاجاتهم الجديدة. ويُشير الباحثون إلى أنّ هذا الاعتماد على الدعم الحكومي يُضعف من استقلالية الصناعة ويُعيق من نموها بشكل صحي ومستدام، ويستدعي ذلك تدخلات هيكلية لتعزيز التكامل بين مراحل الإنتاج والتوزيع والتسويق، وذلك من خلال دعم شركات التوزيع والتسويق الوطنية، وتشجيع التعاون بين صناع الأفلام والموزعين والمسوقين.
وإدراكًا لهذا التحدي الهيكلي، يصبح من الضروري التعمق في فهم طبيعة الإنتاج السينمائي في السعودية ودوره في تعزيز الاستدامة الذاتية للصناعة، فبالتحليل الدقيق لأنواع الإنتاج السائدة، والتي يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع رئيسة، يمكن استشراف سبل فعّالة لتحقيق التكامل في سلسلة القيمة وتجاوز التحديات المذكورة. فما هي هذه الأنواع؟ وكيف تتباين في خصائصها وإمكاناتها؟ وهل تسهم في بناء نموذج مستدام للصناعة السينمائية السعودية؟ سنجيب عن هذه التساؤلات بشكل مستفيض في الجزء المقبل.
انطلاقًا من التحديات الهيكلية التي تواجهها صناعة الأفلام السعودية، والتي يتمثل أبرزها في انفصال سلسلة القيمة، يُصبح من الضروري التعمق في فهم طبيعة الإنتاج السينمائي ودوره في تعزيز الاستدامة الذاتية للصناعة. وقد شهدت الفترة ما بين (2018-2023) التي تلت افتتاح دور السينما في المملكة، تحولًا كبيرًا في قطاع الإنتاج السينمائي السعودي، تميّز بظهور نماذج إنتاجية مختلفة، منها النموذج المحلي، والنموذج العالمي، ونموذج الإنتاج المشترك. كما ازدادت جاذبية المملكة باعتبارها موقع تصوير للإنتاجات السينمائية الدولية. وستقوم هذه الورقة بتحليل خصائص هذه النماذج، ومدى اعتمادها على الدعم الحكومي، وتأثيرها العام على الصناعة، وذلك بهدف فهم إسهاماتها في بناء نموذج مستدام للصناعة السينمائية السعودية.
النموذج الأول: الإنتاج المحلي
يُعرف نموذج الإنتاج السينمائي المحلي بكونه نموذجًا يُوظّف الموارد المحلية ببراعة، بدءًا من التمويل، وصولًا إلى القصص التي يرويها، والجمهور الذي يستهدفه، ليصنع بذلك أفلامًا تعكس هوية المجتمع وثقافته، وتُمثّل مرآةً لهوياتهم وتجاربهم المعاشة. ويشكل الإنتاج السينمائي المحلي الغالبية العظمى من الإنتاجات السينمائية السعودية. وقد حظيت أفلام هذا النموذج بإشادة نقدية محليًا ودوليًا. ومن الأمثلة البارزة على ذلك "الزيارة الأخيرة" (2019) لعبدالمحسن الضبعان، و"مسافة صفر" (2019) لعبد العزيز الشلاحي، و"أربعون عاما وليلة " (2022) لمحمد الهليّل، بالإضافة إلى فيلم "أغنية الغراب" (2022) لمحمد السلمان.
ينسب هذا النمو في السنوات السابقة إلى عدة عوامل، أبرزها الدعم السخي من الجهات المعنية بقطاع صناعة الأفلام، والزيادة الكبيرة في عدد الجهات التي تخصص صناديق وبرامج ومبادرات لتمويل الفيلم السعودي من القطاعين العام والخاص، ومن أبرزها برنامج "ضوء لدعم الأفلام"، الذي يقدم مبالغ نقدية غير مستردة لشركات ومؤسسات الإنتاج السينمائي في المملكة، وصل إجمالي مساهمة البرنامج في دورته الأولى إلى 40 مليون ريال سعودي. وبرنامج تمويل قطاع الأفلام من "الصندوق الثقافي" الذي وصل تمويله إلى 879 مليون ريال سعودي، بهدف تعزيز البنية التحتية ودعم الإنتاج السعودي بالمنح والقروض بالتعاون مع البنوك المحلية<span class="tooltip">(18)<span class="tooltiptext">صندوق التنمية الثقافي. (2023, 17 مارس). صندوق التنمية الثقافي يوقع اتفاقية تعاون مع وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات] تم الاسترداد من هذا الرابط.</span></span>. كذلك، يقدم صندوق مهرجان البحر الأحمر منحًا لصناع الأفلام بتمويل يصل إلى 1,875,000 ريال سعودي، ومركز إثراء يقدم منح تمويل سنوية "إنتاج أفلام إثراء"، وبرامج الدعم والاسترداد النقدي في كل من مدينة "نيوم" ومحافظة "العًلا" التي تعطي استردادًا نقديًا يصل إلى 40٪ لنفقات إنتاج الأفلام في السعودية، وبرامج التمويل المقدمة من كل Muvi Studios وMBC Studios وNetflix وShahid وVox Cinemas<span class="tooltip">(19)<span class="tooltiptext">الغنام، عبدالرحمن. (2023، 7 يونيو). نظرة على المستقبل: توجهات صناعة السينما السعودية وفرص التوسع والنمو. مركز سمت للدراسات. تم الاسترداد من هذا الرابط.</span></span>. ويقود هذا النموذج جيلًا جديدًا من صناع الأفلام الذين يمتلكون، أو يعملون غالبًا في شركات إنتاج صغيرة أو متناهية الصغر للاستفادة من هذه المنح وبرامج التمويل لصناعة أفلام سينمائية<span class="tooltip">(20)<span class="tooltiptext">ووفقًا لنظام الشركات السعودي، تُصنف الشركات على أنها "متناهية الصغر" إذا كان لديها ما بين 1 إلى 5 موظفين أو تحقق مبيعات سنوية لا تتجاوز 3 ملايين ريال سعودي. أما الشركات "الصغيرة"، فيتراوح عدد موظفيها بين 6 و49 موظفًا وتتراوح مبيعاتها السنوية بين 3 ملايين و40 مليون ريال سعودي.</span></span> <span class="tooltip">(21)<span class="tooltiptext">https://mc.gov.sa/ar/mediacenter/News/Pages/13-12-16-03.aspx</span></span>.
