كل ما هو مضحك هو إنساني بالضرورة، وإنْ سلَّمنا جدلا أنَّ الإنسان ليس الكائن الوحيد الذي يعرف الضحك؛ فإنَّنا لا بد أنْ نعترف بأنَّه " الكائن الوحيد الذي يعرف كيف يُضحك الآخرين"<span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">زكريا إبراهيم، سيكولوجية الفكاهة والضحك، من منشورات مكتبة مصر العربية، القاهرة، 2001م، ص27.</span></span> إذ قد تُصدر بعض الحيوانات أصواتا تشبه الضحك كما تفعل قرود الشمبانزي اللعوبة، ولكن تلك القهقهات لم تأتِ نتيجة لتوظيف الخيال والوعي الجمعي المشترك، ولم تؤدِ إلى تأليف النكات أو طباعة الكتب الساخرة، ولم تنتج حفلات الكوميديا الارتجالية التي يحضرها الملايين حول العالم، كما لم يسبق لنا مشاهدة مجموعة من القرود متحلقة أمام موقد النار في أمسية مفعمة بتبادل الضحكات والتنفيس عن ضغوط الحياة، ولذا حينما قرَّر الفيلسوف الفرنسي هنري بريجسون أنَّ الضحك ظاهرة اجتماعية تميز الإنسان دون غيره من سائر المخلوقات، وبأنه " لا ضحك خارج ما هو بشري"<span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext"> هنري بريجسون، الضحك، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ترجمة علي مقلدي، طبعة رقمية ص10.</span></span> كانت تلك بمثابة إشارة أنثروبولوجية واجتماعية مهمة بأنَّ علينا النظر للضحك من بُعد غير فسيولوجي حيواني، وغير نفسي سيكولوجي؛ فلا أحد يضحك مع نفسه ودون وعي؛ إلا بمدى ارتباط أفعاله المضحكة ومخالفتها للنسق والمعيارية، وهو – أي الضحك - إما "دعوة سخية للآخر للانتماء والانضمام لنا، أو صرخة طرد ساخرة بعيدا عن محيطنا الاجتماعي"<span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext"> Giselinde Kuipers, Humor Styles and Symbolic Boundaries, Journal of Literary Theory, Amsterdam 2009 P21.</span></span>
ومن هنا بات للضحك تاريخ طويل انعكس عبر ظواهر إنسانية مختلفة، كانت ولا تزال مرتعا خصبا لملاحظة واعتناء الفلاسفة والعلماء، ولكن ربما الملاحظة الأهم هنا، هي أن معظم تلك المعالجات والرؤى العلمية للضحك كانت إمِّا تجريدات فلسفية بهدف ابتكار المفاهيم النظرية والتأملية وتمحيصها ونقدها، أو هي دراسات سيكولوجية ترى في الضحك وكل تمظهراته مجرد حالة نفسية تدرس لدى الفرد بشكل معزول عن محيطه، بينما باتت الدراسات الاجتماعية - بحسب اطلاع الباحث - الأقل في هذا الصدد، برغم أنَّ الضحك هو طقس اجتماعي أولا، وببساطة فإنَّ الضحك وحيدا أمام الآخرين في الشارع أو في أي مكان عام أو خاص يعد مؤشرا لخلل اجتماعي يستدعي من الشخص "توضيح أسباب ضحكاته؛ أو تحمل نتائج هذا الفعل غير السويّ" <span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext"> Zijderveld, Anton, Jokes and Their Relation to Social Reality, C Social Research; Summer 1968; thirty-five, Periodicals Archive Online pg. 286</span></span> ضمن مدونة الأعراف والقيم السائدة في المجتمعات البشرية بشكل عام.
ومع ذلك، فمن الممكن ملاحظة أن الضحك ليس كله نتيجة لأفعال اجتماعية مقصودة، وهذه حقيقة يمكن التقاطها من خلال المواقف اليومية التي تمر بنا، فالأفعال المضحكة غير المقصودة: كفلتات اللسان، والسقوط المفاجئ لإحدهم في الشارع، وغيرها من المواقف المشابهة؛ كلها تشكل نسبة لا بأس بها من المضحكات التي تعبر أمامنا في حياتنا اليومية وتدخلنا أحيانا في نوبة هستيرية من الضحك برغم أنها غير مقصودة. وفي دراسة لـ "روبرت بروفين" أشار لها شاكر عبدالحميد في كتابه الفكاهة والضحك <span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext"> عبدالحميد شاكر، الفكاهة والضحك، سلسلة عالم المعرفة من منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نسخة يناير 2003م، ص23.</span></span> أكدت أنَّ80% من الضحكات التي يصدرها الناس ليس لها علاقة باصطناع الفكاهة، بينما20% فقط من تلك الأفعال هي ظاهرة لغوية مقصودة بهدف إثارة الضحك والسخرية من موقف أو فكرة ما، ومن هنا يمكن فهم سبب استثناء النكات كظاهرة اجتماعية تستدعي الاعتناء والملاحظة السوسيولوجية بشكل مستقل عن ظواهر الضحك الأخرى، حيث دخلت النكت في علم الاجتماع الحديث لتكون إحدى الاهتمامات العلمية ضمن دراسات الموروث والأدب الشعبي الغني بالرموز، والدلالات، والقيم الاجتماعية، وبات للضحك من النكات - مثل أي ظاهرة اجتماعية أخرى - وظيفة اجتماعية ظاهرة وأخرى كامنة تستحق التتبع والفهم في المجتمع السعودي؛ مثله مثل مختلف المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ.
وبناء على كل ما تقدم، حاولت هذه الورقة سبر أغوار النكتة في المجتمع السعودي، استنادا إلى منهج استقرائي وصفي من خلال منظور وظيفي، وذلك عبر الاستعانة ببرنامج التحليل Maxqda <span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext"> Maxqda2022 هو برنامج الكتروني يهدف لمساعدة الباحثين في تحليل البيانات النصية والمرئية والسمعية. </span></span> 2022 لاستقراء ووصف عينة من النكات السعودية بلغت (181) نكتة، تم تداولها خلال الفترة من 20 مايو حتى تاريخ 20 يوليو من العام الميلادي 2023م، وقد هدفت الدراسة إلى تأسيس فهم سوسيولوجي لظاهرة النكتة في المجتمع السعودي بناء على الواقع المتعين، عبر مبحثين رئيسيين يتخللهما عدة محاور فرعية كالتالي:
المبحث الأول: مدخل نظري لمقاربة ظاهرة النكتة فلسفيا وسيسيولوجيا، وذلك للإجابة على سؤال: كيف يمكن لعلم الاجتماع مقاربة ظاهرة النكتة في المجتمعات الإنسانية بشكل عام والمجتمع السعودي بشكل خاص، وما المفاهيم التي قد تطرحها السوسيولوجيا في هذا الجانب؟
ويشتمل المبحث على محورين هما:
المحور الأول/ اصطلاحات ومفاهيم سوسيولوجية مرتبطة بدراسة ظاهرة النكتة وهي: 1- مفهوم الأدب الشعبي 2- مفهوم النكتة 3- مفهوم الوعي الجمعي 4- مفهوم البناء الاجتماعي 5- مفهوم العنف الرمزي 6- مفهوم الوصم الاجتماعي.
المحور الثاني/ استعراض مقتضب لأبرز الرؤى والفلسفات التي تناولت الظاهرة الفكاهية في المجتمعات الإنسانية وأبعادها الاجتماعية، وأيضا تناول أبرز النماذج النظرية في علم الاجتماع، لمحاولة الوصول إلى تجريد إطار نظري يمكن من خلاله فهم وتفسير النكتة في المجتمع السعودي.
