للموسيقى والغناء وجود أصيل في حياة الإنسان، واستبطان في نفسه ومداركها منذ مدارجها الأولى، وظهور قوي في تشكيلاته الاجتماعية وعلاماتها التي تميزها، ما جعل الموسيقى والغناء من مظاهر هُويّات الأمم وعلامات تمايزها، وجعل الشعوب تأوي إلى موسيقاها كما تأوي إلى أكناف أجدادها، استشعارًا لرسوخ أصولها وتمكُّنها في الوجود.
ولأمة العرب تراث عريق في الموسيقى والغناء، تأكدت أهميته إذ كان الغناء واحدًا من أهم مجالات إنتاجها الحضاري منذ العصر الأموي، وعُنيت منذ ذلك العصر بتقعيده وتأصيله وتصنيف فروعه ومقاماته وإيقاعاته بالتوازي مع إنتاجها الكبير منه، ثم شهد العصر العباسي نهضة في التأليف في الموسيقى تنظيرًا وتوثيقًا وتأريخًا يشهد أن موسيقى العرب وغناءهم كانا القاطرة التي حملت هذا الفن في عالم العصور الوسطى إلى أمم العالم الحديث.
ولما كان الشعر فن العرب، وكان في الجاهلية علمهم وشرفهم والعمود الذي قام عليه أدبهم وتواترت حوله أخبارهم، فقد كان مادة غنائهم وذخيرته المتجددة التي لا تنقطع، قام الغناء على الشعر، وتطور الشعر من خلال الغناء، وتضافرا حتى أنتجا لنا أكبر مصدر أدبي في التراث العربي (أغاني الأصفهاني)، ولم يزالا يُمد أحدهما الآخر ويستمد منه إلى عصرنا الحديث الذي أدركنا فيه غناءنا العربي مُسجلًا، واحتفظنا به عبر الوسائط المتنوعة لأجيالنا اللاحقة، مُبصرين بها تطوره ومواكبته لتطورات تاريخنا الحديث وما شهده من نهضة وتحديث.
وتهدف هذه الدراسة إلى رصد الروافد الشعرية للغناء العربي في عصر التسجيلات، انطلاقًا من تاريخ العلاقة بين الشعر والغناء في تراثنا، ثم تفصيلًا لمراحل هذه العلاقة في عصر التسجيلات، منذ ظهور الأسطوانات، مرورًا بظهور المدارس التلحينية والغنائية الكبرى في حقبة أم كلثوم وعبد الوهاب، ثم حقبة انتشار الإذاعات والتسجيلات والسينما في الربع الثالث من القرن العشرين، ثم الربع الأخير منه وصولًا إلى حاضر هذه العلاقة في الربع الأول من القرن الحالي، مع استبانة هذا الحاضر من الشعراء والوقوف على آرائهم وتوصياتهم.
وتنهج هذه الدراسة المنهج التاريخي من خلال جمع المادة الشعرية التي شكلت رافد الغناء العربي عبر المراحل المتتابعة في الحقبة المستهدفة، ورصد تغيراتها وما طرأ عليها من تحولات ناتجة عن تطور الشعر والغناء، ومتأثرة بالتطورات الحضارية والسياسية، وتفاعلات حركتيْ الشعر والغناء التي جعلت تطور كلٍّ منهما مؤثرًا في مسار الآخر.
كما تستعين بالمنهج الكمي في عمل استبانات للشعراء المعاصرين لبيان واقع غناء الشعر الفصيح من خلال تجاربهم ورؤاهم.
تصاحب الموسيقى الإنسانَ في جميع حالاته الشعورية، وتقدر ببراعة على التعبير عنها تعبيرًا يُحسه وهو يستمع إليها، وقد يلجأ إلى تعميقه في نفسه بممارسة الغناء والعزف.
ولا تكتفي الموسيقى بذلك، بل تمارس سلطة ناعمة رشيدة على المشاعر، فتُسكّن مشاعر الحُزن وتُهذب جموحها، وتمنح النفس فرصة تأملها بهدوء والوصول بها إلى السكينة، فيما تؤكد مشاعر الفرح وتُضخم الإحساس بها مما يزيد شعور الإنسان بالرضا والقوة.
وقد انتبه قدماء الفلاسفة لهذه الخواص في الموسيقى وأولَوْها شطرًا كبيرًا من عنايتهم بالتأمل والدراسة، يقول أفلاطون: "مَن حزِن فليستمع للأصوات الطيبة، فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها، فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد" <span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">الموسيقى الشرقي، كامل الخلعي 8.</span></span>.
وتصاحب الموسيقى الإنسان في مشاعر الحب، لتكون رفيقة كل فرد على الأرض في تجربة إنسانية تتفرد بحوادثها وتحولاتها بقدر ما تتشابه مع نظائرها في مشاعرها، وتنفرد كل تجربة بالإيقاعات الموسيقية والأغاني التي صاحبت ذكرياتها وصنعتها، وكثيرًا ما انقضت تلك التجارب وبقيت أغانيها حية في نفس المحب.
إلى جانب ذلك تقوم الموسيقى بدور الدواء الخفي لكثير من أزمات الإنسان، وإنسان العصر الحديث خصوصًا، كالإجهاد والضغط العصبي والذهني والأرق وغيرها من العوارض النفسية التي أكد حضورها تسارع وتيرة الحياة الحديثة، لتظل الموسيقى اليد الحانية التي تربت على الإنسان في عالم لم يعد يعبأ بالفرد.
هذا الوجود الأكيد للموسيقى في حياة البشرية أفرادًا، أنتج لها منذ أقدم العصور وجودًا أوكد على مستوى الجماعات والأمم، فلم يخل تراث أمة من الموسيقى والغناء، معرفةً وممارسةً واستماعًا وطقسًا، وأنتجت كل أمة أغانيها وموسيقاها بالأنغام والإيقاعات التي ارتاحت إليها وتيسرت لها، وصنعت آلاتها من الخامات التي وفرتها لها البيئة، ومنذ فجر التاريخ كان لكل أمة أنماطها التي تميزها من الموسيقى والغناء.
وارتبطت الموسيقى والغناء في حياة المجتمعات بكثير من الأنشطة والممارسات، كان من أهمها في الحضارات القديمة ممارسات العبادة، فظهرت الموسيقى في المعابد ركنًا ركينًا في طقوس العبادة والاتصال بالآلهة، فقد عرفت المعابد في مصر القديمة الآلات الموسيقية عضوًا فاعلًا في الطقوس، فكان في معبد آمون جنك (هارْب) يُمجّد عليه جمال الإله، فيما اعتادت كاهنات الإلهة حتحور الصلصلة بالصنوج والشخاليل، وأحيانًا بحُليهنّ، تعبدًا وتقربًا إليها.<span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext">ديانة مصر القديمة، أدولف أرمان 201.</span></span>
وكان للموسيقى حضور قوي في معابد البابليين والآشوريين، ففي سفر دانيال أن نبوخذ نصر صنع تمثالًا من الذهب ونصبه، وأمر مناديًا ينادي: "أيها الشعوب والأمم من كل لغة ولسان، قد صدر لكم أمر أنكم حين تسمعون أصوات بوق القرن والناي والعود والرباب والقيثارة المثلثة والمزمار وكل أنواع الموسيقى، تنحنون وتسجدون لتمثال الذهب الذي نصبه نبوخذ نصر الملك، وكل من لا ينحني ويسجد يلقى فورًا في وسط أتون نار متقدة". <span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext">سفر دانيال 3.</span></span>
وكذلك تحكي التواريخ عن معظم الشعوب القديمة، وهذا تمثيل لحضور الموسيقى بآلاتها في عباداتهم، أما حضور الغناء إنشادًا وترنمًا فقد كان أعم وأوسع، وفي كلٍّ شعَر الإنسان القديم أن العبادة ومناجاة الإله فعل مقدس ينبغي تجميله بالغناء والموسيقى تبجيلًا وتعظيمًا.
ولم تزل الموسيقى تحتفظ بحضور أساسي في الطقوس المسيحية، أما في الشعائر الإسلامية فرغم غياب الآلات الموسيقية فقد حضر معنى الغناء منذ البداية، ممثلًا في قيم التغني والترتيل وتحسين الصوت التي نصت عليها الأحاديث النبوية.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن" <span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext">صحيح البخاري (7527).</span></span>، وقال: "زينوا القرآن بأصواتكم" <span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext">سنن أبي داود (1468).</span></span>، وحين أعجب بقراءة أبي موسى الأشعري قال له:"يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود" <span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext">صحيح البخاري (5048)، وصحيح مسلم (793).</span></span>.
وكما صحب الغناء والموسيقى الأممَ في عباداتها صحباها في حروبها، فكانا أداة تحميس الجنود عبر الطبول والأبواق والأناشيد الحماسية التي تُمجّد الأمة وتاريخها، كما حضر الغناء بصوره البسيطة في كل الأنشطة الحِرفية التي تشتمل على حركة وجهد، فتشاغل البناؤون والحمالون والصيادون وغيرهم بغناء أغانٍ يرتجلونها لتُحمسهم وتعينهم على مشقة العمل، واعتاد الرعاة الحداء لإبلهم وغنمهم، والعزف على آلات النفخ البسيطة، فيما اعتاد الباعة أن ينادوا على بضائعهم بأصوات حسنة منغمة.
وهكذا ترسخت الموسيقى والغناء في وجدان الشعوب، وتمايزت الإيقاعات الموسيقية للشعوب لتشكل أحد أهم مظاهر خصوصيتها، فما برحت كل أمة تعتز بغنائها ونغمها، وتحرص على نشره والحفاظ عليه وتقديمه لسائر الأمم.
عرف العرب الموسيقى والغناء منذ أقدم العصور، ودلّت مفردات حياتهم وآدابهم على تجذره في طباعهم، وحسبُنا بالشعر العربي دليلًا على تجذر الإيقاع في حياة العرب وتحكمه فيها من وراء ستار.
فبحسب أقدم نماذجه المعروفة ولد الشعر العربي موزونًا مقفًّى محكَم الإيقاع مُطّردًا على قوانين موسيقية منتظمة، وكان في كثير من سياقاته الاجتماعية مُغنًّى، كسياق الحداء الذي شاع في قبائلهم وأسهم بشيوعه في تنظيم أوزان الشعر وتأكيدها، وبتتبع أخبار الجاهلية نجد حضور الشعر المُغنى شعبيًّا عبر الحداء والترقيص والنواح وكثير من الممارسات الاجتماعية التي جنحت فيها السليقة العربية نحو التعبير بممارسة الشعر والغناء معًا، يقول حسان بن ثابت:
تغَنَّ بالشعر إما كنتَ قائله <span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext">العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده 2/272، والفن ومذاهبه في الشعر العربي 44.</span></span> :: إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ
وكان غناء العرب في الجاهلية على ثلاثة أنواع: النصب والسناد والهزَج. فأما النصب فغناء الركبان والفتيان والمستعمل في المراثي، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض، والسناد هو الثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات، وأما الهزج فالخفيف الذي يُرقص عليه ويمشى عليه بالدف والمزمار فيُطرب ويستخف الحليم. <span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext">العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده 2/272.</span></span>
ونستشف من هذا الخبر أن النصب كان اصطلاحًا لغناء الحداء والنواح، وكان طويلًا يقدر عليه الركبان والعبيد الحادون والنسوة النائحات، أما السناد فالغناء الطربي الثقيل معقد الأداء، يحتاج إلى مطرب محترف أو شبهه، وأما الهزَج فخفيف يقدر عليه معظم الناس ويستدعونه في كثير من أغراض حياتهم للنشاط والمرح.
وعرف العربُ في الجاهلية المغنيات المحترفات، وكُن من القيان، وكُن يُغنين منفردات أو في جوقات من النساء، وكان من أشهرهنَّ الجرادتان قينتا عبد الله بن جدعان، وجرادتا النعمان.
هذه الأصول الراسخة للغناء في طبائع العرب وممارساتهم وأشعارهم كانت الأساس المتين الذي نهضت عليه فنون الغناء بعد الإسلام، فمع العصر الأموي شهد الغناء العربي نقلة فارقة حوّلته إلى صناعة محكمة مؤصلة، وفن نخبوي يُشار إليه بالبنان، وكان معقل هذه النهضة مكة والمدينة، وليس بمستغرب أن ينهض الغناء في مكة والمدينة في ظل التحولات الحضارية التي شهدتها أنماط الحياة في البلدين منذ خلافة عثمان وصولًا إلى خلافة معاوية وما بعدها، من شيوع الثراء والرفاهية إثر الموجات المتراكمة من غنائم الفتوحات، وغلبة أنماط المعيشة الناعمة الوافدة من إرث فارس والروم، مع تدفق الرقيق الفارسي والرومي وما حمله من عادات وفنون.
وقد تزامنت هذه التطورات مع خروج السياسة من مكة والمدينة إلى الشام والعراق، فتفرغ أهل البلدين لطلب العلم، وطلب الفن، فازدهرت صناعة الغناء عندهم وأُحكمت أصولها، وفُصّلت اصطلاحاتها، ومُزج غناء العرب القديم بغناء فارس والروم فامتزجت الأشكال واستوت الإيقاعات والمقامات.
وكان من أشهر المغنين في المدينة طويس وسائب خاثر ومعبد وابن عائشة ويونس الكاتب ومالك الطائي وعطرّد، أما المغنيات فمن أشهرهن عزة الميلاء وجميلة وسلامة القس وسلامة الزرقاء، وأما مكة فاشتهر فيها ابن مسجح وابن محرز والغريض والأبجر والهذلي. <span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext">الأغاني (1/363،43-2/353،195-3/340،300-272-4/390،219-5/70-8/347،333،195-17/164)، والشعر والغناء في المدينة مكة 183،49.</span></span>
وبسبب شيوع الغناء ازدهر الغزل في شعر المكيين والمدنيين، لتغطية حاجات المغنين، وليشتهر الشعر ويذيع بغنائهم، فيما قل الشعر السياسي وشعر المديح، لخروج السياسة من مكة والمدينة، ولتنزه أهل الحرمين عن مديح الأمويين مع ما هم فيه من شرف وترف، ومعارضتهم القديمة لبني أمية. <span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext">الشعر والغناء في المدينة ومكة 76.</span></span>
ومِن شعراء الحجاز الذين راجت مقطوعاتهم في الغناء عمر بن أبي ربيعة والأحوص والعرجي وابن قيس الرقيات.
ثم دخل العصر العباسي وازدهار الغناء على أشده، وارتفعت مكانته في قصور الخلفاء في بغداد، ما جعل بغداد المركز الأشهر لصناعة الغناء، فراجت الجواري المغنيات وارتفعت أثمانهن، وتنافس الخلفاء والأمراء والكبراء على اقتنائهن، وفي بغداد وُضعت الأصوات المئة التي غُنيت لهارون الرشيد وكانت الأساس الذي قام عليه كتاب الأغاني، أكبر دواوين الأدب العربي.
وقد أحدث تطور الغناء في العصر العباسي تغييرًا كبيرًا في شكل الشعر، فوجه الشعراءَ نحو النظم في الأوزان القصار كالمجتث والمضارع والهزج، وفي مجزوءات الأوزان الطوال، وكثر طلب الغناء على هذه الأوزان، فيما قل طلبه على الأوزان الطويلة التقليدية كالطويل والبسيط، ونرى شيوع الأوزان القصار في دواوين الشعراء العباسيين كأبي نواس وأبي العتاهية. <span class="tooltip">(11)<span class="tooltiptext">الفن ومذاهبه في الشعر العربي.</span></span>
وتسيدت القصيدة عالم الغناء حتى طور الأندلسيون الموشح حين امتزجت القصيدة العربية بتأثيرات إسبانية، فأنتجوا فنًّا شعريًّا لا تتناهى أوزانه، إذ كان ميزانه الأبرز هو التلحين، كما قال ابن سناء الملك مُنظّره الأول:
"وكنتُ أردت أن أقيم لها عروضًا يكون دفترًا لحسابها، وميزانًا لأوتادها وأسبابها، فعز ذلك وأعوز، لخروجها عن الحصر وانفلاتها عن الكف، وما لها عروض إلا التلحين". <span class="tooltip">(12)<span class="tooltiptext">دار الطراز في عمل الموشحات 35.</span></span>
وتقاسمت القصيدة والموشح السيادة على الغناء، فيما أخذ نطاق الأخير في الانتشار، حتى أتى القرن التاسع عشر والموشح أكثر أجناس الغناء شيوعًا، وقد طُورت لغته فأمست أشد خلطًا بين الفصحى والعامية، وكثر تلحينه ونظمه لأجل التلحين، حتى بات المعرض الأوفى لإيقاعات الغناء العربي، وحين نطالع كتاب (سفينة الملك) الذي وضعه الشيخ شهاب الدين في النصف الأول من القرن التاسع عشر نجد أن الموشحات تمثل معظم المادة الغنائية المدونة فيه، بينما تتبعها القصائد في ملحقات الكتاب إتباع القطيرة للسفينة بلفظ المؤلف. <span class="tooltip">(13)<span class="tooltiptext">سفينة الملك ونفيسة الفلك 319 .</span></span>
كان عام 1903 عامًا فارقًا في تاريخ الغناء العربي في مصر، إذ دخلت شركات الأسطوانات إلى مصر تبحث لها عن سوق، وعرف الغناء العربي التسجيل التجاري المنتظم لأول مرة، تتابعت شركات التسجيل على السوق المصرية، (جرامافون) ثم (أوديون) ثم (بيضافون) و(مشيان) وغيرها.