وعلى الرغم من هذا النجاح الفني، يواجه هذا النموذج من الإنتاج تحدياتٍ مالية كبيرة. فلا تزال شركات الإنتاج المستقلة تعتمد بشكل كبير على الدعم المالي من الجهات الحكومية والمؤسسات الثقافية، مثل صندوق ضوء، وصندوق إثراء، وصندوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي، والصندوق الثقافي. إلا أن هذه المصادر غالبًا ما تكون محدودة في حجم الدعم المقدم، ويندر أن يتجاوز الدعم الحكومي 500,000 دولار أمريكي للمشروع الواحد. ويُسلط هذا القيد التمويلي الضوء على أحد التحديات الهيكلية التي تواجه صناعة السينما السعودية، وهي الحاجة الملحّة إلى بناء دورات إعادة استثمار مستدامة داخل الصناعة. فمن شأن ذلك أن يُسهم في دعم نمو السينما السعودية ويُعزز من استقلاليتها على المدى الطويل.
يعتمد هذا النموذج على مبدأ المنافسة العالمية بين الدول لجذب الاستثمارات الخارجية والمتمثل بكبرى الإنتاجات السينمائية الدولية الباحثة عن مواقع تصوير مثالية مع تقليل تكاليف الإنتاج الضخم لأعمالها. وعادة يتم ذلك بالاستفادة من الحوافز المالية الحكومية مثل الإعفاءات الضريبية، والدعم النقدي المباشر، والتمويل المشترك. ويشهد هذا النموذج تقدمًا سريعًا في السعودية، لا سيما في مناطق أنشأت مكاتب خاصة بالأفلام لمعالجة طلبات الجهات الخارجية مثل نيوم والعلا، والتي تقدم مزيجًا من الحوافز المالية، والأطر التنظيمية الميسرة، والبنية التحتية المتطورة، دعمًا للإنتاجات ذات الميزانيات الكبيرة. ومن أبرز الجهات التي تقوم على تقديم التسهيلات اللوجستية والدعم المالي للإنتاجات الدولية، فيلم العلا ومدينة نيوم للإنتاج، مثل فيلم "Kandahar" من بطولة جيرارد باتلر، والذي كان تصويره في محافظتي العُلا وجدة؛ وفيلم "Cherry" الذي صُوّر في محافظة العُلا ومدينة الرياض.
وإلى جانب المبادرات الحكومية، تلعب الكيانات الخاصة دورًا بارزًا في دعم نموذج الإنتاج العالمي في المملكة، مثل مجموعة MBC، من خلال فيلم Desert Warrior من بطولة أنتوني ماكي، والذي صُوِّر جزء كبير منه في نيوم وتبوك، وجرى إشغال معظم الوحدات السكنية فيها، وازدهر النشاط التجاري في أسواق المدينة بفضل وجود طاقم كبير في المنطقة يضم أكثر من 500 شخص على مدار 11 شهرًا. أيضاً شركة نبراس للأفلام، من خلال فيلم Born King والذي صُوّر في الرياض والمملكة المتحدة (بميزانية مقدارها 21 مليون دولار)، ومؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي، من خلال تمويل مالي لمشاريع سينمائية دولية مثل فيلم جوني ديب " Jeanne Du Barry" (2023) و" The Ministry of Ungentlemanly Warfare" (2024).
وتستثمر هذه الكيانات والجهات في تطوير خدمات إنتاجية متكاملة تلبي احتياجات الإنتاجات الدولية، مما يضمن للمنتجين الأجانب الوصول إلى أفضل الموارد والدعم اللوجستي والخبرات الفنية والمرافق المتطورة. ويؤكد هذا النهج التعاوني، المدعوم بمزيج من الحوافز الحكومية ودعم القدرات الإنتاجية المحلية بالخبرات العالمية، على قدرة المملكة العربية السعودية على دعم الإنتاجات الدولية ذات الميزانيات الكبيرة، للإسهام في تحقيق أهداف تنويع اقتصاد المملكة وطموحها لتصبح مركزًا سينمائيًا بارزًا في المنطقة. ومع ذلك فبينما يجلب تدفق الإنتاجات الدولية فرصًا اقتصادية كبيرة، يكمن التحدي الرئيس في ضمان أن تترجم هذه الفوائد إلى نمو مستدام لصناعة الأفلام المحلية. فالجهة التي تقوم باتخاذ القرارات لمثل هذه الإنتاجات هي مصالح الاستوديوهات الدولية، وغالبًا ما يحصر دور السعودية في مجرد توفير مواقع التصوير والخدمات اللوجستية والمالية على حساب تعزيز نظام بيئي سينمائي مستدام ذاتي. كما يؤثر هذا الاعتماد على صناع القرار الخارجيين على تدفق العوائد المالية لمثل هذه الأعمال. فعلى الرغم من مشاركة السعودية في أفلام حققت نجاحًا عالميًا مثل "Dunki" (2023)، إلا أن جزءًا كبيرًا من الإيرادات المتحصلة يعود إلى الاستوديوهات الأجنبية، مما يحد من الفوائد المالية التي تعود على الصناعة المحلية.