المبحث الثاني: يدور حول سوسيولوجيا النكتة في المجتمع السعودي: وخلال هذا المبحث سيتم الإجابة على سؤالين؛ حيث تهدف إجابة السؤال الأول إلى معرفة أبرز خصائص النكتة السعودية في عينة الدراسة، وأما السؤال الثاني فيدور حول الكشف عن أبرز الوظائف الاجتماعية التي قدمتها تلك النكات ضمن البناء الاجتماعي للمجتمع السعودي. وذلك عبر محورين كالتالي:
المحور الأول: يناقش خصائص النكتة السعودية من ناحية الشكل، واللغة، ومجتمع تداول النكتة، وكذلك الصبغة الأخلاقية لمضمون النكتة، وتقديم مقارنة من ناحية خصائص النكتة السعودية من ناحية القيم الحداثية أو التقليدية التي تدعو لها ضمن عينة الدراسة.
المحور الثاني: يناقش أبرز الوظائف الاجتماعية التي تناولتها النكات في عينة الدراسة: وقد عكست الدراسة مجموعة من الوظائف الاجتماعية النفعية الكامنة وراء وظيفة الترويح والفكاهة الجمالية في المجتمع.
وقد خرجت الدراسة بمجموعة من النتائج منها:
توصلت الدراسة إلى استقراء ووصف مجموعة من الخصائص التي ميزت النكات السعودية؛ حيث مثلت النكتة المتداولة في مجتمع الذكور تفوقا إحصائيا مقابل النكتة المتداولة في المجتمع النسائي ضمن عينة الدراسة، أما من ناحية المحتوى فتميل النكتة السعودية إلى التهذيب مقابل البذاءة؛ وذلك بعدم تعرضها للمحظورات الاجتماعية في المجتمع، فيما تشكل الدعوة للأفكار الحديثة تفوقا في محتوى النكتة السعودية مقابل نسبة أقل للأفكار التقليدية، كما شكلت النكات التي تسعى إلى تحديث القيم السائدة في المجتمع نسبة عالية ضمن وظائف النكتة السعودية.
وأخيرا، تمثل الدراسة الحالية جهدا متواضعا يمكن اعتباره مدخلاً نظريا موضوعيا مختصرا، يمكن من خلاله فتح الباب لمزيد من الدراسات المطولة والشاملة، التي تعطي مزيدا من العناية والاهتمام للظواهر الثقافية كظاهرة النكتة، ضمن الواقع الاجتماعي السعودي الغني والمتجدد.
مدخل:
إن المفهوم هو كلمة السر لبوابة الدخول في دهاليز أي ظاهرة، وذلك لخلق سياق مشترك من الفهم يمكن أن يلتقي على أرضه كل من له اهتمام أو اطلاع على العلوم الإنسانية بشكل عام وعلم الاجتماع بشكل خاص، فالمفاهيم هي النظارة التي يمكن من خلالها ملاحظة الظواهر الاعتيادية بشكل موضوعي ومحايد، وفي هذا المحور نتناول بالتعريف ستة من المفاهيم الاجتماعية المركزية لدراستنا عن سوسيولوجيا النكتة في المجتمع السعودي:
بحسب معجم المصطلحات الاجتماعية فإن كل ما هو شعبي يخضع عادة لضوابط تقليدية وغير رسمية تقوم على المعايير والقوانين القرابية، والشعبي هو الجزء من الثقافة الذي ينقصه السند الموثوق أو المؤلف <span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext"> الصالح مصلح أحمد، الشامل قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية، دار عالم الكتب للطباعة والنشر، ط1 الرياض 1999م ص221.</span></span> ، وبالتالي فالأدب الشعبي يعتبر انتاجا ثقافيا شفهيا مجهول المصدر، وهو يمثل وعي أمة أو شعب ما تجاه المتغيرات التي تحيط به، ويظهر لنا على عدة أشكال: فهو الحكاية الشعبية، والأهازيج الطقوسية، والأمثلة، والألغاز، وكذلك النكتة، وينقل لنا الباحث فتحي أبو العينين عن ه.تين " H. Tain" تأكيده بأنَّ الظاهرة الأدبية خاضعة لمعايير العرق، والبيئة، والعصر، وبالتالي فإن هذه التفاعلات تجعل من الصعب الفصل بين الأدب والمجتمع، ويصبح من الطبيعي أن يحوي المنتج الأدبي الشعبي أفكارا من واقعه الاجتماعي. <span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext"> أبو العينين فتحي، التفسير الاجتماعي للظاهرة الأدبية، التراث وإشكالية المنهج" مجلة المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، الكويت، المجلد الثالث والعشرون، 1995م ص176.</span></span>
بداية قد يرد عند البعض اعتراض مفاده أنَّ الحديث في مفهوم النكتة من باب تعريف المعروفات والحديث في المألوفات، وهو مجرد إضاعة للوقت، ولكننا نهدف هنا للتواضع والاتفاق على تعريف يمحص المتشابه، بحيث لا يختلط مفهوم النكتة مع بعض الأجناس الأخرى، وإن اختلط من خلال ملاحظتنا اليومية لبعض أشكال النكات المختلفة عن تعريفنا؛ فيكون في اختلاط المفهوم نتيجة علمية يمكن التعويل عليها في تفسير تحولات النكتة في المجتمع السعودي، كما أنَّ التعريف مفيد للتحديث الإجرائي للمقصود بالنكتة في هذه الدراسة.
ولذا من المهم الإشارة هنا إلى أنَّ النكتة التي انتقلت كمصطلح في الثقافة العربية من دلالتها المادية التي تفيد معنى الأثر البسيط في الشيء "كأن تضرب في الأرض بقضيب فيؤثر فيها" <span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext"> الفيروزآبادي، محمد ابن يعقوب، القاموس المحيط، تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، منشورات دار الرسالة، 1998م ص162.</span></span> ، لتتحول إلى استخدام لغوي معنوي يشير إلى الخُلاصة والفكرة اللطيفة في الكلام، ليتحول المصطلح نحو التوظيف العلمي الذي يفيد المعاني الدقيقة والمسترعية للانتباه والدهشة في المسائل الشرعية واللغوية، ليصل أخيرا إلى التحول نحو معنى الفكاهة والإضحاك <span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext"> السوسوة عباس بن علي، النكتة تأصيل تاريخي لغوي، مجلة مجمع اللغة العربية، دمشق، مجلد 79 ج2، دمشق 2004م ص285.</span></span> ، وإلى معانٍ السخرية والاستنقاص، وبحسب القاموس المحيط فإنَّ "النَّكَّات هو الطعَّان في الناس"<span class="tooltip">(11)<span class="tooltiptext"> القاموس المحيط، ص162.</span></span> وباستقراء كل هذه التحولات اللغوية يصبح لمفهوم النكتة خصائص يمكن تخليصها بالتالي:
1. مجهولية المصدر والمؤلف.
2. شكل من أشكال الأدب الشعبي.
3. التركيب اللغوي البسيط واللطيف.
4. التناقض مع معانٍ سائدة في مجتمع النكتة.
5. ترك أثر الانبساط والانشراح في النفس.
6. التهكمية والسخرية في الأسلوب والدلالة.
وهنالك أيضا ملاحظة أخرى، وهي أنَّ النكتة منطق خيالي غير مرتبط بالحقيقة، ولذا الحقيقة في النكتة تقدم لنا الواقع الاجتماعي بطريقة مختلفة عما يفترض أن يكون عليه، ومثل هذا يتضح في النكتة المتداولة عن " حشَّاش قال لوالد حرمه جاي يخطبها واشترط أبوها مائة الف كمهر!! .. فرد عليه الخاطب: " صلِّ على النبي أنت بكم حسبت لي المتر؟! " ويمكن تلمس مثل هذه الخصائص عبر لغة المبالغة بوصف المشكلة عبر قصة خيالية يستحيل حدوثها في الواقع، وشخصية "الحشاش" الذي - على غير المعتاد - يتفاعل مع المجتمع لينقل رسالة مقاومة للوضع الخطأ دون أي تبعات، فهو بالنهاية حشَّاش أو مخبول لا يؤخذ بأقواله!