خلال الأعوام الأولى امتنع مطربو الصف الأول عن التعاون مع هذه الشركات، ربما خوفًا من هذا الاختراع الجديد الذي لم يكن لهم به عهد، والتسجيلات التي وصلتنا من حقبة بداية التسجيلات كانت لمطربي الصف الثاني والثالث وبعض المجاهيل الذين لا نعرف عنهم شيئًا، لكن حين أثبت الاختراع الجديد جدارته بالبقاء وخلق له جمهورًا في السوق أقبل مطربو الصف الأول على نشر أصواتهم وفنونهم من خلاله، وعلى رأسهم الشيخ يوسف المنيلاوي (1850-1911) الذي خُصصت لأسطواناته علامة تجارية لا يشاركه فيها مطرب آخر، هي (سمع الملوك)، وعبد الحي حلمي (1857-1912)، والشيخ سلامة حجازي (1852-1917).
وسترتكز دراستنا لهذه الحقبة على أعمال هؤلاء الثلاثة بحُسبانهم أهم مطربيها، وسنجمع إليهم الشيخ أبو العلا محمد (1884-1927) لعنايته الفائقة بتلحين القصائد وغنائها، ما جعلها اللون الغالب على تسجيلاته الباقية، وجعله محطة فارقة في تاريخ القصيدة المغناة.
والملاحظ على ما وصلنا من قصائد مغناة ليوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي غلبة الشعر التراثي عليه جميعه، فالقصائد كلها لشعراء أمويين وعباسيين ومملوكيين، وقليل منها لشعراء عثمانيين متأخرين، فمن الأمويين ومخضرمي الدولتين نرى أبا صخر الهذلي ومجنون ليلى وابن الدمينة والحسين بن مطير الأسدي وقصيدتين من زينبيات يونس الكاتب، ومن العباسيين نجد بشارًا وأبا نواس وأبا الشيص الخزاعي وأبا عيينة بن أبي عيينة وبكر بن النطاح الحنفي، ويحضر المتنبي وأبو فراس الحمداني وابن هانئ الأندلسي بقصيدة لكل منهما، فيما يحضر ابن الفارض من العصر الأيوبي بثلاثة نصوص، ومن العصر المملوكي نجد قصيدتين لابن الوردي وصفي الدين الحلي، فيما نجد قصيدتين من العصر العثماني لأحمد الزرقاني وعلي الدرويش المصري.
وبحسب أرشيف التسجيلات المتاح على منتدى سماعي فقد رصدنا 18 قصيدة مسجلة للمنيلاوي، 16 منها لشعراء من المذكورين، واثنتين لم نصل إلى نسبتهما، على أنهما مما لا يُشك في تراثيته، أما عبد الحي حلمي فرصدنا له 14 قصيدة، 13 منها لشعراء تراثيين معروفين.
وفيما يلي جدولٌ بقصائد كل من المطربين منسوبة إلى شعرائها وعصورهم.
أولًا: القصائد المغناة للشيخ يوسف المنيلاوي
<div><table><tbody><tr><td width="156" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العصر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="156" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الشاعر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="288" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">القصيدة</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="24" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">م</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="156" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">مخضرمو الدولتين<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">مخضرمو الدولتين<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الأموي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الأموي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الأموي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">المملوكي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العثماني<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الأيوبي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">مخضرمو الدولتين</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="156" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الحسين بن مطير<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">من زينبيات يونس<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">بكر بن النطاح<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أبو عيينة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">مجنون ليلى<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أبو نواس<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أبو عيينة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أبو صخر الهذلي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن هانئ الأندلسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن الدمينة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباس بن الأحنف<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">بشار بن برد<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن الوردي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">علي الدرويش المصري<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن الفارض<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">من زينبيات يونس</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="288" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أحبك يا سلمى على غير ريبة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أقصدت زينب قلبي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أكذب نفسي عنك في كل ما أرى<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ألا في سبيل الله ما حل بي منك<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الله يعلم أن النفس هالكة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">إن شكوت الهوى فما أنت منا<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">حامل الهوى تعب<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ضيعت عهد فتى لعهدك حافظ<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عجبت لسعي الدهر بيني وبينها<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">فتكات لحظك أم سيوف أبيك<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">قفي يا أميم القلب نقض لبانة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">لا تحسبوا أن ميلي بينكم طربا<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">لا جزى الله دمع عيني خيرا<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">لم يطل ليلي ولكن لم أنم<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ميزت بين جمالها ودلالها<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ودواهي العيون نعم الدواهي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">وهواه وهو أليتي وكفى به<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">يا زينب الحسناء يا زينب</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="24" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-EG"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>1<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">2<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">3<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">4<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">5<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">6<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">7<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">8<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">9<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">10<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">11<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">12<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">13<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">14<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">15<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">16<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">17<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">18</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td></tr></tbody></table></div>
ثانيًا: القصائد المغناة لعبد الحي حلمي
<div><table><tbody><tr><td width="156" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العصر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="156" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الشاعر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="276" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">القصيدة</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="36" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">م</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="156" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">المملوكي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الأيوبي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الأموي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العثماني<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الأيوبي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العباسي</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="156" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أبو فراس الحمداني<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">المتنبي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أبو عيينة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">صفي الدين الحلي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن الفارض<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أعرابي مجهول<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أبو عيينة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أبو صخر الهذلي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أحمد الزرقاني<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن هانئ الأندلسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن الفارض<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">بشار بن برد<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أبو الشيص الخزاعي</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="276" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أراك عصي الدمع<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أساقيي أخمر في كؤوسكما<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أسرت فؤاد المستهام<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ألا في سبيل الله ما حل بي منك<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">إلى محياك نور البدر يعتذر<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ته دلالا فأنت أهل لذاكا<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">شكوت فقالت كل هذا تبرما<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ضيعت عهد فتى لعهدك حافظ<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عجبت لسعي الدهر بيني وبينها<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عمري عليك تشوقا قضيته<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">فتكات لحظك أم سيوف أبيك<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">فيا مهجتي ذوي جوى وصبابة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">لم يطل ليلي ولكن لم أنم<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">وقف الهوى بي حيث أنت</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="36" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-EG"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>1<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">2<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">3<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">4<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">5<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">6<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">7<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">8<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">9<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">10<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">11<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">12<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">13<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">14</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td></tr></tbody></table></div>
هذا الاستحواذ الكامل للقصائد التراثية على ما غناه المنيلاوي وحلمي يبدو منطقيًّا بالنسبة إلى قدم وفاتهما (1911 و1912)، لكن الذي يثير استغرابنا خلو القائمتين من أي عمل للشعراء المعاصرين رغم النهضة الشعرية التي شهدتها مصر في حياة المنيلاوي وحلمي، ومعاصرتهما لأسماء وازنة قام عليها الشعر العربي الحديث كالبارودي وإسماعيل صبري وشوقي وحافظ ومطران وغيرهم، خاصة وقد أسهم إسماعيل صبري بكتابة عدد من الأدوار العامية لعبده الحامولي ومحمد عثمان المتوفيين عامي 1901 و1900م.
لكن يبدو أن الوسط الغنائي حتى هذه الحقبة لم يستوعب منتج الحركة الشعرية المعاصرة له على أهميته وكثافته، وظل يعتمد على المصادر التراثية في اختيار مقطوعاته الغنائية، على ما تواتر غناؤه خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، ومن اللافت أن بعض هذه المقطوعات مما غُني في العصر العباسي وورد في كتاب الأغاني، كزيانب يونس الكاتب <span class="tooltip">(14)<span class="tooltiptext">الأغاني 4/401.</span></span>، ما يدل على أن أصوات كتاب الأغاني ظلت موردًا للباحثين عن النصوص إلى مطلع القرن العشرين.
في حالة سلامة حجازي (1852-1917) يختلف الأمر كليًّا، فالرجل الذي أسس فرقة مسرحية يعود أكثر تراثه إلى مسرحياته التي كتبها وعرّبها شعراء معاصرون كان أبرزهم نجيب الحداد (1867-1899)، ومن شعره قدم سلامة حجازي عددًا من المسرحيات أشهرها (شهداء الغرام) و(صلاح الدين الأيوبي) و(حمدان)، ومنها وصلنا عدد من أهم قصائد سلامة حجازي المغناة، أشهرها (إن كنت في الحرب أدعى صاحب العلم) و(دنت فدنا السرور إلى فؤادي) و(بالله مرحمة وصبرا للغد) و(عليك سلام الله يا شبه من أهوى)، فيما وصلتنا نصوص أخرى من مسرحيات لم نقف على مؤلفيها. <span class="tooltip">(15)<span class="tooltiptext">سلامة حجازي لإيزيس فتح الله ومحمود كامل 111.</span></span>
لسلامة حجازي قصائد مغناة من شعر معاصرين، خارج مسرحياته، كقصيدة أبي الهدى الصيادي (سلوا حمرة الخدين عن مهجة الصب)، وقصيدة خليل مطران (أتيت فألفيتها ساهرة)، ومرثية مصطفى كامل لشوقي (المشرقان عليك ينتحبان)، فيما وقفنا على نصين تراثيين فقط (نالت على يدها ما لم تنله يدي) ليزيد بن معاوية، و(سمحت بإرسال الدموع محاجري) لعمر اليافي، فيما تُحتمل التراثية في نصوص قليلة لم نقف على مؤلفيها.
أما الشيخ أبو العلا محمد فقد كان الملحن الأشهر للقصائد خلال الربع الأول للقرن العشرين، وكاد يقتصر فنه عليها، فنتاجه الذي وصلنا من سواها قليل جدًّا، لقد وجد وجدانه في تلحين الكلمة الفصيحة في القصيدة بشكلها الكلاسيكي، ووضع لها ألحانًا محكمة جعلت المطربين يتخففون من الارتجال لصالح اللحن.
ونظرًا لعنايته بالقصيدة فقد كان أبو العلا محمد أشد توسعًا في اختيار نصوصه، منوعًا بين كل العصور، وغنى عدة قصائد من نظم معاصريه من الشعراء، كأديب إسحاق وإسماعيل صبري وأحمد رامي ومحسن أبو الحب، وفي أرشيف الشيخ أبو العلا المتاح على منتدى سماعي 28 قصيدة يتبين توزيع شعرائها من الجدول التالي:
<div><table><tbody><tr><td width="156" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">العصر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="162" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الشاعر</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="276" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">القصيدة</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="30" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">م</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="156" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">إسلامي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">حديث<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أيوبي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">حديث<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">حديث<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أيوبي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عثماني<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أيوبي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عباسي أو مملوكي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">لم نقف على ترجمته<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عثماني<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عباسي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أيوبي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عثماني<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عثماني<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أيوبي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">حديث<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">فاطمي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عثماني<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">حديث<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="162" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">يُنسب لعلي بن أبي طالب<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أديب إسحاق<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن الرومي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن النبيه<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">إسماعيل صبري<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">بكر بن النطاح<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أحمد رامي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن النبيه<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أبو العتاهية<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">بهاء الدين العاملي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الإمام الشافعي <o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">البهاء زهير<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن الدهان أو الظريف<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">إبراهيم حسني ميرزا<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">بطرس كرامة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">نصر الله الدجاجي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن الفارض<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عبد الله الشبراوي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عبد الله الشبراوي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">ابن الفارض<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">إسماعيل صبري<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عمارة اليمني<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">عبد الله الشبراوي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">محسن أبو الحب<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">-</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="276" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أحب ليالي الهجر<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أحمامة الوادي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أصبر وما للصبر عندي وسائل<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أعانقها والنفس بعد مشوقة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أكذب نفسي عنك في كل ما أرى<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">الصب تفضحه عيونه<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أمانا أيها القمر المطل<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">أنت الذي لم تزل بالعفو متصفا<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">حجبوها عن الرياح<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">خلياني بلوعتي وغرامي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">سهرت أعين ونامت عيون<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">غيري على السلوان قادر<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">قل للبخيلة بالسلام تورعا<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">كم بعثنا مع النسيم سلاما<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">لا وعينيك<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">لي لذة في ذلتي وخضوعي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">نسخت بحبي آية العشق من قبلي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">والله لا أستطيع صدك<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">وحقك أنت المنى والطلب<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">وحياتكم<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">يا آسي الحي<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">يا خالق الخلق<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">يا رب هيئ لنا من أمرنا رشدا<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">يا عاذلي لا تلمني<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">يا مليح الحلى<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">يا من إذا قلت يا مولاي لباني</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td><td width="30" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><span lang="AR-EG"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>1<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">2<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">3<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">4<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">5<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">6<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">7<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">8<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">9<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">10<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">11<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">12<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">13<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">14<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">15<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">16<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">17<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">18<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">19<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">20<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">21<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">22<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">23<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">24<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">25<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">26<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">27<o:p></o:p></span></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-EG">28</span><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td></tr></tbody></table></div>
وقد لبثت قصائد أبو العلا محمد معينًا لمطربي عصره يتداولون غناءها، وبعد وفاته حتى مطلع الثلاثينيات، وكان لأم كلثوم فضل كبير في تخليدها ونقلها إلى أجيال لاحقة من السميعة، ولم تعرف القصيدة المغناة تطويرًا بعده إلا على يد محمد عبد الوهاب.
مثل عام 1923م عامًا فارقًا في مسيرة الغناء العربي، فهو العام الذي وصلنا منه أول ألحان محمد عبد الوهاب، ويمكن اعتباره عام بدئه التلحين بعد سنوات من غناء ألحان سلامة حجازي وسيد درويش وغيرهما، كما أنه العام الذي استقرت فيه أم كلثوم في القاهرة وبدأت رحلتها التي غيرت وجه الغناء، وعلى صوتيْ عبد الوهاب وأم كلثوم ارتحل الغناء العربي مراحل وارتقى مراقي لم تكن تخطر على بال أهله قبل ظهورهما، وتطورت الألحان تطورًا استدعى معه تطور مادتها الشعرية، كما أن شعراء من الطبقة العليا في الإبداع كانوا بعيدين عن وسط الغناء قرروا الاحتفاء بهذين الصوتين المُعجزين والكتابة لهما كتابة تغاير ما كان سائدًا قبلها من الكتابة للمسارح وللمطربات العوالم، فارتقت الكلمات وطارت مطارات أخرى لم تكن متاحة لها من قبل، وظهر مطربون ومطربات يغنون غناء جديدًا منطلقًا مما انتهى إليه عبد الوهاب وأم كلثوم، وكان من أبرز الأصوات التي ظهرت عُقيبهما وتحملت جزءًا من تجارب التطوير صوت أسمهان التي أحرزت شوطًا كبيرًا بمنتجها وإن لم تطل بها الرحلة.
وسندرس تطور الشعر والأغنية خلال هذه الحقبة من خلال أعمال عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان بشكل أساسي مع التعريج على سواهم، مستعرضين أهم الشعراء الذي جددوا روح الأغنية وآثارهم فيها، والسياقات الاجتماعية والفنية لمنجزاتهم، مفضلين اختتام هذه الحقبة بالعام 1953م الذي نراه فارقًا من ثلاث جهات:
جهة أم كلثوم التي لم تقدم خلال هذا العام أي عمل جديد لغيابها في رحلة العلاج الطويلة من مرض الغدة الدرقية، فكان فارقًا بين ما قدمته قبله وبعده، وجهة عبد الوهاب الذي غنى في هذا العام لآخر مرة من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي، والذي كان أحد أهم روافعه إلى الشهرة والمجد، وجهة المجتمع الذي قامت فيه قبل عام ثورة يوليو 1952م فأنتجت واقعًا اجتماعيًّا جديدًا طبع على الغناء تغييرات أخرى، كما صعّدت أجيالًا جديدة من المطربين يمكن التعرض لمنتجهم في الحقبة التالية، التي شهدت أيضًا انتشار الإذاعات في الأقطار العربية الأخرى، ومشاركتها مصر في تشكيل صورة الغناء العربي اللاحق، وهو ما سيوجب تناولًا أوسع جغرافيًّا للحقب اللاحقة.
لا نُبالغ إن وسمنا هذه الحقبة بأنها حقبة شوقي ورامي، أو رامي وشوقي فهُما اللذان شكّلا وجه الكلمة المغناة فيها، فأمدّا الغناء بذخيرة من القصائد الجديدة التي أدت إلى تراجع الرافد التراثي كثيرًا، وحتى في الأغاني العامية كان لهما دور بارز لا ينفصل عن دورهما في القصائد، فقد ارتقيا بالكلمة العامية مراقيَ نفسية تعبيرية ابتعدت بها عما سادها من رتابة وجمود قبل الحرب العالمية الأولى، وإسفاف وهبوط خلال هذه الحرب وبعدها، وهذا الارتقاء خدم القصيدة الفصيحة لأنه عدّل كثيرًا من الاعوجاج الذي شوّه ذوق الجمهور في حقبة الحرب وما بعدها، وجعله مؤهلًا لاستقبال تجارب التجديد الشعري التي ستتلاحق متسارعة خلال العقود التالية.
