يهدف البحث إلى تتبع نشأة الفرق الغنائية النسائية السعودية تاريخيًا، واستعراض العوامل الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في نشأتها وتطورها، والتحولات التي صاحبتها. وتقتصر الحدود المكانية للبحث على حاضرة نجد متمثلة -تحديدًا- بمنطقة الرياض شاملة وادي الدواسر بالإضافة إلى منطقة القصيم دون باقي مناطق المملكة؛ وذلك بسبب اتساع رقعة المملكة العربية السعودية واختلاف مناطقها، وتباين حاضرتها عن باديتها، وكذلك الاختلاف بين القبائل البدوية بعضها عن بعض فيما يخص العادات والتقاليد، ممّا ينعكس على اختلاف العوامل التي أدت إلى نشأة الفرق النسائية الغنائية وتعددها، وهو ما يستلزم توسيع مجال البحث الاجتماعي ليشمل باقي مناطق المملكة وهو من الصعوبة بمكان؛ لذا جاء البحث مقتصرًا على المناطق آنفة الذكر.
كما ينصب تركيز البحث على الفرق الغنائية النسائية السعودية، وذلك لسببين: أولًا: إثراء المحتوى التاريخي والاجتماعي المعني بالمرأة السعودية تحديدًا، وثانيًا: اختلاف دوافع نشأة الفرق الغنائية النسائية السعودية عن الفرق الرجالية؛ فحين نتتبع هذه المسألة تاريخيًا سنجد أنّه كان للمرأة التي تقوم بالضرب بالدف أو الغناء في الأعراس دورٌ متسعٌ لا يقتصر فقط على الغناء؛ بل كانت تقوم بمهام متعددة ومهمة وإحدى تلك المهام الضرب بالدف والغناء، وذلك قبل أن يقتصر دورها على الضرب بالدف والغناء فقط، وهذا ما سنتطرق إليه خلال هذه الورقة البحثية بالتفصيل.
وقد اعتمد البحث على عدد قليل من المصادر البحثية التي تطرّقت للغناء أو الضرب بالدف لدى النساء؛ بسبب شحّ تلك المصادر، كما اعتمد البحث -بشكل أوسع- على عدد من المقابلات الشخصية مع (طقاقات) أو فنانات مارسن مهنة الطق و/أو الغناء، ونساء كن مسؤولات عن الظعن للعرائس ، <span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">يستخدم لفظ الظعن في منطقة وادي الدواسر لوصف يوم احتفالي لمسيرة نقل كل أغراض العروس من بيت أهلها لبيت زوجها في يوم محدد قبل حفل الزواج دون حضور العروس، ويكون من مهام المرأة المسؤولة عن هذه الاحتفالية الضرب بالدف والغناء، حسب تعريف إحدى نساء الظعن في وادي الدواسر.</span></span> بالإضافة إلى بنات أو حفيدات للربعيات <span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext"> الربعية هي المرأة التي تقوم بمتابعة العروس والاهتمام بها ومساعدتها والتخفيف من خوفها وتوجيهها في أول أيام زواجها مقابل مكافأة مالية.</span></span>، وتتراوح مدة الخبرة المهنية لجميع النساء اللاتي قابلتهن ما بين ٥ سنوات إلى ما يقارب الخمسين عامًا، بالإضافة لمقابلات شخصية لنساء ورجال مهتمين بالسرد التراثي وذلك لرصد مرحلة نشأة وتطور الفرق الغنائية من ذاكرتهم، وجميعهم قد تجاوزت أعمارهم الستين عامًا.
لقد عُرف غناء ابن الجزيرة العربية منذ الأزل؛ حيث كان يغني على ظهور الإبل (الهجيني)، والهجن هي الذلول المعدة للركوب وتسمى مطية، وهذا النوع من الإبل تطرب وترتفع أعناقها ممتدة للأمام وتغذ السير عندما تلامس آذانها أصوات المغنين على ظهورها والذين يرددون أغانيهم ذات الإيقاع القصير<span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext"> السويداء، عبدالرحمن، نجد في الأمس القريب، دار العلوم للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، ١٩٨٩، ص٢٥١. </span></span>.