يفسر معجم المصطلحات الاجتماعي الوعي الجمعي بأنه: مجموع المعتقدات والمشاعر التي يتقاسمها متوسط أعضاء المجتمع <span class="tooltip">(12)<span class="tooltiptext"> فيرول جيل، معجم مصطلحات علم الاجتماع (ترجمة انسام محمد أسعد) نسخة رقمية عن مطبوعات دار الهلال، ط1 2011م ص62.</span></span> ، وأما عن ارتباط هذا المفهوم بدراسة النكتة، فإنَّ النكتة تمثل تعبيرا عن مشاعرِ وأفكارِ المجتمع حول نمط حياته، ولا يعلم مؤلفها و"إنما تنتج عن التفاعل في الواقع الاجتماعي بلا وعي" <span class="tooltip">(13)<span class="tooltiptext"> .Arthur Berger, Humor Psyche Society, Vernon Press USA, 2020 P9</span></span> . وعلى سبيل المثال السخرية من العلاقات والتفاعلات التقليدية في المجتمعات المحافظة هو بمثابة محاولة واعية لمجموعة من أفراد المجتمع لتغيير الوضع القائم، مثل النكتة التي تقول: " حرام عليك! .. أنتِ ما شفتيه وهو لابس عقال وشماغ؟!! .. وحدة تحاول تقنع صاحبتها إن خطيبها حلو وهو رأسه مربع".في هذه النكتة وعي جمعي حول الجمود الحاصل في نمط الشخصية التقليدية.
وفي المقابل فإن السخرية من مظاهر التفكك والانحلال الاجتماعي تُعد مؤشرا مهما على يقظة الوعي الجمعي لمحاولات القضاء على قيمه المحافظة ونمط تماسكه التقليدي، كما في النكتة التي تقول: " عزيزي الشاب وانت في طريقك للموضة والبريستيج ابعد عن دولاب أختك بارك الله فيك!" ومن هنا تأتي أهمية مفهوم الوعي الجمعي وارتباطه في دراسة النكتة.
للبنية في علم الاجتماع معان واسعة يطول التفصيل فيها، ولكن إحدها يشير إلى معنى العلاقة بين المؤسسات الاجتماعية المتجسدة بيننا بشكل مادي، فالمدرسة، والمسجد، والأسرة، والوزارة ، أبنية قائمة بشكل مادي ملموس. وهذا التجمع لم يكن بمحض الصدفة؛ بل يستند إلى أسس وظيفية وثقافية، وبالتالي فإن "بقاء الكل الاجتماعي واستمراره قائم على العلاقات بين تلك الأبنية ومستوى أدائها لوظائفها"<span class="tooltip">(14)<span class="tooltiptext"> الصالح مصلح أحمد، الشامل قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية، ص507.</span></span> لأنه إن ازداد تصلب تلك الأبنية الاجتماعية أصبحت تضيق الخناق على التغيير الذي يتطلبه الواقع المتغير، وإن اتسمت العلاقة بين تلك الأبنية بالتفكك أو المرونة المبالغ فيها فإن مثل هذا الحال له أيضا آثاره الاجتماعية من ناحية الانحلال والتفكك. وعلى سبيل المثال نرى مثل هذه النكتة التي تنتقد مخرجات النظام التعليمي في الجامعة:
يقف خلف هذا المفهوم تراكم علمي قام به عالم الاجتماع الفرنسي (بيير بورديو) ضمن دراساته للسلطة والرمز في الفضاء الاجتماعي، حيث يجادل بورديو " أنَّ لكل سلطة آلياتها في فرض مشروعيتها والمحافظة عليها"<span class="tooltip">(15)<span class="tooltiptext"> ميلوده وغانية، العنف الرمزي دراسة نظرية في مفهومه وآلياته، مجلة الشامل للعلوم التربوية والاجتماعية، المجلد 5 العدد 2، الجزائر 2022م، ص191.</span></span> وذلك عبر مستوى من القوة تملكه تلك السلطة بشكل استثنائي، ويمكننا أن نلاحظ ذات الخصائص في النكتة التي تسعى لترسيخ مشروعية أفكار فئة اجتماعية تمتاز بالسلطة الاجتماعية عبر ما تمتلكه من قدرة على فرض القيم المرغوبة ومواجهة الأفكار المضادة. وعلى سبيل المثال تقول إحدى النكات في العينة: " الحين أبوك ذابح لك ذبيحتين عشان اسمك وأنت تجي وتسمي نفسك حموتشي وعبوتشي يا كلبوتشي هههههه " ..
مفهوم الوصم الاجتماعي مرتبط عادة بمجالي الجريمة والانحراف في الدراسات الاجتماعية، حيث يمكن أن يتلبس الأفراد شخصياتهم بناء على ما يصمهم الناس به ويعرفونه عنهم، وهو مفهوم مركزي في علم الاجتماع يشير إلى "خلق علامة سلبية أو إهانة تنطبق على شخص أو مجموعة من الأشخاص بناءً على خصائص معينة تعتبر مختلفة أو غير مقبولة من قِبل مجتمع الوصم " <span class="tooltip">(16)<span class="tooltiptext"> 1969 P168 Goffman, E. Stigma: Notes on the Management of Spoiled Identity. Simon & Schuster</span></span> ، وبعض أفراد المجتمع يستخدم تلك الآليات عبر إنتاج النكات لفرض نوع من الضبط الاجتماعي لفئة من المنحرفين عن المعيار السائد، بغض النظر عن صواب ذلك المعيار من عدمه. وعلى سبيل المثال مرت في العينة أكثر من نكتة تصم الزوجات بأنهن يعشقن التنكيد على الأزواج وليس لديهن أي منطق في الخلافات الزوجية. تقول إحدى تلك النكات: " كتبت في جوووجل ماذا تريد المرأة؟ فرد " الله وكيلك قاعدين نبحث لحد الحين!".
1/ التفوق والفوقية عند أفلاطون:
ربما يعد أفلاطون أول من نبه على خطورة الضحك على ثبات ونسقية الموقف الاجتماعي، وما يهمنا من فلسفته هو ما لاحظه بعض الدارسين مما يمكن اعتباره تفسيرا نظريا للضحك بوجه عام والنكتة على وجه الخصوص <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext"> عبدالحميد شاكر، الفكاهة والضحك ص63</span></span> ، وهي أنَّنا نضحك ممن هم أدنى منا منزلة في الغالب، حيث يطغى علينا شعور بالتفوق والنظرة الدونية تجاههم، بينما الشعور تجاه من يفوقنا - مكانة أو منجزا - يُثير فينا شعور الحسد والكره وليس الضحك. ومن هنا يمكن ربط هذه المقاربة الفلسفية بمقاربات علم الاجتماع عبر جسر المركز والمكانة، وعلى سبيل المثال النكتة النسائية عن الزوج الذي يقول لزوجته " المال لا يجلب السعادة" فترد عليه .. "سفرني بأخلاقك الله يسعدك" ففي هذه النكتة خفض لمكانة الزوج بناء على المعيار المادي عبر ربط السعادة بالمركز المادي وليس بالأخلاق النسبية بحسب منطق النكتة المذكورة.