والحق أن عطاء أحمد رامي (1892-1981) خلال هذه الحقبة أكبر كمًّا ونوعًا من عطاء أمير الشعراء أحمد شوقي (1870-1932) خاصة أن رامي أدركها كلها بخلاف شوقي الذي أدرك منها عقدًا واحدًا، وإن ظلت قصائده معينًا للمطربين الكبار حتى نهايتها، لكنّ ثقل اسم شوقي ومكانته في ريادة الشعر العربي الحديث جعلا حضوره في غناء هذه الحقبة فارقًا، ونصوصَه علامات مرجعية مضيئة تأرز إليها نصوص الآخرين.
وبالجملة فقد أسدى شوقي ورامي جميلًا كبيرًا للغناء العربي لا بما كتبا فقط، بل لأنهما قبل ذلك تعاهدا عبد الوهاب وأم كلثوم بالرعاية والتثقيف تعاهدًا يقترب من التبني، ولولاه ما كانا ليصبحا عبد الوهاب وأم كلثوم اللذيْن عرفناهما.
فقد تبنى أمير الشعراء محمد عبد الوهاب، وأسكنه في قصره سبع سنين، وعلمه وثقفه، وكتب له خصيصًا، وقدمه إلى الطبقات الراقية والنخب الثقافية والسياسية في مصر والشام، ونقل إليه خبرات أربعين سنة من الشعر والرحلة والتجديد المحسوب والاغتراف المتجدد من الثقافتين التراثية والغربية <span class="tooltip">(16)<span class="tooltiptext">السبعة الكبار في الموسيقى العربية 154.</span></span>، ولنا أن نتخيل عبد الوهاب لو لم يدخل شوقي حياته، أكان يحوز من الثقافة وسعة الأفق وأهلية التصدر ما يمكنه من قطع الشوط الذي أحرزه في تجديد الغناء العربي؟
الدور نفسه لعبه رامي في حياة أم كلثوم، فقد كان يُحضر إليها دواوين الشعر العربي وأمهات كتب الأدب ويُقارئها، وكتب لها جُل ما غنت من الشعر الفصيح في هذه الحقبة، ولولا تعليمه وتثقيفه وطول عشرتها به ما كان لها أن تكون تلك الشخصية الواعية المثقفة المصقولة التي اختارت ما اختارت.
وبإلقاء نظرة على منجز عبد الوهاب وأم كلثوم من القصائد المغناة خلال هذه الحقبة نجد أنه من بين 38 قصيدة أمكننا الوقوف عليها في أرشيف محمد عبد الوهاب بمنتدى سماعي فقد كانت 14 قصيدة منها من شعر شوقي، 9 منها قدمها في حياة شوقي بين 1924 و1932، و5 بعد وفاته كانت أخراها (مقادير) عام 1953.
فيما نجد 7 قصائد من شعر رامي، و3 لكل من بشارة الخوري وعلي محمود طه، وهما مع رامي من أصحاب الاتجاه الرومانسي الواضح، وقصائد مفردة لشعراء آخرين كإيليا أبي ماضي ومحمود أبي الوفا وأحمد فتحي وعزيز أباظة وكامل الشناوي، فيما لا نجد من التراث إلا قصيدتين، (أعجبت بي) لمهيار الديلمي عام 1935، و(قالت كحلت الجفون بالوسن) لصفي الدين الحلي 1944.
وأما أم كلثوم فمن بين 58 قصيدة غنتها في هذه الحقبة، أمكننا حصرها من أرشيفها بمنتدى سماعي، ومن كتاب (أم كلثوم) لإيزيس فتح الله ومحمود كامل الصادر ضمن موسوعة أعلام الموسيقى العربية <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext">أم كلثوم لإيزيس فتح الله ومحمود كامل 52.</span></span>، وجدنا أن نصف هذا العدد 29 قصيدة من شعر رامي، و10 قصائد من شعر شوقي غنتها جميعًا بعد موته، بين عامي 1937 و1951، فيما حضرت تسع قصائد تراثية كان معظمها مما أعادت غناءه من أعمال الشيخ أبو العلا محمد، لكن القصائد التراثية لم تغب حتى عن أفلامها السينمائية، فغنت في فيلم (وداد) عام 1936 (أيها الرائح المجدّ) للشريف الرضي، وفي فيلم (دنانير) عام 1939 (قولي لطيفك ينثني) لديك الجن.
ونلاحظ أن أم كلثوم في هذه الحقبة اكتفت برامي عن غيره من الشعراء الرومانسيين، فلا نجد حضورًا لأسماء بارزة سواه، ولا نرصد حضورًا لشعراء أحياء غيره إلا نادرًا في قصائد ذات مناسبات سياسية، مثل (زهر الربيع) للشيخ محمد الأسمر التي غنتها بمناسبة افتتاح الجامعة العربية عام 1945.
وفي الرحلة العابرة لأسمهان رصدنا عشر قصائد، 3 منها لرامي و2 لشوقي، و3 تراثية، فيما حضر بقصيدة واحدة كل من بشارة الخوري وأحمد فتحي.
الحضور الكثيف لأحمد رامي وضع القصيدة الرومانسية -التي كان من روادها- في الصدارة، واستحوذت على الغناء ملامح الرومانسية شكلًا ومضمونًا، فمع العقد الثاني من هذه الحقبة تراجع شكل القصيدة العمودية التقليدي لصالح القصيدة منوعة القوافي التي يكتبها الرومانسيون، وحاز بحر الرمَل الذي يفضلونه سيادة لافتة في صوره الكاملة والمجزوءة والمنوعة بينهما، أما من حيث المضمون فقد ساد غناء الشاعر مشاعره وغوصه في مكنونات نفسه بعيدًا عن قوالب المعنى المتداولة في الغزليات التراثية، ووجدت تجارب الشعراء الشخصية متنفسًا في قلوب المستمعين.
صعود الرومانسية في الشعر المغنى تزامن مع صعود التعبيرية في التلحين، وهو اتجاه يجعل أولوية اللحن التعبير عن معاني الشعر وما تشتمل عليه من مشاعر ومكنونات، بعد أن كانت الأولوية للطرب وسبك لحن يُسلطن المستمع، وقد بدأت التعبيرية مع سيد درويش وقطعت أشواطًا على يد محمد عبد الوهاب، لكنّ رائدها الأكبر الذي غير شكل الغناء بها هو الموسيقار محمد القصبجي، الذي كانت ذروة نشاطه التلحيني بين عامي 1924 و 1948.
ولم تكن العلاقة بين الرومانسية والتعبيرية تزامنًا فحسب، بل كانت كلتاهما سببًا ونتيجة للأخرى، فالقصيدة الرومانسية التي تخلت عن كثير من التقاليد البلاغية للقصيدة التراثية، وتخففت من جزالتها لصالح التعبير عن مشاعر شاعرها، شجعت الملحن على التخلي عن كثير من التقاليد الطربية، والتخفف من جزالة لحنه لصالح التعبير عن مشاعر الكلمات ومعانيها.
ومن هنا نجد أن حضور القصيدة التراثية عند أم كلثوم كان أكثره خلال العقد الأول من هذه الحقبة (1923-1932) حيث غنت كثيرًا من قصائد الشيخ أبو العلا محمد التي تنتمي كلماتها إلى شعراء قدامى كبكر بن النطاح وابن النبيه وأبي فراس وعبد الله الشبراوي، أما العقدان التاليان فقد شهدا سيادة شبه مطلقة لقصيدتي رامي وشوقي.
أما عبد الوهاب فرغم أنه غنى قصيدتيه التراثيتين عامي 1935 و 1944 إلا أن العقدين الثاني والثالث من حقبتنا شهدا غناءه لعدد من أبرز الشعراء الرومانسيين في ذلك الوقت، كعلي محمود طه وأحمد فتحي وكامل الشناوي وإيليا أبي ماضي، وهي أسماء لم يكن لها حضور في غناء العشرينيات.
من المهم هنا الوقوف عند نشأة الإذاعة المصرية الحكومية خلال هذه الحقبة (1934م) فقد ألقت على الأغنية آثارًا أحدثت في بنيتها تطورات كبيرة، منها زيادة طولها. وذلك أنه بعد عصر الأسطوانات التي كانت سعتها لا تحتمل أغنية يزيد طولها على ثماني دقائق في الأغلب، منحت الإذاعة المطربين مساحة مفتوحة، وأفسحت لهم في برنامجها وصلات مباشرة تصل إلى خمسين دقيقة، وكان محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي على رأس الملحنين الذين يمارسون الغناء المباشر في بدايات الإذاعة، ولا شك أن هذا منحهم فرصة التجربة العملية لتطويل الأغنيات وملء مدة الوصلة بعمل واحد طويل يُخرج الوصلة كلها في جو واحد ويستغل المساحة الكبيرة المتاحة، بدلًا من جمع عدة أغانٍ قصار قد لا يكون الرابط بينها إلا استيفاء المدة المطلوبة.
هذا التطور ألقى على القصيدة بأضوائه ومنحها أجنحة محلقة، وأذن ببدء مرحلة ما يمكننا تسميته بـ(القصائد الكبرى). <span class="tooltip">(18)<span class="tooltiptext">السبعة الكبار في الموسيقى العربية 186.</span></span>
يمكننا استعمال المصطلح على مستويين، أولهما مستوى الطول، فبعد أن كانت قصيدة الأسطوانة خلال العشرينيات والنصف الأول من الثلاثينيات لا تتجاوز سبعة أو ثمانية أبيات في الغالب، أنتجت لنا حقبة الإذاعة قصائد يتجاوز طولها الثلاثين بيتًا، وهي قصائد طويلة بحسابات الغناء، كما أن مدتها تقترب من نصف الساعة.
وخلال سنوات قليلة طُورت أشرطة كبيرة تسع المدة المطلوبة، كما سبقها محاولات لتسجيل بعض هذه القصائد من حفلات أم كلثوم على عدة أشرطة، وبفضل هذه التجارب وصلنا كثير من هذه القصائد من نهاية الثلاثينيات والأربعينيات.
لكن المستوى الأهم في "كُبروية" هذه القصائد يتمثل في مضامينها، فلم تعد القصائد المختارة للغناء دائمًا هي القصائد الغزلية والعاطفية التي تتناول الحب بشكل تقليدي أو جديد، بل قفز الغناء خطوات إلى الأمام في اختيار قصائد ذات موضوعات ثقافية، تاريخية أو فلسفية أو دينية أو وطنية، أو قصائد تمزج هذه الشؤون بالشأن العاطفي، وقد سبق محمد عبد الوهاب إلى هذا النوع في النصف الأول من الأربعينيات، من خلال قصائد (الكرنك) و(الجندول) و(كليوبترا) و(دمشق)، ثم كان لأم كلثوم فيها النصيب الأكبر خلال النصف الثاني من الأربعينات وبدايات الخمسينيات حين غنت أمهات الشوقيات النبوية (سلوا قلبي) و(نهج البردة) و(ولد الهدى) ومعها قصائد (النيل) و(رباعيات الخيام) و(مصر تتحدث عن نفسها) و(إلى عرفات الله).
ويمكننا أن نلحق بهذا النوع مطولات شوقي الغزلية لمكانته الأدبية مثل (سلوا كؤوس الطلا) و(مقادير) اللتين غنتهما أم كلثوم في نهاية الثلاثينيات، و(هل تيم البان) التي غنتها أسمهان، كما يمكننا أن نلحق بها أمهات القصائد التراثية التي استدعاها غناء هذه الحقبة مثل (النونية) و(أقرطبة الغراء) لابن زيدون، وقد غنت الأولى فتحية أحمد بلحن زكريا أحمد، والثانية أسمهان ثم صالح عبد الحي بلحن رياض السنباطي، ومثل (أراك عصي الدمع) التي غنتها أم كلثوم بلحن زكريا أحمد عام 1945م، وكل هذه قصائد يمكننا وسمها بأنها كبرى وذات بُعد ثقافي، إما لمضمونها المتجاوز للعواطف إلى موضوعات كبرى، وإما لمكانتها في تراثنا الشعري التي جعلتها بذاتها مادة ثقافية وازنة.
ومن المهم هنا التوقف عند الملامح الهوياتية التي مثلت بالضرورة في بعض هذه القصائد الكبرى، والتي يمكننا القول إنها تمددت ظلًّا لجدل هوياتي ساد مصر في حقبة ما بعد سقوط الدولة العثمانية وقيام ثورة 1919م
إذ سقطت الدولة العثمانية بما كانت تمثله من رابطة الخلافة، وقامت ثورة 1919 تبحث عن هوية مصر في ذاتها على مبدأ (مصر للمصريين) واعتمادًا على الوحدة الوطنية بين عنصري الشعب المصري (المسلمين والأقباط)، وكان لاكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 بما مثله من كشف أثري ضخم وفارق، أثره في تغذية الروح الوطنية المصرية التي تشكلت عند بعض المصريين في هوية مصرية لا تعبأ كثيرًا بانتماءات المحيط العربية والإسلامية، خاصة وقد سبق استقلال مصر الرسمي عام 1922 وقيام ملكيتها الدستورية عام 1923 استقلالَ معظم الدول العربية التي لم تكن قد أصبحت فاعلة بعد في هذا المحيط.
وكان لقيام هذه الدولة الحديثة أثر آخر في البحث عن هوية حديثة متصلة بأوربا، وهو اتجاه كان وجوده منطقيًّا في ظل دولة تشكلت في وجود الاحتلال ونُخب سياسية وثقافية درست وتشكل وعيها في فرنسا وبريطانيا قبل إنشاء جامعة حكومية مصرية، ونشأ من هذا كله جدل صامت أحيانًا وناطق أحيانًا بين دعاة المصرية ودعاة التفرنج ودعاة الهوية العربية والإسلامية الجامعة.
لكن المؤسسات التي نشأت في الأعوام الأولى من عمر الدولة الحديثة وعلى رأسها الجامعة ومجمع اللغة العربية ومعهد الموسيقى العربية الملكي والإذاعة، حملت علوم التراث العربي ومظاهر الآداب والفنون العربية إلى الواجهة، وجعلت في يديها النصيب الأكبر من القوة الناعمة، وسلحتها بآلات الحداثة بعد أن أثقلتها ثيابها الأزهرية التراثية، وكان لازدحام القاهرة بالنخب السياسية والثقافية من البلاد العربية التي ما زالت تحت الاحتلال، أثره في تثبيت مصر مركزًا للمحيط العربي والإسلامي وتثبيت هويتها العربية تثبيتًا لا يهزه الجدل، واستمر الأمر في صعود حتى بلغ ذروته بإنشاء الجامعة العربية عام 1945، قبل أن يعرف ازدهاره وفورته الساحقة في الحقبة الناصرية.
وكان للشعر العربي في هذه الحقبة حظه من التأثر بكل هذه التيارات، خاصة مع سيادة المدارس الرومانسية المتسلحة بروافد معرفية أوربية قوية، وانعكس هذا التأثر على القصائد الثقافية المغناة، خاصة مع جدل العروبة والتغريب في تطوير الموسيقى ذاتها، ولعب عبد الوهاب وأم كلثوم -بشكل متعارض غير مقصود في الغالب- دورًا في حسم هذا الجدل وتثبيت الهوية العربية، بل وتثبيت هوية مصرية لا تتعارض معها ولا تتجاهلها.
فبينما جنحت أعمال عبد الوهاب الأولى من هذا النوع باتجاه الأصول الفرعونية (الكرنك)، والثقافة الأوربية (الجندول) التي تحملنا إلى فينيسيا الإيطالية، والمزج بينهما كما في (كليوبترا) وهذه الأعمال الثلاثة أشهر ما قدم عبد الوهاب من القصائد الكبرى، فإن قصائد أخرى أداها مثل (دمشق) و(فلسطين) لم تبرح محيطها العربي الذي يُثبت هويته بالضرورة.
لكنّ أم كلثوم -بنشأتها المشيخية ومزاجها التراثي- حسمت هذا الجدل في الغناء حسمًا لا يقبل الرد حين غنت، وفي سنوات متتابعة، أمهات قصائد شوقي في المديح النبوي (سلوا قلبي) و(نهج البردة) و(ولد الهدى) لتثبّت الهوية العربية والإسلامية من رحم الحاضنة الدينية، وبألحان السنباطي الكلاسيكية التي تسقي المستمع مزاجًا عربيًّا صرفًا، وأعقبتها بـ(رباعيات الخيام) ذات الأصول الفارسية، و(إلى عرفات الله)، ولم تجرح هذه النتيجة بقصيدتي (النيل) و(مصر تتحدث عن نفسها) لأن هوية وطنية مصرية داخل الهوية العربية لا تتبرأ منها ولا تتعارض معها كانت قد ثبتت بحوادث السياسة وبالأغاني السابقة، كما أن كلاسيكية شعر شوقي وحافظ في القصيدتين أبقت المزاج العربي مسيطرًا عليهما غير مزاحَم بسواه، هذه النتائج كلها ثبتت أركانًا راسخة لقصيدة ذات هوية عربية واضحة، ستقوم بدور كبير في الدعاية لهذه الهوية في الحقبة التالية لثورة يوليو 1952م.
