الدراسات
يونيو 2022

حضور الصحراء في تجربة السينما السعودية

تتناول الدراسة جماليات ورمزيات حضور الصحراء في السينما السعودية، ومدى كونه امتداداً لحضور الصحراء في الآداب والفنون والثقافة الشعبية في المملكة. كما تتناول الدراسة حضور الصحراء في السينما العربية والعالمية بمختلف أنواعها، ونقاط الالتقاء والاختلاف مع حضورها في السينما السعودية، من خلال عدة نماذج معاصرة تتناولها الدراسة بالتحليل المفصل، مع استخلاص أهم النتائج والتوصيات المقترحة.

مصدر الصورة:
قد تواجه بعض المشاكل في التصفح عبر الجوال عند وجود جداول في المنشور، ولتصفح أفضل ؛ ننصحك بالتصفح عبر شاشة أكبر أو التصفح بعرض الشاشة.


(١) الدلالات المكانيّة.. سرُّ اتساع المعنى

(مقدمة)

يشغل المكان حيزًا أساسيًّا من عمليّة خلق المعنى في السينما. فبالإضافة لكونه يضع إطارًا للجماليّات البصريّة، ويحدّد الفضاء الزمنيّ الذي تدور فيه الأحداث، فإنّه أيضًا يلعب دورًا كبيرًا في تهيئة الجوّ النفسيّ العام للفيلم، ويرسم خلفيّة الظرف الفكريّ والاجتماعيّ الذي تتحرك فيّه الشخصيّات. ولهذا تتضمن قراءة المكان في السينما أبعادًا رمزيّة، تتجاوز إطار الحدث المباشر وحدود مجهودات الممثلين، إلى الإيحاء بأعمق أفكار الشخصيّات، ودوافعها، وتعقيداتها المبطنة، وذلك دون الحاجة لأيّ حوار. فالأفلام التي تفتقر للدلالات المكانيّة تبدو عادةً منغلقة المعنى، وتفشل - غالبًا - في التواصل مع الجمهور، مهما كثرت حواراتها، بعكس الأفلام التي تحمل دلالات مكانيّة ثريّة، والتي تبقى معبّرةً وإن كانت صامتة. وهذا ما يمنح الأفلام التي تدور في مواقعَ مميّزةٍ القدرة على إثارة اهتمام شرائح واسعة من الجماهير، حتى أولئك الذين لم يألفوا تلك الأماكن من قبل.

للصحراء بالتحديد حضورٌ كبيرٌ في ذاكرة الجمهور، عربيًّا وعالميًّا، منذ فجر السينما. بل يمكن القول: إنّ تطوّر أفلام الصحراء شكّل مراحل مفصليّة في تطور الفنّ السينمائيّ كُلِّه. فمن الناحية التقنيّة فرضت طبيعة الصحراء الوعرة على المخرجين ارتجال تقنيات فنّيّة مبتكرة لتجاوز صعوبات التصوير فيها. ومن ناحية المضمون فإنّ الصحراء تملك صفات مولّدة للخيال، وقادرة على تحفيز الأحاسيس من خلال تأثيراتها البصريّة والصوتيّة الطبيعيّة. فما بين: رحابة مساحتها، وامتداد مسطحاتها، وتنوّع أشكال كثبانها الرمليّة، وجماليّات الشروق والغروب في آفاقها البانوراميّة، وتمايز ألوانها ما بين نهار ذهبيّ شديد السطوع، وليل شديد الحلكة مرصع بالنجوم، وحركيّة رمالها وعواصفها وغبارها، والخدع البصريّة التي يثيرها السراب، والتجريد الذي ينشأ من ندرة الغطاء النباتي، والطابع الغرائبيّ الذي تبعثه تشكّلات الجبال الصخريّة وسطها، إضافة إلى الطبيعة الغامضة لحيواناتها، وواحاتها النادرة، وكنوزها الخفيّة - نحصل على ثراء حسّي غني بمستويات متعددة من الجماليّات في موقع واحد.

حرّضت هذه الجماليات العديد من المخرجين على الاستفادة منها في صنع سينما رمزيّة مرتبطة بدلالات الصحراء. ومع ذلك، فحتى أفلام الصحراء المحصورة في حدود الإثارة والرعب والحركة، التي تكون عادة أقلّ فنيّة، لم تخل من ارتباطها بالرمزيّات بسبب القوة الإيحائيّة للمكان. يتنوع توظيف هذه الدلالات تنوعًا كبيرًا باختلاف السياق والموضوع ومدّة الفيلم، فبعض الأفلام محدود بالقليل منها، في حين قد يحتشد بعضها بالعديد من الدلالات المتضادة. وأهمّ هذه الدلالات <span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">مقالة "صورة الصحراء في السينما" لمحمد فاتي</span></span>: الاغتراب، الوحشة، البحث عن الذات، الصراع مع الآخر، الكفاح للنجاة، الولادة الجديدة، الترحال، الانفصال، الغياب، العبور، التأمل، الشاعريّة، الروحانيّة، الصوفيّة، الأسطوريّة، الديستوبيّة، التيه، الشكّ، التوهّم، السرّيّة، التكتّم، الغموض، الخفاء، الماضويّة، البدائيّة، النقاء، السكينة، الدفء، الغرائزيّة، العدوانيّة، وغيرها الكثير مما سنتناول توظيفه في السينما السعوديّة بالخصوص، ومدى تقاطعه مع دلالات الصحراء في الثقافة الدينيّة والفنيّة والشعبيّة في المملكة.

  • مسيرة السينما وأفلام الصحراء السعوديّة

تشكّل أفلام الصحراء نسبة لافتة من مجموع الأفلام السعوديّة الحديثة، كما نفترض بدهيًّا بسبب ارتباط طبيعة المملكة بها. لكن هذا لم يكن هو الحال في البدايات، إذ يمكن القول: إنّ السينما السعوديّة في مرحلتها الأولى ارتبطت بنقيض الصحراء: أي بالمدينة. فأول فيلم بإخراج سعوديّ عام ١٩٧٥م كان فيلمًا تسجيليًّا للمخرج الرائد عبدالله المحيسن <span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext"> عبد الله المحيسن: مخرج سعودي ولد في مكة المكرمة عام 1947 (1367هـ)، ويعد أول سعودي متخصص في السينما، كما أنشأ أول أستوديو تصوير سينمائي في المملكة العربية السعوديّة عام ١٩٧٥م. حاز على عدّة تكريمات وجوائز محليّة وعربيّة، منها جائزة النخلة الذهبيّة في مهرجان الأفلام السعوديّة عام ٢٠١٩م.</span></span> عن “تطوير مدينة الرياض”. وأتبعه عام ١٩٧٧م بفيلم وثائقيّ أكثر فنيّة وأهميّة بعنوان “اغتيال مدينة” الذي يتناول الدمار الذي حلّ ببيروت أثناء الحرب الأهليّة اللبنانيّة. استمر المحيسن وحيدًا في الساحة حتى أخرج عام ١٩٩١م فيلمًا بعنوان “الصدمة”، والذي تناول فيه أحداث غزو الكويت والأثر الذي أحدثته على المنطقة، ليكمل بذلك المرحلة الأولى من السينما السعوديّة المبكّرة، المنشغلة بتوثيق التغييرات التي تطرأ على المدن. وبعدها بدأت المرحلة الثانية المنشغلة بالفيلم الروائيّ، والتي اتخذت من الصحراء موقعًا رئيسيًّا للعديد من أفلامها.

بدأت هذه المرحلة الثانية مطلع الألفيّة الجديدة، إثر دخول الإنترنت في المملكة وزيادة اهتمام الجيل الجديد بالفنّ السينمائيّ، وارتفاع عدد مشاركاتهم في المهرجانات العربيّة والعالميّة، وحتى إنشاء مهرجانات سينمائيّة محليّة في مختلف مناطق المملكة. وكانت بداياتها مع مخرجين مثل هيفاء المنصور <span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext"> هيفاء المنصور: مخرجة سعوديّة من مواليد مدينة الأحساء عام ١٩٧٤م. تعدّ من أبرز المخرجات العربيّات، كما أخرجت عدة أفلام في هوليوود مثل فيلم Mary Shelley - 2017. ويعد فيلمها الطويل الأول "وجدة" عام ٢٠١٢م، أول فيلم سعوديّ يتمّ تصويره في المملكة، وأول فيلم يمثل المملكة في ترشيحات جوائز الأوسكار.</span></span>، التي شاركت بعدة أفلام قصيرة، أبرزها “أنا والآخر” عام ٢٠٠١م، الذي يناقش قضيّة الوحدة الوطنيّة من خلال تقاطع ثلاثة مهندسين مختلفي التوجهات في مهمة عمل، يضطرون لمواجهة اختلافاتهم الفكريّة حين تتعطل سيارتهم في منطقة بريّة معزولة. وفي هذه المرحلة عاد عبدالله المحيسن للإخراج بفيلم روائي، من باب الصحراء هذه المرة، عبر فيلم “ظلال الصمت”، الذي يعدّ أول فيلم روائيّ طويل من السعوديّة، في مفارقة مع بداياته الوثائقيّة المتخصّصة في المدن. وتدور أحداث الفيلم في مستقبل افتراضي، في مكان أشبه بمعهد علميّ وسط صحراء نائية، حيث تجري عمليات تخدير وغسل أدمغة، إذ يقع المعهد تحت سيطرة نظام متسلط يستدرج العقول ذات الكفاءات، ثم يخضعها لأجندته، أو يدمرها عقابًا على التمرد <span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext"> كتاب "سينمائيّات سعوديّة" لخالد ربيع السيد.</span></span>.

إلى جانب النماذج التي سنتناولها بالتفصيل لاحقًا، وهي “السينما ٥٠٠ كم” لعبدالله العياف، ”عطوى” لعبدالعزيز الشلاحي، ”ومن كآبة المنظر” لفارس قدس، و”مدينة الملاهي” لوائل أبومنصور، و"ديار حسمى" لفهد فايز، هناك أفلام صحراء أخرى تركت أثرها في المخيّلة السينمائيّة السعوديّة، وتقاطعت مع النماذج السابقة في مواضيعها ودلالاتها، نذكر منها فيلم “طريقة صعبة” لسمير عارف، عام ٢٠٠٦م، الذي يتناول رحلة سفر لرجل وحيد، يعيش خلالها من جديد ذكرى وفاة ابنته وزوجته في حادث سيارة أثناء السفر بعد خطأ ارتكبه في الطريق. وفيلم “تمرّد” لعبدالعزيز النجيم، عام ٢٠٠٧م، عن صبيّ يبلغ به التمرد حدّ أن يهيم في الخلاء، غارسًا أعمدة كالأوتاد في رمال الصحراء الفسيحة، في مشهد رمزي مكثف. وفيلم “٣٠٠ كم” لمحمد الهليل، الذي يتناول رحلة سفر طويلة لرجل وامرأة مع رضيعها في سيارة صغيرة. أما فيلم الرعب ”وادي الأرواح” لجراح الدوسري، فيحكي قصة معلّم يعيّن في قرية نائية فيواجه في طريقه أرواحًا وأحداثًا مرعبة. وفيلم “بلال”، عام ٢٠١٦م، يروي عبر رسوم متحركة قصّة الصحابيّ بلال بن رباح منذ طفولته وحتى رحلته إلى الجزيرة العربيّة واعتناقه الإسلام، وهذه ليست سوى أمثلة تبيّن الاهتمام الكبير بالصحراء ودلالات العبور بها في السينما السعوديّة <span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext"> كتاب فيلموغرافيا السينما السعودية" لخالد ربيع السيد.</span></span>.