2/ الآلية والمرونة عند بريجسون:
الفيلسوف الفرنسي هنري بريجسون ومن خلال كتابه عن الضحك حاول أن يلخص رؤيته الفلسفية المفسرة للمضحكات في هذا العالم، وملخص قانونه يقف على صراع الآلي والمرن في هذا العالم. حيث يرى بريجسون أنَّ الحياة النمطية تمتاز بالصلابة والجمود مقابل أنَّ التكيف الإنساني مع متغيراتها يتطلب المرونة والحيوية <span class="tooltip">(18)<span class="tooltiptext"> هنري بريجسون، الضحك ص 17</span></span> ، ولذا فالمضحك أو النكتة لدى بريجسون عبارة عن عنصر مفاجئ أو غير متوقع يُبرز تناقضا بين السلوك البشري الآلي والمرن في التفاعلات الاجتماعية، وعلى سبيل المثال في إحدى النكات كانت المرأة تسرد على خطيبها في أول لقاء بينهما كل ما تتوقعه منه بعد الزواج:
بأن "يشيل من رأسه فكرة الدخان، ويشيل من رأسه فكرة الاستراحة والطلعة مع الأصدقاء، ويشيل من رأسه فكرة السفر وحيدا، ويشيل من رأسه التيك توك والسناب"، وعند نهاية طلباتها سألت المرأة بدورها خطيبها ما الذي يتوقعه هو منها فقال بشكل مباشر وغير متوقع : "تشيلين من راسك فكرة الزواج"! هذه النكتة تعكس موقفا حيويا تكيفيا لرؤية الشباب أمام صلابة المجتمع تجاه متطلبات الزواج التقليدي. وهذه النكتة لا يمكن طرحها في نقاش تقليدي ضمن منطق الصواب والخطأ، فجدية المجتمع ومصادر الضبط الاجتماعي فيه تقف حائلاً تجاه مثل هذه الأفكار السائدة والصلبة ضمن البناء الاجتماعي المحافظ، إنما يمكن أن تطرح تلك الأفكار الجديدة ضمن سياق تهكمي يشكك في الوضع القائم، ويدعو الوعي الجمعي أن يعيد النظر والتفكير في صلابته وجموده أمام متغيرات الحياة ومرونتها.
3/ اللامتوقع وتناقض المعنى عند كانط :
فليسوف الحدود الألماني إيمانويل كانط رسم حدود المضحك في كتابه (نقد ملكة الحكم)، حيث يؤكد كانط أنَّنا حينما نستمع لنكتة ما؛ فإننا نضع توقعات لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في الوضع المتوقع؛ ولكن النقيض هو ما يحصل، "فيتحول الانتظار والتشوق العقلي إلى استرخاء جسدي يثير الضحك" <span class="tooltip">(19)<span class="tooltiptext"> إمانويل كانط، نقد ملكة الحكم (ترجمة غانم هنا) المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2005، ص265. </span></span> ، ولذا التفاعل الذي يحصل جراء تعاملنا مع الضحك يراه كانط ماديا حسيا وليس عقليا إذ لا شيء مما انتظرناه يحدث <span class="tooltip">(20)<span class="tooltiptext"> .Attardo S, Linguistic Theories Of Humor, Mouton de Geuyter, Berlin 1994, P49</span></span> ، والغريب أن خيبة الأمل هذه هي مصدر الضحك في النكتة الكانطية، مما يخلق تصادمًا بين التوقعات والنتيجة العدمية للنكتة. وعلى سبيل المثال: تقول إحدى النكات في العينة: بأنه إذا أردت المحافظة على "توازن "حياتك مع زوجتك .. فاتبع طريقتين:
"مرة انت غلطان" ومرة "هي معها الحق".
وهذه النظرة السلبية للعلاقة الزواجية جاءت عبر بناء منطق فيه مقدمة طبيعية ومتوقعة، وتبعه ربط بكلمة " توازن الحياة العائلية" لنتفاجأ أنّ النتيجة هي قبول خيار سلبي غير متوقع ولا يؤدي إلى توازن الحياة على الإطلاق؛ وإنما على العكس استسلام وخضوع للوضع الخطأ بحسب منطق النكتة. وهنالك نكتة أخرى تقول: إن زوجة أرادت التبرع بملابسها القديمة فطلب منها زوجها رمي الملابس بدلاً من التبرع بها!! فاعترضت الزوجة : حرام عليك فيه ناس محتاجة! .. رد الزوج : "الي يلبس مقاسك مستحيل يكون محتاج"!
ولو قيمنا مثل هذا الرد بمنطق أخلاقي فسنواجه معضلة لأنه رد سلبي لا أخلاقي، ويبعث على خيبة الأمل والإحباط وليس الضحك! بالنسبة لكانط هو يرى الفكاهة ويتعامل معها من جانب حسي جمالي عبر فكرة " النزول بالجليل والوقور إلى مستوى المبتذل والإسفاف اللا متوقع" <span class="tooltip">(21)<span class="tooltiptext"> العقاد عباس، جحا الضاحك المضحك، الناشر مؤسسة هنداوي الرقمية، عام 2014م ص47. </span></span> والنكات عند كانط ليست بعمق المتعة التي نحصل عليها نتيجة بهجة الخير الأخلاقية، ولذا كانط يرى النكتة وسيلة لإثارة الضحك بشكل لا ينطوي على أي حكم؛ بل إلى نوع من الإشباع الحسي على أساس مشاعر الصحة والشعور بحال أحسن وليس أكثر.
4/ اللاوعي والاقتصاد الشعوري عند فرويد :
ألف فرويد عن النكتة كتابه (النكات وعلاقتها باللا شعور)، حيث يرى فرويد "أن النكتة هي وسيلة للتخفيف من القيود التي فرضتها الحياة علينا، فهي تسمح لنا بالتعبير عن أفكارنا ورغباتنا الأكثر سرية والتي يمكن أن تكون غير مقبولة في الحياة اليومية" <span class="tooltip">(22)<span class="tooltiptext"> Freud,S (1960) Jokes and their relation to the unconscious, Freud's' books site "digital copy" p.140 </span></span> ، إذن النكتة هي محاولة استثمار الطاقة المكبوتة عبر التنفيس بالضحك. ومن خلال التشبيه بالحلم أكد فرويد أنَّ النكتة لها الشكل اللغوي الظاهر ومحتواها المجازي الباطن والمختلف، ومن هذا التفاوت يحدث الضحك، لكن هذا الانفعال هو نتيجة لكبت الفرد لمشاعره تجاه بعض التابوهات (المحظورات) الاجتماعية، وهذا التفسير رغم أنه قائم على مقاربات نفسية صرفة، ولكنه مع ذلك يذكرنا بردود الفعل الاجتماعية تجاه الضغوط والتوترات في حياتنا كما لدى مقاربة كانط سالفة الذكر، وربما نسمع كثيرا عن أن شعبا ما يواجه أزماته بالضحك والتنفيس! والمختصون في علم الاجتماع يعلمون عن جهود لعلماء نفس اجتماعيين أمثال كارل يونغ؛ في نقل المفاهيم والمعارف النفسية إلى حقل علم الاجتماع، كمصطلح "الوعي الجمعي" وعلى سبيل المثال تقول إحدى النكات في العينة على لسان راويها: " في أوربا تبغى تشتري عطر يناسبك لازم تشرح لهم مراحل حياتك .. أنا لو اشرح لهم مراحل حياتي بيعطوني فليت!".
المختصون في علم الاجتماع يعرفون قيمة النماذج النظرية التي قدمتها السوسيولوجيا لفهم وتفسير الظواهر الاجتماعية، حيث يمكن الحديث عن مجموعة من النماذج النظرية مثل: النظرية الصراعية، والنظرية التفاعلية الرمزية، والنظرية الوظيفية، وربما ليس من المناسب في هذا المقام الإسهاب في شرح تلك النماذج التي تعني المتخصصين؛ ولا تضيف كثيرا في موضوع الدراسة الحالية. ولكن من المهم الإشارة إلى أن هذه الدراسة تبنت النموذج الوظيفي لفهم وتفسير النكتة السعودية، وعليه ربما يجب إعطاء القارئ الكريم تصورا مقتضبا عن النموذج الوظيفي.
