أجد من المهم قبل الحديث عن المفاهيم التي تبلورت في مجتمعنا عبر الزمن والظروف المختلفة، أن أضع مقدمة أراها مهمة في معرفة نشأة أي مفهوم ومسيرته عبر الزمان والمكان حتى تبلور وأصبح فكرة قائمة بذاتها يؤمن بها فريق من الناس، هذا النسق المنهجي هو ما يسمى بـ"تاريخ الأفكار"، ولعلي أبني فهمي لهذا النسق وفق نظرة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي حاول وضع تصور منهجي يوضّح فيه المراد بتاريخ الأفكار، فمع تردده من نقل هذا النسق نحو المجال العلمي إلا أنه تعهد ببذل المزيد في توضيحه، وأظنه قد فعل، فتاريخ الأفكار ليس كتاريخ العلوم ولا يشابه جينالوجيا الأفكار؛ بل هو يراوح بينهما مع تركيز عالٍ في فهم الجوانب العمياء في مسيرة الأفكار المتعلقة بتحليل الآراء بدلا من المعارف، و بتحليل الأخطاء بدلا من تحليل الحقائق، وبفهم أنواع العقليات بدلا من الغرق في أشكال التفكير، حاول فوكو أن يؤكد على أهمية تتبع نشأة الأفكار وظروف ميلادها وكيف تنحلّ وتتفكك ثم تتصل في لحظة ما مع بعضها، وكيف تتحول إلى خطابات عامة وتنتشر في حقول معرفية متعددة، كل ذلك وغيره؛ أراده فوكو أن يظهر معا ويُستوعب بجملته لرصد ومعرفة تاريخ نسق الخطابات والمنظومات المعرفية، كمحاولة لفهمها وفق منظور علمي متماسك (انظر: فوكو، ميشيل، كتابه حفريات المعرفة، نشر المركز الثقافي العربي، ترجمة سالم يفوت، الطبعة الرابعة 2015، ص 125-137). هذا النسق الذي وضعه فوكو وقام غيره من المفكرين أمثال أدغار موران ودانييل مورنييه بتطبيقاته حول بعض المفاهيم كالحرية والقيم وإعادة تقييم الثورة الفرنسية؛ ساعد في فهم وتطوير تحليلنا للأفكار، وكيفية بناء المفاهيم، ومعرفة العوامل التي أدت إلى قيام نطاقات فكرية وتصورات اتخذت مع الزمن والانتشار طابع العلمية.
هذا المنحى المنهجي في مجالنا المحلي يكاد يكون غائبا عن الحضور وبعيدا عن الاهتمام، مع العلم أن لدينا حزمة هائلة من المفاهيم والمصطلحات التي تتناقل عبر الأجيال وتمنحها كتب الشروح والحواشي هالة من القدسية، ومع ذلك لا نقف في إعادة طرح السؤالات حولها؛ لأجل معرفة ما تلبّس بها من عادات وأعراف وصراعات وتشكّلات فرضتها البيئة الاجتماعية أو السلطة السياسية، وكل تلك الجوانب مؤثرة في صحة فهمنا للأفكار المتداولة، ومعرفة أسس بناء المفهوم وبقاؤه أو اندثاره.
ولأجل هذا المقصد الهام؛ أردت أن أقدّم للقارئ الكريم عددا من المفاهيم المركزية في ثقافتنا السعودية، مرّت بها دورات عديدة من التحولات الزمانية والمناقشات الاجتماعية، وخرجت تلك المفاهيم إلى عدة أطوار، أحيانا من القبول إلى الرفض، ومن الواقعي العرفي إلى المثالي المقدس، ولعلي في هذه الحلقة أبدأ بأول تلك المفاهيم وهو مفهوم "المطوّع" ويُجمع على "مطاوعة"، وهو إن كان وصفا لفرد أو مجموعة أفراد، إلا أنه تبلور مع الزمن وتشكّل عن معنى عميق في ثقافتنا السعودية، أحاول من خلال هذه القضايا أن أعالج هذا المفهوم أو الوصف الثقافي من عدة زوايا، وفق ما يلي:
أولا: من المهم معرفة متى بدأ استعمال مصطلح "المطوّع" في ثقافتنا السعودية، وحتى أجيب على ذلك، أحتاج إلى معرفة الأصل اللغوي لمفردة "مطوّع"، والمصطلح جاء من الجذر؛ طوَّعَ يطوِّع، تطويعًا، فهو مُطوِّع، والمفعول مطوَّع، والمتطوِّع؛ من يتقدّم لعمل ما مختارًا ومن تلقاء نفسه، ويقال للمجاهدين الذين تطوعون للقتال: المطّوِّعة (انطر: معجم مقاييس اللغة 3/432)، وفي قوله تعالى:"الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" ومعناه: المتطوعين، كما عند ابن جرير(تفسير الطبري14/381 تحقيق شاكر).