عطفًا على ما سبق، يمكن بشكل حاسم أن نرى وجود بوادر حركة سينمائيّة سعوديّة متخصّصة في الصحراء. فبالرغم من العمر المبكر لصناعة السينما في السعوديّة، مقارنة بها في دول أخرى، وصعوبة تحديد ملامح محددة مشتركة بين جميع أفلامها، وذلك نظرًا لتنوع مواضيعها وقصصها، خصوصًا في الأعوام الأخيرة، إلا أن الصحراء ظلت موقعًا مركزيًّا في العديد منها. وفي العموم يمكن القول: إنّ السينما السعودية سينما مكانيّة بامتياز، نادرًا ما تميل إلى تعتيم ملامح الموقع الذي يتمّ فيه التصوير. وحين تتناول الصحراء فإنّها تمنح صورة المكان حضورًا لافتًا، بالاستفادة من الموروث الثقافيّ والتاريخيّ الثريّ المرتبط برمزيّاته، أسوة ببعض الأفلام العربيّة الصحراويّة، كما سنرى في نماذج منها. كما يمكن القول أيضًا إنّ السينما السعوديّة هي سينما نوع خالص، إذ نادرًا ما يلتبس تصنيف أفلامها، أو نجد بينها أفلامًا عابرة للأنواع. فأفلام الرعب السعوديّة تقدم رعبًا بحتًا ولا تحيد عنه، وأفلام الدراما نادرًا ما تميل للكوميديا، والعكس صحيح في حالة الأفلام الكوميديّة، وأفلام الغموض والإثارة والترقب، وغيرها، تبقى بدورها مخلصة لنوعها. وهذا ما تحققه أفلام الصحراء التي تبقي القصة غالبًا في إطار نوع واحد، وهذا ما سنتطرق إليه حين نتناول سينما النوع في السينما العالمية عمومًا، وهوليوود خصوصًا، وكيف تأثّرت بها السينما السعوديّة في الفصول التالية.

(٢) حضور الصحراء في السينما العربيّة

من المحيط إلى الخليج، كان للفضاء الصحراويّ حضورٌ كبيرٌ في السينما العربيّة. وعلى عكس ما سنرى من الدلالات السلبيّة للصحراء في الأفلام العالميّة، التي ترتبط بمعاني: الغربة، والعزلة، والوحشيّة، والتيه، والتمرد، والجفاف، وفقر الحياة، فإنّ صورة الصحراء في السينما العربيّة تغلب عليها السِّمة الإيجابيّة، إذ ترمز للنقاء، والسكينة، والأصالة، والارتباط بالعشيرة، والثراء الروحانيّ، والثروة المكانيّة. ومع هذا فإنّها تتسع للتناقضات التي تجد جمالًا في القبح، وقبحًا في الجمال، وتجمع أحيانًا بين قطبَيِ الدلالات الإيجابيّة والسلبيّة في إطار واحد، كما سنرى في النماذج المهمة التاليّة.

  • تمبكتو (٢٠١٤) - عبدالرحمن سيساكو

قبل هذا الفيلم، اشتهر المخرج الموريتاني عبدالرحمن سيساكو <span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext"> عبدالرحمن سيساكو: مخرج ومنتج سينمائي موريتاني ولد سنة 1961م. اشتهر بأعماله السينمائيّة التي تتناول الصعوبات التي يلاقيها الأفارقة من فقر وهجرة وإرهاب. من أشهر أفلامه في انتظار السعادة عام ٢٠٠٢ وتمبكتو عام ٢٠١٤ والتي حاز بها على جوائز في مهرجان كان السينمائي العريق.</span></span> في نطاق محدود عالميًّا، وإن لقي تقديرًا كبيرًا من محبي السينما الفنيّة المستقلة. لكن هذه هي المرة الأولى التي يقدم فيها فيلمًا بهذا المقياس، سواء على مستوى الموضوع أم التنفيذ، والمرة الأولى التي يحظى بها أحد أفلامه بهذا الانتشار. يبدأ الفيلم بلقطة معبّرة لغزالة تهرب في الصحراء من مطارديها، وكان المشهد ليبدو عاديًّا لولا أنّ مطارديها يحملون علم جماعة إرهابيّة، فتصبح الغزالة صورة للجمال والأنوثة والحياة البريئة، وهي رمزيّاتها المعروفة في الثقافة العربيّة، والتي تهددها هذه الجماعة إبّان انتشارها في إفريقيا. القصة المستمدة من أحداث حقيقية تتناول كيف تحكم هذه الجماعة المتطرفة قبضتها على مدينة “تبمكتو” الشهيرة في شمال مالي، والتي يركّز عليها الفيلم كما يتضح من عنوانه، فتمنع الموسيقى، وتحطّم الآثار، وتفرض القيود على النساء، وتنفذ أحكام الجلد والرجم والإعدام دون رقيب، مثيرة الذعر والخوف حتى في المساجد.

نموذج الجمال والسعادة الوحيد في تلك الصورة القاتمة هو عائلة مكونة من أب وأم وابنتهما، يعيشون خارج حدود المدينة في خيمتهم الصحراويّة، ويجدون بهجة الحياة في رعايتهم لماشيتهم، واكتفائهم الذاتيّ، وإيمانهم البسيط، وجهلهم بما يجري في المدينة، إذ لا زالت الصحراء الشاسعة خارج سيطرة الجماعة الإرهابيّة، ومنيعة عن التأثر بالقوانين والأحكام المتشدّدة التي تحاصر سكان المدينة كسجن كبير. تبدو الصحراء هنا مرادفًا للنقاء، أي رمزًا للفطرة السويّة التي لم تمسها بعد يد الانحراف. بينما تبدو المدينة في المقابل حاضنةً للفساد، بانغلاقها الذي يجعلها تسمح بنمو بذرة التطرف والفساد العقدي والتشوه الروحاني. لكن هذه الحدود لا تدوم، إذ تتطور الأحداث حتى يُقبَض على الأب ويُقتل في النهاية مع زوجته، بينما تهرب الابنة وسط الرمال الصحراويّة، في مشهد رمزيّ يذكرنا بصورة الغزالة في البداية. ويشكل ذلك الانتهاك لناموس الصحراء القشّة الأخيرة التي تدفع ببعض سكان المدينة إلى الرحيل، رغم تهديد الجماعة، بعد أن أدركوا أنّهم لم يعد لديهم ما يخسرونه، لأنّهم علموا أنّهم إذا لم يعودوا يملكون السلام حتى في الصحراء فإنّهم لن يملكوه في أي مكان حولها.

  • ذيب (٢٠١٤) - ناجي أبو نوار

الفيلم الأردني المرشح للأوسكار للمخرج ناجي أبو نوار <span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext">ناجي أبو نوار: مخرج سينمائيّ أردنيّ بريطانيّ ولد عام 1981م، وصل فيلمه ذيب إلى الترشيحات النهائيّة لجوائز الأوسكار عام ٢٠١٦.</span></span>، يعدّ أحد أهم إنجازات السينما العربيّة مؤخرًا، نظرًا لتمكّن المخرج من أدواته الإخراجيّة، وحفاظه على الحسّ الجماليّ، رغم قساوة القصة ووعورة مواقع التصوير، ما بين أعلى قمم الجبال الصخريّة، وأدنى قيعان الآبار العميقة. تدور أحداث الفيلم في صحراء الجزيرة العربيّة، خلال فترة اندلاع الحرب العالميّة الأولى، حين كانت المنطقة لا تزال محلّ صراع وتوتر كبيرين: بين الإمبراطوريّة العثمانيّة والإنجليز على صعيد دوليّ، وبين قبائل الجزيرة التي تتطاحن على مصادر الماء على صعيد داخليّ، قبل أن يتغير تاريخها بالكامل باكتشاف النفط وتوحيد المملكة. يستخلص الفيلم من هذه المرحلة الانتقاليّة الهامة قصّة صبيّ يغادر أمان القبيلة ويلحق بأخيه في رحلة صحراويّة، يصطحبهما فيها ضابط إنجليزي ودليله، ويتعرضون فيها لعدة مخاطر، ما بين شح الماء والغذاء، واعتداءات قطاع الطرق، قبل أن يجد البطل “ذيب” نفسه وحيدًا تحت رحمة قاطع الطريق الذي قتل أخاه ورفاقه. وفي النهاية تشتبك الخيوط، ونرى هذه القصة جزءًا من حدث أكبر، في لقطة معبّرة لقطار حديدي يقطع الصحراء الشاسعة، بوصفه رمزًا للتغيير الكبير القادم في المنطقة.

يحافظ الفيلم على محليّته رغم استفادته من تقنيات أفلام الغرب الأمريكي المتوحش “الويسترن” <span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext"> "الويسترن"، أو الغرب الأمريكيّ المتوحش، هو نوع سينمائي يطلق على الأفلام التي تتناول حياة الغرب الأمريكيّ القديم وبطولات رعاة البقر وصراعاتهم التي تجري في الصحراء، خصوصًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.</span></span>، التي توائم بين جمال المناظر البانوراميّة الصحراويّة، وبين قبح القتل والصراع والمخاطر التي تتوالى في هذه البيئة القاحلة. فنرى الكاميرا تتابع الرحلة، على إيقاع موسيقى محليّة مصحوبة بإيقاع الجِمال، وسط خلفيّة بديعة من الجبال والوديان ورمال الصحراء، دون أن تفقد عنصر الإثارة والتشويق؛ لأنّ الخطر يبزغ دائمًا من أماكن لا مرئيّة خارج الإطار. وعلى عكس العديد من الأفلام التي جرت أحداثها في الجزيرة العربيّة، مثل فيلم Lawrence of Arabia (1962) الذي صور في نفس الموقع في صحراء الأردن، فإنّ صورة الضابط الإنجليزيّ هنا تتخلص من النظرة الاستشراقيّة التي تصوّر الرجل الأبيض بوصفه مخلّصًا، إذ تعود كل المخاطر التي يقع فيها البطل إلى عدم مبالاة الإنجليزي بمصير السكان المحليّين وطمعه بثروات مصادرهم الطبيعيّة، وبالتالي يتجاوز الفيلم رواسب النظرة الاستعماريّة التي لا زالت مسيطرة على العديد من أفلام هوليوود عن العرب. يستفيد الفيلم أيضًا من الإرث الثقافيّ العربيّ، فيحيل إلى مرجعيّات دينيّة وتاريخيّة معروفة، مثل قصة النبي يوسف، إذ نرى سقوط الصبي في البئر العميق كرمز للوحدة أولًا، وبداية لرحلة استكشاف الذات التي ستصل به إلى النضج، وهنا يصير ماء الصحراء النادر رمزًا للحياة الجديدة.

  • المومياء .. يوم أن تحصى السنين (١٩٦٩) - شادي عبدالسلام

عطفًا على حجم ومستوى وقِدَم صناعة الأفلام في مصر، مقارنة بنظيراتها في الدول العربيّة، كان لا بد أن يكون للصحراء نصيبٌ كبيرٌ منها، خصوصًا إذا أخذنا بالاعتبار الإرث الصحراويّ المهم المتمثل في الحضارة الفرعونيّة. وهذا الفيلم الذي احتفلت به مهرجانات عالميّة عديدة هو أحد أجود الأمثلة على ذلك. ترجع القصة إلى حادثة اكتشاف مخبأ مومياوات لعائلة ملكيّة فرعونيّة، وسط جبال الصحراء عام ١٨٨١م. فبعد وفاة زعيم قبيلة كانت تقتات على تهريب وبيع الآثار المسروقة من المقبرة، يرفض ابناه ”عيشة الضباع” القائمة على النهب والمتاجرة بالجثث. ونتيجة لذلك يغتال الابن الأكبر رؤوس القبيلة، ثم يقرر الابن الأصغر الإبلاغ عنهم، فتداهم السلطات المخبأ وتنقل توابيت الموتى. وإثر ذلك تتشتت القبيلة بعد انقطاع مصدر رزقها، ويرحل الابن الوحيد في الصحراء منبوذًا متشردًا، وهكذا يتحقق المصير الذي تنبأ به لنفسه حين أطلعه أخوه على سر القبيلة: “لقد أطلعتني على سر مظلم، صحراءٌ علي أن أسيرها وحدي.” وهنا يتضح أن الصحراء ترتبط بالمعرفة المحرّمة، والمقدّسات المخبوءة، التي تهدد مصير من يعلن عنها فيصبح محكومًا عليه بالضياع. وهذه الفكرة تتردد في عدد لا يحصى من الأفلام التي تتناول مغامرات الصحراء عمومًا، وصحراء مصر بشكل أخص، والتي تخبئ كنوزًا تعاقب من يكتشفها أو يفصح عنها، مما يجعلها موقعًا خصبًا لأفلام الإثارة والغموض.