النموذج الوظيفي: نموذج نظري في علم الاجتماع طوره مجموعة من علماء الاجتماع مثل أميل دوركايم، وتالكوت بارسونز، وروبرت ميرتون، وهو منظور يرى بأن المجتمع كالجسد البشري يتكون من اجزاء، وكل جزء في الجسد الاجتماعي يؤدي وظيفة معينة للحفاظ على استقرار المجتمع وتضامنه. ومثلما أن اليد تقوم بوظيفة المناولة والالتقاط تقوم العائلة على سبيل المثال بوظيفة التنشئة والتربية، ومثلما أنَّ للجزء وظيفة ظاهرة واضحة، له أيضا وظيفة باطنة مستترة. فالملابس لها وظيفة الملابس ظاهرة تكمن في تغطية البدن، ولها وظيفة كامنة تتعلق بالمكانة والمركز الاجتماعيين، وهذا ينطبق أيضا على النكات. فمثلاً النكتة التي تقول: " في الإجازة خواتي يجون عندنا وزوجات أخواني يروحون عند أهلهم!.. هذا تبادل أسرى مب إجازة " وهنا يحاول الوعي الجمعي تقديم جانب فكاهي ظاهر، ولكنه يبطن معاني لا يمكن التغافل عنها. وعلينا فقط التفكير بالعبارات " زوجات / أسرى" لنفهم الرسالة الاجتماعية المضمنة داخل سياق تهكمي مبطن.
وفي ختام المحور الثاني، قامت الدراسة الحالية بإجراء مقارنة بين الرؤى الفلسفية الأربع بحسب العينة المختارة؛ محاولة لإضفاء مزيد من الفهم النظري للنكات السعودية بناء على معدل التكرارات والنسب المئوية حسب الجدول التالي:
وفي الجدول يمكن ملاحظة أنَّ مقاربة اللامتوقع وتناقض المعنى لدى كانط موجودة في غالبية العينة المدروسة بواقع (52%) فيما جاءت نظرية التفوق الأفلاطونية واللاوعي عند فرويد بمستوى متقارب بواقع (22%) للأولى و(15%) للثانية، وجاءت مقاربة بريجسون الآلية أخيرا بنسبة (11%) من العينة.
ومن هذه القراءة الإحصائية في العينة يمكن ملاحظة أن النكتة في المجتمع السعودي تقوم على فلسفة زوال التوتر عبر تقبل الوضع القائم برحابة صدر ضمن بناء اجتماعي متضامن ومندمج، وهذه النتيجة يمكن أن تسندها أيضا النسبة العالية التي تسجلها نظرية اللاوعي عند فرويد، والتي ترى هي الأخرى أن تداول النكتة يأتي بهدف التكيف والاسترخاء النفسي.
يمثل هذا المبحث الإجابة على سؤالين، وذلك للوصول إلى أولا/ استقراء ووصف لأبرز خصائص النكتة السعودية، وثانيا/ استقراء ووصف أبرز الوظائف الاجتماعية التي تتبناها النكتة في مجتمع الدراسة، كما أن هنالك تنبيها منهجيا ضروريا، وهو أن كل ما توصلت له الدراسة في هذا المبحث جاء بناء على استقراء لواقع العينة، وبالتالي سعت الدراسة إلى عدم التدخل في تأطير تلك الخصائص عبر إعطاء أهداف تصنيفية أو أوصاف قبلية ثم البحث عنها؛ بل فضل الباحث ترك مجتمع العينة يفصح عن نفسه عبر ما توصلت له الدراسة من خصائص أو وظائف اجتماعية في النكتة السعودية، وهذه الملاحظة ننبه لها نظرا لأنَّ هنالك تصنيفات وخصائص للنكات طُرحت في بعض الدراسات اللغوية الأدبية، والفلسفية، والنفسية لم يتم اللجوء اليها في هذه الدراسة.
وهو تصنيف يقصد به وصف النكات السعودية من ناحية المجتمع الذي تداولها سواء أكانوا ذكورا أم إناثا، أما المنهج الذي تم الاعتماد عليه للوصول إلى هذا التصنيف فقد كان الاعتماد على مصدر النكتة؛ أي الشخص الذي نشر النكتة أو أرسلها للباحث سواء كان ذكرا أم أنثى. وقد اعتبرت الدراسة ذلك بمثابة اهتمام قائم على معيار الجنس بمضمون النكتة المنشورة، بحسب الرسم البياني التالي:
وبحسب الرسم البياني يتضح أنَّ (70%) من نكات العينة تم تداولها من قبل مجتمع ذكوري، مقابل (30%) مما يعطي خصائص كمية إحصائية لصالح مجتمع النكات الذكوري في المجتمع السعودي. وعلى سبيل المثال حينما ترد الباحث مثل هذه النكتة: " وحدة دخلت على دكتور وقالت له: لو سمحت ممكن زوجي يدخل معي .. الدكتور تضايق وقال لها: يا اختي أنا دكتور محترم! قالت له العفو منك .. بس الموظفة برا مع زوجي.. وأنا أعرفه لا هو دكتور ولا محترم"! مثل هذه النكتة التي تم تداولها في مجتمع نسائي يشير إلى أن الوعي الجمعي يتحرك للفت الانتباه إلى مشكلة مع تقدم المجتمع نحو الحياة الحديثة، وفي المقابل نكتة أخرى لمرأتين تتعاركان على من يدفع الحساب في الأماكن العامة وهو فعل مرتبط بالرجولة والكرم في المجتمع، تحت الصورة كتبت عبارة " علي الخلع ما تدفعين .. !! "
منطق مثل هذه النكات يؤكد أن كل فئة اجتماعية تتداول مجموعة من النكات بناء على واقعها الاجتماعي. وتدفع بالوظائف والأفكار المناسبة لها، تقول إحدى النكات المتداولة في المجتمع الذكوري: " وحدة توها متعلمة السواقة رمت حجابها وهي تسوق ليه؟! .. قووقل قال لها انحرفي قليلاً " في هذه النكتة ربط الانحراف بقيادة المرأة للسيارة، وتوظيف علامة رمي الحجاب للدلالة على المعنى، وهذه التركيبة اللغوية التهكمية لم تأتِ بمحض الصدفة، وإنما هي انعكاس لتخوف المجتمع الذكوري من ظاهرة لم يعتد عليها وجديدة على الجسد الاجتماعي لمجتمع النكتة.
وهو تصنيف سعت من خلاله الدراسة إلى استقراء ووصف اللغة التي استخدمتها النكتة، عبر التصنيف الذي جاء بناء على واقع العينة حسب الجدول التالي:
وبحسب الجدول يتضح أنَّ النسبة الأكبر من نكات العينة كانت باللغة العامية السعودية بواقع (77%) فيما جاءت لغة الرموز والصور ثانيا بواقع (19%) وأخيرا شكلت اللغة العربية الفصحى ما نسبته (4%) من مجتمع العينة، مما يعطي خصائص لغوية عامية لأسلوب تداول النكتة ونسبة أقل للغة الصور والرموز واللغة الفصحى بحسب العينة.
نموذج لنكتة الصورة في العينة:
في هذا التصنيف اعتمدت الدراسة على معيار لتصنيف محتوى النكتة من ناحية البذاءة والتهذيب، ويقصد الباحث بالبذاءة النكات التي تتناول في محتواها محظورات اجتماعية " Taboo" من ناحية (الدين، الجنس، السياسة). ولأن الباحث لا يفضل عرض النكات الجنسية احتراما للقارئ الكريم، عليه يمكن طرح أمثلة أخرى لتوضيح المقصود، تقول إحدى النكات في العينة: " حرمه سألت زوجها: وين كنت البارح؟! قال لها وش قصدك ترا أنا رجال أخاف الله ولا افعل الحرام! قالت أنا خوفي من الحلال مو من الحرام". وأما النكات المهذبة فهي كل ما لا يحتوى على المحظورات السابقة.
بحسب الرسم البياني التالي:
وبحسب الرسم البياني يتضح أنَّ (71%) من النكات في العينة كانت ذات محتوى مهذب بينما شكلت النكات ذات المحتوى البذيء (29%) فقط من مجموع العينة المدروسة. مما يعطي خصائص تفوق للتهذيب والانسجام مع المعيار الاجتماعي للنكتة السعودية بحسب العينة.
