هل يمكن القبضُ على الحياة ومطاردتها معًا؟ أن تحلم بحياة وتعيشها في آن؟
أسهمت ساعات العمل الطويلة بأخذ حصة عالية من حياة الموظفين، ولم يعد لدى الموظف الغارق بين مهام عديدة متسع من الوقت لتحقيق تطلعاته في الحياة، وعيش يومه بالقدر الكافي الذي يسمح له بالإعلان: "لقد عشت". وظهرت جرّاء هذه الضغوطات بعض الأحلام التي يصعب تحقيقها مثل التقاعد قبل التقدم في العمر، أو تحقيق الاستقلال المالي مبكرًا. ومن بينها يظهر حلم يحقق المعادلة الصعبة: العمل دون استبعاد الحياة!
في العام ٢٠٢٠م ووفقًا لاستطلاعات منصّة MBO Partners يصنّف أكثر من 16.9 مليون أمريكي أنفسهم بأنهم Digital nomads "رحالة رقميون" وهذا الرقم يصف رغبة الناس بالتحرر من أماكن العمل الثابتة، كما يصف تأثير عام كوفيد ١٩ الاستثنائي على نمط العمل وتغيير تفكير أرباب الأعمال بنموذج التقييم المثالي للموظف ليصبح مبنيًا على المنتج لا الوقت.
يُعد ستيفن روبيرتس أحد أوائل الرحالة الرقميين فقد استطاع بمعداتٍ بدائية مكوّنة من جهازي إرسال وتسجيل أن يعمل أثناء سفره على ظهر دراجته بين عامي 1983م و 1991م قاطعًا 10 آلاف ميل في الولايات المتحدة الأمريكية وقد وُصف بأنه "رحّالة من طراز رفيع" لأنّه جمع بين الترحل والعمل في آن واحد.
مع التسعينات الميلادية بدأ العمل عن بُعد بفتح آفاق جديدة والتوسّع في توظيف أشخاص وراء الحدود والاستفادة من الخبرات البعيدة، وذلك في ظلّ تطور أجهزة الكومبيوتر وشبكة الإنترنت، ومع توفر الاتصال السريع تدريجيًا، أصبحت القدرة على اتخاذ هذا النمط من الحياة والعمل ممكنًا، وازدادت هذه التجربة نضجًا مع تراكم الخبرات، ونقْل الروّاد قصصهم إلى الآخرين.
Digital nomads أو "الرحالة الرقميون" ليسوا العاملين عن بعد فقط، والذين يفضلون البقاء في البيت أو الخروج للعمل من المقهى القريب أو مساحات العمل المشتركة، ولكنهم أشخاص يفضلون تخطّي الحدود والترحّل حول العالم، فهم لا يحلمون مثل أيّ موظف بجمع المال حتى التقاعد ثم محاولة السفر لرؤية العالم، بل يودّون رؤيته أثناء عملهم، وفي سنوات شبابهم.
كلّ ما تحتاجه هذه الوظائف هو معرفةٌ بالتقنية، وشبكة إنترنت فعّالة في مقهى صغير بجزر الكاريبي أو دولة معتدلة الجوّ في شرق آسيا، مقهى أو سكن أو مساحات عمل مشتركة، ثم قضاء الوقت الوظيفي في بيئة تُشعرك بأن الحياة مجرد صيف طويل وعطلة ممتدة، وعينان تتنقلان بين شاشة اللابتوب والغيوم التي ترسم لوحاتها على السماء.
ما يمنع البعض من الحلم بهذه الحياة، هو طبيعة وظائفهم التي تُحتّم وجودهم الجغرافي، وتجعلهم على علاقة وثيقة بالمكتب والكرسيّ الخاص، وقائمة الملفات الورقية، وإشعارات الاجتماعات الحضورية، التي لابدّ من قراءة أجندتها بتمعّن، ثم الجلوس مع الأطراف الأخرى والنقاش والتباحث والخروج بحلول أو خطط أو.. صداع! في الوقت الذي يحضر فيه الرّحالة الرقمي اجتماعه عن بُعد ويناقش المتطلبات وهو يتأمّل تراجع البحر المتوسط في حركة جزره اليومية، أو قدرة الطائرات الورقية على الصمود حتى غياب الشمس.