الخيارات البصريّة في الفيلم تدل على الفهم العميق الذي يملكه مخرجه شادي عبدالسلام <span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext"> شادي عبد السلام (1930 - 1986) مخرج مصري، يعتبر من أبرز مخرجي العالم رغم قلة أفلامه. اختير ضمن أهم 100 مخرج على مستوى العالم خلال تاريخ السينما في العالم من رابطة النقاد الدوليّة في فيينا.</span></span> للطبيعة الصحراويّة، وهذا ما يؤكده فيلمه “شكاوى الفلاح الفصيح” السابق لهذا، والذي حصد به أيضًا جوائز عالميّة <span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext"> شكاوى الفلاح الفصيح (١٩٧٠) هو فيلم قصير استوحيت فكرته من بردية فرعونية عمرها أربعة آلاف سنة، تتناول قصة قصيرة لفلاح يستصرخ السلطة لتسترد له حقه وتقيم ميزان العدل، وحصد به شادي عبدالسلام جائزة في مهرجان البندقية الدولي.</span></span>. نرى مثلًا كيفيّة استغلاله لانتشار الضوء في الصحراء رمزيًّا باستخدام الإضاءة الطبيعيّة، حيث في المشاهد الليليّة تكون الإضاءة دامسة فتخفي أكثر مما تفصح. ولأنّ مشهد نقل التوابيت يحدث فجرًا، يكون للإضاءة الزرقاء الخافتة أثرٌ نفسيٌّ مقبض يعكس جوّ التوتر والغموض في العمليّة. وعلى عكس معظم أفلام الصحراء، نجد هنا العديد من المشاهد الداخليّة. إذ تجري أهم الحوارات في: تجاويف الجبال، وداخل المقبرة، ووسط أروقة البيوت الصخريّة الضيقة. وبالتالي لا يكتفي الفيلم بتصوير سطح الصحراء، بل يتسلل إلى جوفها ويجعلنا في قلبها، فنحسّ بحركتها وقواها الخفيّة وعوامل تأثيرها، حتى حين لا تكون حاضرة بشكل مباشر في الصورة. تحضر الصحراء عبر صفير الرياح التي تُسمع باستمرار في أعمق الأغوار، ومن خلال الرمال التي تتكدس داخل البيوت، كرمز لتراكم التقاليد الفاسدة للقبيلة الرافضة للتطهير، فتصبح المساكن أشبه بساعة رمليّة تنذر بهلاك أهلها الوشيك.

  • ثلاثية الصحراء (١٩٩١-١٩٨٤) - ناصر خمير

يقول المخرج التونسي ناصر خمير <span class="tooltip">(11)<span class="tooltiptext"> ناصر خمير، أديب ومخرج تونسي ولد سنة 1948. ترشح لعدة جوائز سينمائية مهمة واشتهر باهتمامه بالثقافة العربيّة الكلاسيكيّة وجهوده لإعادة إحيائها عالميًّا.</span></span> عن فيلم بابا عزيز (٢٠٠٥) إنه “مهتم بشكل خاص بالموضوعات الصوفيّة. أريد أن يظهر الفيلم الثقافة الإسلاميّة بشكل متسامح وودود، أن تكون ثقافة مليئة بالحب والحكمة <span class="tooltip">(12)<span class="tooltiptext"> كتاب "عين الصقر: تأملات في سينما الصحراء" لمجموعة من الكتاب.</span></span>.” ولم يجد موقعًا أفضل لذلك من الصحراء بشساعتها وصورتها الحالمة وإرثها الدينيّ الثري، إذ يستلهم روحانيتها من قصص الأنبياء التي ترمّز الصحراء إليها بوصفها موضعًا للتطهير ومكانًا لتلقي الوحي. إضافة لذلك، ينفح ناصر الصحراء بنفحة إيمانيّة ذات طابع صوفيّ، كما يستفيد من إرث قصص العشق في الثقافة العربيّة، مثل قصص ألف ليلة وليلة، فيجعل العشاق يلتقون في احتفالات صحراويّة سحريّة لا تخضع للقوانين الأرضيّة، فنرى السرياليّة حاضرة في قصة “الأمير السابح في روحه” في فيلم بابا عزيز. يتسم الفيلم بقدر كبير من العجائبيّة، بداية من الجد الأعمى الذي يهيم بين الكثبان الرمليّة مع حفيدته، مخاطبًا الحيوانات، باحثًا عن موقع اجتماع صوفيّ لدراويشَ يلتقون في الصحراء كل ثلاثين عامًا، ورغم أنّه لا يرى الطريق يبقى موقنًا من كونه سيستدل عليه، لأنّ “من يملك السلام الداخلي يعثر دائمًا على وجهته” كما يقول.

يعد هذا الفيلم الجزء الأخير من ثلاثيّة الصحراء للمخرج نفسه، أما الجزءان السابقان فلا يبتعدان كثيرًا في توظيفهما لأدوات الصحراء وتأكيد طبيعتها الروحانيّة، وإن اختلفا في القصة والمعالجة والرسالة. فالفيلم الأول، الهائمون في الصحراء (١٩٨٤)، يتناول أيضًا رحلة تيه بين الكثبان الرمليّة، لكن من منظور أكثر تشككًا وأقلّ ثقة بالوصول، ويتضح هذا في انتشار العواصف في الطريق، والتي توحي بالضياع وفقدان الوجهة وتشوّش البوصلة الروحيّة. فالمُعلم في بداية الفيلم يتجه إلى قرية تمّ تعيينه فيها، لكن كلّ من في الطريق يخبره أنّها غير موجودة، وهنا يحضر الغبار فيرمز إلى ضياع الحدود بين الوهم والحقيقة. أما الجزء الثاني من الثلاثية: طوق الحمامة المفقود (١٩٩١) فيوحي عنوانه أيضًا برحلة تيه، لكنّه يأخذ هنا صورة أكثر سحريّة من السابق وأقرب إلى الجزء الأخير، إذ نكتشف أنه يتناول العشق الأندلسيّ الحالم، الذي يجعل من تجربة غياب المحبوب مصدرًا للذّة الحب، رغم العذاب الذي تتضمنه. وفي مفارقة رمزيّة بديعة، تصبح تجربة الهيام الصحراويّة للبطل في النهاية مرادفًا للبحث عن الفردوس المفقود.

(٣) جماليّات الصحراء في السينما العالميّة

من الصعب تلخيص دلالات الصحراء في السينما العالميّة واختزالها في أمثلة قليلة؛ لتنوعها؛ وكثرة أمثلتها؛ واختلافها من منطقة لأخرى، بل وتفاوتها حتى بين الأزمنة. فبالنظر للنشأة المبكرة لفنّ السينما في أميركا مثلًا - التي سنركز عليها هنا <span class="tooltip">(13)<span class="tooltiptext"> يرجع التركيز على أفلام هوليوود في الدراسة لعدة نواحٍ، فمن ناحية الموضوع لكونها من أكثر الثقافات العالميّة ارتباطًا بالصحراء، كما يتضح في أنواع الويسترن وأفلام الطرق، بعكس الثقافات الأوروبيّة والشرق آسيوية التي لا تقل عنها قيمة سينمائيّة لكن يندر فيها حضور الصحاري. ومن ناحية الانتشار والتأثير لكون الثقافة الأمريكيّة من أكثر الثقافات إلهامًا لأسلوب السينما السعوديّة؛ لغزارة إنتاجها، وسهولة توافر أعمالها السينمائيّة وسهولة استهلاكها لدى شريحة كبيرة من الجمهور.</span></span>- اختلف مفهوم الصحراء في السينما من عقد إلى آخر، بداية من فيلم The Great Train Robbery (1903) الذي يشكل علامة فارقة في السينما الصامتة القصيرة، كونه أول عمل سينمائيّ سرديّ تمّ تصويره استنادًا إلى نص بلقطات متتابعة. وضع هذا الفيلم الصحراء منذ البداية نقطةَ انطلاق أساسيّة للخيال السينمائيّ عمومًا، لكن الصحراء سرعان ما تجاوزته وانتقلت إلى دلالات أخرى مختلفة كليًّا. وهذا ما سنستعرضه هنا في الحديث عن أهمّ الأنواع السينمائيّة التي تناولت الصحراء وتخصصت فيها:

  • أفلام الغرب الأمريكيّ

مصطلح الغرب الأمريكيّ المتوحش «الويسترن» في السينما يطلق على الأفلام التي تتناول حياة الغرب الأمريكيّ القديم وبطولات رعاة البقر، خصوصًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتي تجري أحداثها عادة في الصحراء أو في البلدات الصغيرة المتناثرة وسطها. وتعدّ هذه الأفلام حتى اليوم من أهمّ ما أنتجته الشاشة الأمريكيّة. مثّلت هذه الأفلام في عصرها الذهبيّ ما بين ١٩٣٠ و١٩٦٠، الشكل الأبرز للسينما الأمريكيّة، خصوصًا بعد الحرب العالميّة الثانية، حتى بالكاد تجد مخرجًا أمريكيًّا مهمًّا لم يصنع فيلم ويسترن في تلك الفترة، وعلى رأسهم جون فورد، مع ممثله المفضل جون وين الذي أصبح الصورة الأيقونيّة لشخصيّة راعي البقر، والذي يجسد ذروة الثقة بالذات ومظاهر الرجولة والحميّة للأرض والعائلة. وفي السبعينيّات كانت شهرة هذه الأفلام قد تجاوزت حدود القارة، حتى صارت علامة بارزة للثقافة الأمريكيّة، واستجلبها صناع الأفلام من دول أخرى إلى كل أنحاء العالم. ثم برزت منها أنواع فرعيّة لا تعامل التصنيف بذات الصرامة، مثل أفلام الويسترن الغرائبيّة (مثال: El Topo - 1974) أو الويسترن الكوميدي (مثال: A Million Ways to Die in the West - 2014)، وأفلام الويسترن سباغيتي (مثل الفيلم الإيطالي <span class="tooltip">(14)<span class="tooltiptext"> الويسترن الغرائبي: أفلام تجريبية ظهرت في الستينات والسبعينات تدمج عالم الغرب الأمريكي المتوحش بعوالم البوهيميين المتأثرة بعقاقير الهلوسة وتأثيرات الديانات الشرقية. أما الويسترن سباغيتي: فهي موجة أفلام ويسترن منخفضة التكلفة تم تصويرها في الستينات على يد مخرجين إيطاليين.</span></span> The Great Silence - 1968).

ورغم أنّ نجم أفلام “الويسترن” أفل بعض الشيء في الثمانينيّات والتسعينيّات، إلا أنّها سرعان ما استعادت وهجها وشعبيتها في الألفيّة الجديدة، خصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي هزّت المجتمع الأمريكيّ. فبعد تأثير هزّة كبيرة كهذه كانت الجماهير الأمريكيّة متعطشة لأفلام ذات نزعة وطنيّة تعلي شأن الهويّة الأمريكيّة وتعزز قيمها وعناصر ثقتها بذاتها، وكان أفضل شكل سينمائيّ لهذا الغرض هو أفلام الويسترن، التي تناقش الشعور بالاستثنائيّة الأمريكيّة، وتتناول ثنائيّة “الأنا والآخر” في إطار صراع أبديّ بين الخير والشر، كما أنّها تذكّر بالماضي الذي انطلقت منه كلّ هذه الحضارة الأمريكيّة المعاصرة التي تعرضت للتهديد (مثال: The Ballad of Buster Scruggs - 2018). ولهذا فإنّ هذه الأفلام لم تفقد ارتباطها بالواقع وبقدرتها على التناص مع أحداث راهنة وكبيرة، رغم أنّ أحداثها عادةً تجري في الصحراء قبل قرن من الزمان، أو بسبب ذلك تحديدًا.

مقابل ما سبق، فقد تبنى “الويسترن” أيضًا - خصوصًا في الأعوام الأخيرة - موضوعات مختلفة أكثر انفتاحًا على الآخر، واتخذت بعض الأفلام نبرة حداثيّة ناقدة تعيد كتابة التاريخ الأمريكيّ وتراجع الصور النمطيّة للغرب المتوحش، فبرزت قصص لرعاة بقر بشخصيّات مهزوزة تخالف مفهوم الرجولة التقليديّة، كما في  The Power of the Dog - 2021، وأفلام تتحدى التصنيفات العنصريّة، وتمنح البطولة لرعاة بقر سود مثل Django Unchained - 2012. كما تفرّعت منه أنواع عابرة للتصنيفات تدمج بين الويسترن والخيال العلمي، بعضها تحوّل إلى مسلسلات طويلة مثل Westworld - 2016. وهذا ما يبرر حفاظ الويسترن على شعبيّة نقديّة وجماهيريّة كبيرة صالحة لكلّ زمان ومكان، إذ يؤكد باستمرار على مرونته وقابليّته للتطوّر، وقدرته على استيعاب موضوعات معاصرة وأحداث مستقبليّة.