بدأنا هذه الحقبة بالعام 1954 لأن العام السابق كان فارقًا في مسيرة أم كلثوم وعبد الوهاب كما ذكرنا وختمنا به الحقبة السابقة، لكنّ بدايات الخمسينيات عمومًا كانت محطة فاصلة في تاريخ الغناء وتاريخ كل شيء في العالم العربي، فقد شهدت انطلاق عجلة التاريخ الفني لمطربين كان لهم أثر فني واسع لا في ربع القرن اللاحق فحسب، بل إلى يومنا هذا، فعبد الحليم حافظ سجل أول أعماله للإذاعة المصرية عام 1951، وفي العام التالي 1952 سجلت فيروز أولى أغنياتها في إذاعة دمشق، وفي العام نفسه قامت ثورة يوليو التي غيرت وجه كل شيء في العالم العربي لعقود، وكان الغناء في طليعة المجالات المتأثرة بها، وخلال سنواتها الأولى صعّدت ثورة يوليو أجيالًا جديدة من المطربين والمطربات كان لها الاستحواذ الكامل على ذوق الجمهور لربع القرن التالي، في صدارتهم عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد ونجاة ووردة، فيما توارت بقسوة -وإلى الأبد- أجيال بلغت ذرى النجومية خلال عقود العصر الملكي، كإبراهيم حمودة وعبد الغني السيد وكارم محمود وفتحية أحمد ونادرة ونور الهدى، بالإضافة إلى صاحبة النجومية الاستثنائية ليلى مراد.
واخترنا لختام هذه الحقبة عام 1977 الذي شهد وفاة عبد الحليم حافظ، مسبوقًا بوفاة أم كلثوم عام 1975، وهما رحيلان أفسحا الطريق لظهور أنماط جديدة من الغناء جعلت ما بعدهما مختلفًا عما قبلهما، وهو تاريخ يقترب من العام 1979 الذي انفصلت فيه فيروز عن الأخوين رحباني لتبدأ حقبة جديدة في غنائها أيضًا، وفي المجمل فإن تواريخ بداية وختام الحقبة التي ندرسها في هذا المحور تتفاوت عدة سنين بين مطرب وآخر، وسنلتزم مع كل مطرب بالتاريخ الذي يناسب بداياته وتحولاته.
بلغت أم كلثوم كل ما يجمح إليه الخيال من مجد وشهرة قبل ثورة يوليو 1952، فقد صارت مطربة مصر الأولى غيرَ منافَسة منذ عام 1928، وأخلى لها محمد عبد الوهاب ساحة الغناء في الحفلات العامة منذ اعتزلها في أواخر الثلاثينيات، فارتفعت بذلك فوق منافسة كل مطرب ومطربة، وتأكدت مكانتها مع نشأة الإذاعة حين بدأت تقليد الحفلات الشهرية المنقولة من المسارح العامة في عام 1937 فصار سماعها في أول كل شهر تقليدًا راسخًا للمستمع العربي من المحيط إلى الخليج، وحازت لقب (كوكب الشرق)، وحملت نيشان الكمال وأضحت صاحبة العصمة، وغنت أمهات القصائد الدينية والوطنية حتى لم يعد للجمهور ارتباط عضوي بمطرب ولا مطربة سواها.
وبرغم هذا كله فقد مثلت ثورة يوليو 1952 رافعة جديدة لمجد أم كلثوم، الثورة التي أراد نظامها في أيامه الأولى إسكات صوت أم كلثوم باعتباره من مخلفات العصر الملكي، سرعان ما انتبهت لقيمة هذا الصوت المتجاوز للعصور والأنظمة، وأعادته إلى الواجهة واحتفلت به كما يليق، واحتفلت أم كلثوم أيضًا بمنجز ثورة يوليو كما يليق فغنت لها وصارت أهم أصواتها الفنية.
وكان لتبني جمال عبد الناصر للقومية العربية مع دعم حركات التحرر الوطني التي نشطت في عديد من البلاد العربية والإفريقية في أعقاب حركة يوليو أثره في توسيع دائرة الجمهور العربي المعني بالمنتج الثقافي والفني المصري وفي صدارته أم كلثوم.
ومنذ عام 1954 صار لأم كلثوم زيارات فنية شبه سنوية لسورية ولبنان، تحيي فيها حفلاتها في دمشق وبيروت، تكررت في أعوام 1955 و1957، و1958 مع الوحدة مع سورية، ثم 1959، ثم اقتصرت على لبنان بعد الانفصال عام 1961، ثم اتسعت لتشمل الكويت عام 1963، وخلال سنوات المجهود الحربي بعد نكسة 1967 اتسعت زياراتها لتشمل المغرب وتونس والسودان وليبيا وأبو ظبي، ومثلت حفلاتها في عواصم هذه البلدان ومدنها شهادات حية لشعبية أم كلثوم الجارفة في العالم العربي، ومثل إجماع العرب عليها أحد أقوى مظاهر وحدتهم التي ظلوا ينشدونها.
وقد رصدنا لأم كلثوم في هذه الحقبة 36 قصيدة بحسب أرشيف منتدى سماعي وكتاب أم كلثوم لإيزيس فتح الله ومحمود كامل <span class="tooltip">(19)<span class="tooltiptext">أم كلثوم لإيزيس فتح الله ومحمود كامل.</span></span>، بلغت ذروة سنامها شهرةً ألحان السنباطي الطويلة (أغار من نسمة الجنوب)، (ذكريات)، (ثورة الشك)، (قصة الأمس)، (أراك عصي الدمع)، (الأطلال)، (حديث الروح)، (أقبل الليل)، (من أجل عينيك).
فضلًا عن قصائد قصار دينية ووطنية من تلحينه أيضًا، وألحان أوبريت رابعة العدوية التي اشترك فيها رياض السنباطي ومحمد الموجي وكمال الطويل، وخرجت عام 1955 تحمل طابعًا صوفيًّا مميزًّا لوحدة موضوعه وسلطة الدراما عليه، فضلًا عن وحدة شاعرها، وقصيدتين طويلتين من تلحين محمد عبد الوهاب هما (هذه ليلتي) و(أغدًا ألقاك)، وأخيرًا بضع قصائد في مناسبات وطنية من تلحين الموجي وعبد الوهاب وبليغ حمدي.
وأول ملامح هذه الحقبة حين نقارنها بحقبة أم كلثوم السابقة هو اضمحلال سيطرة رامي وشوقي على القصيدة المغناة، وانقضاء مرحلتهما، وهو ما سينعكس على بقية المطربين أيضًا، فلم تغن أم كلثوم لشوقي في هذه الحقبة إلا قصيدة واحدة، هي قصيدة الجلاء (بأبي وروحي الناعمات الغيدا) عام 1954، وكأن قيام ثورة يوليو والتحول إلى الجمهورية وما صحبهما من تغيرات سياسية واجتماعية في مصر والعالم العربي، كل ذلك أبعد شعر شوقي المتوفى عام 1932 عن مناسبة الوقت، وجعله من تراث الماضي الذي كان يصلح للغناء في الماضي، أما العهد الجديد فأولى به شعر يتكلم باسمه ويكتبه شعراء منه يعيشون تحولاته وينفعلون لتغيراته.
ويمكن أن ندرج في أسباب هذا الانصراف عن شعر شوقي التشبع بشعره المغنى في الحقبة الملكية، فقد أكثر عبد الوهاب وأم كلثوم من غناء قصائده طيلة ثلاثة عقود حتى تشبع الذوق منه وبات يبحث عن غيره رغم إقراره بفضله وتقدمه، وكان الإقبال على شعر شوقي منطقيًّا خلال الحقبة الملكية لأن الاحتفاء الرسمي به كان كبيرًا، لكثرة مدائح شوقي للملك فؤاد وأسرة محمد علي، وليس لدينا معلومة تقول إن هذا الأمر حفز مؤسسات نظام يوليو على تحجيم الاحتفاء بشوقي، لكن نُسخ ديوانه التي طُبعت بعد 1952 شهدت حذفًا واسعًا لأبياته التي مدح فيها أفرادًا من أسرة محمد علي، وعلى كل فقد كان ما بعد 1952 عهدًا جديدًا يحمل تغيرات صاخبة وطاغية تؤثر صوتها على أصوات السابقين. وقد ظلت أم كلثوم تغني نبويات شوقي التي قدمتها في الأربعينيات حتى عام 1959، لاستعلائها على التغيرات الظرفية وحلولها محل الإجماع من وجدان العرب والمسلمين، ثم انقطعت عن غنائها لكثرة ما تتابع عليها من الجديد، لكنها قطعت هذا الانقطاع لمرة واحدة حين عادت فغنت (سلوا قلبي) قبل نكسة 1967 بثلاثة أيام.
وأما أحمد رامي فقد غنت من شعره في هذه الحقبة 4 قصائد فحسب، هي (نشيد الجلاء) و(أغار من نسمة الجنوب) عام 1954، و(ذكريات) عام 1955، و(أقبل الليل) عام 1969، فضلًا عن عدة أغانٍ عامية انخفضت كثافتها فجأة بعد عام 1961، ليكون مجموع ما غنت له من فصيح وعامي في عقدها الأخير ثلاثة أعمال فحسب.
ويمكننا الجزم بأن التشبع كان له دور أكبر وأشد وضوحًا في تراجع استحواذ رامي على صوت أم كلثوم في هذه الحقبة، فخلال الحقبة السابقة (1923-1953) لم تُغن قصائد لغيره من الشعراء الأحياء إلا في استثناءات نادرة، بينما ظلت كلماته مصاحبة لصوتها منذ بدايتها بقصائد الأسطوانات القصار مرورًا بمطولات عصر الإذاعة فضلًا عن أغاني الأفلام، وإذا استصحبنا كثافة حضور رامي في غناء أم كلثوم بالفصحى والعامية معًا تبينّا مدى التشبع الذي أصاب المستمع من شعر رامي.
ومع إقرارنا هنا بفضل رامي غير المسبوق ولا الملحوق في الارتقاء بالكلمة المغناة والتحليق بها من إسفاف غناء الملاهي والمراقص إلى ذُرى عشق إنساني راقٍ لم يكن ليبلغه سواه، فإن من المهم هنا تذكر أن رامي كان شاعرًا عاشقًا يكتب من موقف عاطفي واحد وإن اختلفت مواقفه النفسية، وهذا أوقعه في تشابه المعاني وتكرار الألفاظ بصورة لافتة، فمن يكثر استماع أغاني رامي التي كتبها لجميع المطربين يتعود ألفاظ (الهجران) و(الحرمان) و(الجفا) و(الضنا) و(الهوان) و(الوجد) و(السهد) و(الأنين) و(الحنين) و(الشجون) و(الوداد) و(البعاد) و(الخصام) وألفاظًا كثيرة باتت لفرط تكرارها في شعره تبدو قليلة كأن ليس في اللغة غيرها، وهذا كله جعل ما تُفضي إليه من المعاني كثير الحضور متشابه الأردية في شعره، ما أكد التشبع منه، وحمل أم كلثوم على إيلاء حصة كبيرة من صوتها لغيره من الشعراء الأحياء.
إحصائيًّا يتصدر طاهر أبو فاشا (1908-1989) هذه الحقبة الكلثومية بثماني قصائد، سبع منها كُتبت ضمن الأوبريت الإذاعي (رابعة العدوية) الذي كتبه عام 1955 وغنته أم كلثوم ومثلته سميحة أيوب، والثامنة أنشودة الجيش عام 1958. ورغم هذه الصدارة العددية، ورغم روحانية هذه القصائد وخصوصية موضوعها وروعة كلماتها وألحانها فإنها بالتأكيد ليست في صدارة القصائد الكلثومية، لأنها لم تُغنّ في الحفلات، لكنها محطة مهمة في مسيرة أم كلثوم، لأنها المجموعة الوحيدة من أغاني أم كلثوم التي أُنجِزت معًا لعمل درامي تاريخي، وهو العمل الدرامي الوحيد الذي شاركت فيه خلال هذه الحقبة، بعد أن انقطعت عن تمثيل الأفلام منذ عام 1947، فحملت هذه القصائد صفة الدرامية وحديثها جميعًا بصوت الشخصية (رابعة العدوية) ووقوعها مواقعها من السياق الدرامي للعمل الكبير الذي تنتمي إليه.
بعده يحضر صالح جودت بثلاث قصائد دينية ووطنية، ولا يحضر شاعر بعده بأكثر من قصيدتين، ولعل الشاعر الأقوى حضورًا بنصّه في هذه المرحلة هو إبراهيم ناجي (1898-1953) الذي غنت له أم كلثوم القصيدة العربية الأشهر في عالم الغناء (الأطلال) عام 1966، وقصيدة وطنية هي (أجل إن ذا يوم) عام 1969.
وكان ناجي الوحيد الذي غنت له بعد موته في هذه الحقبة، وغنت للشعراء الأحياء أحمد فتحي، ومحمود حسن إسماعيل، وعبد الفتاح مصطفى، وعزيز أباظة، ومحمد الماحي، وصالح جودت، وكامل الشناوي.
وشهدت هذه الحقبة حضورًا قويًّا ومنوعًا لشعراء الأقطار العربية على صوت أم كلثوم، فغنت للشاعر السعودي الأمير عبد الله الفيصل قصيدتين هما (ثورة الشك) 1958 و(من أجل عينيك) 1972، وغنت في الستينيات قصيدتين عن الكويت للشاعر الكويتي أحمد العدواني، كما غنت قصيدتين وطنيتين للشاعر السوري الأشهر نزار قباني عامي 1969 و1970، وغنت للشاعر اللبناني جوروج جرداق قصيدته الشهيرة (هذه ليلتي) عام 1968، وللشاعر السوداني الهادي آدم (أغدًا ألقاك) عام 1971، فيما حضر الشعر التراثي حضورًا شرفيًّا وحيدًا عبر (أراك عصي الدمع) التي غنتها أم كلثوم للمرة الثالثة -أي بلحن ثالث- عام 1964.
لم يغن محمد عبد الوهاب كثيرًا من القصائد في هذه الحقبة، إذ اعتزل الغناء بصحبة فرق موسيقية عام 1963، وإن بقي يسجل بعض ألحانه الجديدة على العود فيما بعد، وقد قدم عام 1954 قصائد (القيثارة) لإبراهيم ناجي، و(النهر الخالد) لمحمود حسن إسماعيل، و(الروابي الخضر) لأحمد خميس، كما سجل في سنوات الستينيات بعض القصائد تسجيلات خاصة بصحبة عوده، ما حرمها من الشهرة المطلوبة، لذلك سننصرف سريعًا إلى القصائد التي غناها مطرب هذه الحقبة الأشهر عبد الحليم حافظ.
وقد رصدنا في مشوار عبد الحليم الغنائي 23 قصيدة كان أكثر من نصفها -15 قصيدة- خلال عقد الخمسينيات، وعلى كثرتها فهي الأقل شهرة في تراثه، فقد قدم معظمها في سنواته الأولى قبل شهرته السينمائية، وتعاقب عليها من أغاني أفلامه السينمائية ما استأثر بالشهرة كلها.
لم تحضر في قصائد عبد الحليم الأولى أسماء شعراء بلغوا الصف الأول من الشهرة، فثلاث منها لمصطفى عبد الرحمن (1915-1992) وهو شاعر غنى له عدد كبير من المطربين، وثلاث أخرى لإمام الصفطاوي (1923-2003) وهو شاعر جيد اتجه في نهاية حياته إلى التمثيل، ويحضر شعراء آخرون بقصيدتين وقصيدة، أشهرهم عبد الرحمن الخميسي، ومحمود حسن إسماعيل، ومرسي جميل عزيز، وللأخير أشهر قصائد عقد الخمسينيات التي غناها عبد الحليم (ذات ليلة).
لا يُعزى نسيان قصائد عبد الحليم الأولى إلى سبقها شهرته السينمائية فحسب، بل يمكننا القول إن معظم هذه القصائد كان تجارب عادية في كتابة الشعر الرومانسي على نمط لم يبلغ الذروة الفنية، واستهلكه شيوعه في الغناء منذ الثلاثينيات، فضلًا عن أن كثيرًا منها عُهد بتلحينه إلى علي إسماعيل الذي خاض بها تجارب تجديدية في تلحين القصيدة ابتعدت بها عن المزاج الطربي المعتاد للقصيدة ولم تقترب من التعبير عن معانيها، فلم تصادف النجاح المرجو عند الجمهور.
لكن قصائد الستينيات والسبعينيات على قلتها النسبية حققت نجاحًا مذكورًا في مسيرة عبد الحليم، فقد أداها وصوته في أتم حالات نضجه، واستفادت من شهرته السينمائية السابقة، كما أنها جاءت من تلحين محمد عبد الوهاب ومحمد الموجي فولدت في أبهى حلة لحنية.
خلال عقد الستينيات غنى عبد الحليم ثلاث قصائد من شعر كامل الشناوي (1908-1965) هي (لا تكذبي) و(حبيبها) و(لست قلبي)، وكامل عاشق يائس اشتهر شعره بنفس تشاؤمي واضح، لكن القصائد الثلاث كانت من أفضل ما كتب للغناء دراميًّا، وهو ما أسهم في إنتاج ألحان ناجحة، مع القدرات الطربية والتعبيرية التي أضفاها عليها محمد عبد الوهاب ومحمد الموجي، ولكامل الشناوي قصيدة أشد تشاؤمًا غناها فريد الأطرش في الخمسينيات هي (عُدت يا يوم مولدي).
وبرغم التشاؤم الصادم في شعر الشناوي إلا أنه كان من القوة الفنية والصدق الشعوري والإحكام الدرامي بما يضمن له طلب المطربين ونجاح الملحنين وقبول الجمهور.