تستند الدراسة الحالية في هذا التصنيف إلى معيارين هما: 1- نكات ذات رسالة تهدف إلى الدعوة لتبني الأفكار الحديثة، 2- ونكات ذات رسالة تدعو للمحافظة على الأفكار التقليدية، ومن المهم الإشارة هنا إلى معنى الحديث والتقليدي الذي تبناه الباحث في تصنيفه لنوع الرسالة، حيث استند إلى ما ذهب إليه عالم الاجتماع ماكس فيبر في تحديد نمط الفعل العقلاني الحديث الموجه نحو المصلحة الذاتية وليس العاطفة أو التقاليد، وهنا علينا ضرب مثال للتوضيح:
النكتة التي تقول: " راتبها عشرين ألف وتسأله تحبني!! .. يا مسلمة ما يقدر يعيش بدونك " .. هنا يتضح أن الحكم بالصواب والخطأ مبني على معيار نفعي يوجه الفعل الصحيح نحو المصلحة الذاتية التي تناسب الحياة الحديثة المادية، ولا يحفل بالقيم المبنية على العاطفة.
وقد جاءت النتائج بحسب الرسم البياني التالي:
وبحسب الجدول يتضح أنَّ (58%) من الرسائل التي تطرحها النكات في العينة تدعو إلى أفكار ذات توجهات حداثية، بينما تشكل الرسائل ذات التوجه التقليدي (42%) من مجتمع العينة، مما يعطي للرسائل في النكتة السعودية تفوقا لصالح الأفكار الحداثية مقابل الأفكار التقليدية، وهي نسبة متقاربة تعطينا مؤشرا على الديناميكية والتفاعل الفكري في المجتمع.
مما سبق استعراضه يمكن أن نستخلص مجموعة من الخصائص التي ميزت النكات التي تم استعراضها في عينة الدراسة والتي يمكن أن تشكل مؤشرات ذات دلالة إحصائية موضوعية لخصائص النكتة السعودية بشكل عام:
يمثل الذكور تفوقا في تداول النكات في المجتمع السعودي مقابل مجتمع الإناث، كما أن اللغة العامية السعودية تشكل هي الأخرى خاصية من خصائص توصيف النكتة السعودية مقابل نكات الصور والرموز أو النكات التي توظف اللغة الفصحى في التخاطب، أما من ناحية المحتوى فتميل النكتة السعودية للتهذيب مقابل البذاءة، وذلك بعدم تعرضها للمحظورات الاجتماعية في المجتمع السعودي، فيما تشكل الدعوة للأفكار الحديثة تفوقا في محتوى النكتة السعودية مقابل نسبة أقل للأفكار التقليدية وإن كانت النسبتان متقاربتين.
ومن خلال هذا المحور تجيب الدراسة على سؤال: ما الوظائف الاجتماعية التي تبنتها النكات في المجتمع السعودي؟ وذلك من خلال وصف واستقراء النكات في العينة للوصول إلى تصنيفات تركها الباحث للبناء الاجتماعي للإفصاح عنها دون محاولة التدخل في تحديدها أو تأطيرها حسب التالي:
تمثل هذه الوظيفة نمط النكات التي تسعى إلى المحافظة على القيم السائدة ومحاربة تغييرها عبر توظيف التهكم أو السخرية من المخالف. وعلى سبيل المثال تقول إحدى النكات في العينة: " الحين الناس ما يحبون طبخ البيت .. بس اذا أكلوا برا البيت يقولون مثل طبخ البيت !! .. يا اخي انفصام في الكرشة الله وكيلك!! " ومثال آخر على النكتة تقول: " الشباب وصلوا مرحلة اذا بغى يمشي يقول وين شنطتي! .. أتمنى ما يتطور الموضوع لمرحلة قوم انت جالس على عبايتي" .. مثل هذه النكات مهمتها المحافظة على نمط القيم السائدة ومحاربة الأفكار التحديثية والتي قد تسعى لتفكيك الوعي الجمعي الذي يعيش عليه المجتمع.
الجدول التالي يقدم قراءة للوظيفة:
<div><table><div align="right"></div><tbody><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>46<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="236" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">عدد التكرارات<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="56" rowspan="3" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">وظيفة الإدماج المحافظة </span></b><span lang="EN-US" dir="LTR"><o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>25%<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="236" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-SA">النسبة المئوية<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>135<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="236" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-SA">النكات التي لا تحوي على المتغير<o:p></o:p></span></p></td></tr></tbody></table></div>
وبحسب الجدول، يمكن ملاحظة أنَّ الوظيفة شكلت ما نسبته (25%) من إجمالي عدد التكرارات في عينة الدراسة بقيمة بلغت (46 نكتة) فيما (135) من نكات العينة لم تحو على أي تكرارات.
على العكس من الوظيفة السابقة تمثل هذه الوظيفة نمط النكات التي تسعى إلى تحديث القيم السائدة في المجتمع بالاستناد إلى معايير اجتماعية جديدة ومختلفة من نواح اقتصادية أو مهنية أو عائلية. مثال ذلك النكتة التي تقول: في إنجلترا يسمون الفتاة الضاحكة باللعوب .. وفي المانيا الملاك الضاحك .. عندنا " الخبلة" .. ويبوننا نضحك بعد!! ههههههههههه " نكتة أخرى تقول : اذا سألته وين رايح قال بجيب الأهل من أهلهم .. والا مودي البيت للمستشفى ! الله يستر ما يقول لك البيت حامل! هههههه" وهنا انتقاد صريح لتجاهل الاعتراف بهوية المرأة بحسب الأعراف المرتبطة بكتمان اسم الزوجة في بعض المجتمعات التقليدية.
<div><table><div align="right"></div><tbody><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>102<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="208" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">عدد التكرارات<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="85" rowspan="3" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">وظيفة صراعية بهدف تحديث القيم والمعايير <o:p></o:p></span></b></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-SA"><o:p> </o:p></span></p></td></tr><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>56%<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="208" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-SA">النسبة المئوية<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>79<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="208" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-SA">النكات التي لا تحوي على المتغير<o:p></o:p></span></p></td></tr></tbody></table></div>
وبحسب الجدول، يمكن ملاحظة أنَّ الوظيفة شكلت ما نسبته (56%) من إجمالي عدد التكرارات في عينة الدراسة بقيمة بلغت (102 نكتة) فيما (79) من نكات العينة لم تحو أي تكرارات لوظيفة الصراع بهدف التحديث.
وتشتمل هذه الوظيفة على قائمة من النكات ذات موضوعات في الشأن الاقتصادي، وقد لاحظ الباحث ارتفاعا في نسبة التكرارات لدرجة تستحق معها تصنيف موضوع خاص في النكتة السعودية يتعلق بالوظيفة الاقتصادية، ويقصد بها كل النكات التي تتضمن تقييما قائما على معايير المال أو الحيازة المادية، وقد تم تصنيف هذه الوظيفة على محورين متناقضين:
كالنكتة التي تقول: " عمرك شايف فلوس تتكلم فيك من وراك؟! .. من فيكم وصخ الدنيا الحين؟ خخخ .." والنكتة الأخرى التي تسخر من الأزواج ذوي المستوى المادي الضعيف تقول النكتة على لسان الزوجة: "موديني زوجي للبر في يوم التأسيس ويقول من هنا بدينا مب من الكفيهات والمطاعم ... مطفر الأخ ويبغا يصرفني بالمنطق! ههههه "
كالنكتة التي تقول: " أيام اول كانوا الناس يرسلون من فطورهم لجيرانهم .. هالأيام صاروا يرسلون صور فطورهم لجيرانهم .. راحوا الطيبين هههههه " وفي ذات التصنيف نكتة أخرى تقول: " شايب زعلان من بنته لأنه صابغة شعرها في الصالون بـ 1500 ريال .. يقول كيف بـ 1500 وحنا صابغين الصالة والمجلس والحوش بـــ 700 !!! "
وكانت النتيجة حسب الجدول التالي:
<div><table><div align="right"></div><tbody><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>41<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="208" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">عدد التكرارات الإجمالي<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="85" rowspan="3" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">نكات ذات موضوعات اقتصادية<o:p></o:p></span></b></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-SA"><o:p> </o:p></span></p></td></tr><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>23%<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="208" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-SA">النسبة المئوية للوظيفة<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>140<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="208" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-SA">النكات التي لا تحوي على المتغير<o:p></o:p></span></p></td></tr></tbody></table></div>
وبحسب ما يتضح في الجدول فقد شكلت موضوعات النكات الاقتصادية في العينة ما نسبته (23%) بعدد تكرارات بلغ (41) نكتة، فيما خلت (140) نكتة من موضوعات الوظيفة، كما أنَّ الجدول البياني يوضح تفوقا لنكات عنصر مواجهة القيم الاقتصادية كمعيار للتفوق في المجتمع، مقابل العنصر المضاد وهو تبرير القيم الاقتصادية كمعيار للنجاح والتفوق.
