* منطقة الثمامة أشهر مكان لتجمع الاستراحات في الرياض والمملكة
للمكان في وجدان وعقل الانسان أثر كبير، ليس في حجارة هذا البناء أو رقعته الجغرافية؛ بل فيما بيننا وبين ذلك البناء من مخلوقات وذكريات وتفاعلات مختلطة، منحت المكان مهما كان ظاهره فقيرًا قوةً رمزية، تجعل الإنسان يغترب إذا ابتعد عنه، ويناضل بروحه للدفاع عنه، ويقف –أحيانا- على أطلاله يبكي، وينشد كما أنشد امرؤ القيس عن الدخول وحومل، أو كما تغنى طرفة بن العبد ببرقة ثهمد، أو نداء عنترة لدار عبلة بعيون الجواء، وكلها أماكن خاوية جرداء في جبال وقيعان وسط الجزيرة العربية.
فاستنطاق البقاع التي تحمل ذكريات الحبيب، كانت من أهم موضوعات الإبداع الشعري منذ عصر الجاهلية حتى عصرنا الحاضر، هذه الأمكنة الناطقة التي بدأت بها أهم قصائد المعلقات، أعطتها الخلود عبر الأجيال، وأكسبتها هالةً عظيمةً من مشاعر الحب؛ رغم قسوة تلك الأمكنة وجفافها الصحراوي!.
وغالب البشر لا يخلو أحدهم من تداعيات نفسية وفكرية تنتابه عندما يَرد اسم مكان عاش أو درَس أو تألم فيه، لذلك كان باشلار يرى أن للأماكن تأثيراً في اختزال الوعي أو انبثاق حلم اليقظة، ويؤمن بأن الطفولة نقطة العودة الدائمة في الصور سواءً المكانية أو الشعرية، لذلك يتذكر أماكن طفولته عند الحنين والتأمل (كتابه :شاعرية أحلام اليقظة، ترجمة جورج سعد، طبعة المؤسسة الجامعية 1991، 20-25)، تلك التداعيات النفسية والاجتماعية والفلسفية جعلت من المكان أساسا لوضع عدد من النظريات والأفكار لتحليل هذا التداخل العميق بين الإنسان والبناء والجغرافيا ولو كانت تلك المساحة أشبارا في الأرض.
هذه المقدمة عن المكان الذي يبنينا بعدما نبنيه، ويدخل أعماقَنا بعدما ندخل فيه، هو الدافع للحديث عن مساحة أرضية باتت مؤثرة جدًا في ثقافتنا السعودية والخليجية؛ نسميها "الاستراحة"، وقد يطلق عليها البعض "الديوانية" أو "المشبّ" أو "الشاليه" أو "المركاز"، وسأضع عدّة محدّدات تؤطر المكان المقصود في المقال، أولها التركيز على معنى (الاستراحة) الذي تعارف عليها السعوديون دون غيرهم، ثم تحديد شكل الاستراحة التي يرتادها الرجال خارج بيوتهم وليست التي في داخلها، كما يجب التأكيد أن المقصود بالاستراحة هنا: "المكان الذي يجتمع فيها الأصدقاء لغرض الترفيه والخروج عن قيود البيت والعائلة". هذا المجال الثقافي الجديد، والنسق الاجتماعي المؤثر، هو محور مسائل هذا المقال؛ والتي سأعرضها على النحو الآتي:
أولا: متى بدأ الإقبال على الاستراحة بالمفهوم المحدد سابقًا؟ وهل هي خصوصية سعودية؟، وللإجابة عن هذا السؤال الجوهري في بحث الظاهرة، ذهب بعض الباحثين والكتّاب أنها بدأت منذ منتصف الثمانينات الميلادية (انظر: ندوة الرياض الاستراحات بين الواقع والمستقبل في عدد 6 ابريل 2006، بحث "أثر تنامي الاستراحات بمنطقة القصيم على النسيج الأسري: دراسة تـربويـة واجتماعــية"، مجلة دراسات الخليج والجزيرة العدد 187 عام 2022)، ويرى الكاتب يوسف الكويليت أن بداية فكرة الاستراحة جاءت من الكويت، ثم انتقلت لدول الخليج العربي بعد ذلك (جريدة الرياض عدد 28 نوفمبر 2008)، وربما يقصد الديوانية الأقرب شكلا ومضمونا للاستراحة السعودية، بينما هي في مجتمعنا السعودي أرض مسورة ببناء أو حواجز رملية، تحتوي على مجلس أو خيمة ومرافق الاحتياج التي يتطلبها الاجتماع الدوري للأصحاب، بخلاف الاستراحة التي تجتمع فيها العوائل لقضاء نهاية الأسبوع، أو يتم حجزها في الأعياد والمناسبات، فهي أكثر مرافق وأعلى سعرًا.