كما أعاد حليم في الستينيات قصيدة (لست أدري) لإيليا أبو ماضي التي غناها عبد الوهاب في الأربعينيات.
أما في السبعينيات فقد كانت أشهر قصائده رائعتي نزار قباني (رسالة من تحت الماء) و(قارئة الفنجان)، كما غنى قصيدة (حبيبتي من تكون) للأمير خالد بن سعود، وقصيدة (يا مالكًا قلبي) لأحمد مخيمر.
وربما كانت نجاة الصغيرة أهم من غنى القصائد من المطربات المصريات في هذه الحقبة (بعد أم كلثوم طبعًا) وقد رصدنا لها 14 قصيدة كان أشهرها ثلاثًا لنزار قباني (أيظن) 1960، و(ماذا أقول له) 1965، و(إلى حبيبي) 1973، كما غنت من رباعيات الخيام لأحمد رامي رباعيات أخرى غير التي غنتها أم كلثوم، وغنت لصالح جودت وكامل الشناوي وأحمد مخيمر، وغنت لشعراء غير مصريين كاللبناني جورج جرداق والكويتي علي السبتي، وغنت من التراث قصيدتين لأبي نواس وللإمام الصرصري.
ويمكن تلخيص أهم التغيرات التي طرأت على القصيدة المغناة في مصر خلال هذه الحقبة في عدة ملامح، ذكرنا في صدرها انتهاء سيطرة شوقي ورامي وصعود نجم شعراء آخرين، كما تراجع بشدة الشكل الكلاسيكي للقصيدة العمودية واحدة الوزن والقافية لصالح تنوعات الوزن والقافية التي طورتها المدارس الرومانسية، ونجحت الأخيرة في تصعيد الدرامية عنصرًا بارزًا في تكوين القصيدة، فحتى القصائد التي لم تُنسج نسيجًا قصصيًّا أو حواريًّا من البداية اشتملت على كثير من السرد والحوار، بل إن أم كلثوم رتبت مقاطع (الأطلال) التي انتقتها للغناء بشكل جعلها مشاهد متتابعة من قصة كبرى، وهو شكل يختلف عن صورتها المطبوعة في دواوين إبراهيم ناجي، إذ كان مجموع أبياتها المغناة اختيارًا وترتيبًا من قصيدتين له نُشرتا في ديوانين مختلفين. <span class="tooltip">(20)<span class="tooltiptext">وراء الغمام 64، ليالي القاهرة 49.</span></span>
وقد مكنت هذه الدرامية الملحنين من الارتقاء بالتعبير اللحني درجات عالية، وإنتاج ألحان تقص وتحكي بانتقالاتها النغمية، كما أتاحت للجمهور التحامًا أشد وثاقًا بالقصيدة التي باتت حكايات يعيشها ومشاهد يراها، لا مجرد معانٍ يتلقاها.
ومن الجدير بالذكر في هذه الحقبة ذلك الغياب شبه التام لقصيدة التفعيلة عن القصيدة المغناة في مصر حتى أواخر السبعينيات، فبرغم ظهور موجة التفعيلة في نهاية الأربعينيات، ونشر أول ديوان لها في مصر عام 1953، وسيادتها في الستينيات والسبعينيات، فإنه يبدو أن الوسط الغنائي لم يستوعب شكلها الجديد ولم يجازف بتجربة غنائها، وظلت السيادة للقصيدة العمودية في تنوعاتها الشكلية الرومانسية، وليس في ما ذكرناه من قصائد هذه الحقبة المغناة من قصائد التفعيلة إلا قصيدتا نزار قباني اللتان غنتهما أم كلثوم (أصبح عندي الآن بندقية) و(عندي خطاب عاجل إليك) وقد بقيتا في أسر المناسبة الوطنية أكثر الوقت، وقصيدتاه اللتان غناهما عبد الحليم (رسالة من تحت الماء) و(قارئة الفنجان).
لكنّ ذكر نزار قباني في هذا السياق يستدعي تأسيس حضور كبير له سيستمر منذ أوائل ستينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا، كأهم شاعر عربي استُمد شِعره للغناء في عدد كبير من الأقطار العربية ولاقى دائمًا نجاحًا جماهيريًّا ساحقًا، وسنجد قصائده حاضرة ومتسيدة في المنتج الغنائي للربع الأخير من القرن العشرين والربع الأول من القرن الحادي والعشرين أيضًا.
ولا شك أن لنزار طفرات أسلوبية أكسبته هذه المكانة بين شعراء العصر الحديث، فقد تحرى السهولة في اللفظ والتركيب حتى استطاع الوصول إلى فصحى تشبه كلام الناس اليومي، وبهذه اللغة كتب عددًا كبيرًا من القصائد العاطفية التي نفذت إلى قلب المرأة ومثلت مشاعرها وهي تتحدث بصوتها وأشعلتها وهي تخاطبها، وهذا حقق لأشعاره المغناة انتشارًا واستيعابًا جماهيريًّا لا يقل عما تحققه الأغاني العامية، كما لم يغفل نزار الشأن السياسي والأحداث الكبرى التي عاصرها ومنحها قصائد اكتسبت منها بقاءها بأهمية تلك الأحداث وبقاء آثارها.
كل هذا ضمن لشعر نزار -مقروءًا ومُغنًّى- قاعدة جماهيرية ليست بحاجة إلى كبير ثقافة، كفلت له نجاحًا كبيرًا وبقاء طويلًا.
إذا انتقلنا من مصر إلى الأقطار الشامية فلا شك أن تجربة فيروز مع الأخوين رحباني في لبنان كانت المشروع الغنائي الأشد نجاحًا ولفتًا للأنظار والأسماع، فقد نجح في تشكيل أغنية لبنانية/شامية يسمعها كل العالم العربي، ومد لها جذورًا من التراث اللبناني/الشامي، ومد عليها فروعًا من التطوير الحداثي الغربي أكسبتها شكلًا لا يعد امتدادًا للمشاريع المصرية الكبرى وعلى رأسها مشروع أم كلثوم.
بدأ المشروع الرحباني الفيروزي من إذاعة دمشق عام 1952، وخلال ربع القرن اللاحق خاطب الجمهور العربي بإنتاج شديد الكثرة والكثافة، شديد التنوع على مستوى الكلمات والموضوعات، ما ضمن له من هذا الجمهور شرائح واسعة، وحقق له انتشارًا واسعًا خارج حاضنتيه اللبنانية والشامية. وسوف نتوقف بهذا المشروع في هذه الحقبة عند العام 1979، وهو العام الذي انفصلت فيه فيروز عن الأخوين رحباني فنيًّا وأسريًّا، وإن بقيت أعمالها مع نجلها زياد رحباني في العقدين اللاحقين امتدادًا مؤكدًا للمشروع الرحباني.
بين العامين 1952 و1979 تمكنا من حصر 110 قصائد غنتها فيروز، وهو رقم كبير مقارنة بإحصائيات أي مطرب آخر، إذ يمنحها متوسطًا سنويًّا يبلغ 4 قصائد في السنة، ويمكن رد هذه الكثرة إلى عدة أمور، منها كثرة إنتاج فيروز والرحابنة عمومًا، وفي سنواتهم الأولى خاصة، من أجل نشر مشروعهم الغنائي وتثبيت أركانه في الذائقة العربية، مع ما ساعد عليه شباب القائمين عليه حينئذ من كثرة العمل والإنتاج، ووفر له من الحماسة والحافزات.
ومنها كثرة روافد هذا المشروع، فقد استرفد التراث العربي، والتراث اللبناني الشعبي، والتراث الكنسي، والغناء الغربي، وحركة الشعر المعاصر، وتراث سيد درويش ومحمد عبد الوهاب، فضلًا عن عشرات الحوادث المتلاحقة التي كانت بلاد الشام -موطن هذا المشروع- موطنًا لها وتأثرت بها بشكل مباشر.
وربما كان أهم أسباب هذه الكثرة اعتمادهم للأغنية القصيرة التي لا تتجاوز بضع دقائق، فأغلب إنتاجهم من هذا النوع، وهذا يجعل الأغنية الواحدة لا تستهلك وقتًا طويلًا في إعدادها، ويمكنهم من إنتاج عدد كبير منها في السنة، بخلاف أغاني أم كلثوم الطويلة التي كانت الواحدة منها تحتاج شهورًا لتلحينها وحفظها والتدريب عليها مع الفرقة.
لم يستأثر الأخوان رحباني بقيادة المشروع الفيروزي وبالكثرة الكاثرة من ألحان أغاني فيروز فحسب، بل استأثرا كذلك بأغلبية كلماتها، فقرابة ثلثي هذه القصائد، وتحديدًا 69 قصيدة، من كلمات الأخوين رحباني، وحل الشاعر اللبناني سعيد عقل في المرتبة الثانية، وكان الشاعر الأشد حضورًا في مسيرة فيروز -لاعتبارنا الأخوين رحباني ملحنين مارسا كتابة الشعر- ولعقل في هذه الحقبة 11 قصيدة بصوت فيروز، فيما حضر الأخطل الصغير بخمس قصائد. وأقل من هذا العدد غنت فيروز لشعراء آخرين مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإلياس أبو شبكة ورشيد معلوف ورفيق خوري وقبلان مكرزل وعلي بدر الدين وبولس سلامة، فيما غنت بعض الأعمال التراثية للصمة القشيري وعمر بن أبي ربيعة وأبي نواس وابن جبير والحصري وابن سناء الملك وابن الوكيل، وهي أعمال مثلت أبياتًا مختارة من بعض قصائدهم، دُمج بعضها في ما قدمته عام 1972 باعتباره وصلة من الموشحات.
وبما أن الأخوين رحباني هما صاحبا مشروع فيروز وصانعا أنموذجه، وهما المستأثران بكتابة ثلثي ما غنت من الشعر الفصيح خلال فترة عملهم معًا، فإنهما من هذه الجهة يستحقان الوقفة الأطول هنا.
بادئ ذي بدء ففي حدود النصوص المغناة لسنا أمام شاعرين، بل أمام ملحنين يجيدان كتابة الشعر، ويفعلان لأغراض التلحين والغناء، فالنصوص مكتوبة بنيّة الغناء بشكل واضح، وصياغة أكثرها لا تصلح إلا للغناء، وتتخذ بِنى عروضية تخدم التلحين وتنبني في بعض الأحيان عليه، حتى إن بعض شطراتها لا تتزن إلا في اللحن، وهذا كله يجعلنا أمام قصيدة لم تُكتب لتُقرأ، بل كُتبت لتُلحن وتغنى. وفي حدود الغرض الذي كتبا من أجله فقد نجح الرجلان.
يميل الأخوان غالبًا إلى الكتابة على الأوزان القصار من مجزوءات البحور، وينوعان بينها في القصيدة الواحدة، وأحيانًا في البيت الواحد، بحيث يكون صدره مجزوء بحر، وعجزه مجزوء بحر آخر، مع التنويع بين الشطرين والثلاثة في البيت/السطر الشعري، والتغيير المستمر في القوافي. وقد يصلان في بعض المقاطع إلى بنية غير منتظمة للأبيات/السطور، ما دامت ستؤدي بهم إلى النهاية المخططة للأغنية.
يمكننا التمثيل هنا بقصيدة (أبحث عنك دوما) التي غنتها فيروز بكلمات وألحان الأخوين عام 1955، إذ تبدأ بأربعة أبيات على إحدى الصور المجزوءة من بحر الرجز أولها
"أبحث عنك دومًا .:. يا حلميَ المختار"
ثم يأتي بيتان صدرهما من مجزوء المتقارب وعجزهما من صورة الرجز السابقة، أولهما
"أتيت الحقول البعيدة .:. وطفت في الجنان"
ثم بيتان صدرهما من المجتث وعجزهما من نفس صورة الرجز، أولهما
"ذكرت أنيَ حيرى .:. وليس لي أليف".
وهكذا تتعاقب الصور العروضية المتنوعة لا في القصيدة فحسب، بل في البيت الواحد، ويجمع هذه الصور القِصر الذي كانا يتحريان الكتابة به.
يتطور الأمر في قصيدة (خبروني يا أيها الرعاة) إلى أن نجد مطلعها:
خبروني يا أيها الرعاةُ .:. أين يرعى قطيع ساحري
كيف أمضي والربى موحشاتُ .:. ذاب قلبي وتاه ناظري.
الصدر الأول وزنه (فاعلاتن مستفعلن فعولن)، والصدر الثاني على وزن المديد (فاعلاتن فاعلن فاعلاتُ)، أما العجزان فعلى صورة مطورة من الخفيف (فاعلاتن مفاعلن فعو) ولا يتزن هذا المطلع في الأذن إلا باللحن.
أما من حيث الموضوعات والأفكار فقد تميز شعر الأخوين رحباني كزجلهم بالاستمداد من البيئة والطبيعة اللبنانية، والهروب إلى الطبيعة ومفرداتها، مع أثر واضح لأنفاس الشعر المهجري.
أما أهم الشعراء حضورًا بصوت فيروز بعد الأخوين فكان بالتأكيد سعيد عقل وهو أحد أبرز الشعراء اللبنانيين في القرن العشرين، وكتب أغانيه على بحور الشعر الشائعة، وأكثر ما غنت له فيروز كان موضوعه عن المدن والبلدان (مكة وسورية ودمشق وبيروت).
ولعل التطور الأبرز الذي طرأ على لحن القصيدة الفيروزية كان أثرًا متأخرًا للتطور الرومانسي في القصيدة، إذ كما ابتعدت القصيدة الرومانسية الحديثة عن الجزالة الكلاسيكية لصالح تعبير عميق عن نفس شاعرها لا يطغى جماله على معناه، ابتعدت الأغنية الفيروزية عن الامتلاء الطربي لصالح تعبير جديد ببناء لحني رقيق وحديث ليس الطرب في صدارة أولوياته.
ربما كان وديع الصافي (1921-2013) أهم صوت لبناني جدير بالتوقف عنده وعند ما غنى بعد فيروز، وإذا تجاوزنا انتشار فيروز الجماهيري بفضل المشروع الرحباني فوديع الصافي بلا شك هو أهم صوت لبناني على الإطلاق، بجبروت قوته ومساحته الشاسعة مع قدرته البارعة على التعبير والتأثير والتطريب، وقد وقف بنجاح على نقطة المنتصف بين كل التيارات الغنائية السائدة في عصره، فهو ابن الجبل وصوته الذي نشر أشكال الغناء الشعبي والفلكلوري في لبنان وطرّب بها، وهو بصوته القوي الواسع المساحة مطرب كلاسيكي من الطراز الأول يجيد استعمال التقنيات الكلاسيكية في الإطراب وإن لم يغرق في الأشكال الكلاسيكية من الأغاني، كما كان له سهمة في المشروع الرحباني التجديدي عبر مشاركته فيروز الغناء في بعض أغانيها وأوبريتاتها، وفي المجمل كان ورقة رابحة للجميع دون أن يخسر أيًّا من عناصر تفرده مطربًا.
وقد رصدنا له 30 قصيدة منها نحو 10 قصائد تراثية للإمام الشافعي والمتنبي والمعري وابن زيدون والبهاء زهير والبرعي وابن هردوس، فيما كان باقيها لشعراء لبنانيين معاصرين مثل إيليا أبو ماضي ومصطفى محمود القعقور وجورج جرداق وأنطوان عون.
والحق أن قدرات وديع الصوتية جعلته يستعصي على التنميط في أسلوب واحد لأداء القصيدة، ومنحته براح الارتجال اللحني في كثير منها، وكان الحضور الفعال للطرب الجامع بين كل ما غنى.
وقد امتدت رحلة وديع الصافي في الطرب نحو سبعين عامًا منذ أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين حتى أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وفي كل هذه الرحلة لا يمكننا رصد تحولات فارقة على مستوى اللحن والكلمة المغناة بين مرحلة ومرحلة، لأن احتفاظ الرجل بإمكانات صوته حتى نهايات الرحلة مكنه من الاحتفاظ بطريقة أدائه الجبارة التي أحبها الناس واجتمعوا عليها، بل وظل يغني كثيرًا من أغانيه المشهورة لعقود دون أن تفقد صلاحيتها لإعادة التقديم.
في سورية يُعد صباح فخري (1933-2021) أهم صوت حاز مساحة واسعة من شغف الآذان العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، نشأ في مدينة حلب حاضنة الغناء العربي الكلاسيكي في بلاد الشام، وتمتع بصوت جبار القوة والمساحة، فضلًا عن قدرة مذهلة على الأداء لساعات ممتدة بلغت 10 ساعات أحيانًا.
وقد انتمى صباح فخري إلى تراث الطرب الكلاسيكي الذي اشتهرت به حلب من موشحات وقدود وقصائد وما انضم إليها من التراث المصري من أدوار وأغانٍ طربية، وظل الممثل الأشهر والناشر الأبرز لهذا التراث على مستوى العالم العربي، وينتمي هذا التراث إلى عدد كبير من الشعراء والوشاحين القدامى والعثمانيين، وكثير منهم مجهول، كما غنى قصائد لكثير من الشعراء التراثيين كالمتنبي وأبي فراس الحمداني وابن الفارض، ولعل أشهر ما غنى من التراثيات قصيدة مسكين الدارمي (قل للمليحة في الخمار الأسود) كما غنى لعدد من المعاصرين مثل جلال الدهان وعبد العزيز محيي الدين الخوجة وعبد الباسط الصوفي، ويمكننا القول إن صوت صباح فخري صدح أكثر ما صدح بالشعر الكلاسيكي قصيدة وموشحًا، وبقي خير معبر عنهما، وبحكم نمط غنائه الطربي لم يكن لشعر التيارات الحديثة كبير حظ في أوتاره.