ويذكر عبد الله بن خميس في كتابه <span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext"> بن خميس، عبدالله، من أحاديث السمر، مطابع حنيفة، السعودية، الرياض، ١٩٧٨، ص ١٧.</span></span> قصة امرأة من بني لام الطائية ترثي زوجها وشجاعته المنعكسة من غنائه للهجيني، وتقول:
لا وابن عمي يتلـف الهجـن ممشـاه :: لا مـن بغى لـه نيـتـن ما يسـايـل
لا وابن عمي يسقي الربع مـن مـاه :: دليـلـهـن وإن تيـهـوه الـدلايـل
لا وابن عمي يرعـب الهجـن بغنـاه :: مـن كثر ما توحيـه ليـل وقوايـل
كما احتاج الإنسان للغناء لأغراض متعددة، كالتسلية والسلوى في حين، ولاستعراض الشجاعة والإقدام في حين آخر، وغيرها من الأغراض التي لعب الغناء دورًا قويًا في إبرازها وإظهارها.
وبالنظر إلى الفنون الغنائية الشعبية في المملكة العربية السعودية فسنجد أنّ من أبرزها العرضة النجدية والسامري. أمّا العرضة النجدية فهي إحدى الفنون الشعبية المنتشرة في نجد، والتي أدرجت ضمن لائحة التراث العالمي غير المادي في اليونسكو عام ٢٠١٥، وهي كما عرّفها السويداء في كتابه: "بأنّها رقصة الحرب وإن كانت تُلعب وقت الحرب أو السلم، فحتى بالمناسبات والأعياد تقام العرضات النجدية وإن كانت بتسليح أقل" <span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext"> السويداء، عبدالرحمن، نجد في الأمس القريب، دار العلوم للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، ١٩٨٩، ص٢٣١. </span></span>، أمّا تعريف اليونسكو فقد جاء أكثر تحديدًا، حيث عرّفها بأنّها: "أداءٌ استعراضي يجمع بين الرقص وقرع الطبول وإلقاء الشعر، لبدء أو إنهاء المناسبات البارزة، مثل الأعياد الدينية وحفلات الزواج أو حفلات التخرج من الجامعة، وفي المناسبات ذات الطابع الوطني أو المحلي، وتعد من العناصر الرئيسة في التعبيرات الثقافية التي يمارسها المجتمع، حيث يحمل الرجال سيوفًا لامعة، وقوفًا كتفًا لكتف، في صفين متقابلين، تاركين مسافة بينهم، من أجل ترك مساحة للطبول"<span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext"> الموقع الإلكتروني للوفد الدائم للمملكة العربية السعودية لدى اليونسكو.</span></span>.
أمّا السامري فهو "أحد الفنون الشعبية التي تقام في ليالي السمر، وتعقد في أيام السلم والمناسبات، وهدفها الترويح عن النفس"5.
ومن المعلوم -تاريخيًا- أنّ معظم الفنون الغنائية الشعبية قد اشتهر بها الرجال دون النساء، فنجد الكثير من القصائد التي تثني على الرجل الذي يغني الهجيني وما ينعكس من أثر غنائه على السامعين، أمّا المرأة الحرة فعُرف عنها الغناء في وحدتها وعزلتها، فهي تغني أثناء عملها في طحن الحب على الرحى؛ وهو عبارة عن أداة مكونة من قطعتين دائريتين من صخر الجرانيت يتم فيها طحن الحب وتتحكم في نعومة الدقيق وخشونته، ويستغرق العمل عليه قرابة الساعة لإنتاج دقيق يكفي لوجبة واحدة في اليوم؛ وهو ما يدعوها للغناء للتسلية وتمضية الوقت 5. ولعل استئثار الرجال بمعظم الفنون الغنائية الشعبية كان لأسباب اجتماعية وسلطوية وهذا ما أدّى أن يكون لدى الرجال هيكلة لما يمكن تسميته فرقة غنائية، أو بذرة لهيكلة فرقة غنائية -مثل العرضة والسامري- وإن كانت بسيطة، إلا إنّه لا يوجد لدى النساء ما يشبه ذلك، فقد اكتفت المراجع بذكر الغناء لدى المرأة بشكله الفردي والعشوائي خلال عزلتها فقط، وأي محاولات أخرى قوبلت بالمقاومة.