يشهد قطاع الإنتاج السينمائي السعودي تحولاً ملحوظًا نحو تبنّي نموذج الإنتاج المشترك، مع ظهور اتجاهين واضحين في الإنتاج المشترك. يتمثل الاتجاه الأول في سعي صانعي الأفلام السعوديين المحليين إلى فرص الإنتاج المشترك لأسباب مختلفة، تتراوح بين التغلب على تحديات التمويل المتاحة والاستفادة من الخبرات التقنية والفنية المتقدمة لدى شركات الإنتاج العربية والعالمية وتطوير أدواتها الفنية والسّردية. ولا يقتصر دافع التعاون على الجوانب المالية فحسب، بل يمتدّ ليشمل الرغبة في الارتقاء بالمستوى الفني للأفلام من خلال الاستفادة من الخبرات التقنية والفنية التي توفرها شركات الإنتاج الدولية. أمّا الاتجاه الثاني فيتمثل في اجتذاب الأفلام العربية أو الدولية للشراكة مع كيانات أو شركات سعودية لأغراض الوصول إلى مصادر تمويل متنوعة وتوسيع نطاق الوصول للجمهور السعودي.
وتُعدّ تجربة السينما السعودية في الإنتاج المشترك حافلةً بأمثلة عديدة، فقد أثبتت قدرتها على تعزيز جودة الأفلام السعودية وتوسيع انتشارها اقليميًا وعالميًا. فمن أبرز نماذج التعاون الإبداعي فيلم "Shoot The Arabian Warrior"، الذي جمع شركة Enhanced Media الأمريكية و Khoja Brothers السعودية، مستفيدًا من التصوير في مواقع متعددة لإثراء السرد السينمائي. كما برز فيلم "عمرة والعرس الثاني" بوصفه نموذجًا للتعاون العربي بين Diggers Media Solutionsالمصرية و El Housh Productions السعودية. وعلى صعيد الوصول إلى جمهور المهرجانات الدولية، نجح فيلم "The Perfect Candidate"، الذي أُنتج بالتعاون مع شركة الإنتاج الألمانية Razor Film Production و Al Mansour Est. for Audiovisual Media السعودية. ولم يقتصر الإنتاج المشترك على الجوانب الإبداعية فحسب، بل امتدّ ليشمل توفير الدعم المالي، كما يتجلى في فيلم "سيدات البحر (Scales)" الذي شارك في إنتاجه كلٌّ من Image Nation Abu Dhabi الإماراتية The Imaginarium الأردنية. كذلك أتاح التعاون مع منصات عالمية مثل Netflix وشركات إقليمية كبيرة مثل MBC Studios للأفلام السعودية مثل "الخُلّاط+" و "الخطابة" تحسين جودة الإنتاج والوصول إلى موارد وجمهور أوسع. وتُؤكد هذه الأمثلة نجاح الإنتاج المشترك في توفير تمويل قوي، وتسهيل إنتاج أفلام عالية الجودة، وإثراء الأفلام بتنوّع مواقع التصوير، سواءً محليًا أو دوليًا.
علاوة على ذلك، يُعدّ البُعد الدولي للإنتاج المشترك أداة إستراتيجية لجذب الجمهور. فبدمج مجموعة متنوعة من الخليات الثقافية وإستراتيجيات التسويق، يمكن لصانعي الأفلام السعوديين تصميم محتواهم ليكون جذابًا لجمهور أكبر. وهذا ليس مجرد تبادل أحادي الاتجاه؛ فإنّ تدويل الأفلام السعودية يُسهّل أيضًا الحوار الثقافي، الذي يوصل القصص السعودية إلى جماهير عالمية، وتجد الروايات الدولية موطناً جديدًا بين المشاهدين السعوديين. ويُعدّ الانخراط في الإنتاجات المشتركة الدولية بمثابة عمل دبلوماسي ثقافي، فهو يعمل وسيطًا يمكنه إشراك الروايات الثقافية السعودية في نسيج السينما العالمية، مما يعزز فهماً أكثر دقّة لثقافة المملكة ومجتمعها. وبالمقابل تتيح هذه الشراكات للجمهور السعودي التفاعل مع الثقافات الأجنبية من خلال السينما، مما يعزز الشعور بالترابط العالمي. ومن الناحية الإستراتيجية، تُوفر الإنتاجات المشتركة الدولية لصانعي الأفلام السعوديين طريقًا للوصول إلى أسواق أوسع. وعبر شركات الإنتاج والموزعين من مختلف المناطق، تكتسب الأفلام السعودية إمكانية الوصول إلى قنوات التوزيع وخبرات التسويق التي تُسهّل دخول الأسواق التنافسية. ويُعدّ هذا التوسع الإستراتيجي في السوق أمرًا حيويًا لبناء حضور مؤثر في صناعة السينما العالمية، حيث تُعدّ الرؤية وإمكانية الوصول من العوامل الرئيسة للنجاح التجاري والفني.