  • أفلام الطرق

فيلم الطريق مصطلح مرن يطلق بشكل عام على الأفلام التي تجري أحداثها خلال رحلات بريّة، في حالة الانتقال والعبور من مدينة لأخرى، وإن توقفت مؤقتًا في الموتيلات والمحطات المتاخمة للطريق. كثيرًا ما تركز هذه الأفلام على جماليّات الطبيعة التي تخترقها الطرق، سواء أكانت ريفًا أم صحراء، فتكون الخلفيّة الطبيعيّة جزءًا ثابتًا من المشهد، وتلعب دورًا أساسيًّا في تطوّرات القصة وتحوّلات الشخصيّة (مثل Nomadland - 2020). وبسبب العزلة التي تحيط بالشخصيّات وسط مساحة برّية شاسعة، فغالبًا ما تتناول هذه الأفلام مفاهيم الاغتراب، وتعالج التوترات المرتبطة بالهويّة الثقافيّة في إطار وجوديّ (مثل الفيلم الياباني Woman in the Dunes - 1964). تحمل الطرق السريعة في هذه الأفلام بُعدًا رمزيًّا، وخصوصًا في الثقافة الأمريكيّة، لأنها "تختصر هوس الثقافة الأمريكية الحديثة بالمساحات الكبيرة، والسرعة، والتقنية" حسب قول الناقد ستيفن كوهان في كتابه "كتاب أفلام الطرق" <span class="tooltip">(15)<span class="tooltiptext"> Cohan, Steven; Hark, Ina Rae, eds. (1997). The Road Movie Book. Routledge.</span></span>. وبالتالي ترمز الطرق السريعة إلى الحلم الأمريكيّ بالحريّة اللامحدودة. ولأنّ الخروج من المدينة يترك لدى الشخصيات إحساسًا بالتمرد على الأعراف والخروج عن قوانين المدنية، فكثيرًا ما تنتهي هذه الشخصيات بارتكاب جريمة أو تكون موضع اشتباه يدفعها لأن تصبح مطاردة من القانون (مثال: Thelma & Louise - 1991). كما يكون للموسيقى الصادحة من ستريو السيارات دورٌ كبيرٌ في مجاراة التوترات، وصناعة الجوّ النفسي للفيلم (مثال: Nebraska - 2013).

  • أفلام المغامرة

ربما تحمل أفلام المغامرة ملامح مشتركة مع أفلام الطرق، وذلك بسبب طابعها الحركيّ الذي يحتلّ مساحة بريّة واسعة خارج المدن، إلا أنّها تتميز عنها بعنصر إضافيّ، وهو التوغل في قلب البريّة عوضًا عن البقاء على تخوم طرقها. فالشخصيّات التي تغادر أمان منزلها تسعى هنا إلى تجربة ملحميّة تغيّر حياتها بالكامل، ولا تكون فقط رحلة عبور من مدينة إلى أخرى. إنّ الرمزيّة الأبرز في أفلام المغامرة ليست الشعور بالحريّة الموازية للمساحة البريّة، بل الشعور بامتلاك هذه البريّة نفسها عبر غزوها. ولهذا نجد الكثير من هذه الأفلام تدور حول البحث عن كنز مخبوء (مثال: Raiders of the Lost Ark - 1981)، أو اكتشاف أسرار حضارات قديمة (مثال: The Mummy - 2017)، أو التنقيب عن الذهب والنفط والمعادن المدفونة (مثال: There Will Be Blood - 2007)، إذ يرمز السعي خلف كل هذه الكنوز إلى الرغبة بالسيطرة على الصحراء والتفوق عليها واعتلاء قمة العالم، والذي هو حلم المغامر الأكبر.

  • أفلام النجاة والحياة البرية

تتقاطع أفلام المغامرة الصحراويّة مع نوع آخر وهو أفلام النجاة، حيث تضلّ الشخصيّات المغامِرة طريقها، وتسعى للخروج من الصحراء، بعد التيه فيها ومعاناة مآزق الحر والبرد والجوع والعطش، كما في فيلم 127 Hours - 2010. وفي هذه الأفلام يكون للصحراء حضور قاسٍ وتمثل بيئة معادية، حيث كلّ ما يهدف إليه البطل هو العودة سالمًا للوطن، الذي يكون عادة مدينة كبيرة تمثّل نقيض الصحراء، كما في الفيلم المكسيكي Desierto - 2015. يقابل أفلام النجاة، على الطرف الآخر، أفلام الحياة البريّة، وفيها تقرر الشخصية الانتقال طوعًا للصحراء بوصفها مهربًا من الحياة الحديثة، وتتعلم مهارات العيش فيها، والتأقلم مع بيئتها  واتخاذها وطنًا، دون نية مبيتة للعودة للمدينة، كما في Into the Wild - 2007. وهنا تمثل الصحراء بيئة مسالمة تتوافق مع فطرة الإنسان، وتحتوي كل ما يلبي حاجاته الغريزيّة، بل وتشفيه من العلل التي أصابته بها المدينة العدوانيّة.

  • أفلام الحروب

كثيرًا ما تجري هذه الأفلام في دول عربية عانت بعض الحروب. مثل Black Hawk Down - 2001 عن حرب الصومال، إضافة إلى الأمثلة التي لا تحصى عن غزو العراق. تركز هذه الأفلام في كثير من الأحيان على حياة الجنود في القواعد العسكريّة، مثل الفيلم الفرنسي Beau Travail - 1999. وبعضها يركز على المعارك التي يخوضها الجنود في الصحراء، على حساب الحروب التي تخاض في المناطق الحضريّة، وذلك للاستفادة من المواقع الشاسعة وتوظيف المساحات الرمليّة لإضفاء المزيد من القسوة على أجواء الحرب. وحتى حين تحدث المعركة داخل المدن تكون هناك مبالغة في إضفاء مظهر صحراويّ على الشوارع والبيوت التي تظهر مغطاة بالرمل، وتكثيف مفرط للأجواء المغبرة، فتصبح الصحراء من المنظور الاستعماري أشبه ببيئة حاضنة للصراع من الصعب أن يتعايش فيها الناس بسلام، على حدِّ تعبير البطل البريطانيّ في فيلم  Lawrence of Arabia - 1962 الذي يعدّ أشهر أفلام هذا النوع وأكثرهم تأثيرًا، حتى حذت حذوه أفلام عدة، مثل الفيلم الأسترالي Queen of the Desert - 2015.

  • أفلام الديستوبيا

<span class="tooltip">(16)<span class="tooltiptext"> "الديستوبيا" أو المدينة الفاسدة، هو نوع أدبيّ وسينمائيّ شهير، يصور مجتمعًا فاسدًا ومخيفًا تسوده الفوضى ويحكمه الشرّ المطلق وتبدو فيه ملامح الخراب والدمار والمرض، وتجري أحداثه عادة في مستقبل متخيل. وهو عكس أدب وسينما المدينة الفاضلة "اليوتوبيا".</span></span>

يتشارك هذا النوع مع أفلام الحروب في كونه يجعل من الصحراء بيئة للصراع، لكن الفرق أن الأحداث تجري في المستقبل ولا تستند على حروب واقعية معاصرة، بل على أحداث افتراضيّة يدخل فيها الخيال العلمي، مثل Blade Runner 2049 - 2017. كما يمكن أن تكون الصحراء نفسها افتراضيّة، ولهذا يتمّ تصوير معظم هذه الأفلام في بيئات نائية ذات تضاريس غرائبيّة، لتمنح إحساسًا بعدم انتمائها للواقع المعاصر، كما نرى في Dune - 2021 الذي تم تصوير أجزاء منه في صحراء الأردن وأبوظبي. وبحكم طبيعة الصحراء فإنّ معظم هذه الأفلام ترتكز على تنبؤات أن معظم الحروب المستقبليّة ستكون صراعًا على الماء أو النفط، كما نرى في Mad Max: Fury Road - 2015. وهذا يؤكد مدى قابلية الطبيعة الصحراوية لاحتواء تصورّات مستقبلية عن العالم، فحسب تصور الكثيرين فإنها هي ما سيبقى من الطبيعة حين تتلاشى المدن ويعمّ الجفاف نتيجة الاحتباس الحراريّ، وبهذا فإنّها ترمز إلى مستقبل ديستوبي للبشريّة.

(٤) الصحراء في الواقع والثقافة والفنون السعوديّة

أ- الصحاري في السعودية

على عكس الفكرة الشائعة، من الصعب تحديد طبيعة واحدة للمناطق الصحراويّة في السعوديّة نظرًا لتنوعها واختلاف تضاريسها، لكن معظمها تشترك بمناخها الصحراوي الجاف شديد الحرارة صيفًا، والبارد نسبيًّا في الشتاء. ويمكن تقسيم الصحاري في المملكة إلى ثلاثة أشكال من التضاريس التي تلعب دورًا محوريًّا في تراث وتاريخ الجزيرة العربيّة والمملكة العربيّة السعوديّة اليوم، وهي: الصحاري الكبرى، والكثبان الرمليّة، والمناطق الجبلية المختلطة بالرمال إلى درجة ملحوظة.

وعند الحديث عن الصحراء في أي دراسة جغرافيّة عامة، تحضر صحراء الربع الخالي <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext"> صحراء الربع الخالي تقع في جنوب شرق الجزيرة العربيّة، وتتقاسمها أربع دول، هي: السعوديّة، واليمن، وعمان، والإمارات. لكن معظمها يقع داخل المملكة. </span></span> بوصفها أكبر صحراء رمليّة متصلة في العالم. ورغم اسمها الذي يوحي بالفراغ، إلا أنّها ثريّة بكميّات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي والمعادن. ومن أهم الصحاري الكبرى في المملكة كذلك صحراء النفود الكبير <span class="tooltip">(18)<span class="tooltiptext"> النفود الكبير يقع في هضبة نجد وحتى الحدود الغربيّة للعراق، والحدود الشرقيّة للأردن. وتمثل ١٠٪ من تجمعات الرمال في المملكة. جزء كبير من النفود يدخل حدود منطقة حائل، حيث تُوجد السلاسل الجبليّة والجبال المنعزلة الغنية بآثار ونقوش حضارات قديمة.</span></span>، والتي تُشبَّه رمالها الذهبيّة بالبحار لاتساع رقعتها ولحركتها الدائمة الشبيهة بالموج. كما أنّها تعجُّ ببقايا ثديّيات كبيرة منقرضة، منها فيلة عملاقة تعدُّ من العينات النادرة ممتازة الحفظ، بالإضافة إلى مصائد حجريّة تعود إلى ٧٠٠٠ عام، مما يجعلها أحد أقدم المناطق الأثريّة في العالم. كذلك صحراء الدهناء <span class="tooltip">(19)<span class="tooltiptext"> الدهناء صحراء رمليّة حمراء تمثل 7,1% من مجموع التجمعات الرمليّة في المملكة. يغلب على رمالها اللون الأحمر، لاحتوائها على أكسيد الحديد، وتتخللها أودية كبيرة، تضم تجمّعات مائيّة تتحول بعد جفافها إلى روضات غنّاء، أشهرها روضة خريم والتنهات.</span></span>التي تمتد على شكل قوس بين صحراء النفود والربع الخالي. وهي أقرب الصحاري الرمليّة للحواضر، وأكثرها ذكرًا في الأدب، نظرًا لمرور طرق التجارة والحج بها. كما أنّها تتميز باستواء أرضها الذي جعلها موقعًا مناسبًا لمهرجانات الإبل في المملكة. ومما سبق تتضح الخصائص البصريّة اللافتة لهذه الصحاري الكبرى، خاصة باعتبار ما تتميز به من سبخات وكثبان رمليّة يصل ارتفاعها إلى مائتين وخمسين مترًا، وتتميز بتنوُّع أشكالها بين الكثبان الطوليّة والهلاليّة والقببيّة، وما بين كثبان ثابتة وأخرى متحرّكة تجعل الصحراء غير ثابتة المعالم.

وعلى أطراف الصحاري الكبرى، يمكن ملاحظة المناطق الجبليّة المختلطة بالرمال، وتكون أحيانًا منفصلة عنها، وتتميز بتكوينات صخريّة وجبليّة ذات أشكال متفاوتة تبزغ من محيط رمليّ، وأشهرها جبال الغراميل في العلا، ذات التضاريس العجائبيّة الفريدة، وهي تكوينات صخريّة حمراء تنتصب عاليًا وسط الخلاء. وتعتبر غراميل العلا من المناطق المرتفعة التي يمكن رؤية مجرة درب التبانة بوضوح من خلالها، لذا تعدّ مقصدًا للسيّاح والمغامرين وهواة التصوير ليلًا، إذ يتشكل مشهد مبهر من تجمعات النجوم بين أعمدتها الصخريّة العالية.