أمّا بالنظر إلى نشأة تلك الفنون الغنائية فلا نبالغ إن قلنا إنّه يصعب تتبع نشأة الفرق الغنائية السعودية اعتمادًا على المصادر البحثية؛ وذلك لأنّ معظم ما دوّن عن الجزيرة العربية من خلال المستشرقين أو المؤرخين -قبل نشأة المملكة العربية السعودية وبداية نشأتها- قد اقتصر على الجوانب السياسية والخرائط الجغرافية وتوزيع القبائل جغرافيًا والعملات المستخدمة، دون تأملٍ للحياة الاجتماعية وخصوصًا النسائية؛ والذي يكاد يكون معدومًا، وقد يكون ذلك عائدًا لصعوبة اقتحام الحياة الاجتماعية النسائية، أو عدم النظر لها بتقدير يستحق التدوين.
وبشكل عام يمكن القول إنّ تدوين التراث الثقافي غير المادي قد بدأ متأخرًا في العالم العربي، وذلك منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي -تقريبًا- وخصوصًا في مصر والعراق <span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext"> جاد، مصطفى، "مشروع تــوثـيق التراث الشعبي في المصادر العربية"، مجلة الثقافة الشعبية، المنامة، البحرين، العدد ٣٩.</span></span> ، أمّا في دول الخليج فقد بدأ مطلع الثمانينيات وذلك إبان تأسيس دول مجلس التعاون الخليجي لـ "مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية"، ولكن المشروع توقف بعد حرب الخليج الثانية، وأصبح يعتمد على جهود فردية وليس مؤسساتية.
إنّ تدوين التراث الشعبي السعودي -بشكل عام- يعد ضعيفًا، ولكنّ تدوين التراث المصاحب للفرق الغنائية السعودية النسائية وخصوصـًا تاريخ النشأة يكاد يكون معدومًا، فيوجد عدة مراجع دونت الأغاني الشعبية دون النظر في تاريخ نشأتها، كجهود الدكتورة هند باغفار في كتابها: "الأغاني الشعبية في المملكة العربية السعودية" حيث قسمت الكتاب إلى ثمانية أقسام حسب مناطق المملكة التي غُنيتْ بها الأغاني، وشمل أكثر من ١٤٠ لونًا من الفنون الشعبية <span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext"> باغفار، هند، الأغاني الشعبية في المملكة العربية السعودية، ١٩٩٤، ص٨.</span></span> . كما أن الباحث أحمد الواصل تطرق إلى نشأة الفرق الغنائية النسائية في الكويت تحديدًا، وأثر ذلك على بقية الجزيرة العربية. حيث يرى أن نواة الفرق الغنائية النسائية في الجزيرة العربية تشكلت في الكويت من خلال تأثير الشاعر السعودي ابن لعبون (١٧٩٠-١٨٣٠) والذي انتقل للكويت لاحقًا، حيث حللّ ورود اسم "فريجة" في قصائده والتي قد تكون:" إشارة إلى رئيسة الفرقة النسائية التي تعلمت منه ما كان يؤديه من الموروث الغنائي الشفوي من السامري ...، وفي كل القصائد يكشف الخطاب الشعري عن قصده امرأة مغنية يشاركها في الغناء أو تجاوبه مع أخريات"، ويصل الواصل: " أن فريجة اسم امرأة كانت تغني معه وتحفظ عنه، وربما كانت النواة الأولى للفرق الغنائية النسائية التي أعقبتها تتوارث أعماله الغنائية مطالع القرن التاسع عشر الميلادي" <span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext"> الواصل، أحمد، تغني الأرض: أرشيف النهضة وذاكرة الحداثة، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، ٢٠١٠، ص٢٨-٣٠.</span></span> ، وباستطلاع رأي الطقاقات اللاتي قابلتهن الباحثة، أو الفنانات اللاتي توارثن المهنة من أمهاتهن أو خالاتهن، كان لديهن رأي مختلف عن تأثير الكويت على نشأة الفرق الغنائية السعودية، فهن يعتقدن أن تشكل الفرق الغنائية في نجد ليست نتاج تأثير الكويت، بل تشكلت بشكل مستقل ولدوافع تغيرات اقتصادية واجتماعية في المجتمع، وتأثير الراديو جاء متأخرًا، أي بعد تكون الفرق الغنائية في نجد، وخصوصًا منطقة وادي الدواسر، فقد يكون هناك تأثر تبادلي من الحركة الغنائية بين البلدين -بعد انتشار الراديو- ولكن ليس في نشأة الفرق الغنائية.