تُعد صناعة الأفلام محركًا اقتصاديًا متعدد الجوانب على كل من الاقتصادات الرئيسة والثانوية والوظائف الإبداعية والفنية والتمويل. ولفهم هذه التأثيرات بشكل أفضل، من الضروري تحديد هذين المفهومين الرئيسين. الاقتصادات الرئيسة التي تُركز على التأثيرات المباشرة والملموسة لصناعة الأفلام. ويشمل ذلك الإنفاق على رواتب الممثلين وطاقم العمل، وتكاليف الإنتاج المباشرة مثل استئجار المعدات ومواقع التصوير، بالإضافة إلى عائدات شباك التذاكر من دور العرض المحلية. أما الاقتصادات الثانوية فتتناول التأثيرات غير المباشرة والناتجة عن النشاط الأولي لصناعة الأفلام. ويمكن أن يشمل ذلك زيادة الإنفاق في المطاعم والفنادق نتيجةً لقدوم طاقم العمل من خارج المنطقة، بالإضافة إلى نموّ الشركات التي تقدم خدمات الدعم للصناعة مثل خدمات الترجمة أو النقل أو السياحة. بمعنى آخر تُعتبر الاقتصادات الأولية المؤثر المباشر، بينما تُعتبر الاقتصادات الثانوية المؤثر غير المباشر أو التبعي للنشاط الاقتصادي الرئيس لصناعة الأفلام.
وبالرغم من أنّ نماذج الإنتاج الثلاث تُسهم بشكل كلي في صناعة سينمائية متطورة، إلا أنها تواجه تحدياتٍ، لا سيما في التأثير المباشر على القطاع وتحقيق استدامة الاستثمار. فعلى سبيل المثال، على الرغم من نجاح نموذج الإنتاج الدولي المشترك في التسويق الدولي للبنية التحتية والمواقع في السعودية وكفاءة فرق العمل الفنية والتقنية المحلية، وهو بحد ذاته أمرٌ مستدام، إلا أنّ هذا النموذج لم يدمج نجاحاته بالكامل داخل الصناعة المحلية، حيث لا يُسهم بشكل مباشر في تحسين الجودة الفنية لإنتاج الأفلام المحلية.
<div><table><div align="center"></div><tbody><tr><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="LTR"><b><span lang="AR-SA">التمويل<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">الوظائف الفنية والتقنية</span></b><b><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></b></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">الوظائف الإبداعية</span></b><b><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></b></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">الاقتصادات الثانوية<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">الاقتصادات الرئيسية <o:p></o:p></span></b></p></td><td width="132" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">نموذج الإنتاج<o:p></o:p></span></b></p></td></tr><tr><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">لا يوجد<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">مباشر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">مباشر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">مباشر<o:p></o:p></span></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">مباشر<o:p></o:p></span></p></td><td width="132" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">الإنتاج المحلي</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">غير مباشر<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">مباشر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">لا يوجد</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">مباشر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">لا يوجد<o:p></o:p></span></p></td><td width="132" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">الإنتاج العالمي<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">مباشر<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">مباشر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">مباشر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">مباشر<o:p></o:p></span></p></td><td width="102" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">مباشر<o:p></o:p></span></p></td><td width="132" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">الإنتاج المشترك<o:p></o:p></span></p></td></tr></tbody></table></div>
جدول (2): مقارنة الآثار الرئيسة المباشرة والثانوية غير المباشرة حسب نماذج الإنتاج
تُسهم الإنتاجات السينمائية المحلية بشكلٍ كبير في كِلا الاقتصادين، الأولي والثانوي، وذلك من خلال تحفيز الإنفاق المباشر داخل الاقتصاد المحلي. فعلى سبيل المثال، تُوّفر هذه الإنتاجات فرص عملٍ فنية، كفرص العمل لمُشغّلي الكاميرات ومُصممي مواقع التصوير، كما تعود بالنفع على مجموعةٍ واسعةٍ من الشركات المحلية العاملة في قطاعاتٍ مُختلفة، كخدمات الطعام والنقل والإقامة. وعلى الرغم من أن الإنتاجات المحلية غالبًا ما تعتمد على التصوير خارج الاستوديوهات وبمعدّات محلية، إلا أن محدودية ميزانياتها، خاصةً تلك المُخصّصة للأفلام المستقلة مُقارنةً بالإنتاجات الدولية، تُؤثّر على حجم عوائدها المالية، ليُشكّل ذلك تحديًا أمام قدرتها على إعادة الاستثمار وتحقيق الاستدامة الذاتية.
في المقابل، تُظهر الإنتاجات العالمية تباينًا وتعددًا في مقاربة مفهوم الاستدامة في صناعة الأفلام. ففي حين أن تأثيرها على الاقتصادات الأولية يبقى محدودًا، فغالبية الفوائد المالية الأولية تعود إلى بلدان المنشأ، إلا أن هذه الإنتاجات تُسهم بشكلٍ كبيرٍ في تنمية الاقتصادات الثانوية من خلال قطاعات السياحة والضيافة. ومع ذلك، تبقى الآثار غير المباشرة على بعض الأصعدة محدودة. فرغم إسهام هذه الإنتاجات في تنمية المهارات الفنية، إلا أن الأدوار الإبداعية الرئيسة غالبًا ما تُسند إلى مواهب عالمية. كما أن الاعتماد على خدمات الأفلام المحلية، كالمرافق والمعدّات يبقى محدودًا، وإن كانت هذه الإنتاجات توفّر فرص عملٍ قيّمةً للكوادر المحلية "تحت خط الإنتاج"، كفنيي الإضاءة والصوت. ومن جانب آخر يُعدّ الإنتاج المشترك نموذجًا هجينًا يجمع بين مزايا الإنتاج المحلي والإنتاجات العالمية، ساعيًا إلى تحقيق التوازن بين الفوائد الاقتصادية المباشرة وتنمية صناعة سينمائية محلية مستدامة. ويتميز هذا النموذج بتعاون جهات إنتاجية من مناطق مختلفة، مما يتيح توفير سيولة أكبر للميزانيات، وجذب خبرات فنية وتقنية متنوعة، وفتح أسواق جديدة لتوزيع الأفلام.