يظهر لأي متابع لظاهرة الإقبال على الاستراحات، أنها منتج اجتماعي جاء مع (عصر الطفرة)، وتنامى مع الوفرة المالية، وتحسّن ظروف المدينة لاستيعاب هذا النمط العمراني الجديد، ففي إحصائية رسمية؛ ذكرت أن التراخيص لإقامة الاستراحات ارتفع من (9217) عام 1435ه الى (16535) عام 1440ه (انظر: أثر تنامي الاستراحات بمنطقة القصيم على النسيج الأسري، سبق الإشارة إليه) وهذا التنامي نتيجة الحاجة للاجتماع مع أشخاص يجمعهم التوافق العُمري، والرغبة في تداول وتبادل المشتركات الثقافية والترفيهية بينهم، ولذلك تظهر قوة هذا الاحتياج لبعضهم في عدد المرات التي يلتقون بينهم في الاستراحة، فهناك اللقاء اليومي، وهناك الأسبوعي، وبينهما تقلّ أو تزداد الاجتماعات حسب ظروف هؤلاء الأعضاء.
ثانيا: يوجد تداخل مفاهيمي آخر بين الاستراحة التي تجمع الأصدقاء في مكان له خصوصية الانعزال، لغرض الترفيه والخروج عن الرتابة والتقاليد المنزلية والاجتماعية، وبين مفهوم الديوان الأسري الذي يشرف عليه كبير العائلة أو القبيلة أو المثقف الوجيه للاجتماع بالزوار أو استضافة من يثري المجلس أو الديوان بالفائدة المعرفية، وهذه كلها حضرت في مجتمعنا السعودي، وأصبح ديوان الأسرة أو الصالون الثقافي أو المركاز الحجازي ظاهرة أيضا للاجتماع والمثاقفة، واشتهرت مجالس ودواوين ثقافية في عدد من مناطق المملكة، مثل صالون ندوة الوفاء، وسبتية الشيخ حمد الجاسر، وأحدية أبو عبدالرحمن الظاهري، وأحدية راشد المبارك، وأثنينية عثمان الصالح، وندوة الشيخ عبدالله بن عقيل، وثلوثية التويجري، وثلوثية المشوح، وديوانية آل حسين التاريخية، وغيرها من المجالس في مدينة الرياض، ومثلها الكثير في بقية مناطق المملكة، ولعل أقدم تلك المجالس الأدبية والثقافية في السعودية مجلس الشيخ محمد سرور الصبان الذي بدأ عام 1957م في مكة (حسب ما جاء في صحيفة البلاد العدد 2473 الصادر يوم الثلاثاء الموافق 11 يونيو 1957م)، وبعضهم يعدّ خميسية عبد العزيز الرفاعي التي بدأت في عام 1962م أول صالون أدبي يُقام بصفة دورية (انظر: عبدالمقصود خوجة، المنتديات والأندية الأدبية في المملكة العربية السعودية، سلسلة كتاب الاثنينية 2009م، ص17).
ومع أهمية هذا النوع من المجالس الثقافية فقد كتب عنه الكثير من الباحثين؛ مثل الأستاذ أحمد الخاني والأستاذ سهم الدعجاني والأستاذ محمد القشعمي وغيرهم، ولكن باعثنا في هذا المقال هو الحديث عن تلك الاستراحات ذات الباعث الاجتماعي والترفيهي أكثر من كونها مجالس ثقافية أو فكرية.
ثالثا: نعود إلى سؤالٍ مهم: هل الاستراحة خصوصية سعودية؟ اعتقد نعم، لأسباب؛ أهمها: التداول الكبير لمفردة (الاستراحة) بين مجموعات كثيرة من الشباب السعودي، إذ يستعملون هذه المفردة للدلالة على المكان والخصوصية والعقد الاجتماعي المصغر بين أفرادها، ثم إن هذه التسمية غير مشتهرة في المجتمعات القريبة رغم تشابه أمكنة الاجتماع، كالقهوة (المقهى) في مصر والمغرب، والديوانية في الخليج، والمبرز أو المتكى في اليمن، فالسعوديون جعلوا من الاستراحة مكانهم المفضل للهروب من الالتزامات الاجتماعية والعرفية، والتحرر من الواجبات العائلية، وبحثا عن الترفيه الحرّ مع أفراد يشتركون في ذات الميول والاهتمام.
ولهذا تنامى الحضور المكاني للاستراحة في غالب المدن السعودية، بل أصبحنا نجد مخططات عمرانية كاملة لا يوجد في غالبها إلا استراحات، وهذا يعني أن التمدّد والقبول للاستراحة؛ جغرافيًا واجتماعيًا، يتسع مع الأيام، لأسباب كثيرة أهمها:
- أن الفرد اليوم خصوصًا الشاب؛ أصبح محتاجًا للحديث الطويل والمشاركة مع أصدقاء يشبهونه أكثر من ذي قبل، لأن نمط الحياة وكثرة تجددها واتساع الهوّة بينه وبين كبار عائلته؛ جعلته يبحث عن أقرانه الذين يشاركونه الهموم والاهتمامات التي قد لا تروق للأجيال السابقة، فالحديث عن تفاصيل الدوري الرياضي، ودقائق حياة المشاهير، ومستجدات البرامج والتطبيقات والمطاعم والأكلات والسيارات والمباريات؛ قد ينظر لها آخرون أنها أحاديث فارغة، بينما هي في صميم اهتمام شباب اليوم، وهي جلّ موضوعات الاستراحات المعاصرة.