لتكون رحالة رقميًا لابد أن تفكّر بعمل يمكن ترتيبه في حقيبةِ سفرك، وحمله إلى حافّة العالم، وأن تكون مدير نفسك، أو موظفًا لديك! أو أن تعمل في جهة تتفهّم رغبتك وتطلبُ منك أن تنجزَ لا أن تحضر، والوظائف الصديقة لهذا الأسلوب من الحياة هي: "صانع المحتوى" أو "المصمم" أو "مطور المواقع" وغيرها من الأعمال التي يمكن تنفيذها عن بعد.
هذه الرحلة الرقمية لم تكن رغبةً بالتحرر من الكرسي والطاولة ومشوار العمل اليومي فقط، لكنها شكلت هروبًا من ارتفاعِ تكاليف المعيشة، نحو دول يمكنُ للموظّف فيها أن ينفقَ من راتبه أقل مما ينفق في بلده، ويكون قد حقق القدرة على التوازن بين البحث عن حياة أفضل وعيشها في الوقت ذاته، وزيادة نسبة الادخار لتحقيق الأمان المستقبلي.
رفع جودة الحياة أثناء رحلة العمل هو ما يستهدفه الرحالةُ الرقمي، فهو لا يريد أن يعْلقَ بزحام في شوارع العواصم المكتظّة، وأن يستمع إلى شتائم تصدر من سيارتين متصادمتين، أو ألا يصل لمواعيده في الوقت المحدّد، وأن يصيبه القلقُ وهو يحاول ابتكار طريق مختصرة نحو اجتماع عاجل، وكل هذه المؤثرات التي تصبّ في خانة القلق الذي يحدّ من قدرته على الإبداع والإنجاز، ويقلل من قدراته في التطور وتحقيق المنجزات العملية.
يبقى أمام الرحالة الرقمي الكثير من الصعوبات، فإيجاد الأعمال قد يكون مرهقًا، ومازالت الجهات ترغب في مقابلة المصمم أو المطوّر أو الكاتب شخصيًا، والحلّ المثالي للتخلص من هذه العوائق يكمن في امتلاك المشروع الخاص والأكثر استدامة وأمانًا، للمضيّ في الرحلة الرقمية المستمرة طول العمر، حتى لا تصاب هذه الرحلة بوعكة مفاجئة تخفض من فرص نجاحها وتعيد الموظف إلى مكتبه القديم.
سيصاب وقت العمل ومواعيد الدوام لدى الرحالة الرقمي بالسيولة، فلا يوجد وقت خلال اليوم ليس وقتًا للعمل، فالبصمة التي تُفرض في بعض المؤسسات للدخول والخروج ليست موجودة لديه، ولا يعترف أصحاب الأعمال بأوقات دوام مخصصة إذا كانوا يتعاملون مع طرفٍ خارجيّ أو موظف عن بُعد، وسيكون دائمًا قريبًا من جهازه عند طلبات المهام والتعديل والإضافة، وهذا يعرّض حلمه للتأرجح.
أحد الأشياء التي سيفسدها الترحّل العملي، الخلط بين ذاكرة السفر السعيد في الإجازات، والسفر العملي الاعتيادي، فلا شيء ستذكّرك به المطارات وصالات المغادرة ورائحة السفر سوى يومك العادي البسيط، وربما شعرت وأنت تحصل على معلومات سفرك وتأكيد رحلتك أنك ذاهب لمواصلة العمل، فلا وجود لشيء يُدعى إجازة، ولا يمكنك قطع عملك للتمتّع بعطلة أنت تعيش فيها!
سيفسد السفر المتواصل متعة التخطيط للإجازة المتخيّلة، والتي تجعل الموظف المستقر يفكر بها، وربما وضع قائمةً لدول يودّ زيارتها، بعكس الرحالة الرقمي، الذي حقق الكثير من أحلام السفر التي راودته، وصار ينظر إلى الاستقرار قليلا كشكل من أشكال التغيير..في النهاية لا بدّ لمن يفكّر بأن ينخرط في رحلة رقمية أن ينمّي لديه جوانب العمل عن بعد، ويطوّر مهارات التواصل، ويجهّز خططًا بديلة في حال تعثّر خطته الرئيسة، وأن يحقق أمانًا ماليًا يسمح له بالمغامرة، حتى لا تتحول رحلته الحالمة إلى كابوس مفاجئ، وأن يبدأ الغناء مع كاظم الساهر: "تعبتْ من السّفر الطويل حقائبي!"