تُشكل مسألة الاستدامة الاقتصادية والثقافية تحديًا رئيسا أمام صناعة الأفلام الناشئة، حبث يتطلب تحقيقها تقييمًا دقيقًا لجدوى نماذج الإنتاج المختلفة، وقدرتها على توليد عوائد مالية تُسهم في نموّ الصناعة والأثر الذي يتركه الفيلم على الثقافة المحلية. يُقدم فيلما "سطار" و"قندهار" دراسة حالة مُهمة لتحليل نماذج الإنتاج السينمائي المُختلفة، ومساهمتها في بناء صناعة أفلام مُستدامة اقتصاديًا وثقافيًا في السعودية. على الرغم من اختلاف نماذج الفيلمين في الإنتاج والنوع والميزانية والجمهور المُستهدف، إلا أن مُقارنتهما تُلقي الضوء على عوامل النجاح والتحديات التي تُواجه صناعة الأفلام السعودية في سعيها نحو الاستدامة، مع الأخذ في الاعتبار مساهمة كل نموذج في الاقتصادات الرئيسة والثانوية.
<div><table><tbody><tr><td width="259" valign="top"><p class="TableCell" dir="LTR"><span lang="AR-SA">فيلم قندهار </span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span lang="EN-US" dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>2023<o:p></o:p></span></p></td><td width="251" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">فيلم سطار</span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span> 2022</span><span lang="AR-SA"><o:p></o:p></span></p></td><td width="132" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR"><o:p> </o:p></span></p></td></tr><tr><td width="259" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">إثارة/أكشن</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="251" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">عائلي/أكشن/كوميدي</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="132" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">النوع<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="259" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">العلا وجدة ومواقع خارجية</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="251" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">الرياض</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="132" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">موقع التصوير<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="259" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">أكثر من </span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>280</span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span> مليون ريال سعودي (</span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>75</span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>مليون دولار أمريكي)</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="251" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR"> 8</span><span lang="AR-SA">ملايين ريال سعودي <o:p></o:p></span></p><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">( </span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span> 2.1</span><span lang="AR-SA">مليون دولار أمريكي)</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="132" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">الميزانية</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="259" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="EN-US" dir="LTR">199,211</span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span> تذكرة <o:p></o:p></span></p><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span lang="EN-US" dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>11</span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span> مليون ريال سعودي<o:p></o:p></span></p></td><td width="251" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>903.705 </span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span> تذكرة<o:p></o:p></span></p><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span lang="EN-US" dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>40</span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span> مليون ريال سعودي</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="132" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">إيرادات شباك التذاكر السعودي<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="259" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">أكثر من</span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>9 </span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span> ملايين دولار أمريكي</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="251" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR">121,335 </span><span lang="AR-SA">ريال سعودي <o:p></o:p></span></p><p class="TableCell" dir="RTL"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>) </span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span> <span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span> 32.400</span><span lang="AR-SA">دولار أمريكي)</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="132" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">إيرادات شباك التذاكر العالمي</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="259" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">إنفاق أكثر من </span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span lang="EN-US" dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>20</span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span> مليون ريال سعودي على الاقتصادات الثانوية، وتوليد </span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span lang="EN-US" dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>11</span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span> مليون ريال سعودي من شباك التذاكر.