فالمطوّع في السعودية وكذا دول الخليج، تدل على المتطوع لعمل ديني يحتسب فيه الأجر، ولا يتفق معه على مال، إلا بالقدر الذي يتبرع فيه الأهالي لإطعامه وإسكانه وقضاء حوائجه، ويمكن ان تكون كذلك امرأة تتطوع في العمل الخيري التعليمي، ويقال لها "مطوّعة" أيضا، والشيخ ابن باز رحمه الله قد سئل عن المطاوعة فذكر تعريفا لهم من الجدير إيراده هنا، حيث قال:" الذي يسمونه: مُطَوَّعًا، أي: قد طوَّعه الله، جعله الله عابدًا له، مطيعًا له، برتبة زائدة على العامة، فوق العامة ودون العالم؛ لأن معنى مُطَوَّع أي: قد طوَّعه الله وجعله يعمل بطاعة الله، وينفع الناس، ويصلي بهم، ويعلم أولادهم، فيقال له: مطوع، عرفًا جاريًا في كثير من أنحاء نجد، وأظنه غير معروف في البلاد الأخرى، هذا معنى مطوِّع." (انظر: https://binbaz.org.sa ).
وهذا التعريف نستخلص نتائج مهمة، وهي: أن المطوع يظهر منه الصلاح والعبادة، ويقوم بالصلاة بالناس ويعلم أولادهم، وأنه فوق العامة ودون العالم، وأن هذا الوصف ظهر في مجتمع نجد. ولعل هذا البيان هو ما يلخّص لنا الشكل الرئيس لمفهوم المطوع في بداية ظهوره، وخصوصية نجد صحيحة، لكن هذه الخصوصية امتدت لمناطق الخليج التي وصل لها مطاوعة نجد أو من تأثر بهم، ويمكن أن يرادفه وصف آخر خليجي وغير نجدي وهو "الملّا" بضم الميم.
وإذا أردنا أن نحدد تاريخ بداية هذا المصطلح؛ فأعتقد أنه قبل انتشار المدارس النظامية، وبعد ضعف وجود الفقيه العالم في الأقطار الإسلامية، ويمكن تحديد فترة ظهور المطاوعة بعد القرن الثاني عشر الهجري (ق 18 ميلادي)، ما يعني أن المصطلح ظهر قبل 200 عام تقريبا، فغياب العالم الفقيه أو ضعف حضوره؛ برّر الحاجة لوظيفة المطوع التي انتشرت في قرى وهجر الجزيرة العربية؛ كإمامٍ للصلاة ومعلمٍ للأولاد القراءة والكتابة والقرآن، وأحيانا عقد الأنكحة أو الإفتاء في أمور العبادة البسيطة.
ثانيا: بعد هذا الوجود الملّح للمطوع في الجزيرة العربية النائية عن حواضر العلم والفقه، ظهرت أمارات تشكّل جديد للمطاوعة، وهذا التطور ظهر مع بداية مأسسة الاحتساب في العهد السعودي الثالث، أي مع ولادة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويرجع أول تاريخ لبداية تشكّل الهيئة في عهد الإمام فيصل بن تركي رحمه الله عام 1834، (انظر: اصول الحسبة في الإسلام: دراسة تأصيلية مقارنة، لمحمد كمال الدين إمام، دار الهداية 1986، ص 131)، بينما يذكر الباحث منصور النقيدان أن بداية هذا تأسيس الهيئة في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، وهذا نص كلامه:"بعد أن طوى الملك عبدالعزيز الحجاز تحت جناحه عام 1927، كلف الشيخ عبدالله بن بليهد رئيس قضاة الحجاز بتشكيل لجنة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجرى اختيار أعضائها من حجازيين ونجديين بعناية فائقة. وكان القصد من تلك الخطوة المبكرة قطع الطرق على "الإخوان"والمطاوعة والعلماء الذين صدمتهم بعض المظاهر الاجتماعية في حاضرة الحجاز، من ترك الصلاة، وشرب الدخان، وفتح الدكاكين أثناء أوقات الصلاة، ووجود بعض بيوت الدعارة ..."(انظر: الملوك المحتسبون، مركز المسبار 2012، ص16).
ومن بعد هذا التأسيس للهيئة؛ مارس المطاوعة دورا أكبر من العمل الفردي في التعليم والإمامة منتقلين إلى عمل جماعي يختص بالاحتساب على منكرات الأسواق والأخلاق وحضور الصلاة في المسجد، وظهر هذا الوجود الجديد للمطاوعة وفق شكل مؤسسي مدعوم من الدولة، ويحظى بصلاحيات تتسع وتضيق حسب الحاجة لهذا النوع من النفوذ في المجتمع. وهذا الدور كان يظهر في العلن وفق ثوابت فقهية يطبقها المطاوعة، متفانين في عملهم بروح احتسابية أكثر منها وظيفية، مستلهمين الدور التاريخي للحنابلة في زهدهم وحربهم للمنكرات العلنية.