أمّا الكثبان الرمليّة فإنّها تتميز بكونها تكوينات رمليّة محدودة المساحة تمتد بمحاذاة السهول الساحليّة، أو المناطق الصخريّة في وسط المملكة، أو حول ضفاف الأودية الكبرى. ويشكل مجموع مساحتها ٥،٢٪ من مساحة المملكة. ومن أمثلتها: نفوذ الثويرات، وتوجد فيها مئات "العُقل”، وهي الواحات الصغيرة وسط النفود، والتي تجاورها تجمُّعات سكنيّة صغيرة، أشهرهما الزلفي والمذنب، الشهيرتان بوجود هذه الواحات ذات الجمال الأخاذ وسط رمالهما.

ب- الصحراء في الثقافة والفنون السعوديّة

كانت الثقافة الشفهيّة هي الطاغية على الجزيرة العربيّة، ولم تتكرس الكتابة بوصفها وسيلة لإنتاج الثقافة ونشرها إلا في العصر العباسي، فبدأ الانفصال بين ثقافة المدينة الكتابيّة وثقافة الصحراء الشفهيّة. ومع الوقت تعرضت فنون وآداب الصحراء الشفهيّة للنظرة الدونيّة، فلم تلقَ اهتمامًا كبيرًا رغم جماليّاتها مقارنة بتلك المكتوبة. رغم ذلك الانفصال، يؤكد الدكتور سعد الصويان أنّ الشعر النبطي في الجزيرة العربيّة اليوم هو الوريث الشعري للشعر الجاهليّ الفصيح، "فهما يمثلان إرثًا أدبيًّا واحدًا متصلًا يعبر عن حسٍّ جماليّ مشترك، وعن رؤية كونيّة مشتركة، ويعكس استمراريّة ثقافيّة ممتدة لم تنقطع عراها…" <span class="tooltip">(20)<span class="tooltiptext"> كتاب "الصحراء العربيّة: ثقافتها وشعرها عبر العصور" للدكتور سعد الصويان</span></span> إذ إن كليهما يستندان على ثقافة الصحراء الشفهيّة، ويتشاركان ذات الرمزيّات وآليّات الاستدلال، التي تجعل الشاعر الجاهلي عروة بن الورد أقرب إلى شليويح العطاوي من أي شاعر فصيح. وكلا الشعر الجاهلي والنبطي يرتكزان نظمًا ومضمونًا على شعريّة الصحراء، بقوالبها الموزونة التي تواكب إيقاع سير الإبل في الفيافي، وبما يوافقها من مواضيع تحمل أضداد المعاني الصحراويّة، ما بين: الترحال المستمر، والبكاء على الأطلال، وكرامة النفس، والتذلل للمعشوق، والميل للعزلة، والانتماء للقبيلة، والزهد في الحياة، والكفاح المستمر للنجاة. وهذه الدلالات ذات الأصول الشفهيّة لم تكن حصرًا على الشعر، بل امتدت بطبيعة الحال إلى الفنون الشعبيّة، من: رقص، وغناء، وأهازيج، التي أدخلت تلك الشعريّة الصحراويّة في أشكالها التعبيريّة.

حضرت الصحراء في الفنون البصريّة كذلك، أولًا من خلال رواد الفنّ التشكيليّ، مثل: عبدالحليم رضوي، ومحمد السليم، وخالد الفيصل، وضياء عزيز، الذين رسموا رمالها بلون الذهب، ووثقوا طبيعتها وأساليب حياة الناس فيها بخطوط دافئة تمنحها طابعًا حميميًّا يثير الحنين. غير أن أعمال الأجيال اللاحقة من الفنّانين اتخذت منحى مختلفًا، شكلًا وأسلوبًا. فصارت الأدوات وأساليب التعبير معقدة وأكثر ابتكارًا، بقدر ما صارت الرمزيّات والرسائل الفنيّة أكثر تعقيدًا والتباسًا. يظهر هذا مثلًا في معرض “ديزرت إكس” في العلا الذي يستمدّ إلهامه من الطبيعة الصحراويّة للمنطقة، ويغلب على أعماله الانتماء للفنّ المفاهيميّ. فأحدها يتمثل في خط أنابيب نفط شبه مغمور تحت الرمال المتحركة، كما في عمل مهند شونو “المسار المفقود”، والذي يطرق فكرة البحث عن معنى للحياة عن طريق المسارات الصعبة التي يتبعها الإنسان، فيؤكد أن “خرائط الكنز غالبًا ما تؤدي إلى صناديق فارغة، لكن الرحلة أكثر أهميّة من الوجهة.” هكذا تتخلى هذه الأعمال عن نظرة الحنين السابقة للصحراء الدافئة الواضحة، وتحتفي أكثر بغموض علاقة الإنسان المعاصر بصحراء ملتبسة لا تقدّم أي إجابات مباشرة.

أمّا الفنّ الروائيّ، وبرغم قدم عهده نسبيًّا مقارنة ببقية الفنون الحداثيّة، فلم يكن أقلّ تعقيدًا في تناوله للصحراء، وذلك نظرًا للمساحة التي يملكها الكاتب في التعبير عن تلك المعاني المتضادة ونفحها بالتعقيد. في خماسيّة “مدن الملح” للروائي السعوديّ عبدالرحمن منيف مثلًا، التي ربما تعد أشهر رواية عربيّة عن الصحراء، نرى أن الصحراء بالنسبة لبطلها متعب الهذال كانت منبع البراءة وبؤرة الفطرة السليمة قبل اكتشاف النفط، لكنّها تحمل أيضًا أدوات تدميرها في جوفها، إذ إن الذهب الأسود الذي يختبئ داخلها سيكون هو أداة التغيير الذي يرفضه البطل ويرى فيه نقيضًا لكلّ قيمه ومبادئه. سنرى دائمًا أن الصحراء في الرواية تبطن أكثر مما تظهر، وقد تحمل دلالات مزدوجة، تتضمن المعنى ونقيضه، فقد تظهر صورة العدم في الوقت نفسه الذي تكشف فيه سر الوجود. يؤكد ذلك حديث الروائيّ عواض شاهر العصيمي عن الآبار، التي ترمز إلى الرواء بعد العطش، أي إلى الوصول أخيرًا إلى حافة آمنة في هذا الاتساع الرمليّ الممتد على مد النظر. لكن المفارقة أن هذه الحافة الآمنة تخبئ أيضًا احتماليّة خطر، وقد تبطن الموت بقدر ما تظهر الحياة. فحوادث السقوط في الآبار تشكّل هاجسًا ملحًّا في ثقافة الصحراء. وحتى هذا الموت المخادع يمكن أن يحمل في باطنه سر حياة جديدة، استنادًا إلى قصة النبي يوسف، الذي يُكتب له مصير آخر حين يُنقذ من البئر بعد أن كان على حافة الموت.

ظلّت الصحراء دائمًا جزءًا رئيسيًّا من الثقافة الإسلاميّة التي نشأت في قلبها، حيث كان مهبط الوحي بين جبالها وفي أغوارها المعزولة. ولهذا تحمل الصحراء ثقلًا رمزيًّا في الموروث الدينيّ، وتدلّ على قدسيّتها الأحاديث الكثيرة التي تشمل أدعية السفر خلالها، وحتى آداب قضاء الحاجة في الخلاء. كما أنّ أحد أهمّ رمزيّات الصحراء في المخيال العربيّ والإسلاميّ هي الدلالة التي يحملها انقلابها إلى طبيعة خضراء، كانت يومًا ما جزءًا من ماضيها، استنادًا إلى الحديث المعروف: “لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا.” وذلك ما تشهد عليه البحوث الجيولوجيّة، والصور الجويّة والفضائيّة، التي استدلت على وجود مياه جوفيّة، ومجاري أنهار، ومعادن وكنوز طبيعيّة، في أعماق الصحراء. تضاف هذه الثقافة الدينيّة إلى رصيد هائل من الثقافة الشعبيّة، المتمثلة في الحكم والأمثال الصحراويّة، والتي تشكل بدورها جزءًا كبيرًا من الذاكرة الجمعيّة ومن المخيال الصحراويّ، لا توفيه دراسة قصيرة. إذًا نستنتج مما سبق أنّ صورة الصحراء في الثقافة السعوديّة تحمل تنوّعًا هائلًا، يجمع بين: الفصيح والنبطيّ، التراث والحداثة، الدين والموروث الشعبيّ، ومختلف المعاني المتضادة في قصة واحدة، مما يجعلها بيئة مثاليّة للخيال السينمائيّ.

(٥) توظيف الصحراء في السينما السعوديّة

سنتناول في هذا الفصل نماذج من أفلام سعودية عن الصحراء، بعضها تقاطعت مع ما سبق من رمزيّات معبرة في السينما العربيّة والعالميّة، وبعضها استقلّت عن تلك المرجعيّات فقدمت دلالات صحراويّة مبتكرة ذات خصوصيّة محليّة فريدة. جدير بالذكر أن الأفلام التي سنتناولها هنا تتفاوت بشكل كبير من حيث: أهمّيّتها، وجودتها، وقوتها الرمزيّة، لكن يمكن الزعم بأنّها تملك - على الأقل - حدًّا أدنى من الجديّة الفنيّة التي تجعلها جديرة بالتحليل، وتمنح مشهديّة الصحراء فيها قيمة بارزة.

  • السينما ٥٠٠ كم (٢٠٠٦) - عبدالله آل عياف

اتساع مساحة المملكة وشساعة صحاريها أسهم في أن يكون لأفلام الطريق حضورٌ كبيرٌ في السينما السعوديّة، ولعلّ هذا يبرز بشكل كبير في فيلم عبدالله آل عياف، الذي يحمل عنوانه إحالة مباشرة إلى تلك الشساعة. ويعدّ هذا الفيلم أحد أبكر الأمثلة لأفلام الطريق، وأقربها لمفهوم هذا النوع بين الأفلام السعوديّة. يسجل الفيلم بأسلوب وثائقيّ رحلة مجموعة من الشباب السعوديّ، من الرياض إلى البحرين، من أجل مشاهدة فيلم في قاعة السينما، قبل أن يتمّ السماح بدور العرض السينمائي في المملكة. ويستعرض الوثائقي في مشاهد متنوعة لقطات لهؤلاء الشباب وهم يتحدثون بشغف عن أفلامهم المفضلة، ويسردون للكاميرا قصّة ولعهم بالسينما منذ الطفولة، دون أن يحول بينهم وبين شغفهم العائق الكبير الذي يفصلهم عن أقرب سينما إليهم، والمتمثل في ٥٠٠ كيلومتر يجب أن يقطعوها برًّا جيئة وذهابًا، بكلّ ما تشمله من أعباء مادية بين أموال البنزين، وأموال الإقامة في الفنادق في حال وصلوا متعبين، وأعباء نفسيّة تتمثل في اضطرارهم لترك عوائلهم وأعمالهم، وتفريغ جدولهم للقيام بنشاط ترفيهيّ بسيط كهذا.

ليس هذا فيلم صحراء بالمعنى التقليديّ، لأنّها لا تظهر فيه كثيرًا، لكنها تقطن مخيلة الفيلم باعتبارها تشكل المسافة الأكبر من الخمسمائة كيلومتر التي تتطلبها الرحلة. نحسّ برهبة الصحراء من خلال استعدادات المسافرين لقطعها، بدءًا من تجهيز سياراتهم لهذه الرحلة الشاقة قبل السفر بيوم. تستعرض الكاميرا الحالة المزرية للسيارات التي تعاني من مشقة الطريق رغم جدتها، باعتبار عدد المرّات التي قطعت فيها هذه المسافة من وإلى السينما تحت لهيب الصحراء. وحين تبدأ الرحلة أخيرًا، بعد تأخرها لمتطلبات إصدار جواز السفر، تظهر الصحراء أخيرًا في خلفيّة الطريق السريع، وأثناء توقف المسافرين في المحطات، وسط موسيقى دراميّة تصدر من مذياع السيارة، وكأن هذه الصحراء أرض معركة يجب التغلب عليها للظفر بمكسب عظيم. تستعرض الكاميرا في مونتاج معبر كلّ ما تلقيه الصحراء في وجوه المسافرين، ما بين: تقلبات الأجواء، ومخاطر الغبار، والرياح المشوشة للرؤية، وحوادث السيارات، وعبور الجمال السائبة للطريق. وفي نهاية الرحلة يكون مشهد البحر الأزرق الممتد على جانب جسر الملك فهد أشبه برمز للخلاص، وإعلان للانتصار، في لقطة موحية تشبه مشهد وصول رحّالة لواحة مائيّة بعد سفر طويل عبر الرمال جافة.