وحلل الواصل الأسباب الاجتماعية في وسط الجزيرة العربية التي دعت إلى تكون الفرق الغنائية النسائية قبل تكون "المغنية المنفردة" حسب تسميته، وأهم هذه الأسباب عمل المرأة المحصور في أعمال البيت فلذلك هي تستقي أغانيها من الرجل، والتحفظ الاجتماعي الذي يحصر غناءها داخل الأسوار، والانفصال والاحتجاب بين النساء والرجال، "فمن الصعوبة خروج المرأة وحدها دون صحبة رجل من أهلها، وهذا ما حدا أن تتكون الفرق من جماعة نساء" <span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext"> الواصل، أحمد، تغني الأرض: أرشيف النهضة وذاكرة الحداثة، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، ٢٠١٠، ص٥٠.</span></span> . وتحليل الواصل لهذه المرحلة التاريخية حيث تأسست الفرق الغنائية النسائية قبل تكوين هوية للمغنية المنفردة جدير بالتأمل لاختلافها تمامًا عن مرحلة القيان والمغنيات في الجزيرة العربية في العهد الأموي والعباسي والأندلسي، والذي كان قائمًا على المغنية المنفردة وليس الفرقة الغنائية.
إنّ مرحلة الصحوة أثرت بشكل سلبي على تدوين ملامح نشأة الفرق الغنائية ونموها؛ فالفنانة عتاب المولودة في السعودية ١٩٤٨ حينما تجاوز وجودها حدود الفرقة الغنائية النسائية إلى المغنية المنفردة اضطرت أن تهاجر إلى القاهرة، بسبب تأثير الصحوة التي قاومت بروزها.
والصحوة حسب تعريف مركز الحرب الفكرية بأن أصلها الدلالي قائم على استعادة الوعي بقيم الدين والالتزام به ولذلك دخلت قاموس الفكر الإسلامي، ومن ثم تحول مفهومها الاصطلاحي من وصف الاعتدال إلى وصف التطرف <span class="tooltip">(11)<span class="tooltiptext"> الموقع الإلكتروني لمركز الحرب الفكرية التابع لوزارة الدفاع في المملكة العربية السعودية.</span></span> . وهي تلك المرحلة التي بدأت في الثمانينيات وانتهت مع تولي الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- لولاية العهد وما تبع ذلك من إطلاق خططه التنموية. ومع رؤية ٢٠٣٠ الواعدة تأسست هيئة التراث والتي من أهم قطاعاتها التراث الثقافي غير المادي والعمل على الحفاظ عليه <span class="tooltip">(12)<span class="tooltiptext"> الموقع الإلكتروني لهيئة التراث.</span></span>.
وهذا التغيّر المؤسساتي يمكن ملاحظة تأثيره على استجابة الجماهير، فمن الجدير بالذكر أنّ الهيئة العامة للإحصاء ذكرت في موقعها الإلكتروني أنّ عدد الحفلات الغنائية على خشبة المسرح قد تضاعف بين عامي ٢٠١٦م و٢٠١٧م من ١٣ إلى ٢٣ حفلة على التوالي، في حين كان عدد الحضور في عام ٢٠١٦م (٦٤٠٠) زائر بينما في عام ٢٠١٧م وصل العدد إلى (٥٠٦٥٤) زائرًا، وذلك بنسبة نمو مدهشة وهي ٦٩١٪ ، والجدير بالذكر -أيضًا- أنّ هذه الإحصائيات هي إحصائيات الحفلات -فقط- التابعة للهيئة العامة للترفيه أو وكالة الشؤون الثقافية بوزارة الإعلام <span class="tooltip">(13)<span class="tooltiptext"> الموقع الإلكتروني للهيئة العامة للإحصاء.</span></span>.