</span><span dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="251" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">إنفاق مُعظم مبلغ </span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>8</span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span> ملايين ريال سعودي على الاقتصادات الأولية والثانوية، وتوليد أكثر من </span><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span><span lang="EN-US" dir="LTR"><span dir="LTR"></span><span dir="LTR"></span>40</span><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span> ملايين ريال سعودي من إيرادات شباك التذاكر المحلي.<o:p></o:p></span></p></td><td width="132" valign="top"><p class="TableCell" dir="RTL"><span lang="AR-SA">التأثيرات الاقتصادية المحلية<o:p></o:p></span></p></td></tr></tbody></table></div>
جدول (3): تحليل مُقارن للأداء التجاري لفيلمي "سطار" و"قندهار"<span class="tooltip">(22)<span class="tooltiptext">جميع البيانات من تقارير الهيئة العامة لتنظيم الإعلام</span></span>
ينتمي فيلم "قندهار Kandahar" إلى نوعية أفلام الإثارة والأكشن، مُستهدفاً جمهوراً عالمياً، وصُوّر في مواقع مُتنوعة، منها العلا وجدة ومواقع خارجية، ليعكس طموحه إلى جذب جمهورٍ دولي. وعلى الرغم من الميزانية الضخمة لفيلم "قندهار" التي تجاوزت 280 مليون ريال سعودي، إلا أن الجزء الأكبر من هذه الميزانية صُرف على أجور الممثلين الدوليين وشركات الإنتاج الأجنبية، ممّا قلل من مساهمتها المباشرة في الاقتصاد السعودي الرئيس. فقد بلغ صافي الاستثمار في الاقتصادات الثانوية 12 مليون ريال سعودي، بعد خصم الحوافز الحكومية للفيلم والتي بلغت 40% من إجمالي الإنفاق المحلي (20 مليون ريال). أما بالنسبة للعوائد، فقد حقق الفيلم 11 مليون ريال سعودي من إيرادات شباك التذاكر محلياً من خلال بيع 199,211 تذكرة، مع ملاحظة إلى أن نصف هذه الإيرادات تقريباً (حوالي 5.5 مليون ريال) ذهبت للأستوديو الأمريكي ولشركة التوزيع اللبنانية "Eagle Films"<span class="tooltip">(23)<span class="tooltiptext">بيانات منشورة من الهيئة العامة لتنظيم الإعلام.</span></span>. يُضاف إلى ذلك حساب العوائد غير الملموسة من الترويج السياحي للمنطقة، والتي تُعتبر ضعيفة في حالة "قندهار"، حيث لم يُبرز الفيلم منطقة العلا بشكلٍ واضح، بل صوّرها على أنها مكان آخر، مما يُقلل من قيمة العائد السياحي المُحتمل. وبالتالي، يُمكن الاستنتاج أن الاستعانة بالطواقم الأجنبية حدّت من مساهمة "قندهار" في الاقتصاد السعودي، سواء على مستوى الإنفاق المباشر أو غير المباشر. على الرغم من الفوائد السياحية الاقتصادية لنموذج فيلم "قندهار" كبيرة، من خلال مساهمته بشكل كبير في نقل وتوطين المعرفة في صناعة الأفلام وتعزيز المهارات المحلية والتسريع من وتيرة تبنّي التكنولوجيا، إلا أنّ هذه الفوائد تميل إلى أن تكون قصيرة الأجل ومركزة على النواتج الملموسة والفورية، مثل معدلات الإشغال الفندقي ومشاركة قطاع الخدمات اللوجستية. يُبرز هذا أهمية مُراعاة العائد الاقتصادي المحلي عند جذب الإنتاجات العالمية، والعمل على زيادة مشاركة المواهب الوطنية فيها لضمان فائدة أكبر للاقتصاد السعودي.
يُمثل "سطّار - عودة المخمس الأسطوري"، المصنف ضمن أفلام العائلة والأكشن والكوميديا، نموذج الإنتاج المشترك المحلي، بميزانية متواضعة (مقارنة بالإنتاج العالمي) بلغت حوالي 2.1 مليون دولار، وفترة إنتاج قصيرة في مدينة الرياض استغرقت أقل من شهرين فقط. اعتمد الفيلم في تمويله على جهات محلية مثل ستوديو "تلفاز11" و"أفلام الشميسي" و "موفي ستوديوز"، وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً في صالات السينما التجارية، حيث باع أكثر من 900 ألف تذكرة في السعودية، وحقق إيرادات شباك تذاكر تجاوزت 40 مليون ريال سعودي محلياً، بالإضافة إلى إيرادات عالمية بلغت 121,335 ريال سعودي (32,400 دولار أمريكي). يُظهر فيلم "سطار" أن نجاح الأفلام لا يعتمد فقط على حجم الميزانية، بل على جودة المحتوى وفهم صُنّاع الفيلم لذائقة الجمهور المحلي وقدرتهم على جذب الجمهور المُستهدف من خلال القصة والتسويق المناسب. فبدلاً من التركيز على المؤثرات البصرية المُكلفة، كما هو شائع في الإنتاجات العالمية، استثمر "سطار" في بناء قصة مُمتعة وجذابة للجمهور المحلي، مُعتمدًا على مواهب سعودية شابة. يُمثل هذا النهج استثمارًا مُباشرًا في الاقتصاد الرئيس، من خلال توفير فرص عمل وتنمية الكفاءات المحلية في مختلف مجالات صناعة الأفلام. يُعزز نجاح فيلم "سطار" التجاري جدوى نموذج الإنتاج المشترك والمُتوازن، الذي يُترجم هذا النجاح إلى عائد استثمار إيجابي كبير بلغ 401.5%، مُحددًا بذلك معيار جديدًا لنجاح السينما السعودية في مُعادلة الاستثمار مُقابل العوائد. يُضاف إلى ذلك عوائد غير مباشرة، يصعب قياسها مالياً، تتمثل في تنمية المواهب السعودية والعربية، وتعزيز الهوية الوطنية، وتحريك الاقتصادات الثانوية المحلية. وعلى الرغم من أنّ المكاسب الاقتصادية لهذا النموذج أقل من تلك التي يحققها النموذج العالمي، إلا أنها أكثر رسوخاً في الاقتصاد المحلي، حيث تعزز الاستثمار الدوري داخل المجتمع. كما يشير نجاح فيلم "سطار" في تحقيق إيرادات محلية كبيرة، وإمكانية وصول الأفلام المحلية إلى العالمية دون المساس بسلامتها الثقافية.
للوصول إلى الاستدامة الاقتصادية في صناعة السينما السعودية، من الضروري اتباع نهج شامل يغطّي عدّة معايير أهمها، الملاءة المالية لإعادة الاستثمار، والبنية التحتية المُناسبة، ومستويات الإنتاجية المُلائمة، وبناء قاعدة جماهيرية محلية ودولية للأفلام السعودية. يؤدي كلُّ معيار منها دورًا حاسمًا في تعزيز صناعة سينمائية مُستدامة ومُزدهرة، قادرة على توليد عوائد اقتصادية وقيمة ثقافية مناسبة.