إنّ الصورة الذهنيّة للصحراء هنا سلبية بالتأكيد، وتقدّم انفصالًا واضحًا بينها وبين ساكني المدن المشغولين بأساليب العيش الحديثة، المتمثلة في إيجاد وسيلة ترفيه بعد يوم طويل من العمل. فدور عرض السينما المنغلقة على نفسها، والمأهولة بعدد كبير من الناس، تمثل نقيض الصحراء الشاسعة المفتوحة والباعثة على العزلة. وسطوع شمس الصحراء طوال الطريق، تبدو نقيضًا للسينما المظلمة. وأصوات السيارات التي تعبر الطريق السريع وسط الرياح، تبدو نقيضًا للسينما الهادئة والباعثة على الاستقرار. تمثل السينما الحلم والحياة لهؤلاء المسافرين بسبب ندرتها وبعدها، أما الصحراء القريبة والمحيطة بهم بوفرة فتعكس شحّ مظاهر الحياة. وبالتالي لا يمكن أن نقرأ الفيلم فقط بوصفه هجاء للصحراء واحتفاء بالسينما، بل هو أيضًا في جوهره مجاز لمرحلة انتقاليّة، إذ يوثق بشكل معبّر اختلاف أولويّات جيل حديث، على عكس أجداده، لم يعد يجد في هذه الصحراء ما يسدّ حاجته لتذوق الجَمال ولإنتاج الفن والثقافة.

  • عطوى (٢٠١٥) - عبدالعزيز الشلاحي

فيلم عطوى هو فيلم غموض وإثارة سعوديّ قصير، للمخرج عبدالعزيز الشلاحي، حاز به على جائزة أفضل مخرج في مهرجان الأفلام السعوديّة عام ٢٠١٦م، وفاز الممثل الرئيسي خالد الصقر بجائزة أفضل ممثل في نفس المهرجان عن دوره. وقد عُرض الفيلم بعد ذلك في مهرجان كان السينمائي الشهير في قسم أفلام دوليّة قصيرة، كما شارك في المهرجان الدولي للفيلم القصير في برلين. يتناول الفيلم قصة شاب يشق طريقه خلال الصحراء في رحلة برية تتخللها مهمة عمل. وحين يمر بقرية عطوى، يستوقفه رجل مسن يقف مع حقيبته على قارعة الطريق. يعرض الشاب عليه أن يوصله، ولكن النية الطيبة تنقلب ضد صاحبها. إذ يختفي العجوز حين يغفل عنه الشاب، تاركًا حقيبة غامضة في السيارة. وسرعان ما يجد البطل نفسه في موقف مخالف للقانون، حين يكتشف أن حقيبة العجوز تحتوي أسلحة وأموالًا طائلة. وبعد مواجهة مع الأمن تنتهي به في مخفر الشرطة، يستيقظ الشاب فجأة ليجد أن العجوز لم يكن سوى فزاعة تقف إلى جانب حقيبة فارغة، وكأن البطل كان نائمًا طوال الوقت ويحلم بما سبق من أحداث.

تشكّل الجماليّات البصريّة العنصر الأكثر تألقًا في الفيلم، إذ تلتقط الكاميرا مساحات بانوراميّة من الطبيعة الصحراويّة على الطريق، وترسّخ بذلك شعور العزلة الذي يحيط بالبطل، ورمزيّة الحريّة اللامحدودة التي يمتلكها. أما الموسيقى الصادحة من استريو السيارة فتمثل السعادة المرافقة لتلك الحريّة. نلاحظ إذًا أن “عطوى” يعد مثالًا صريحًا لأفلام الطرق، حسب ملامحها المميزة المذكورة آنفًا. كما نلاحظ على البطل الساخر منذ بداية الفيلم شعوره بالانفصال عن البيئة المحيطة، إذ يطلق تعليقات هازئة بقرية “عطوى” التي يعبر بها، والتي لا زالت مفتقرة لملامح التطور في المدن التي ينتمي لها البطل، مما يؤكد قطيعته مع الماضي الذي تمثله هذه القرية، وهذا ما يعبر عن أزمة الهويّة الثقافيّة التي نجدها دائمًا في أفلام الطرق. يضيف المخرج إلى كل ذلك ثيمة الاشتباه بالجريمة والتصادم مع الأمن، الذي نجده عادة في هذه الأفلام بعد خروج أبطالها عن رقابة المدن. كما يستفيد الفيلم من خصائص الطرق السريعة ليضيف عنصر إثارة عبر المطاردات الطويلة، وعنصر ترقّب عبر نقاط التفتيش. وفوق هذا يوظّف الفيلم العديد من الرمزيّات التي نجدها عادة في أفلام الصحراء، مثل ضياع الحدود بين الحقيقة والخيال، إضافة إلى تداخل الأزمنة والتباس الحس بالواقع. وهذا ما يتضح في النهاية حين نكتشف أن العجوز لم يكن سوى سراب أدخلته الصحراء في ذهن البطل المشوش فتصوّره حقيقة.

الملفت أنّ كلّ هذه التقنيات والثيمات والرموز تحتشد في فيلم قصير لا يتجاوز ١٦ دقيقة، ولهذا تبدو أحيانًا مفتقرة للترابط القصصي. ورغم أن الفيلم ينجح في تضمينها في القصة، إلا أنّها بحكم ضيق المدة لا تأخذ جميعها حيّزها الكامل من الاهتمام والتوظيف الذي يسمح لها بأن تكون جزءًا مهمًّا من البناء الدراميّ. تبرز أهمية التمهل في البناء الدرامي في أفلام الطرق خصوصًا، أكثر من غيرها، لأنّ أكثر ما يملكه المسافر في الطريق البري هو الوقت. ولهذا فإنّ هذه الأفلام تحتاج مهلة من التأمل لتعبّر عن التبدلات الوجوديّة لبطلها، وتجسّد تقلبات الملل والإثارة حسب حضور وانعدام الأحداث من حوله. يتعارض ذلك مع الكيفيّة المستعجلة التي قدّم بها الفيلم جانبه السيريالي في النهاية، دون أن يُضفي حسًّا تأمليًّا على فكرة التباس الحدود بين الحقيقة والخيال، واكتفى بحلّ العقدة بصيغة كوميديّة تقليديّة، بأن يضرب البطل كفًّا بكفّ وينطلق ضاحكًا ساخرًا من نفسه، وهذا ما ينزع عن الرمزيّة عمقًا تأمليًّا كان يمكن أن ينعكس على القصة بالإيجاب. ومع هذا فإنّ نصّ هذا الفيلم باحتوائه لكل هذه المواضيع المتنوعة في مدة قصيرة مؤهل لأن يصبح مشروعًا واعدًا لفيلم طويل قادر على حصد نجاحات أكبر.

  • ومن كآبة المنظر (٢٠١٧) - فارس قدس

يعدّ فيلم المخرج فارس قدس واحدًا من ٦ أفلام قصيرة لمخرجين سعوديّين، طُرحت على منصة نتفليكس تحت مسمى “ستة شبابيك في الصحراء”. لكن باستثناء هذا الفيلم، لا نجد للصحراء حضورًا في الأفلام الخمسة الأخرى، إذ تدور أحداثها بين: مكاتب عمل، ومستشفيات، وفنادق، وبيوت، وجامعات، داخل المدن الكبيرة. يتضح إذًا من العنوان وجود فكرة نمطيّة عن الفيلم السعوديّ، بأنّه فيلم مرتبط بالصحراء حتى لو لم يكن له علاقة بها، وذلك تبعًا لتصوّر يتضمن الكثير من سوء الفهم لأسلوب المعيشة في المملكة، ويختزلها في هذا العنصر. في المقابل، فإنّ فيلم “ومن كآبة المنظر” هو فيلم صحراء بامتياز في ثيمته وموقعه وأسلوبه، كما سنرى بالتفصيل، إذ يروي قصة سقوط طائرة مدنيّة قادمة من مصر وتحطمها في صحراء السعوديّة في سبعينيّات القرن الماضي، فتعتبر الطائرة مفقودة وركابها ميتين. تبدأ الأحداث حين يجد مجموعة صغيرة من الناجين من الحادث أنفسهم عالقين في تلك المنطقة النائية بعد فشل محاولاتهم للتواصل مع العالم والحصول على النجدة، وبالتالي يبقى عليهم التعايش مع بعضهم رغم طباعهم المختلفة للعثور على طريقة للنجاة. والمفارقة هنا تكمن في ضعف قدرتهم على التأقلم مع الصحراء، التي يختزلهم فيها عنوان منصة نيتفليكس، فيصبح الفيلم أشبه بقصة رمزيّة عن الانفصال بين أسلوب الحياة المعاصر لمعظم الناس في المملكة، وبين عالم الصحراء التي ينمّطهم بها الآخر.

يسير الفيلم في منطقة متداخلة ما بين أفلام الكوارث وأفلام النجاة، التي تضع الشخصيات في اختبارات إنسانيّة عويصة، نتيجة قلة المؤن والشعور بالتهديد من الآخرين، حيث تبدو الأنانيّة هي الطريقة الوحيدة للنجاة. لكنه يقدم كل ذلك بحسّ كوميدي لا ينقل تلك العقد إلى المرحلة التراجيديّة، فيبقى مخلصًا للسخريّة التي يتناول بها الأحداث، والخفة التي يصور بها حتى مشاهد الموت المريعة. وهو بذلك، مثل فيلم الأخوين قدس الأشهر “شمس المعارف”، يتمرد على تقاليد الكوميديا المحليّة الملتزمة، والتي تتجنب تناول موضوعات معينة بالتندّر. ففي الصحراء لا يعود لأيّ موضوع أيّة حرمة، وتنتقل حتى أشد الشخصيّات إيمانًا إلى الشكّ والتعدّي على المسلّمات، مثل الحاج المصري الذي يجد نفسه يطرح أسئلة عقديّة بعد أن رأى زوجته تحترق أمامه. نحس إذًا أن الصحراء هي المحرّك الأكبر للتقلبات النفسيّة للشخصيّات، وإن كانت لا تظهر كثيرًا في خلفيّة المشاهد، ولا تستعرض الكاميرا شساعتها وجمالياتها بوفرة، بل نبقى دائمًا في المحيط الضيق للطائرة المحطمة. وحين يجد بعض الناجين واحة ظليلة في القرب فإنّها تتحول - رمزيًّا - إلى سراب، ليس بتلاشيها عن النظر، بل بكونهم يجدونها مزروعة بالألغام، فتتحول إلى مصدر للهلاك بعد أن بدت من بعيد فرصة للأمل.

ومثل العديد من أفلام الصحراء تتلابس الحدود بين الحقيقة والخيال، فالصحراء تلقي بثقلها على عقول الناجين، خصوصًا بعد الأشهر العديدة التي قضوها هناك، ما بين: الشعور بالملل، والآلام الجسديّة، وشح التغذية، وفقدان الأمل في الإنقاذ، فتزداد الصراعات، ويكيدون المكائد لبعضهم بعضًا ويتضخّم لديهم الحس بالارتياب، حتى يتصور بعضهم أن العالم من حولهم تعرض بالكامل للدمار ولم يبقَ إلا هم على قيد الحياة. وكما في أفلام المخرج التونسي ناصر خمير تتداخل الأزمنة هنا بطريقة سرياليّة، فيتقاطع زمن السبعينيّات الذي حدثت فيه الكارثة مع الزمن الحالي، إذ يفاجئهم شاب بجواله الذكي في نهاية الفيلم ويعرض مساعدته عليهم، لكن تقنيته الحديثة ومنظره الغريب يثير ريبتهم فيردونه قتيلًا، متصورين أنه المسيح الدجال، وأنّهم في نهاية الزمان. وهكذا يكتسب الفيلم حسًّا ديستوبيًّا يصور الصحراء كبيئة مستقبلية ترمز لنهاية الحضارة، وتدمج ذلك بالإرث الدينيّ المتمثل في ظهور المسيح الدجال الذي يمثل ذروة شعور الارتياب. وإن كانت كثرة التقلبات والانتقالات تفقد عناصر القصة بعض الترابط، إلا أنّها تبقى شاهدًا على مدى تنوع الأفكار، وتعدد المستويات الرمزيّة، التي يمكن أن تحتضنها قصص الصحراء لو مُنحت المهلة الكافية.