شهد الربع الثالث من القرن العشرين ازدهارًا وانتشارًا واسعًا للأغنية السعودية عبر التسجيل وعبر الخروج إلى الأقطار العربية الأخرى، مع تطور ونضج فني تأسس على أشكال الغناء التراثية التي كانت سائدة في المملكة من قبل وخاصة في حواضر الحجاز التي اشتهرت حديثًا بازدهار الغناء كما كانت في العصر الأموي، وكان من أهم هذه الأشكال الدانات والصهبات والموشحات والمجسات وأشكال أخرى تفاعلت أيضًا بحكم الاختلاط الحضاري مع الموروث اليمني والمصري، وكان للقصائد الفصيحة حضور قوي في الأغنية الحجازية التقليدية وخاصة في أداء الدانات، وانتقل كثير من نصوصها إلى غناء المطربين السعوديين المُحدثين.
كما تأسس ازدهار الأغنية السعودية خلال الربع الثالث من القرن العشرين على عطاء كثير من الرواد بدؤوا رحلتهم قبله ونقلوا الأشكال التراثية وبنوا عليها كثيرًا من إبداعاتهم في التلحين والغناء وكان على رأسهم محمد علي سندي ومحمد باجودة وعبد الله محمد وفوزي محسون وصولًا إلى الموسيقار الشهير عمر كدرس (1933-2002)، ومن عباءة هذه الحاضنة الكبيرة من المبدعين خرجت أصوات بارزة أحرزت للغناء السعودي مكانة بارزة عند المستمع العربي في عموم العالم العربي.
ويُعد طلال مداح (1940-2000) الصوت السعودي الأبرز خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وصاحب أول نقلة فارقة في نشر الأغنية السعودية خارج المملكة، حيث غنى على مسارح القاهرة وبيروت وعواصم عربية أخرى وبيعت فيها أسطواناته، كما كان صاحب السبق السعودي إلى التمثيل في السينما عام 1962، وهو قبل كل ذلك وبعده صاحب واحد من أجمل الأصوات التي يكاد يكون مُجمَعًا عليها من قبل السميعة في الوطن العربي.
وفي أرشيف طلال مداح كثير من القصائد والمقطعات التراثية التي انتقلت إليه من الغناء الحجازي القديم عبر المجسات والدانات التي غنى منها الكثير، منها أبيات (تعلق قلبي طفلة عربية) المنسوبة لامرئ القيس، و(أنيري مقام البدر إن أفل البدر) لقيس بن الملوح، و( قف بالطواف) لعمر بن أبي ربيعة، وأبيات (أحمامة الوادي بشرقي الغضا) وهو المطلع الذي نسج عليه كثير من الشعراء التراثيين، وأبيات من قصيدة (أنعم بوصلك لي فهذا وقته) لتقي الدين السروجي ت 693هـ، وأبيات (يا من هواه أعزه وأذلني) للبوسعيدي، و(ترفق عذولي) لأبي بكر العيدروس الحضرمي، وبعض القصائد من مطلع القرن العشرين كالشوقيتين (أبثك وجدي يا حمام) و(لك أن تلوم ولي من الأعذار)، و(سلوها لماذا غير السقم حالها) لعبد الحميد الرافعي، و(بلغوها إذا أتيتم حماها) لبشارة الخوري، وأكثر هذه المقطعات غناها طلال وغيره من المطربين السعوديين باعتبارها تراثًا سعوديًّا عامًّا، وتحفل حفلات طلال وتسجيلاته الخاصة بكثير من المقطعات التراثية التي يصعب حصرها.
وغنى طلال لشوقي أيضًا (منك يا هاجر دائي) بلحن محمد عبد الوهاب، كما غنى لبعض معاصريه من الشعراء مثل السعودي حمزة شحاتة واللبناني سعيد الهندي، وغنى رائعة نزار قباني (متى ستعرف كم أهواك)، وغنى قصائد أخرى لشعراء سعوديين ضمن الأوبريتات والأعمال الوطنية، كان أبرزهم الشاعر غازي القصيبي (1940-2010) الذي غنى له أوبريت (أرض الرسالات والبطولات).
وقد تمتع طلال بصوت هادئ قادر على الأداء اللين المتصرف بين النغم بنعومة بالغة، وهو ما مكنه من أداء الأشكال التراثية أداءً طربيًّا غير زاعق، فحقق لها الشعبية والمسموعية عند الأجيال الجديدة وأثبت قدرة هذه الأشكال على الحياة، ومعها قدرة القصائد التراثية التي حملتها أيضًا. وكانت حفلاته المسرحية باقة منوعة لأشكال الأداء التراثي والحديث التي يقدمها، لذلك لم تكن تخلو من مواويل فصيحة تشتمل على مقطعات من الشعر القديم إلى شعر مطلع القرن العشرين، جنبًا إلى جنب مع أغنياته الحديثة.
ويُعد محمد عبده (1949-) أبرز الأصوات السعودية التي حققت انتشارًا واسعًا على مستوى العالم العربي بعد طلال مداح، بمسيرة غنائية بدأت منذ منتصف الستينيات وما زالت مستمرة حتى الآن، وفي رصيده قصائد ومقطعات تراثية مثل (ناحت على غصنها الزاهي)، ورائعة أبي فراس (أراك عصي الدمع)، و(قف بالطواف) لعمر بن أبي ربيعة) و(أسكان الحمى) لمحمد بن حسين الحمزي، و(ألا دمع عيني من فراقك ناظر) للحاجري، ومن الشوقيات (ذاد الكرى) و(روحي فداه)، فضلًا عن قصائد لشعراء سعوديين معاصرين مثل الأمير عبد الله الفيصل وطاهر زمخشري وغازي القصيبي، وله تجربة مهمة في غناء واحدة من أهم روائع شعر التفعيلة الذي ما زال مستبعدًا بالجملة من اختيارات المغنين، هي (أنشودة المطر) لبدر شاكر السياب، كما غنى في السنوات الأخيرة من شعر نزار قباني (أحلى خبر) و(إني عشقتك) و(في المقهى).
وربما كانت ابتسام لطفي (1951-) أهم مغنية سعودية غنت القصائد خلال الربع الثالث من القرن العشرين وما قاربه، وقد بدأت رحلتها في النصف الثاني من الستينيات واستمر نشاطها وإبداعها إلى عام 1988 قبل أن تنقطع لربع قرن وتعود للغناء عام 2013.
وقد حظيت في حقبتها الأولى بدعم من الشاعر الكبير أحمد رامي رفيق صوت أم كلثوم، وكان على قناعة كبيرة بصوتها وموهبتها، وقدم لها من أشعاره (ردك الله سالمًا) و(بُعد الحبيب) و(لوعة) وغنتها بألحان كبار الملحنين المصريين رياض السنباطي ومحمد الموجي وأحمد صدقي، ولم يُعرف عن أحمد رامي أنه قدم هذا الدعم لمطربة أخرى من جيلها. كما غنت من شعر إبراهيم ناجي قصيدة (ساعة لقاء)، كما غنت لشعراء سعوديين معاصرين مثل طاهر زمخشري وسعد البواردي، والشاعر اليمني المقيم في السعودية أحمد شريف الرفاعي، ومن التراث غنت (نالت على يدها) ليزيد بن معاوية، و(أفديه إن حفظ الهوى) لابن النبيه، و(والله ما اخترت الفراق) لشمس الدين الكوفي.
وفي الجملة تتسم خريطة القصائد المغناة في المملكة العربية السعودية خلال الحقبة المستهدفة وما قاربها بحضور قوي للنصوص التراثية من خلال الأشكال الغنائية التراثية التي استمرت حية ومطلوبة من المستمعين، كما أن هذا الحضور ازداد ثراءً عبر غناء المقطعات والأبيات ذوات العدد، الأمر الذي مكن المغني من جمع قصيدتين في العمل الواحد في كثير من الأحيان.
في العراق كان ناظم الغزالي (1921-1963) أبرز صوت أحرز شعبية مذكورة عند المستمعين في عموم العالم العربي، وله عدد من القصائد المشهورة التي كان يغنيها غالبًا في صورة الموال، وأغلبها من الشعر التراثي، ومن أشهرها (عيرتني بالشيب وهو وقار) للخليفة المستنجد بالله العباسي، و(أقول وقد ناحت بقربي حمامة) لأبي فراس الحمداني، و(قل للمليحة) لمسكين الدارمي)، و(يا راهب الدير) لماني الموسوس، كما غنى من الشعر الرومانسي المهجري (أي شيء في العيد أهدي إليك) لإيليا أبي ماضي.
في ليبيا يبرز اسم الفنان حسن عريبي (1933-2009) مؤسس فرقة المالوف والموشحات في الإذاعة الليبية عام 1964 وكان له سُهمة بتلحين وغناء عدد كبير من النصوص الفصيحة كان أكثرها من الموشحات الشائعة في الغناء التراثي، كما شمل إنتاجه بعض القصائد التراثية المشهورة التي صار لحنه وأداؤه علَمًا عليها، مثل القصيدة المشهورة بالمنفرجة لابن النحوي التوزري، وقصيدة (غيري على السلوان قادر) لبهاء الدين زهير.
وفي الجملة فقد احتفظت القصيدة التراثية بحضور قوي في معظم الأقطار العربية، وازدادت كثافة هذا الحضور في البلدان التي احتفظت فيها أشكال الغناء التراثية بحضور قوي أمام الأشكال الحديثة فحفظت معها حضور نصوصها في الواجهة.
وربما كان الملمح اللافت في هذه الحقبة التي مثلت في الحركة الشعرية عصر ازدهار قصيدة التفعيلة وتراجع القصيدة العمودية أن تلك الأخيرة ظلت مستحوذة على القصيدة المغناة، فيما لم تدخل قصيدة التفعيلة عالم الغناء إلا على استحياء وفي حالات معدودة، ولا شك أن جدة شكل التفعيلة وعدم ألفة صورتها الموسيقية غير المنتظمة مثلت حاجزًا بينها وبين الملحنين والمغنين الذين يميلون بطبيعتهم إلى الصور الموسيقية المنتظمة، كما أن قصيدة التفعيلة ببداياتها الثورية المنقلبة على الشكل العمودي السائد قد أحرزت عداوة المحافظين وحوربت منهم، وكان كثير من هؤلاء المحافظين قريبين إلى عالم الموسيقى والغناء مؤثرين فيه، وبشكل عام كوّن شعراء التفعيلة جماعات و(شِللًا) أدبية غير قادرة على الاختلاط بجماعات المحافظين و(شِللهم) التي كانت نافذة في عوالم الملحنين والمغنين.
وثمة سبب ثالث لا نستطيع إغفاله، هو أن كثيرًا من تجارب التفعيلة صاحبها تجديد واسع الخطو في المضامين والأساليب، أكسبها قدرًا من الغموض، وجعلها تفقد قدر الوضوح والمباشرة اللازمين لمخاطبة الجمهور العادي، وهو الجمهور الذي يستهدفه الغناء، وقد يكون من بينه المغنون والملحنون أنفسهم، فأحجموا عنها خوفًا من إحجام الجمهور، أو عجزًا عن تذوقها بالأساس، فلم تستطع قصيدة التفعيلة إحراز مساحة كبيرة من أرض القصيدة المغناة، وظلت حبيسة الدواوين والمجموعات الشعرية.
تبدأ هذه الحقبة بدايات فارقة تجزم أن الغناء فيها لا بد سيختلف عما سبق، وسيتجه نحو تغيرات جذرية عميقة، وستكون هذه التغيرات حتمًا محتومًا إذ تبدل روادًا برواد وصانعين بصانعين وجددًا بقدامى، وكان لا بد لهؤلاء الجدد من جديد يأتون به، وكان لا بد لأولئك القدامى من قديم يذهب معهم.
بدأت هذه الحقبة بدايات درامتيكية تنبئ بقسوة التغير، وفاة أم كلثوم عام 1975، وفاة عبد الحليم حافظ عام 1977، انفصال فيروز عن الأخوين رحباني عام 1979، وهي تغيرات لم تعنِ فقط غياب صوت أو صوتين وملحن أو ملحنين، بل مثلت وفاة أم كلثوم وعبد الحليم انكسار العمود الفقري لنمط الغناء الطربي التعبيري الذي ساد في مصر قرابة نصف قرن، ولم يكن بمقدور من بقي من مطربي هذا اللون ومطرباته ملء الفراغ الشاسع الذي وجدوا أنفسهم أمامه، وآذنهم بظهور أنماط جديدة من الغناء ستأتي بشعرائها وملحنيها، فكان من النتائج الطبيعية لهذا التغير تراجع محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي عن صدارة المشهد التلحيني، مع انقطاع ألحان الأخوين رحباني عن صوت فيروز الذي أفسح الطريق لنجلها زياد رحباني ليخوض تجارب تجديد واسعة في الموسيقى والألحان.
تطور الغناء بسرعة في اتجاهات حداثية، وأوغل في تيارات من التغريب تطلب ما يلائمها من كلمات خفيفة لا تمثل عبئًا عليها، وكان من الطبيعي ألا تلجأ إلى القصيدة الفصيحة. وضمن تغير عالمي شمل كل شيء تطورت الأغنية نحو السرعة والقِصر، وهما صفتان لم يعد الشعر الفصيح الغطاء اللفظي المناسب لهما، فلم يكن من المتوقع أن تغنى أبيات الشعر الفصيح على إيقاعات غربية سريعة وصاخبة، ولم يتوافر لشعراء تلك الحقبة من إدراك فداحة التغير ما يمنحهم القدرة على سرعة الاستجابة له والتكيف معه بمحاولة كتابة نصوص قصيرة على أوزان أشد قِصرًا وخفةً تستوعبها إيقاعات الغناء الجديد.
بل إن كثيرًا من شعراء تلك الحقبة ابتعدوا عن الجمهور أكثر وتوغلوا بتجاربهم في مسالك غير جماهيرية على مستويي الشكل والمضمون، فحازت قصيدة النثر مساحة واسعة بين أشكال المنتج الشعري، وهي قصيدة تخلو من الموسيقى التي يطلبها الملحن من أجل خدمة إيقاعاته وموازينه وموازيره، ولم يعتدها الجمهور الذي ينسجم مع الوزن ويأنس للقافية ويستمد منها الألفة واللذة.
أما على سبيل المضمون فقد جنح كثير من الشعراء إلى الغموض، وإلى كتابة قصائد ضنينة بالمعاني مكتفية بالإيحاءات والتلميحات، أو مثقلة بالفلسفة والتفلسف، وكل هذا يبتعد بها عن الجمهور، وتنفر عنه الأغنية.
وقد أسهم اتساع هذه التغيرات في تراجع مساحة الشعر من الثقافة العامة مقارنة بما كان عليه الأمر قبل عشرين وثلاثين عامًا، وتزامن هذا مع نضوج فن الرواية وتكاثره من الكُتاب ووفرة منتجه، كل هذا جعل وضع الشعر مجتمعيًّا في حال لا يُحسد عليها، ويصعب أن تخدم نهضة غنائية.
وفوق هذا، ونتيجة لتغيرات اقتصادية وسياسية عالمية، فقد توسع رأس المال الخاص في الشأن العام، ومنه الموسيقى والغناء، وصارت أكثر الأعمال تُنتج مِن قِبل شركات خاصة لا تولي المعايير الثقافة والقيمية اهتمامًا كبيرًا في اختياراتها، ويعنيها أن تُنتج ما يُربحها أكثر.
أمام كل هذا كان من الطبيعي أن تتراجع مساحة القصيدة الفصيحة في الأغنية العربية، وأن يقتصر وجودها على أصوات بقيت من عصور سابقة وحازت لنفسها من الشهرة والشعبية ما يمكنها من الاستمرار في أداء أنماطها الغنائية، أو أصوات حظيت بإمكانات طربية تُكسب غناءها من القيمة ما يجعله فوق النمط الاستهلاكي ومعايير السوق الخالصة.
على أن أهم تطور شهدته هذه الحقبة هو تطور التسويق الذي نشر كثيرًا من التجارب الغنائية خارج بلدانها من وقت صدورها، وجعل الممارسة السماعية غير مقيدة بمنتج القُطر ولا بتراثه، خاصة في مصر والشام والخليج التي أصبحت العلاقة الفنية بينها أشبه بدائرة مفتوحة تنتقل فيها الإشارات بلا عوائق، وهذا سيجعلنا نتناول أهم القصائد المغناة غير مقيدين بحدود الأقطار كما فعلنا في الحقب السابقة.
كانت نجاة أهم مطربة من الجيل القديم في مصر استمرت في تقديم القصائد خلال هذه الحقبة، ولعل أهم ما قدمت قصيدتان عاطفيتان حازتا شهرة كبيرة ومثلتا امتدادًا لقصائدها الناجحة في الستينيات والسبعينيات، هما (أسألك الرحيلا) لنزار قباني عام 1990، وهي آخر ما غنت من شعر نزار وآخر ما لحن محمد عبد الوهاب من شعر نزار، وقصيدة (لا تنتقد خجلي الشديد) للشاعرة الكويتية سعاد الصباح عام 1998.