أولًا: تعزيز القدرة المالية للقطاع
تُشكل القدرة على إعادة تدوير رأس المال (Capital Recycling)، من خلال إعادة استثمار العائدات المُتحصلة من مختلف نوافذ المبيعات التجارية (شباك التذاكر، البث الرقمي، البث التلفزيوني)، حجر الزاوية في استدامة صناعة السينما. فهذه العملية تُتيح تخصيص الموارد المالية لإنتاج أفلام جديدة، مما يُضمن استمرارية النمو والتطور. إلا أن النظام السائد في صناعة السينما السعودية يُعاني من تحديات هيكلية تُعيق هذه العملية. يتمثل أحد أبرز هذه التحديات في تجزؤ العلاقات بين المنتجين المحليين المُستقلين وأصحاب المصلحة الرئيسيين (المستثمرون، وكلاء المبيعات، الموزعون، العارضون). يُؤدي هذا التجزؤ إلى نقص السيولة المالية، ويخلق اختلالاً في توازن القوى، مما يُمكّن جهات العرض من فرض شروط مجحفة على المنتجين في توزيع الإيرادات. وعلى الرغم من الجهود الحكومية المبذولة لدعم الإنتاج المحلي من خلال صناديق التمويل، إلا أن هذه المبادرات لا تُعالج جوهر المشكلة، بل قد تُسهم في إساءة تخصيص الموارد وتفشل في كسر حلقات التبعية، مُرسخةً بذلك هذه الفجوة.
ولمعالجة هذه التحديات، يتطلب الأمر تبني نهج مُتكامل يُركز على تعزيز القدرة المالية للمنتجين المحليين. يُمكن تحقيق ذلك من خلال تشجيع دمج شركات الإنتاج الصغيرة لتكوين كيانات أكبر وأكثر قوة، مما يُحسّن من قدرتها التفاوضية مع المستثمرين والموزعين، على غرار النموذج الصيني الذي شهد ظهور شركات عملاقة مثل Huayi Brothers و Enlight Media Peng، 2012. كما يتطلب الأمر إعادة هيكلة آليات صناديق الدعم الحكومي لتُركز على تمكين المنتجين وتحقيق استدامتهم المالية على المدى الطويل، بربط الدعم بأهداف مُحددة تتعلق بإعادة تدوير رأس المال، كإعادة استثمار نسبة مُحددة من الأرباح في إنتاج أفلام جديدة. كما أنّ وضع آليات عادلة وشفافة لتوزيع الإيرادات بين جميع الأطراف، من خلال عقود نموذجية تُحدد نسب التوزيع وتضمن حقوق المنتجين، أمر بالغ الأهمية.
تتطلب استدامة صناعة الأفلام بنيةً تحتيةً قوية ومتطورة، إلى جانب مستويات إنتاج ومداخيل سنوية متصاعدة او ثابتة، فمن خلال توفير المرافق والخدمات اللازمة، يُمكن ضمان استمرارية الإنتاج، وخلق فرص عمل، وتحقيق عوائد اقتصادية مُستدامة. ولتحقيق هذه الغاية، يتطلب الأمر اتباع إستراتيجية مُتكاملة تُركز على جانبين مترابطين: تطوير البنية التحتية، وتطبيق لا مركزية دعم الإنتاج. ويتمثل الجانب الأول في الاستثمار في بنية تحتية متطورة تُلبي احتياجات صناعة الأفلام وغيرها من القطاعات ذات الصلة. ويشمل ذلك إنشاء استوديوهات حديثة مجهزة بأحدث التقنيات، إلى جانب مرافق ذات جودة عالية لما بعد الإنتاج. ومن المهم أن تُصمم هذه المرافق لتخدم أيضًا قطاعات ثقافية وإعلامية أخرى، مثل التلفزيون، وألعاب الفيديو، والموسيقى، والفنون الرقمية، مما يُعزز التكامل بين هذه القطاعات ويُحقق استخدامًا أمثل للموارد ويتكامل مع هذا التوجه، أهمية تطبيق لا مركزية دعم الإنتاج، من خلال إنشاء مكاتب خدمات في مدن رئيسة ذات إمكانات مُتنوعة، مثل الدرعية (بأهميتها التاريخية)، وجدة (بأهميتها التجارية)، والأحساء (بأهميتها التراثية)، وأبها (بأهميتها السياحية). وستكون هذه المكاتب -بالإضافة إلى المكاتب الموجودة في نيوم والعلا- محاورَ إقليمية لتسهيل تقديم الدعم والموارد المُخصصة لكل منطقة، وتسهيل التواصل وتبادل المعلومات بين صُناع الأفلام والجهات المُختصة. ويُعزز هذا النهج الترابط بين مُختلف مكونات الصناعة، ويُؤدي إلى زيادة العوائد، ويخلق بيئة إنتاج أكثر تنوعًا وديناميكية، مما يُسهم في تحقيق مستويات إنتاج سنوية كافية، ويُعزز الاستدامة الاقتصادية، ويدعم التنمية الثقافية للصناعة.