  • مدينة الملاهي (٢٠٢٠) - وائل أبو منصور

تدور أحداث الفيلم حول “مسعود” الذي يقطع الطريق الصحراويّ في صمت، برفقة زوجته “سلمى”، قادمين من وجهة مغيّبة نحو وجهة أخرى مجهولة، في سفر يصبح أشبه برحلة اكتشاف للذات. تتطور الأحداث حين تتعطل السيارة بهما فيتركانها في ورشة محطة قريبة ويضطران لمبيت الليلة في خيمتهما المؤقتة في الصحراء، وفي اليوم التالي لا يجدان أي أثر للسيارة ولا للميكانيكي الذي تركاها عنده. ينطلق مسعود باحثًا عن سيارته حتى ينتهي به المقام في نُزُل قريب أشبه بمدينة الملاهي، بينما تنتظره زوجته وحدها في مخيّمهما في الصحراء. هكذا يخوض كل واحد من البطلين تجربة يواجه فيها ذاته وعلاقته بالآخر، ويعيدان اكتشاف ما هو ضروري في حياتهما بعد أن غيرتهما الرحلة. الفيلم الذي فاز بدعم مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائيّ، أخرجه وائل أبو منصور، ويعدّ خطوة ملفتة في السينما السعوديّة الفنيّة من حيث إنّه لا يقدم أي تفسيرات، ويترك الكثير من الأسئلة معلقة دون إجابات مباشرة. فمنذ اللقطة الأولى التي يتحدث فيها صوت في مذياع السيارة عن اللغز الفلكي لنشأة الكون، ندرك أننا أمام فيلم محمّل بإسقاطات فلسفيّة ستبقى دون نهايات حاسمة. ورغم الغموض والترقّب، يتبع الفيلم أسلوبًا ملغمًا بالرمزيّة، ما يجعله خيارًا مثاليًّا للتعمق في القيم الدلاليّة المعاصرة لفيلم الطريق السعوديّ، والتي حشدها “عطوى” في مدة قصيرة، مع فارق أنّها تأخذ في “مدينة الملاهي” حصة أكبر من التأمل والتوظيف والدقة في التمثيل.

تثير الصحراء في الفيلم التساؤلات عن حقيقتها، لامتلائها بالمتضادات التي تجعلها مزدوجة المعنى، فتصبح أقرب لصورة الصحراء في الفن الروائيّ منها إلى الصحراء السينمائيّة الواقعيّة. تلك المتضادات تلعب دورًا مهمّا في خلق جوّ من الانقباض والتوتر، وتنقل بدقة تبدل مشاعر الأبطال ما بين: الاغتراب، والحيرة، والريبة. فمنذ البداية، نرى الطريق الصحراويّ السريع ممتدًا في لقطات بانوراميّة واسعة، إلا أنّ فضاء الصحراء لا يظهر خاليًا، بل يحتشد بأبراج الكهرباء والأسلاك التي تتمدد بينها بلا نهاية على مد النظر، فتمثّل عنصرًا من الوحشيّة المدنيّة يكاد يفوق وحشيّة الصحراء. ستتبعنا ازدواجيّة المكان بين المدينة والصحراء على طول الفيلم، بصفتها شكلًا من التباس المعنى المقصود، وتعبيرًا عن غياب الهوية عن المكان. فنرى النزل المعزول في بقعة نائية وسط الصحراء أشبه بمدينة صغيرة كما يشي عنوان الفيلم. يصل مسعود إلى مدينة الملاهي ولا يجد سيارته، لكنه يجد نفسه محاطًا بأشخاص ذوي نزعات استهلاكيّة، يوقعونه في حيلهم بالمكر حينًا، وبالتهديد في أحيان أخرى. ثم يكتشف أنهم يديرون عالمًا خفيًّا قائمًا على المتاجرة بالعابرين والمشرّدين والمهاجرين. وإذا بمدينة الملاهي التي ترتبط ألعابها وديكوراتها بالفرح والبراءة تصبح مقرًّا لعالمٍ قاس وموحش، يحكمه القانون الصحراويّ الذي يقضي بأن يأكل القوي الضعيف. ينجو المجرمون بفعلتهم؛ لأنّهم بعيدون عن سلطة القانون، كما يحدث عادة في أفلام الصحراء. لكن المفارقة تكمن في أنّ الجرائم هنا تنتمي إلى النزعة التخطيطيّة لعصابات المدن، فجرائم الصحراء أكثر فرديّة وارتجاليّة، ونادرًا ما ترتكبها حلقة إجراميّة كبيرة بهذا الحجم وبهذه القدرات.

جسّد الفيلم تلك التضادات بصريًّا عبر توظيف الفضاء العمراني للمكان، فالألوان الزرقاء الزاهية التي صبغت بها الجدران، الخالية من أثر الغبار، تتعارض مع الطبيعة القاحلة خارج المبنى. بينما زُيّنت الواجهات والغرف برسومات وديكورات لطائر الفلامنجو، الذي يعيش على السواحل، رغم أنّ كل ما نسمعه في الخارج هو نعيق الغربان. كما أُشبعت المشاهد الليلية بإضاءات النيون الساطعة متنوعة الألوان، الأشبه بإضاءات الاحتفالات، والتي تلفت الأنظار وسط الظلمة الصحراويّة المحيطة. كل هذه التأثيرات تضفي على المكان طابعًا عجائبيًّا، يجعله أشبه بطُعم جماليّ، أو فخٍّ مغرٍ، يجتذب أبصار العابرين كالسراب، قبل أن يوقعهم في حبائله. لكن النباتات الصحراويّة الشائكة التي تمتلئ بها الأسطح تبدو أنّها تكشف الطبيعة الحقيقيّة للمكان لمن يفتح عينه جيدًا. تتوازى هذه الفخاخ التي تبقي “مسعودًا” أسيرًا للنزل، مع الإغراءات التي تتعرض لها “سلمى” أثناء انتظارها لزوجها، إذ تجد مجموعة من الرحّل الذين يملؤون الصحراء غناءً وبهجة ويدعونها لمرافقتهم في سفر بلا قيود، لتختبر حياة الحريّة التي لم تعرفها مع زوجها وتتخلى عن ثقل الانتظار. في النهاية يلتقيان مجددًا في صمت لكنه يختلف عن الصمت الأول، إذ ثمة أمل ينشأ في نظرتهما التي زال عنها العناد والجفاء، وقد كشفت لهما الصحراء أنّهما يجهلان أكثر مما يعرفان عن نفسيهما وعن الآخر.

  • ديار حسمى (٢٠٢١) - فهد فايز

الفيلم القصير الأول للمخرج فهد فايز، والذي تبلغ مدته ٢٤ دقيقة، استند على مجهود شخصي للمخرج، وفريق عمل بسيط من أهل المنطقة، وجاب المهرجانات العالمية ما بين لندن والسويد وإيطاليا. وكان قد عرض للمرة الأولى في مهرجان قرطاج السينمائي في تونس عام ٢٠٢١م، وأخيراً في مهرجان الأفلام السعودية في نسخته الثامنة عام ٢٠٢٢م. تدور أحداث الفيلم حول حياة بعض أفراد القبائل في شمال شبه الجزيرة العربية عام ١٩٠٢م، في منطقة تدعى "حسمى"، ويصف ما يواجهونه من صعوبات وصراعات في تلك المنطقة. وبعكس الأفلام الأخرى التي تجري في حقبة حديثة وتصور شخصياتها في حالة انفصال مع هذه الطبيعة، يؤكد هذا الفيلم على تماهي شخصياته مع الصحراء، حتى أن عنصر الجريمة لا يبدو شاذًّا عنها. اختيار صحراء حسمى بالتحديد يحمل أهمية كبيرة لفهم ثيمات وجماليات الفيلم، لارتباطها بالعديد من المجريات. فالمنطقة تقع في شمال غرب شبه الجزيرة العربيّة، من وادي رم في الأردن شمالًا وحتى جنوب غرب تبوك، داخل ما يعرف اليوم بنيوم. وكانت في السابق طريقًا تجاريًّا قديمًا، مما يجعلها موضعًا مستهدفًا لقطاع الطرق، وبالتالي يبني الفيلم توتره الدرامي على ذلك الموقع الاستراتيجي. وبحسب الرحالة الجغرافي ياقوت الحموي (٥٧٤ - ٦٢٦ هـ) فإن لفظ حِسْمَى يجوز أن يكون أصله من الحسم وهو المنع والقطع، وربما جاء الاسم لوجود الصحراء بين الصحراء الداخلية للجزيرة وجبال الحجاز. وقد خلّدها العرب في أشعارهم وقصصهم، ولعل أشهرها قصائد جميل بن مُعمر في معشوقته بُثينة:

"وقالوا: يا جميلُ، أتى أخوها | فقلت: أتَى الحبِيبُ أخُو الحبيبِ.

أحبك أن نزلتَ جبالَ حِسمى | وأن ناسبتَ بثنة من قريب"

يستغل الفيلم هذا الإرث التاريخي للمنطقة استغلالًا كاملًا. فتاريخ الصراعات المتراكمة يبرز على السطح منذ بداية الفيلم، حين يصل راعي الإبل سالم "أخو مغيضة" (أدى دوره ببراعة الممثل سالم العطوي) إلى حسمى باحثًا عن المرعى، فيلتقي بأحد أبناء المنطقة ويرفع كلٌّ منهما سلاحه في وجه الآخر، حتى يعرّف كل واحد منهما بنفسه ويتبادلان التحية وفق الأصول، فتتبدل العداوة إلى صداقة تدوم حتى نهاية الفيلم. يحدث ذلك التحوّل في المشاعر بين البطلين بسلاسة لا يمكن أن تتم إلا في الصحراء، فجميع النزاعات الحربيّة والسلميّة في الصحراء محكومة بقوانين وأعراف، أو "سلوم"، أشبه باللغة المشتركة بين القبائل، ومن يخالفها يكون عرضة للنبذ، كما يقول الدكتور سعد الصويان: "ولا يستطيع العبور بالصحراء، دع عنك العيش فيها، إلا من يعرف هذا السلوم ويعرف كيف يتعامل معها." <span class="tooltip">(21)<span class="tooltiptext"> كتاب "الصحراء العربيّة: ثقافتها وشعرها عبر العصور" للدكتور سعد الصويان</span></span> ويوثق الفيلم هذه السلوم عبر تركيزه على أصالة اللهجة والعبارة ولغة الجسد في الحوارات التي تدور بين الشخصيات، والتي تمنح كل كلمة وزنها ووضوحها واعتبارها، فتؤسس بذلك للأخوة بين البطلين، ويرتبط مصيرهما ببعضها بعضًا، فيتوحدان معًا ضدّ هجمات أفراد من قبائل أخرى لا يشاركانهما احترام هذه السلوم. هذه العناية بالأصالة الثقافيّة كانت بادية في اختيار الممثلين، الذين ينتمون إلى أهل المنطقة، فأظهروا قدرات جسديّة وتعبيريّة على تقمّص الحقبة وتمثّل الأحداث والتعايش مع طبيعة الموقع القاسية. ويضاف إلى ما سبق العناية الكبيرة بتصميم الأزياء والأدوات التي تمثل الحقبة، وتوثيق العادات والتقاليد المختلفة لأهل المنطقة بدءًا من صنع القهوة وحتى إعداد السلاح.

يبدو المخرج فهد فايز في فيلمه الأول هذا متمكنًا من العناصر الجماليّة التي تصنع سينما صحراويّة مشوقة، فقد حاز الفيلم على ثناء نقديّ بسبب جودة تصويره للصحراء التي يعرفها المخرج جيدًا. فبينما نتبع البطلين في رحلتهما ونشهد المخاطر التي يقاسونها، تتنتقل الكاميرا بين الجبال التي تصورها بإكبار وهيبة موحية، فتبدو من ارتفاعها واستواء جبالها واستقامتها كأنّها قصور قائمة وسط الخلاء، غير مبالية بالصراعات البشريّة التي تجري وسطها. كما ندخل مع البطلين داخل الكهوف والأغوار المسكونة بالضباع، والعواصف الرمليّة التي تضيف عنصرًا حركيًّا في لحظات المواجهة. ونمرّ بالآثار والنقوش العربيّة القديمة التي تعود لأكثر من ٢٦٠٠ عام، وخصوصًا الآثار النبطيّة وما قبل النبطيّة التي تعج بها صحراء حسمى. ونشهد أثناء ذلك العديد من مشاهد المطاردة والقتال التي تستعرض البراعة التقنية للمخرج، وتستغل الطبيعة الفسيحة للصحراء، وترفع شيئًا فشيئًا سلطة القانون الصحراويّ الذي يقضي بأن يأكل القوي الضعيف. وفي النهاية تتمكن هذه القساوة الصحراويّة من الصلح المعقود بين البطلين، حين يغدر أحدهما بالآخر رغم كل المخاطر التي نجيا منها معًا، وبمجرد أن يطلق الرصاص على صاحبه ينتهي الفيلم بطريقة مفاجئة، تعيد للأذهان معنى القطع والحسم التي استقت منه حسمى اسمها، وتدمجه ضمن معاني القطع السينمائيّ.  