شكلت الأسرة جانبا يستحق الانتباه ضمن النكات المتداولة في العينة، ولذا خصصت الدراسة الموضوعات العائلية وما يتعلق بها كإحدى الوظائف التي تناولتها النكات في العينة المدروسة، وقد لوحظ أنَّ التوترات الاجتماعية في محتوى النكتة كانت بحسب متغيرين متقابلين:
كالنكتة التي تقول: " الولد الكبير دلوع أمه .. البنت الصغيرة دلوعة ابوها .. الأوسط اطراف بيتزا خخخ " والنكتة التي تقول:" ولله لو يعرفون أهلي الردود الي اردها عليهم في راسي .. كان علاقتي منقطعة معهم ههههه"
كالنكتة التي تقول: " قبل الزواج/ والله لأعيشك ملكة .. بعد الزواج/ دكتور اذا الضرس يكلف شيله فيه ضرس ثاني وراه .. ملكة اجل !! ههههههه .." والنكتة الأخرى التي تقول: " سألت زوجها بحب: هل ستتحملني حينما يصبح لون شعري ابيض؟ .. رد عليها: تحملتك ولون شعرك اصفر.. واحمر.. وفوشي .. وقفت على الأبيض يعني !! "
وكانت نتيجة التحليل حسب الجدول التالي:
<div><table><div align="right"></div><tbody><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>67<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="208" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">عدد التكرارات الإجمالي<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="85" rowspan="3" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><b><span lang="AR-SA">نكات ضمن الموضوعات الأسرية<o:p></o:p></span></b></p><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-SA"><o:p> </o:p></span></p></td></tr><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>37%<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="208" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-SA">النسبة المئوية للوظيفة<o:p></o:p></span></p></td></tr><tr><td width="85" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span><b><span lang="AR-SA"><span dir="RTL"></span><span dir="RTL"></span>114<o:p></o:p></span></b></p></td><td width="208" valign="top"><p class="MsoNormal" dir="RTL"><span lang="AR-SA">النكات التي لا تحوي على المتغير<o:p></o:p></span></p></td></tr></tbody></table></div>
وبحسب ما يتضح في الجدول فقد شكلت نكات التوترات الأسرية في العينة ما نسبته (37%) بعدد تكرارات بلغ (67) نكتة، فيما خلت (114) نكتة من موضوعات الوظيفة، كما أنَّ الجدول البياني يوضح تفوقا لنكات تبرير التوتر بحسب معايير تعبيرية أو رمزية مقابل تكرارات أقل للنكات ذات البعد الحسي أو الشكلي.
يشرح قاموس SAGE الاجتماعي الانحراف بأنَّه" كسر المعايير الاجتماعية غير الرسمية" <span class="tooltip">(23)<span class="tooltiptext"> Bruce & Yearly, The Sage Dictionary Of Sociology, Sage Publications Inc, London UK 2006, P69 .</span></span> أي التي لم يصدر بها قوانين تجرم الفعل من قبل مؤسسات الدولة، وهو مصطلح عادة ما يرافق مصطلح الجريمة التي تحدد بحسب قوانين الدولة وليس المجتمع، وعلى سبيل المثال بعض المجتمعات ترى لبس "الشورت" للرجال شكلا من أشكال الانحراف عن المعيار؛ وبالتالي يمكن أن يصدر عن هذا المجتمع مجموعة من النكات لوصم أفراده بناء على نوع اللباس، وذلك محاولة منهم لتقويم هذا الانحراف حتى لو لم يعتبر هذا الفعل انحرافا في مجتمعات أخرى.
وضمن هذه الوظيفة توصلت الدراسة إلى مجموعة من النكات في العينة تحت تصنيف تقويم الانحراف عن المعايير الجمعية ضمن موضوعات: الوظيفة، أو العائلة، أو الجنس، أو الانتماء، أو الأفكار، أو السلوك الاقتصادي، أو المعايير الشكلية. وعلى سبيل المثال تقول إحدى نكات الوصم بحسب معيار الجنسية: " اللبناني يقول لك: فينا اعذبك؟ واخرتها يبيك تقرب له علبة المنديل .. اعرف لك ناس يقول لك: ممكن طلب صغييير واخرتها يوديك الصناعية الساعة اثنين الظهر ويخليك ترجع بالتكسي ههههه" والنكتة الأخرى تحت تصنيف الوصم بناء على الأفكار والمعتقدات تقول: "الشيلات .. هي فن غنائي يخليك تحس نفسك كفوو وانت خرطي".
واستنادا على ما افصحت عنه العينة يتضح التالي:
وبحسب ما يتضح في الرسم البياني، فقد شكلت نكات تقويم الانحراف بالوصم في العينة بناء على موضوعات عائلية ما نسبته (26%) وبلغت نسبة الوصم في الموضوعات المهنية ما نسبته (11%) وبلغت نسبة الوصم بحسب الجنس ما نسبته (32%) وبلغت نسبة الوصم في الموضوعات بحسب معيار الجنسية ما نسبته (3%) كما بلغت نسبة الوصم في الموضوعات الأفكار والمعتقدات ما نسبته (5%) وقد بلغت نسبة الوصم في موضوعات السلوك الاقتصادي ما نسبته (12%) وأخيرا بلغت نسبة الوصم بحسب الشكل ما نسبته (11%) فيما اشتملت (145) على موضوعات الوظيفة، وقد خلت (36) نكتة من موضوعاتها.
على عكس المتوقع كانت النكتة الرياضية في العينة مخيبة، حيث لم يرد الموضوع الرياضي في نكات العينة إلا مرة واحدة فقط، ويرشح الباحث أنَّ عامل وقت جمع العينة أثناء توقف الأنشطة الرياضية في السعودية، وخصوصا كرة القدم، ربما يشكل متغيرا مؤثرا في هذا الجانب، الا أنَّ هنالك افتراضا آخرا قويا يرجحه الباحث أكثر من الافتراض الأول، ويعود إلى طبيعة النكتة الرياضية في المجتمع السعودي التي تعتمد على التراشق اللحظي " الطقطقة" أكثر من كونها أسلوبا قصصيا تقليديا، وهذه الخاصية ربما تعود للشعبية الكبيرة التي تمتاز بها الأنشطة الرياضية في السعودية، والتي تسمح بالتفاعل اللحظي والسريع على الأحداث من قبل شرائح اجتماعية كبيرة ومتنوعة الميول والآراء بشكل لا يمكن استيعابه بنموذج لغوي يمثل الوعي الجمعي لمجتمع كبير مثل المجتمع السعودي بحسب خصائص النكتة التقليدية، وهذا على العكس من الأنشطة الاقتصادية أو الاجتماعية الأخرى محدودة الآراء والشرائح المتداخلة، طبعا يبقى هذا التحليل مجرد افتراض لا يمكن للدراسة الجزم بمدى صحته.