يمثل ضعف الحصّة السوقية في شباك التذاكر للأفلام المحلية أحد التحديات التي تواجه صناعة الأفلام السعودية. فالملاحظ وجود فجوة كبيرة في قطاع التوزيع بين الشركات الكبيرة أو المتوسطة ذات الملكية الدولية التي تهيمن على السوق السعودية وعددٍ قليل جدا من شركات التوزيع المحلية الصغيرة. ويسهم هذا التفاوت في عدم توافق ميزانيات الأفلام المحلية مع إمكانيات التوزيع. فمن جهة، لا تهتم شركات التوزيع الكبيرة والمتوسطة بتوزيع الأفلام المحلية ذات الميزانيات المنخفضة، وتميل إلى جلب أفلام دولية ذات ميزانيات ضخمة. ومن جهة أخرى، تعتمد شركات التوزيع المحلية الصغيرة، التي تكافح من أجل البقاء على الأفلام الدولية ذات الإعلانات والميزانيات الكبيرة أو المتوسطة. وهذا بدوره يُعيق التعاون بين شركات التوزيع المحلية الصغيرة والأفلام السعودية.
ويُمثل هذا عائقًا رئيسًا في مراحل توزيع الأفلام ضمن سلسلة القيمة، مما يمنع المنتجين المحليين من الحصول على العوائد الاقتصادية والاجتماعية من خلال توسيع جمهورهم وزيادة العوائد المالية. وقد ركزت السياسات السينمائية في السعودية بشكل أساس على دعم إنتاج الأفلام، إلا أنها أغفلت قطاعي التوزيع والعرض. لذا من الضروري استكشاف السياسات الممكنة في هذه القطاعات، لحماية حقوق المنتجين السعوديين، مع التوصية بتنفيذ معايير دنيا لتنظيم الاتفاقيات التعاقدية بين قنوات التوزيع والمنتجين. يُمكن الاستلهام من تجربة فرنسا وقانون "التسلسل الزمني للإعلام"، الذي يضمن توزيعًا أكثر إنصافًا للإيرادات ويُحسن شروط استرداد تكاليف الإنتاج للمنتجين المحليين، وذلك بتنظيم توقيت إصدارات الأفلام وإلزام منصات البث بالاستثمار في المحتوى المحلي. على سبيل المثال، يُلزم القانون الفرنسي منصات البث الدولية بتخصيص 20٪ على الأقل من عائداتها المُتولدة في فرنسا للإنتاجات السمعية والبصرية والمسرحية المحلية والأوروبية، مع توجيه 85٪ من هذا المبلغ إلى المحتوى باللغة الفرنسية. بالإضافة إلى ذلك، يجب على المنصات التي ترغب في عرض الأفلام الحديثة في غضون 12 شهرًا من إصدارها في دور العرض، بدلاً من 36 شهرًا القياسية، زيادة مساهمتها إلى 25٪ من عائداتها. لا يُوفر هذا الترتيب حصة أكثر إنصافًا من الإيرادات للمنتجين الفرنسيين فحسب، بل يُشجع أيضًا على الاستثمار بشكل كبير في المحتوى المحلي، مما يُساعد على استدامة صناعة السينما المحلية ورعايتها.
في السعودية لا يُلزم الإطار التنظيمي -الذي ينظّم يضع ضوابط البثّ الرقمي- هذه المنصات بالاستثمار في المحتوى المحلي أو تخصيص جزء من توزيعها للإنتاجات المحلية. فمنصات رئيسة مثل Netflix و Shahid تعملان وفْق حالتين ضمن صناعة السينما السعودية. الأولى إنتاج محتوى أصلي حصري لشبكاتهما، مما يُعزز بشكل كبير من محفظة استثمارات هذه الأفلام. على سبيل المثال، لدى Netflix اتفاقيات مع استوديوهات محلية مثل Myrkott Studio و Telfaz11 Studios، بينما تلعب شركة MBC Studios، الشركة الشقيقة لـ Shahid، دورًا محوريًا في فهم تفضيلات الجمهور وتحديد الأنواع أو القصص التي يُحتمل أن تحظى بشعبية. أما الحالة الثانية، فتنطبق على الأفلام التي لا تملك صفقات بث حصرية، حيث تعمل شركة التوزيع المحلية CineWave بوصفها وسيطا، مُتفاوضةً على حقوق الأفلام مع منصات مثل Netflix، التي غالبًا ما تُقدم مزايا مالية أعلى مُقارنةً بالخدمات الأخرى. من خلال إلزام الاستثمار في المحتوى المحلي وتنظيم توقيت وشروط توزيع وتسويق وإصدار الأفلام ماليًا، وفي ضوء ذلك يُمكن خلق بيئة أكثر دعمًا لصناعة الأفلام السعودية، مما يضمن حصول المنتجين المُستقلين على حصّة عادلة من الإيرادات وأن يكونوا قادرين على إعادة استثمارها في مشاريع مُستقبلية.
ختامًا، قدّمت هذه الدراسة تصورا مُفصلا لنماذج الإنتاج السينمائي السعودي وتطبيقها للاستدامة من خلال موازنتها بين الجودة الفنية والجدوى الاقتصادية. يُمثل تحفيز التعاون والإندماج بين شركات الإنتاج المحلية، وبناء وتطوير بنية تحتية متقدمة، والتسويق والتوزيع الفعال للأفلام المحلية ركائز أساسيةً لتحقيق استدامة صناعة الأفلام ومعالجة الفجوة الموجودة في سلسلة القيمة، تمهيداً لسينما سعودية مستدامة ومؤثرة عالمياً.