- أيضا هناك نسق اجتماعي جديد يهرب نحوه الشباب دون الشعور باللوم، يمكّنهم من التخفّف من التزامات البيت والأولاد، بالغياب عن البيت حتى وقت متأخر من الليل تحت ذريعة الراحة بعد العمل والوظيفة، وأيضا إقامة واجبات الضيافة في الاستراحات بدلًا من البيوت تخفيفًا على عائلته من تكاليف الإعداد، وهناك شبه قبول بمستوى من الخدمة الاجتماعية في الاستراحة أقل مما لو كان في البيت، هذه كلها شكّلت نمطًا مركبًا (ماليًا واجتماعيًا ونفسيًا) يسوّغ اعتياد الاستراحة وتحولها لنسق جمعي في الحياة الحضرية السعودية.
- هناك شبه اتفاق أن الاستراحات سرقت الأزواج والشباب عن التزاماتهم العائلية، وذكرت إحدى الدراسات المسحية أن 40% من العيّنة التي تمت دراستها اعترفت بالتقصير تجاه العائلة (انظر: أثر تنامي الاستراحات بمنطقة القصيم على النسيج الأسري، سبق الإشارة إليه) وذكر الدكتور عبدالله الحريري أن هناك ما يسمى (متلازمة الاستراحات) كأحد عوامل ضعف العلاقات الزوجية أو سوء فهمها.(ندوة جريدة الرياض عدد 25 مايو 2022).
- وهنا أتساءل: هل يمكن أن تكون الاستراحة مطبخًا للأفكار، ومائدة مستديرة لمناقشة المجال العام، ومن ثمّ قدرتها على إحداث قدر من التغيير الثقافي والاجتماعي؟ وهنا لا أجزم بالنفي، وأيضا لا أستبعد أن يحصل ذلك في مناخ الاستراحة المترع بمداولات مشكلاتنا الحياتية بشكل تفصيلي، وقد تنتج نقاشات الاستراحة تأثيرًا بالغًا إذا تزامن التعبير عنها بالنشر في مواقع التواصل الاجتماعي، وستبلغ أهميتها إذا حصلت تلك النقاشات على معيار عالٍ من المتابعة (الترند)، ومع ذلك لا أعتقد أن تتولى الاستراحة رافعة التغيير المجتمعي بسبب فقدانها العمق الفكري والتداولي لقضايا الشأن العام، ولكنها قد تُحدث اهتمامًا في بعض القضايا اليومية والترفيهية، وهذا لا يمنع من التفطّن لفهم هذا النسق وتداعياته المستقبلية على المجتمع.
- العالم المعاصر يمر بمرحلة عبور كبير تدفعه نحو عالم الشبكية الرقمي، بكل ما فيها من أنساق استهلاكية ولذّات جديدة، وتواصل محموم وعبودية للأشياء، والشاب السعودي مثل غيره من جيل الشباب العالمي يعيش تلك المرحلة، ولكن تظهر عليه أيضًا صفة "الفردانية الشلليّة" فهو يعيش في محيط رغباته وعلاقاته الافتراضية، مع إضافة مميزة ذات خصوصية سعودية؛ وهي وجود "الشلّة" من الأصدقاء في تلك الحياة الممزوجة بالواقع والمتخيّل الرقمي، فهم يتحدثون ويضحكون ويتناقشون؛ ولكن في حدود ما تراه أعينهم التي لا تفارق شاشات الهاتف الجوال وحسابات منصات التواصل الاجتماعي، هذا الخليط والمزيج من التفاعل الافتراضي والواقعي هو المكوّن الرئيس لطبيعة اللقاء والبقاء في مكان الاستراحة اليومي.
وأخيرا.. أرى أن الاستراحات السعودية اليوم كمكان له خصوصيته في ثقافتنا المجتمعية، مهيأٌ ومرشح لمزيد من الرسوخ وسعة الانتشار يتجاوز فئة الشباب إلى فئات جديدة كالنساء والمراهقين، وهذا الأمر قد يستدعي اهتمام الأجهزة المعنيّة بالمجتمع، لفهم ومراقبة التغيرات التي تظهر على هذا النسق المكاني، وهذه الظاهرة مثل غيرها من الظواهر الاجتماعية لها أكثر من وجه وطريق للتعاطي معها، فالتعميم والمبالغة في ذكر أضرارها خطأٌ معرفيٌ وترفيهي، والتقليل من سلبياتها غفلةٌ وجهلٌ قد يوردنا للمهالك، والأهم هو فهمها جيدًا ومراقبتها كظاهرة مجتمعية، وما سبق؛ هو محاولة عرجاء بغية الوصول -ولو متأخرًا- نحو جادة الفهم الأقوم.