كما قدمت نجاة عددًا من القصائد الدينية والوطنية، وقدمت قصيدة (الصديق) من شعر عبد السلام أمين، وهي قصيدة اجتماعية في باب من المعاني غير مطروق كثيرًا في غنائنا العربي.
أما فيروز فخاضت في نهاية التسعينيات تجربة تلحينية جديدة مع الملحن السوري محمد محسن، عادت بها إلى القصيدة التراثية، إذ قدمت معه أربع قصائد تراثية هي (لو تعلمين بما أجن من الهوى) لجميل بثينة، و(أحب من الأسماء) لمجنون ليلى، وأبيات (ولي فؤاد إذ طال الغرام به) للبحتري، و(جاءت معذبتي في غيهب الغسق) للسان الدين بن الخطيب، فضلًا عن عمل من شعر بشارة الخوري هو (سيد الهوى قمري). كما قدمت من ألحان زياد رحباني قطعة نثرية لجبران خليل جبران من كتاب النبي، عنوانها (سفينتي بانتظاري).
من الأجيال اللاحقة ربما كانت ماجدة الرومي وكاظم الساهر أهم من غنى قصائد الشعر الفصيح وحظيت من خلاله بشعبية ومسموعية عالية، فقد قدمت ماجدة الرومي بين عامي 1977 و2000 ثلاثًا وعشرين قصيدة فيما أحصينا من أغاني ألبوماتها، وهذا يعني أنها كانت تقدم قصيدة في كل سنة، فضلًا عما غُني في مناسبات ولم يُدرج في ألبومات، وهذا معدل عالٍ في هذه الحقبة التي انصرف المطربون فيها عن القصائد.
تنوعت الروافد الشعرية لقصائد ماجدة تنوعًا كبيرًا، وحفلت بأسماء مهمة، كان على رأسها نزار قباني الذي غنت له قصائد (كلمات) و(مع جريدة) و(طوق الياسمين) وحققت -خاصة من خلال الأولى- نجاحًا جماهيريًّا كبيرًا، كما غنت لأنور سلمان قصيدتين إحداهما (عيناك ليال صيفية) التي أحرزت نجاحًا مشهودًا، والأخرى (حبك) وغنت كذلك لجورج جرداق وفؤاد سليمان وهنري زغيب وحبيب يونس وسعاد الصباح، كما غنت بعض قصائد الأخوين رحباني التي سبق أن لحنها وغناها والدها حليم الرومي.
وكانت الخطوة اللافتة في اختيارات ماجدة الرومي غناء نصوص من قصيدة النثر، وهي خطوة كانت شديدة المجازفة وشاسعة المسافة مقارنة بما استقر عليه الوسط الغنائي وقتئذ من عدم الوقوع في هذه المخاطرة، فغنت لأنسي الحاج (أبحث عني) عام 1994 و(شعوب من العشاق) عام 1996، كما غنت لغسان تويني (القلب المفتوح) عام 1998.
وإذا اعتبرنا القيمة المطلوبة هي الغناء بالفصحى فإن قصيدة النثر جنس صالح للتلحين والغناء بلا شك، ويحتاج فقط إلى ملحن ومطرب يفهمان هذا الجنس الأدبي حتى لو لم يُقرا بشعريته، لكن مشكلة قصيدة النثر التي منعت هذه التجربة من التكرار والانتشار عند مطربين آخرين كانت على الأغلب مضمونية لا شكلية، إذ جنح معظم شعراء هذا النوع إلى ضروب من الغموض والضن بالمعاني تجعلها -لو غُنيت- لا تُخاطب المستمع، وهو ما لا يخاطر به مطرب.
أما كاظم الساهر فقدم بين عامي 1994 و1999 اثنتي عشرة قصيدة استمد ثلاثة أرباعها من أشعار نزار قباني، أشهرها (إني خيرتك فاختاري)، (مدرسة الحب)، (زيديني عشقًا)، (حبيبتي والمطر)، (قولي أحبك)، فيما غنى ثلاثة قصائد لطاهر السلمان ومانع سعيد العتيبة وحسن المرواني، الذي كانت قصيدته (أنا وليلى) واحدة من علامات كاظم البارزة في الغناء.
على عكس الانتقال بين الحقب السابقة، والذي كان متعامدًا على محطات فنية فارقة كظهور مطرب كبير أو وفاته أو انفصاله عن ملحن صنع مجده، وهي محطات تُحتم حدوث تغيرات فنية في الحقبة الجديدة، فإنه ليس في الانتقال من الربع الأخير من القرن العشرين إلى الربع الأول من القرن الحادي والعشرين أي محطات تُعد فارقة بذاتها من الوجهة الفنية، ويمكننا اعتبار العقود الأولى من القرن الحالي امتدادًا طبيعيًّا للعقود الأخيرة من القرن المنصرم، لم يطرأ عليها تغيير إلا توسع الظواهر التي أخذت في الظهور خلال الربع الأخير من القرن العشرين، والتي كان لها يد طولى في انحسار غناء الشعر الفصيح، وكان من أهم تلك الظواهر التي توسعت سيطرة رأس المال الخاص على حركة الإنتاج الفني والبث من خلال شركات الإنتاج الخاصة ثم الفضائيات ثم المواقع والتطبيقات الإلكترونية، وظهور مواقع الاستخدام العام كاليوتيوب والساوند كلاود التي منحت كل إنسان في العالم منبره الإعلامي الذي يملك بحرية كاملة أن يبث منه منتجه. وهما تطوران يبدوان متعارضين في الشكل والتأثير، فبينما يمنح الأول أصحاب رؤوس الأموال الفنية الكبيرة تشكيل المعروض الغنائي كما يريدون وكما تقتضي حسابات الربح والخسارة، بما لهم من إمكانات تسويقية غير محدودة، يفتح التطور الثاني أبوابًا واسعة لكل صاحب منتج فني أن يبثه للناس ويصل إليهم بأقل التكاليف.
ونتيجة لهذه التيارات المتعددة والمتضاربة بحُرية انقسمت الساحة الغنائية إلى شرائح متمايزة بحسب منصات بثها وقدراتها التسويقية، فهناك مغنون كبار ومشاهير في الصف الأول ترعاهم شركات الإنتاج الكبرى وتسارع الفضائيات إلى بث أعمالهم فور نزولها، وكان طبيعيًّا أن مساحة الشعر الفصيح في غنائهم ليست بالكبيرة.
وثمة مغنون آخرون خرجوا من رحم المعاهد الموسيقية لكنهم بدؤوا انتشارهم من المنصات الرقمية والصفحات الفردية ومهرجانات الشارع وفرق الهواة، وكان طبيعيًّا أن يتفاوت المستوى الثقافي والفني لمنتجات هذه الفئة تفاوتًا صارخة يوازي تفاوت الجماهير، وكان من حُسن الحظ أن شريحة من هذه الفئة اختارت الانحياز إلى مستوى ثقافي لا تنزل عنه، جعلته معيارها فيما تختار من نصوص، فغنت به كثيرًا من أبيات الفصحى ونصوصها، والتزمته حتى في اختيارها للكلمات العامية من تراث أو جديد، وحقق كثير منهم نجاحًا جماهيريًّا فرض حضوره فيما بعد على الفضائيات والمهرجانات الرسمية، وحجز لهم -في فئة الشباب خصوصًا- جماهيرية لا تقل عن جماهيرية النوع الأول من المغنين.
السلبية العامة التي تعتري ما يُنتج على كل المستويات أن الكثرة والسرعة جعلتا عُمر النجاح لأي عمل قصيرًا، وباتت الأعمال الفنية كالترندات، إذا راج واحد أعجله آخر، ثم أعجل الثانيَ ثالث، حتى ينسى الناس في آخر الشهر ما كان رائجًا في أوله.
امتدت مسيرة المطرب العراقي كاظم الساهر في غناء القصائد وازدادت عطاء وثراء مع دخول القرن الجديد، فأحصينا له حتى عام 2016 فقط 36 قصيدة، كان لنزار قباني فيها نصيب الأسد، إذ بلغ ما غناه من شعره 27 قصيدة، أشهرها (كل عام وأنت حبيبتي)، (صباحك سكر)، (حافية القدمين)، (إلى تلميذة)، (يوميات رجل مهزوم)، (بريد بيروت)، (حبيبتي)، (من كتاب الحب).
كما غنى كاظم للشاعر الإماراتي مانع سعيد العتيبة أربع قصائد هي (مستقيل)، (أبحث عنك)، (شكرًا)، (تقولين عني)، وقصائد مفردة لشوقي والسياب وفاروق جويدة وحنين عمر.
وقد استطاع كاظم خلال السنوات الأخيرة من التسعينيات والأولى من القرن الجديد تثبيت شعبية كبيرة له مطربًا للقصائد، حتى باتت قصائده تحقق نجاحًا واسعًا عند شرائح من الجمهور لا تستمع إلى القصائد من سواه في الغالب.
وغنت ماجدة الرومي بعد 2000 عدة قصائد أشهرها (أحبك جدًّا) لنزار قباني، و(سوف نبقى) و(بلادي أنا) لسعيد عقل، كما غنت عشر ترانيم مسيحية نثرية في ألبومين مستقلين عامي 2003 و2004.
وخلال هذه الحقبة غنى المطرب السعودي الكبير محمد عبده ثلاث قصائد لنزار هي (أحلى خبر)، و(إني عشقتك)، و(في المقهى)، كما غنى المطرب والملحن السعودي عبادي الجوهر أبيات (نالت على يدها) ليزيد بن معاوية، و(يا همسة) لطاهر زمخشري، و(إليك قيادي) لعبد العزيز خوجة.
المطرب اللبناني مارسيل خليفة ارتبط عضويًّا بشعر محمود درويش (1941-2008)، وكان مارسيل قد بدأ رحلته في منتصف السبعينيات وغنى أعمالًا مثل (أحن إلى خبز أمي)، و(ربتا) لدرويش، و(منتصب القامة أمشي) لسميح القاسم، وخلال سنوات الألفية غنى عددًا كبيرًا من القصائد أكثرها لدرويش، أشهرها (يطير الحمام)، (ونحن نحب الحياة)، (الآن في المنفى)، (في البال أغنية)، (فكر بغيرك) ،(طوق الحمامة الدمشقي)، (مر القطار)، (جواز السفر).
حضر درويش بقوة أيضًا عند المطربة اللبنانية أميمة الخليل التي غنت من شعره (في آخر الأشياء كاملة) و(تكبر) و(مر القطار)، كما غنت (أنشودة المطر) للسياب، و(هذا الرأس) لمحمد عبد الله.
وأميمة الخليل واحدة من مطربات كثيرات في عصرنا غنين عددًا لا بأس به من القصائد، ويظهر الأثر الثقافي في اختياراتهن سواء للقصائد، أو حتى للنصوص العامية، ومن أهمهن المغربية فدوى المالكي التي غنت من التراث قصائد وموشحات منها (البردة) للبوصيري، و(قلبي يحدثني) لابن الفارض، و(نالت على يدها) ليزيد بن معاوية، و(لا تعذليه) لابن زريق، ونونية ابن زيدون، و(جادك الغيث) للسان الدين بن الخطيب.
والمطربة الفلسطينية دلال أبو آمنة التي غنت (ته دلالًا) لابن الفارض، و(الحب ديني) لابن عربي، و(عرفت الهوى) لرابعة العدوية، و(والله ما طلعت شمس) للحلاج، و(متى يشتفي منك الفؤاد المعذب) لمجنون ليلى، و(أحبك يا قدس) لهارون هاشم رشيد.
والمطربة الفلسطينية الراحلة ريم بنا التي غنت من التراث الصوفي (شمس الهوى) لابن عربي، و(زدني بفرط الحب) و(قلبي يحدثني) و(دع عنك تعنيفي) لابن الفارض، و(عجبت منك ومني) للحلاج، كما غنت لمحمود درويش (أثر الفراشة)، ولراشد حسين (الغائب).
ويبرز اسم المطربة اللبنانية جاهدة وهبة التي غنت للحلاج (إذا هجرت فمن لي)، ولذي النون (أموت وما ماتت إليك صبابتي)، ولأبي فراس (فليتك تحلو)، وإرادة الحياة للشابي، ونص (كنت سأنجب منك قبيلة) لأحلام مستغانمي.
فيما غنت السورية كارمن توكمجي قصائد أكثرها من التراث، منها (ألست وعدتني)، و(نقل فؤادك) و(أيا معشر العشاق)، و(بروحي من تذوب عليه روحي).
وغنت السورية فايا يونان عددًا من القصائد بعضها من التراث وبعضها لشعراء معاصرين كاللبناني مهدي منصور، منها (فليتك تحلو)، (أحب يديك)، (يا قاتلي)، (حب الأقوياء)، (فصول الحياة).
أما مواطنتها لينا شماميان فغنت عددًا من النصوص النثرية الفصيحة مثل (شام)، (تدمر)، (رسائل)، (دعوني أجود)، (قصة عشق).
ويلاحظ أن هذه الموجة من مطربات القصائد التي راجت كثيرًا بعد 2010 قد استمدت مددًا كبيرًا من النصوص التراثية، غزليها وصوفيها، لكنها ألبستها ألحانًا غير تراثية، ونجحت في إخراجها في ثوب يسيغه الجمهور المثقف، فهي ألحان لم تفقد الرزانة وقدرًا من الأصالة وإن لم تكن تراثية.
كما استمدت هذه الموجة من بعض الرموز المعاصرة الكبيرة مثل محمود درويش، وامتلك بعض مطرباتها جرأة غناء نصوص نثرية كُتبت بشكل رأسي للغناء أو مضاهاة للشعر، وليست من جنس قصيدة النثر في الغالب ولا من عمل شعرائه المشتغلين به، وفي بعض الأحيان كانت من كتابة المطربة نفسها، ما يثير سؤالًا حول نظرتهن لتلك النصوص، هل رأينها تصلح للغناء توسعًا وانفتاحًا على أشكال الكتابة؟ أم نقصًا في الثقافة الشعرية؟ أم كانت غايتهن منها الغناء بالفصحى دون التزام بأشكال الشعر التي يكتبها الشعراء ويرتضيها النقاد؟
ولا أحسب أن الاحتمال الراجح سيكون واحدًا مع كل المطربات، لذلك لا يعنيني الترجيح، لكني أشير هنا إلى وجهين للقصور ينبغي تداركهما.
الأول: أن معظم قطع الشعر التراثي التي غنينها هي مما اعتيد غناؤه وإنشاده منذ نحو قرن من الزمان بما شهدت به التسجيلات، وقبل ذلك كثير منها مثبت في سفن الغناء القديم ودواوينه، وكان في تراثنا الشعري الزاخر متسع لاختيار نصوص لم يسبق غناؤها ولم تشتهر في أوساط المنشدين، وما أكثر ما يصلح للغناء ولم يُغن في تراثنا الضخم منذ شعر الجاهلية!
وأما الثاني: فأن هذه الموجة لم تحرز تعاونًا يستحق الذكر مع المنتج الشعري المعاصر بعد سنة 2000، ولم تغن إلا أعمالًا محدودة لعدد قليل من المعاصرين، رغم الازدهار الكمي الذي شهدته الكتابة الشعرية في العقدين الأخيرين، وكثرة الشعراء الصاعدين بإبداعات حقيقية، وهو ازدهار حمل عودة قوية للقصيدة العمودية بفعل الدعم الضمني لها من جوائز دولية كبرى صارت تنظم بشكل سنوي في كثير من الدول العربية، وخاصة الخليجية منها.
وهي عودة شهدت تطويرًا كبيرًا للقصيدة العمودية وأدخلت عليها كثيرًا من أساليب الحداثة حتى باتت نتاجًا مختلفًا عن عمودية الكلاسيكيين والرومانسيين، وبرغم ما يُنتقد به منتَجها الأخير من ميله -مع كثرته- إلى نمط متشابه يتحرى الشعراء به الجوائز فإن هذا النمط لا ينفي عن أكثرها جودة المنتج وصلاحيته للغناء. وانعدام هذا التعاون ربما يعكس نقصًا في متابعة الساحة الشعرية المعاصرة من قبل المغنين، وهو أمر قد يكون له آثاره السلبية على غناء القصيدة ككل لا القصيدة المعاصرة فحسب، إذ يبقي غناء القصيدة محصورًا في دائرة ضيقة من النصوص، كما أنه يخسر مزايا الكتابة الشعرية الجديدة.
ونظرًا لهذا القصور غير المبرر في غناء الشعر المعاصر فقد استبنّا ستة من الشعراء الذين غُنيت بعض قصائدهم، وستة آخرين لم يُغنّ لهم، من بلدان عربية مختلفة، محاولة لرصد واقع القصيدة المغناة من خلال تجاربهم ورؤيتهم وتحديد المفاصل الضعيفة في علاقة الشعر والغناء المعاصرين، والتي ينبغي أن تتجه إليها جهود التقوية والإصلاح، واقتراح الوسائل الممكنة لهذه الجهود.