وتُعرف مهنة المغني في التصنيف السعودي للمهن <span class="tooltip">(14)<span class="tooltiptext"> محرك بحث التصنيف السعودي الموحد للمهن، التابع للهيئة العامة للإحصاء.</span></span> بأنّه الذي يقوم بحفظ الأغاني أو المقطوعات الموسيقية الصوتية وتأديتها، والقيام بالغناء منفردًا وفي الإستوديو، وأمام الجمهور. وهذه المهنة تندرج تحت "الموسيقيين والمغنين والملحنين" والذين يعدّون من فناني الإبداع والأداء. كما يُفرّق في التصنيف السعودي للمهن بين المغني وقائد الفرقة الغنائية؛ حيث يقوم الأخير بقيادة الفرقة الغنائية وتحديد الإيقاع والتوافق النغمي واللحني ودراسة وتحليل التوزيع الموسيقي.
إنّ هذا التعريف يُعدُ وصفًا دقيقًا لما وصلت له الفرق الغنائية الآن، بعد رحلة تشكّل طويلة مع التمدن والتغيّر الاجتماعي السعودي، وخصوصًا بعد مرحلة الطفرة بالإضافة إلى مرحلة تجاوز الصحوة إن صح تسميتها بذلك، ولكنّه لا يصف النشأة، حيث كان دور المغني/المغنية تاريخيًا عائمًا ومتداخلًا مع مهام أخرى، وخصوصًا المرأة التي هي مركز البحث في هذه الورقة، حتى إنّه لم يكن يُطلق -سابقًا- على من تمارس هذا الدور كلمة مغنية أو فنانة، بل كانت تُسمى الطقاقة.
و"الطقاقة" مصطلح دارج في السعودية ومنطقة الخليج بشكل عام، ويشير إلى المرأة التي تضرب بيدها على الطار/ الدف وتغني، وهو مصطلح ظهر في نهاية ستينيات القرن الماضي تقريبًا. والطار أو الدف هو آلة من آلات الإيقاع الشرقي، وهو عبارة عن إطار يشد عليه جلد رقيق على أحد وجهيه، ويصدر العزف عن طريق الضرب بأصابع اليد بإيقاعات منتظمة.
ولا يمكن معرفة تاريخ ظهور الفرق الغنائية النسائية السعودية دون تتبع للأعراس السعودية ومظاهر تغيرها السريع مع الطفرة الاقتصادية؛ إذ إنّ نشأة الفرق الغنائية النسائية ارتبطت بالأعراس، وليس مثل الفرق الغنائية الرجالية التي لعبت أدوارًا مختلفة في المجتمع منذ القدم؛ ومن ضمنها -وليس أهمها- الأعراس، وقد يكون سبب حصر دور الفرق الغنائية النسائية في الأعراس مرتبطًا بالتحفظ الاجتماعي على المرأة، ودورها المحصور في الترفيه بما يرافق المناسبات الاجتماعية اللازمة.
الأنثروبولوجيا هو علم مختص بدراسة الإنسان، أي أنه العلم الذي يدرس الحياة البدائية، والحياة الحديثة المعاصرة، ويحاول التنبّؤ بمستقبل الإنسان معتمداً على تطوّره عبر التاريخ الإنساني الطويل، ولذا يعتبر علم دراسة الإنسان علماً متطوّرا، يدرس الإنسان وسلوكه وأعماله <span class="tooltip">(15)<span class="tooltiptext"> أبو هلال، أحمد، الأنثروبولوجيا التربوية، المطابع التعاونية، عمان، الأردن، ١٩٧٤، ص٩. </span></span> ، وهو علم واسع له فروعه العلمية المتخصصة: الأنثروبولوجيا الطبيعية والاجتماعية والثقافية والتطبيقية الحضارية، ويعد الفولكلور جزءًا من الأنثروبولوجيا الثقافية، وعرّف هذا المصطلح لأول مرة وليام جون تومز ١٨٤٦ بأنه "المعتقدات والأساطير والعادات وما يراعيه الناس، وكذلك الخرافات والأغاني الرّوائية والأمثال التي ترجع إلى العصور السّالفة" <span class="tooltip">(16)<span class="tooltiptext"> هولتكرانس، إيكه، قاموس مصطلحات الأثنولوجيا والفولكلور، ترجمة محد الجوهري وحسن الشامي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، مصر، ١٩٧٢، ص ٢٨٠.</span></span>.