ثالثا: تطور مصطلح المطاوعة في السعودية إلى حالة جديدة ظهرت مع الصحوة الإسلامية، فلم يعدْ وصف المطاوعة ينحصر في أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل ظهر مع جيل الصحوة الذي بدأ يتشكل بصورة واضحة داخل المجتمع في منتصف السبعينيات الميلادية، وكان الغالب في توصيف المطاوعة ينطبق على جيل الشباب، الذي أعفى لحيته وقصّر ثوبه، واشتغل بطلب العلم والدعوة، وهنا انسحب وصف المطاوعة على أولئك الشباب اجتماعيا وإعلاميا أكثر من غيرهم، فأدى هذا الانتشار إلى فرز وتصنيف مجتمعي يضع المطاوعة في جانب؛ والأفراد الآخرين ممن لا تنطبق عليه سمات الشكل التديني للمطاوعة في جانب آخر، وهذا التقسيم والفرز الاجتماعي جلب للفريق الملتزم بالدين في مجتمع محافظ العديد من المنافع الظاهرة؛ مثل التصدر في المجالس، والهيبة في الحضور، والتقدّم على غيرهم في أي محفل واجتماع، هذا البروز المجتمعي أدى إلى احتقان خصومهم الذين لا يحملون وصفا تمييزا عنهم، إلا أنهم اضطروا للظهور بعدد من الأوصاف تمايزهم عن هؤلاء الخصوم مثل لبراليين أو مثقفين.
رابعا: هناك نظرية اجتماعية قائمة على نظرية التبادل التي تكلم عنها مالينوفسكي: حيث يتحرك الكائن البشري دائمًا تحت ضغط الحاجة في سياق تبادلي، ليس خضوعًا لقيمة السوق الاقتصادية؛ بل في مجالات الحياة الاجتماعية كافة (انظر: علم الاجتماع الديني، أكوافيفا وباتشي، دار كلمة 2011، ص 59، 61). فالصحوة بما لديها من ثروات رمزية؛ مثل: حيازة المشاعر الدينية، وكاريزمات الشخصيات الوعظية، والتفاعل مع الجمهور واحتياجاته، واجتذاب العواطف، تجعل من أولئك الصحويين عنصرًا فاعلًا في المساومة والمقايضة داخل الدولة والمجتمع، وهذا ما نراه أحيانًا عبر وجود بعض الدعاة في إعلانات بعض الشركات، أو في تعزيز حظوظ رجال الدولة في المجتمع بحضور مجالسهم أو تزكية أعمالهم، أو التأثير في صراع الانتخابات والرهان على تلك القوى الرمزية في إنجاح الأحزاب السياسية، وهذه الحالة التبادلية هي نتاج تفاعل تلك القوى اجتماعيًا، وهذا ما جعل عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو يؤكد أن الدين قد يوظّف بوصفه أهم وسيلة للتميّز عن الآخرين في المجتمع المعاصر.(انظر:المرجع في سوسيولوجيا الدين،(كتاب أكسفورد) الشبكة العربية 2020، 1/164).
لهذا أصبح تيار المطاوعة تيارا فاعلا في المجتمع، يظهر بسمات عالية في التمييز، وخطاب جماهيري يحمل جواذب الوصاية على المجتمع، وهذا التوصيف مارسته صحوات الأديان والأيديولوجيات عبر الزمن، لكن حقيقة الإسلام ترفض رسم شكلٍ مميزٍ في المظهر الخارجي، وترفض تصنيف المجتمع على أساس تكتلات حزبية وتدينية؛ والناس كانوا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق ظاهره الإسلام وباطنه الكفر، مع أنه يعامل وفق ظاهره وهو الإسلام، (انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية، دار العاصمة 1999، 5/63). ولم يكن للمسلمين تصنيفات داخلية تفرقهم عن وصف الإسلام العام.
وختاما.. يظهر مما سبق أن مفهوم المطاوعة كوصف ولقب وحزمة من الأفكار؛ قد تطور عبر الزمن واختلف حاله حسب تفاعلات المجتمع والسلطة معه، وتجريد هذا الوصف من تلبسات تلك التفاعلات يعيننا على النقد الصحيح لهذا المفهوم، ويمنحنا قدرة المراجعة لأفكارنا وممارساتنا الدينية؛ دون ضغط الهيبة من المقدس، أو رغبة التمرد على الواقع.