1. تراوح عدد القصائد المغناة وفقًا لإجابات الشعراء الذين واتتهم فرصة غناء أعمالهم، بين قصيدة وثلاث وخمس، فيما غاب العدد عن بعض الإجابات لكبره وعدم تذكر الشاعر له بالضبط، وبقيت الأعداد الفردية المحدودة تمثل 75% من مجموع الإجابات على هذا السؤال، ما يدل على أن غناء القصيدة -وخاصة المعاصرة- يبقى حالة فردية في وسط الغناء المعاصر.
2. أجاب 80% من المستبانين بأن التعاون الفني حدث بمبادرة من المغني، فيما أفاد 20% منهم بأن التعاون حدث بمبادرة منهم أي الشعراء، ويمكننا عزو هذه النسبة الكبيرة من مبادرة المغنين إلى أن مغني القصيدة في عصرنا هو في الغالب شخص مثقف وله أبعاد ثقافية في اختياراته، لكن هذا في ذاته لا يعني ازدهارًا للقصيدة المغناة لأن العدد المنتج منها ما زال قليلًا.
3. عزا 60% من الشعراء المجيبين حدوث التعارف بينهم وبين مطربي قصائدهم إلى أصدقاء مشتركين، فيما عزاها 20% منهم إلى وجود صداقة افتراضية على الفيسبوك بينهم وبين المغني، وعزاها 20% منهم إلى شهرتهم وانتشار قصائدهم. وهي نِسب تعكس في مجملها أن المطربين المعاصرين ليسوا على معرفة جيدة بشعراء عصرهم واحتاجوا إلى وسطاء للوصول إليهم وإلى منتجهم الصالح للغناء.
4. في 50% من الحالات طلب المطرب قصيدة بعينها يعرفها، وفي النصف الآخر طلب عدة قصائد يختار منها، وفي إيضاحات بعض المجيبين طلب المغني نصًّا في موضوع بعينه لموسم بعينه فكتب الشاعر طلبه.
5. وفقًا لـ 60% من الإجابات طلب المطرب تعديلات في القصيدة.
6. 50% من هذه التعديلات استهدفت طول القصيدة، فيما استهدف النصف الآخر صياغة بعض أبياتها، وقد تراوح عدد التعديلات وفقًا لمن أجابوا عنه بين ثلاثة واثنين وقليل جدًّا دون تحديد.
7. أفاد 100% من المجيبين بأن جميع القصائد التي قدموها للمغنين قُبلت، واقتصرت الملاحظات على تعديل مواضع منها، ولم تقابل أي قصيدة قدموها بالرفض الكامل وطلب استبدالها.
8. عبر جميع المجيبين عن رضاهم عن ألحان قصائدهم وغنائها، لكن 20% لم يخلُ رضاهم من تحفظات حول مناسبة اللحن وأخطاء النطق. ويمكننا -وفقًا لإضافات من بعض المجيبين- القول إن هذا الرضا ليس تامًّا، وإن حرص الشاعر على غناء قصيدته يجعله يتغاضى عن بعض التفاصيل في مُخرَجها الغنائي ما دام شكله الإجمالي مقبولًا.
9. من بين الشعراء المستبانين 60% حصلوا على مقابل مادي لغناء قصائدهم، منهم 40% راضون عنه، و20% لا يشعرون بالرضا. فيما لم يتقاض الـ 40% الآخرون أي مقابل، ونصفهم يشعر بالتضحية من أجل انتشار قصيدته.
وتبعًا لإضافات بعض المجيبين الذين أقروا بالرضا عن المقابل، فإنهم لم يسلموا من الشعور بالتضحية أيضًا، ما يعني أن الرضا كان نسبيًّا في حدود الظروف المحيطة بقضية غناء الشعر والعرض المتاح لهم.
10. رأى 40% من الشعراء المستبانين أن القصيدة لم تحقق بالغناء انتشارًا مُرضيًا لهم، ورأى 40% أنها حققت انتشارًا مرضيًا نسبيًّا، فيما رأى 20% منهم انتشارها مرضيًا مطلقًا.
1. رد 50% من الشعراء المستبانين عدم غناء أي عمل لهم إلى عدم حدوث تواصل مع أي مُغنٍّ، فيما حدث التواصل للنصف الآخر، لكن 17% لم يوفقوا إلى استغلال هذا التواصل في الحديث عن تعاون فني، فيما دخل 33% مع المغنين في تعاون فني لم يكتمل، وهؤلاء رد نصفهم عدم الاكتمال إلى عدم الاتفاق حول الشعر ذاته، فيما رده النصف الآخر لعدم عرض مقابل مادي أو عدم الاتفاق عليه. وأفاد الجميع أن عدم اكتمال هذه المشاريع لا يرجع إلى رفض تعديلات مِن قِبلهم أو مِن قِبل المغني، فالواضح أن هذا الطريق لم يُسلك أصلًا وأن انسداده كان من أوله.
2. أفاد 50% من الشعراء الذين لم تكتمل مشاريعهم أنهم لم يُعرض عليهم مقابل مادي من الأساس، فيما عُرض على 50% لكن كان عدم الاتفاق عليه من أسباب التوقف.
3. رد 66% من المجيبين عدم حدوث التواصل إلى مسؤولية الشاعر نفسه، فيما ألقى بها 33% على الوسط الفني، وهي نِسب توحي بشعور الشعراء بالمشكلة وعدم مسارعتهم إلى إلقاء المسؤولية على الجهات الأخرى.
4. في الوقت نفسه رأى 40% من المجيبين أن المغني هو من يجب أن يبحث عن الشاعر، فيما رأى 60% أن البحث واجب عليهما جميعًا.
5. أجاب 40% من الشعراء المستبانين باستعدادهم لعرض شعرهم على المغنين إن واتتهم الفرصة، فيما عبر 60% عن عدم استعدادهم لذلك، والنسب في هذه النقطة والنقطة السابقة تعبر عن الحساسية التي بات يشعر بها الشعراء تجاه المجتمع الفني نتيجة تجاهلهم.
6. رأى 60% من المجيبين أن الجمهور ما زال يُقبل على القصيدة المغناة، فيما رأى 20% أنه قد يفعل أحيانًا، وجزم 20% بالنفي، وهي نسب تدل على ثقة الشعراء بالشعر ورد المشكلة إلى أسباب أخرى.
7. يرى 40% من الشعراء المستبانين أن الحل يكمن في رفع ثقافة المغنين، فيما يرى 40% أن الحل في الدعاية للشعر والشعراء، ويرى 20% الحل في رفع ثقافة الجمهور، وهي نسب تدل على ثقة الشعراء بالجمهور وإلقاء المسؤولية الحقيقية على المغنين.
8. رأى 80% من المجيبين أن غناء قصائدهم ربما يزيد من شهرتهم وتقديرهم، وجزم 20% بذلك.
مما سبق من الإبانات ظهرت لنا أربع مشكلات، إحداها مشكلة السطح وهي قلة عدد القصائد المغناة عمومًا وللمعاصرين خصوصًا، وثلاث مشكلات تحتها في الأعماق أسهمت في إنتاجها أو نتجت معها:
الأولى: ضعف مستوى الشهرة الذي يحظى به الشعراء المعاصرون في المجال العام، لا مجال المثقفين، وهذا أضعف احتمالات التواصل بينهم وبين المغنين لأن الطائفتين ليستا على درجة واحدة من الشهرة في المجتمع، كما تسبب في عدم متابعة الشريحة العامة من المغنين للحركة الشعرية المعاصرة وعدم معرفتهم بأهم الشعراء المعاصرين الذين يمكنهم التعاون معهم وبالتالي انعدم التعاون، ولا ننكر هنا وجود شريحة استثنائية من المغنين المتابعين للشأن الثقافي، لكنها تبقى شديدة الاستثنائية.
الثانية: ضعف المقابل المادي المقدم للشعراء عن غناء أعمالهم، أو انعدامه بالكلية، وهذا يجعل بعض الذين تواتيهم الفرصة -على قلتهم- يُعرضون عنها حفظًا لكبرياء الشاعر وكرامته، وبالتالي يخسر الشعر فرصًا للغناء ليست بالكثيرة أصلًا، والذين يَقبلون لا يسلمون من الشعور بالتضحية والغبن.
الثالثة: ضعف مردود غناء القصيدة من الشهرة والتقدير، وهذه مشكلة يمكن ردها إلى أن معظم مطربي الصف الأول محجمون عن غناء القصائد، والمُقدِمون عليها أكثرهم من طبقات أقل شهرة بمعايير السوق، وهذا لا يعني أن منتجهم أقل جودة بل هو أعلى في الغالب، لكنّ المحصلة أن أعمالهم مهما حققت من النجاح لا تصل إلى كل الناس، كما يمكن ردها إلى ضعف ثقافة جمهور الغناء المعاصر بالشعر وزهده في متابعة ما يصدر منه مطبوعًا أو مغنًّى.
واللافت هنا أن هذا الركود الغنائي الذي يعاني منه الشعر الفصيح يتزامن مع قيام عدد من المؤسسات الكبرى في الدول العربية، وخاصة الخليجية منها، برصد جوائز مادية ذات قيم ضخمة للشعر، وبرامج شعرية مغطاة إعلاميًّا على أوسع نطاق، وعدد كبير من الفعاليات الكبيرة المنظمة على مستويات رفيعة وبتكاليف كبيرة.
وقد أحدثت هذه الجوائز والفعاليات حراكًا شعريًّا مشهودًا لا ينكره معني بالشعر حتى لو اختُلف على تقييم منتَجه نقديًّا، فشجعت عددًا كبيرًا من الشعراء على الكتابة ومنحت الفائزين بها والمتأهلين إلى مراحلها العليا قدرًا جيدًا من التغطية الإعلامية، وجعلت الشعر موضوع الموسم على الأقل للمهتمين بالشأن الثقافي بعد أن توارى طيلة العقود الأخيرة من القرن العشرين في طي خمول كئيب.
ومن الجوائز التي اختصت بمجال الشعر المغنى جائزة الأمير عبد الله الفيصل للقصيدة المغناة، وقد نُجز منها أربع نُسخ بين عامي 2019 و2022، وأعادت بعض الضوء للشعر المغنى وردّت له بعض الغطاء الإعلامي الذي يستحقه، كما سلطت الضوء على قصائد مغناة غالبًا ما يتجاوزها الوسط الفني سريعًا لكثرة المغنى من غير القصائد وتتابعه وضغط الدعاية له.
وتُمنح قيمة الجائزة مناصفةً بين الشاعر والمغني، وهنا نوصي بأن يكون للملحن نصيب منها فهو صانع الأغنية الحقيقي، وتضطلع ثقافته وموهبته وملكاته المعينة على تذوق الشعر بالدور الأكبر في تذوق القصيدة المكتوبة وتمثُّلها مغناةً وإخراجها في ثوبها الأخير.
كما يمكن تخصيص فرع للقصائد المغناة غير المنشورة، أي التي لم تُشهر بعدُ بشكل رسمي، فإن فرعًا كهذا يُعد بوابة إشهار لعديد من الشعراء والمغنين الصاعدين، ويمكن أن يشجعهم على إخراج عدد كبير من القصائد المغناة الباحثة عن فرصة شهرة ومنصة إنتاج رسمي.
وبشكل عام فتلك المؤسسات الكبرى التي تمنح الجوائز تضطلع اليوم بأكبر قدر من الحراك الإعلامي المتعلق بالشعر، وهي باعتبار وجودها ونشاطها الملحوظ وأثرها الفارق، أولى الجهات بالتوصيات الهادفة إلى استنهاض غناء الشعر الفصيح ونشره، لما لها من إمكانات مالية وتسويقية كبيرة تمكّنها من تنفيذها، ولما لها من عناية بالشعر تجعل الأمر من مسؤولياتها الأدبية تجاهه.
وتنصب التوصيات هنا على هدفين:
الأول: إشهار الشعراء المتميزين وتحويلهم إلى نجوم مجتمع كما يستحقون بما يجعل شهرتهم مقاربة في المجمل لشهرة المطربين، ويجعل الغناء لهم هدفًا وخيارًا رابحًا للمطربين. وهذا من خلال خطط إعلامية طويلة الأجل تقدم الشعراء للجمهور من خلال برامج وفعاليات متنوعة وممتدة، وعلى نفس مساحة الانتشار المتاحة لمطربي الصف الأول. ومِن شأن هذا العرض الإعلامي الدائم والموسع أن يجذب اهتمام شرائح واسعة من الجمهور لم تكن مهتمة بالشعر، ومِن شأنه لفت انتباه المغنين إلى الشعراء المعاصرين ومنتجهم والتفكير الجاد في الغناء لهم.
الثاني: تنظيم عملية إنتاجية لغناء عدد من المطربين المشاهير قصائد لشعراء معاصرين، وقصائد تراثية لم تحظ بالغناء. سواء كان هذا التنظيم بشكل مباشر من خلال قيامها بالإنتاج، أو غير مباشر بالتعاون مع شركات الإنتاج الفني الكبرى بعد إقناعها بأهمية إنتاج أغانٍ من الشعر الفصيح وتذليل العقبات التسويقية ورعاية المشروع بما يمثل ضمانة لجهاته الأخرى، كما يمثل ضمانة للشعراء أنفسهم بمقابل مادي عادل، ومردود معنوي لائق.
هاتان التوصيتان الأهم، إلى الجهات التي تجمع بين الوعي بالمشكلة والقدرة على الحل، فثمة جهات أخرى كثيرة لا يتوافر لها إلا أحد هذين العنصرين، لذا لن يكون مجديًا توجيه القدر الأكبر من التوصيات إليها، وإذا التزمت بها فلن يكون الأثر محسوسًا من دون تدخل المؤسسات الكبيرة المعنية بالشعر.
من هذه الجهات الشعراء أنفسهم، الذين يعون المشكلة ولا يقدرون على الحل، ويمكن أن تتوجه إليهم التوصية بقصدية الغناء في شطر مما يكتبون، فيكتبون قصائد تساعدها موضوعاتها وصياغاتها وبنياتها اللغوية والوزنية على الغناء، من غير استغراق فلسفي أو تعقيد بنائي. وهذه التوصية لا تُنسينا أن اختيار القصيدة المغناة هو بالأساس رؤية المغني/الملحن الذي يُنتج الأغنية من قصيدة بقدر تذوقه واستيعابه لها وبقدر ما يملك من معارف عامة وثقافة أدبية وموسيقية تؤهلها لعملية الإنتاج بكل مراحلها، وقد لُحنت من قبل وغُنيت قصائد ذات أبعاد فلسفية واضحة كرباعيات الخيام وحديث الروح وبعض قصائد جبران، فنجحت لما توافر للملحن والمغني من الأهلية الثقافية التي مكنته من الرؤية، فهذه التوصية لا تلقي المسؤولية على الشعراء ولا على أنماط كتابتهم، بل تطلب منهم المساعدة، أما المسؤولية فيظل الطرف الأكبر منها ملقى على عاتق الطرف الآخر، الذي كان طيلة تاريخ الغناء يبحث عن الشعر ويتابعه ويلتمس إبداعه في غنائه. ولن ينقطع الشعر موردًا مَعينًا للغناء، فهو باقٍ بقاء العربية، وهي حية بحياته.
أولًا: استبانة للشعراء الذين غُني من شعرهم، وثانيًا: استبانة للشعراء الذين لم يُغنّ مِن شعرهم
للاطلاع على الاستبانات الملحقة، يرجى التكرم بتحميل نسخة البحث.
- ابن رشيق، أبو علي الحسن ت 456هـ
- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الطلائع – القاهرة 2009م
- ابن سناء الملك، القاضي السعيد هبة الله بن الرشيد ت 608هـ
- دار الطراز في عمل الموشحات، تحقيق جودة الركابي، الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2004م
- أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275هـ
- السنن (سنن أبي داود)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية - بيروت
- الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين ت 357هـ
- الأغاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2010م
- البخاري، محمد بن إسماعيل ت 256هـ
- الجامع الصحيح (صحيح البخاري)، مكتبة الصفا – القاهرة 1423هـ 2003م
- شهاب الدين، محمد بن إسماعيل ت ق13هـ
- سفينة الملك ونفيسة الفلك، الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2010م
- العهد القديم – الكتاب المقدس
- كتاب الحياة – دار الكتاب المقدس الدولية 1988
- مسلم، بن الحجاج القشيري ت 261هـ
- صحيح مسلم، مكتبة الصفا – القاهرة 1424هـ 2004م
- ناجي، إبراهيم ت 1953م
- ليالي القاهرة (ديوان) – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2008
- وراء الغمام (ديوان) – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2008
- أرشيف منتدى سماعي https://www.sama3y.net/forum/
- أدولف أرمان
- ديانة مصر القديمة – ترجمة عبد المنعم أبو بكر ومحمد فؤاد شكري - الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1997م
- إيزيس فتح الله ومحمود كامل
- أم كلثوم – موسوعة أعلام الموسيقى العربية - دار الشروق – القاهرة 2008م
- سلامة حجازي – موسوعة أعلام الموسيقى العربية - دار الشروق – القاهرة 2002م
- شوقي ضيف
- الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية – دار المعارف – القاهرة 1992م
- الفن ومذاهبه في الشعر العربي – دار المعارف – القاهرة 2013م
- فكتور سحاب
- السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة – دار العلم للملايين – بيروت 1987م
- كامل الخلعي
- الموسيقى الشرقي – مكتبة مدبولي – القاهرة 2000م