  • نماذج مغايرة

بالإضافة إلى ما سبق، فهناك أفلام سعوديّة لا يمكن تصنيفها أفلامَ صحراء، لكنّها تستحقّ أن نعرّج عليها، لأنّها تأثرت واستعارت وتقاطعت مع ثيمات وأساليب ورمزيّات صحراويّة. يبرز فيلم سيدة البحر (٢٠١٩) كمثال رفيع المستوى لذلك التقاطع. فيلم المخرجة شهد أمين، الذي حصد جائزة في مهرجان البندقيّة العريق، واختير ممثلًا للمملكة في سباق الأوسكار عام ٢٠٢٠م، يتناول قصة قرية نائية متخيّلة، توحي اللهجة والشخصيّات بأنّها سعوديّة. نرى القرية معزولة وسط الرمال والجبال الصخريّة مقابل بحر يفصلها عن كلِّ ما حولها، ويبقيها انعزالها أسيرة عاداتها البالية وأساليب عيشها المتقشفة. فرغم الطبيعة الساحليّة للقرية، يبدو المناخ جافًّا ويندر الغطاء النباتيّ، ويسود الجوع والعطش، حيث لا يعيش حيوان ولا يسبح حتى سمك. تنجح هذه البيئة السرياليّة في التوفيق بين الصحراء والبحر، وتمكّن الفيلم من توظيف رمزيّات الصحراء في القصة، فيصبح فيلم نجاة يستمد توتره الدراميّ من مهارات التعايش مع المآزق الصحراويّة والصراعات التي تدور فيها على موارد الحياة القليلة. يضطر أهل القرية للتضحية ببنت واحدة من كل عائلة بإغراقهن في البحر، من أجل أن تحوّلهن قوة البحر الغامضة إلى حوريّات فيصبحن صالحات للأكل. وحين يرفض والد البطلة “حياة” التضحية بابنته، يشكل وجودها تحدّيًا لعادات وتقاليد أهل القرية وأسلوب عيشهم، ويهدد الاتفاق الذي عقدوه مع البحر. في النهاية ينسحب ماء البحر ويجفّ قاعه فتظهر الطبيعة الرمليّة للقاع البحريّ الجاف، وقد أحاطت بالقرية على مد النظر، في مشهد رمزيّ يكشف أخيرًا عن الطبيعة الصحراويّة المبطنة لهذه القرية الساحليّة. وعلى غرار فيلم السينما ٥٠٠ كم، نرى عودة الماء للمشهد وتدفقه كالأنهار من كلّ جانب دلالةً على الإنقاذ والعودة للحياة، لكن هذه الصورة تحمل أيضًا نوعًا من النذير بتغّير حال القرية، إذ تحيل إلى النبوءة الدينية عن عودة صحراء العرب إلى طبيعتها النهريّة قبل قيام الساعة.

لا يمكن أن نغفل أيضًا المسلسلات السعوديّة التي تناولت الصحراء، وإن كانت أقلّ فنيّة من الأفلام. معظم هذه المسلسلات تفتقر لرؤية المخرج، بسبب طغيان التوجهات التجاريّة لشركات الإنتاج التلفازي في المنطقة، والتي تعتبر أقل استقلاليّة من شركات الإنتاج السينمائيّ، إذ تهدف غالبًا إلى حصد أكبر قدر من المشاهدات، عوضًا عن المخاطرة بالتجريب الفنيّ. تمثل المسلسلات البدويّة الرمضانيّة الشريحة الأكبر من هذا الإنتاج التلفازي، ويغلب على هذه المسلسلات تقديم ملاحم الصحراء المستقاة من التراث كتسليّة سطحيّة مفرغة من الرمزيّة، فتعيد تكرار ثيماتها وأساليبها على نمط واحد عامًا بعد عام، ولا تسمح مدة عرضها الطويلة وطبيعتها الاستهلاكيّة بإمكانيّة تضمينها إسقاطات ودلالات تستحث فكر المتفرج وتتشابك مع التراث بنظرة طليعيّة. وفي المقابل فإنّ الأفلام السعوديّة أهملت تناول القَصص التراثيّة الملحميّة، نظرًا للمدة الزمنيّة الضيقة والمتطلبات الإنتاجية الكبيرة - مع استثناء فيلم الرسوم المتحركة “بلال” المخصص للأطفال، والذي استغرق ٣ أعوام لإنتاجه - مما تسبب في فجوة واضحة بين مسلسلات وأفلام الصحراء السعوديّة. لكنّ جزءًا من هذه الفجوة رُدِم مؤخرًا مع صعود نجم مسلسلات صحراء قصيرة حصدت شعبيّة واسعة. نذكر منها مسلسل “رشاش” الذي يستفيد من إرث الصحراء الهوليووديّ، المتمثل في المزج بين أفلام الجريمة وأفلام الطريق، فيصنع بذلك مسلسلًا حركيًّا في ٨ حلقات، عن شخصيّة رجل خارج عن القانون، يكوّن عصابة مطاردة من الأمن على الطرق السريعة. رغم أن المسلسل مبني على قصة قاطع الطريق الشهير رشاش العتيبي، إلا أنّه يبقى أسير الإثارة الهوليووديّة شكلًا ومضمونًا. ومع هذا فإنّه يهيئ الإطار الزمنيّ والشكليّ المناسب لإمكانيّة تناول قصص صحراء في الإنتاج التلفازي مستقبلًا، بتنوع أكبر، وبأسلوب تجريبيّ يمكن أن يجمع بين التوجهات الفنيّة والتجاريّة.

(٦) الصحراء في السينما.. أنسنة غنيّة وتنوّع فقير

(النتائج والخاتمة)

نستنتج مما سبق أنّ هناك دلالاتٍ متنوعةً للصحراء في السينما السعوديّة، جمعت بين المحليّة والعربيّة والعالميّة. على المستوى الرمزيّ، يغلب عليها الاستفادة من الإرث المحليّ المتمثل في صور الصحراء في الفنون، والآداب، والثقافة الجمعيّة السعوديّة، كما في “مدينة الملاهي” الذي يستفيد من الإرث الروائيّ. كما جمعت بعض الأفلام بين الرمزيّات المحليّة وبين الرمزيّات الثقافيّة والدينيّة المشتركة التي استفادت منها من قبل سينما الصحراء العربية، كما في “ومن كآبة المنظر”. لكن رغم كون سينما الصحراء السعوديّة أقرب رمزيًّا إلى سينما الصحراء العربيّة، إلا أنّها تميل إلى اتباع الثيمات والجماليّات والأساليب العالميّة. فجماليات أفلام الطريق التي تتميز بها الثقافة الأمريكيّة لها حضور كبير، كما في فيلم “السينما ٥٠٠ كم” و”عطوى” التي تناولناهما بالتفصيل، إضافة إلى فيلم “٣٠٠ كم” و“طريقة صعبة” و”أنا والآخر” التي تتشارك معها في المواضيع والأساليب. في العموم تطغى أفلام الطريق والنجاة على مجموع أفلام الصحراء في المملكة، مما يترك مساحة كبيرة متاحة لاستجلاب أنواع أخرى، مثل: أفلام الحروب، والمغامرة، والخيال العلمي، خصوصًا أن الفيلم الروائيّ الأول “ظلال الصمت” كان فيلم خيال علميّ عن الصحراء، لكن لم تبنِ الأفلام اللاحقة شيئًا على إرثه، مما أحدث قطيعة واضحة بين السينما السعوديّة وهذا النوع.

كما نلحظ في معظم الأفلام التي تناولناها، إضافة إلى “تمرّد” الذي ذُكر في البداية، انفصالًا بين الجيل الحديث أو الحياة المعاصرة. يمكن من ذلك استنتاج أن الصحراء في السينما أصبحت شاهدًا على الهوة بين الأجيال، ورمزًا للتصادم بين التراث والحداثة. وكما في بقية الفنون الحداثيّة البصريّة، مثل الفنّ المفاهيمي، تبدو حداثة تقنية السينما بحدّ ذاتها شاهدًا على الانفصال. إذ تبدو أدوات السينما دخيلة على المشهد الصحراويّ، فهي تعتمد بشكل كبير على الاختراعات الحديثة، بدءًا من الكاميرا نفسها، ووصولًا للمؤثرات الصوتيّة والبصريّة، وهناك مساعٍ قليلة للمصالحة بينها وبين الصحراء، دون أن تطرد واحدة منهما الأخرى. يظهر هذا في فيلم “السينما ٥٠٠ كلم” بشكل واضح، إذ تشكل الصحراء المسافة التي يجب أن نتجاوزها من أجل أن نصل إلى السينما، أي الصحراء بوصفها عائقًا، لا حاضنة للسينما. ويظهر في فيلم “ومن كآبة المنظر” بشكل أقلّ مباشرة، فالمهرب الوحيد الذي يجده الناجون من الطائرة هو العثور على مسجلٍ يشغلون به أشرطة غنائيّة لطلال مداح، فتصبح التقنية الصوتيّة - متمثلة في الأغاني التي تتردد بوصفها موسيقى تصويريّة للفيلم - هي الفسحة التي تمنحهم وهم العودة إلى الحضارة وتشحذهم ذهنيًّا.

في العموم، تميل السينما السعوديّة إلى أنسنة الصحراء. فهي لا تظهر فقط كجغرافيا جامدة مرادفة للعدم، بل يمكن اعتبارها عنصرًا حيويًّا يملك إرادة ذاتيّة، ونراها إمّا حليفًا وإمّا غريمًا. يظهر هذا بشكل واضح في “مدينة الملاهي” الذي يظهر الصحراء بصورة مغايرة ومتناقضة نوعًا ما. ومع هذا لا نرى في مواقع الصحاري نفسها الكثير من التنوع. وباستثناء فيلم "ديار حسمى"، لا تستغل الأفلام الثراء التضاريسي للصحاري السعوديّة، إذ تغلب عليها صورة الصحراء الرمليّة التي تمثل طبيعة الصحاري الكبرى فقط. وباستثناء بعض الأفلام الوثائقيّة، مثل “عروس الآثار والجبال” لفيصل العتيبي، وإلى حد ما فيلم "ديار حسمى"، القليل وربما لا شيء من الأفلام السعوديّة تناولت التشكلات الصخريّة الفريدة، مثل تلك التي نجدها في رمال العلا، رغم قوة جذبها البصريّة، وثرائها التاريخيّ، والثقافيّ، وامتلائها بالقصص التي يمكن توظيفها بشكل رمزيّ وجماليّ معبر. وباعتبار العمر القصير للسينما السعوديّة، فإنّ هذا النقص لا يعيب ما سبق من محاولات، لكنه يتيح المجال لتصوّر مستقبلٍ مشرق للفنّ السينمائي هنا، ممتلئٍ بالفرص التي لم تشبع كامل خيالاتها بعد.

(٧) المراجع

  • كتاب "الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور" للدكتور سعد الصويان
  • كتاب "عين الصقر: تأملات في سينما الصحراء" لمجموعة من الكتاب
  • كتاب فيلموغرافيا السينما السعودية" لخالد ربيع السيد
  • كتاب "سينمائيات سعودية" لخالد ربيع السيد
  • مقالة "صورة الصحراء في السينما" لمحمد فاتي
  • http://www.aladabia.net/article-15972-2_1
  • Cohan, Steven; Hark, Ina Rae, eds. (1997). The Road Movie Book. Routledge. ISBN 978-0-415-14937-2.

اطّلع على منشورات أخرى

تم تسجيلك .. ترقب ضوء معرفة مختلفة!
عذرًا، أعد المحاولة