مما سبق استعراضه يمكن أن نستخلص مجموعة من الوظائف التي استثمرتها النكتة السعودية بحسب عينة الدراسة، والتي يمكن أن تشكل مؤشرات ذات دلالة إحصائية موضوعية لوظائف النكتة السعودية:
فقد شكلت النكات التي تسعى إلى تحديث القيم السائدة في المجتمع بالاستناد إلى معايير اجتماعية جديدة نسبة عالية ضمن وظائف النكتة السعودية حيث بلغت (102) تكرارا بنسبة (56%) من مجموع العينة، وفي المقابل مثلت وظيفة السعي نحو المحافظة على النمط والقيم السائدة ما نسبته (25%) بمجموع تكرارات بلغ (46) تكرارا، وقد بلغت الوظائف ذات الطابع الاقتصادي ما نسبته (23%) بمجموع تكرارات بلغ (41) تكرارا، كما شكلت وظيفة مواجهة التوترات الأسرية بمبررات تعبيرية أو مادية نسبة (37%) بمجموع تكرارات بلغ (67) تكرارا، أما آليات الوصم الاجتماعي عبر النكات فقد تنوعت توظيفاتها وكان أبرزها الوصم بحسب معيار التصنيف الجنسي(ذكور/ أناث)، ثم بحسب المعيار القرابي والأسري، يليها الوصم بحسب السلوك الاقتصادي، ثم بحسب معيار الشكل، وبعدها يأتي تباعا الوصم بحسب الآراء والمعتقدات وبحسب الجنسية.
أولاً/ النتائج: فيما يتعلق بمحاولة الوصول إلى تجريد إطار نظري يمكن من خلاله فهم وتفسير النكتة في المجتمع السعودي، فقد توصلت الدراسة إلى أن تداول النكات في المجتمع السعودي يمكن مقاربته فلسفيا على أنه تفاعل اجتماعي يساهم في إزالة التوترات وبقاء النظام الاجتماعي متضامنا ومندمجا، كما استعرضت الدراسة ثلاثة من النماذج النظرية السوسيولوجية ومدى ارتباطها بتفسير ظاهرة النكتة وهي: النموذج الصراعي، والنموذج التفاعلي الرمزي، والنموذج الوظيفي، واختار الباحث النموذج الوظيفي لتأطير الجوانب الموضوعية في الدراسة الحالية، ثانيا: توصلت الدراسة إلى استقراء ووصف مجموعة من الخصائص التي ميزت النكات السعودية؛ حيث مثلت النكتة الذكورية تفوقا إحصائيا مقابل النكتة النسوية ضمن عينة الدراسة، ومن ناحية اللغة فقد مثلت اللهجة العامية خاصية من خصائص توصيف النكتة السعودية مقابل نكات الصور والرموز، أو حتى نكات اللغة العربية الفصحى، أما من ناحية المحتوى فتميل النكتة السعودية للتهذيب مقابل البذاءة؛ وذلك بعدم تعرضها للمحظورات الاجتماعية في المجتمع السعودي، فيما تشكل الدعوة للأفكار الحديثة تفوقا في محتوى النكتة السعودية مقابل نسبة أقل للأفكار التقليدية، ثالثا: توصلت الدراسة إلى استخلاص مجموعة من الوظائف التي استثمرتها النكتة السعودية بحسب عينة الدراسة، فقد شكلت النكات التي تسعى إلى تحديث القيم السائدة في المجتمع نسبة عالية ضمن وظائف النكتة السعودية بنسبة (56%) من مجموع العينة، فيما بلغ التوظيف ذو الطابع الاقتصادي ما نسبته (23%)، كما شكلت وظيفة التعامل مع التوترات الأسرية بمبررات تعبيرية أو مادية نسبة (37%)، وأما بخصوص وظيفة تقويم الانحراف عبر آليات الوصم الاجتماعي بالنكتة فقد تنوعت توظيفاتها وكان أبرزها الوصم بحسب معيار التصنيف الجنسي، ثم بحسب المعيار القرابي والأسري، يليها الوصم بحسب السلوك الاقتصادي، وبعدها جاء الوصم بحسب معيار المظهر والشكل، ثم بحسب الآراء والمعتقدات وأخيرا كان الوصم بحسب الجنسية.
ثانيا/ التوصيات: خرج الباحث ببعض التوصيات بحسب أهداف وتساؤلات الدراسة كالتالي:
أولاً/ بحسب متغيرات الدراسة وحجمها: تمثل الدراسة الحالية جهدا متواضعا ومدخلاً مختصرا لمزيد من الدراسات، والتي يوصي الباحث بتوسيع نطاقها الجغرافي والمنهجي للوصول إلى فهم أعمق لظاهرة اجتماعية مهمة لم تحظ للأسف بالعناية المرجوة في الدراسات الاجتماعية بشكل عام، والسعودية على وجه الخصوص.
ثانيا/ من خلال نتائج الدراسة يُظهر المجتمع الذكوري تفوقا احصائيا في تداول النكت وأيضا في بعض المتغيرات الثقافية الأخرى. ولذا توصي الدراسة بإعطاء مزيد من الاهتمام لتناول ظاهرة النكتة من منطلقات جندرية (ذكور/إناث).
ثالثا/ تشير الدراسة إلى أن النكت تعكس الأفكار الحديثة أكثر من التقليدية في المجتمع السعودي. ولذا يوصي الباحث بالنظر إلى النكتة من خلال دراسة علاقتها بالتغيير والتحديث الاجتماعي.
والله الموفق.
- أبو العينين فتحي، التفسير الاجتماعي للظاهرة الأدبية، التراث وإشكالية المنهج" مجلة المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب، الكويت، المجلد الثالث والعشرون، 1995م ص176.
- ريلي نصيرة، النكتة الشعبية ودورها في التنفيس عن هموم المجتمع، مجلة اللغة الوظيفية في جامعة حسيفة بن بو علي، 2022م، الجزائر مج9 ص801.
- زكريا إبراهيم، سيكولوجية الفكاهة والضحك، من منشورات مكتبة مصر القاهرة 2001م، ص27.
- السوسوة عباس بن علي، النكتة تأصيل تاريخي لغوي، مجلة مجمع اللغة العربية، مجلد 79 ج2، دمشق 2004م ص285.
- الصالح مصلح أحمد، الشامل قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية، دار عالم الكتب للطباعة والنشر، ط1 الرياض 1999م ص221.
- عبدالحميد شاكر، الفكاهة والضحك، سلسلة عالم المعرفة من منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نسخة يناير 2003م، ص23.
- العقاد عباس، جحا الضاحك المضحك، الناشر مؤسسة هنداوي الرقمية، عام 2014م ص47
- الفيروزآبادي، محمد ابن يعقوب، القاموس المحيط، تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، منشورات دار الرسالة، 1998م ص162.
- فيرول جيل، معجم مصطلحات علم الاجتماع (ترجمة انسام محمد أسعد) نسخة رقمية عن مطبوعات دار الهلال، ط1 2011م ص62.
- قريفلة حميد، مكانة النكتة في الأدب الشعبي، مجلة الباحث في مدرسة العليا في بوزريعة، الجزائر 2009، المجلد2 ص115 .
- ميلوده وغانية، العنف الرمزي دراسة نظرية في مفهومه وآلياته، مجلة الشامل للعلوم التربوية والاجتماعية، المجلد 5 العدد 2، الجزائر 2022م، ص191.
- وليم اوثوايت، قاموس بلاكويل للفكر الاجتماعي الحديث (ترجمة معهد الدراسات العراقية) هيئة البحرين للثقافة والآثار، المنامة 2022م ص981.
- كانط إمانويل، نقد ملكة الحكم (ترجمة غانم هنا) المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2005، ص265.
- هنري بريجسون، الضحك، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ترجمة علي مقلدي، طبعة رقمية ص10.
- Arthur Berger, Humor Psyche Society, Vernon Press USA, 2020 P9.
- Attardo S, Linguistic Theories Of Humor, Mouton de Geuyter, Berlin 1994, P49.
- Bruce & Yearly, The Sage Dictionary Of Sociology, Sage Publications Inc, London UK 2006, P69.
- Freud,S (1960) Jokes and their relation to the unconscious, Freud's' books site "digital copy" p.140
- Giselinde Kuipers, Humor Styles and Symbolic Boundaries, Journal of Literary Theory, Amsterdam 2009 P21.
- Goffman, E. Stigma: Notes on the Management of Spoiled Identity. Simon & Schuster.