إن المملكة العربية السعودية ذات مناطق متعددة، وتختلف كل منطقة في عاداتها وتقاليدها وتراثها وتضاريسها، وهو ما يؤثر على إرثها الثقافي، ومع التطور السريع الذي حدث في المملكة، بدأت تخبو بعض الأغاني القديمة التي تشكل جزءًا من الذاكرة الجماعية وتحمل هذه الأغاني معاني عميقة لها دلالاتها على المستوى الاجتماعي والثقافي يتجاوز أثرها مجرد الترويح عن النفس.
فيرى عالم الاجتماع ويليام باسكوم أن للفولكلور أربعة وظائف: الترويح عن النفس، وتثبيت القيم الأخلاقية وتبرير طقوسها، وكأداة تربوية تعلمية، ويعمل كوسيلة لممارسة الضغط والرقابة الاجتماعية، وهذه الوظائف قد يتداخل بعضها مع بعض، ويصعب الفصل بينها <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext"> Bascom, William R. "Four Functions of Folklore". The Journal of American Folklore, Vol.67, No 266, (Oct-Dec), 1954. </span></span> ، ولذلك يرى عالم الانثروبولوجيا كليفورد غيرتز: "أهمية شرح التعبيرات الاجتماعية وإجلاء غوامضها الظاهرة على السطح" لأنه يعتقد أن الثقافة هي شبكات رمزية نسجها الإنسان بنفسه حول نفسه، وبالتالي ينظر إلى الثقافة على أنها هذه الشبكات، ويرى أن تحليلها يجب أن لا يكون علمًا تجريبيًا يبحث عن قانون، بل علمًا تأويليًا يبحث عن معنى <span class="tooltip">(18)<span class="tooltiptext"> غيرتز، كليفورد، تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ٢٠٠٩، ص ٨٢.</span></span>.
في هذا البحث، جُمعت الأغاني بالتواصل مع أصحاب الخبرات الشخصية في ذات المجال من طقاقات ومطربات، ومع من عاصر تلك المرحلة الزمنية من كبار السن فتكوّنت لدينا مادة يمكن اعتبارها جزءًا من "التاريخ الشفاهي" للأغاني السعودية في المنطقة الحضرية للرياض والقصيم، وقد اعترض بعض الباحثين على هذه التسمية، باعتبارها اختزالًا للمادة المدروسة، واقترح بعض الباحثين الأوربيين تسميتها بـ " التاريخ الذي تعيه الذاكرة" <span class="tooltip">(19)<span class="tooltiptext"> الجواهري، محمد، التاريخ الشفاهي، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، القاهرة، مصر، أبريل ٢٠١٣، المجلد ٧٣ العدد ٣.</span></span> . فهذه الأغاني على بساطتها شكلت جزءًا من الذاكرة الجماعية فيما يخصّ الأعراس، وقد رأى الباحث الفولكلوري يان فانسينا ارتباط المأثورات والأغاني الشعبية بالمجتمع والثقافة التي أنتجتها <span class="tooltip">(20)<span class="tooltiptext"> فانسينا، يان، المأثورات الشفاهية، ترجمة أحمد مرسي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة مصر، ١٩٨١، ص ٣٢١.</span></span>.
أغاني الأعراس- ولعلنا نحاول قراءة مدلولاتها ومعانيها هنا- مرآة عاكسة للثقافة والعادات في تلك المناطق آنذاك، فالحضور الديني في أغاني الأعراس السعودية يبدو جليًا حيث هو بوابة الدخول للاحتفال، فأغنية افتتاحية الأعراس قديمًا:
أول الفال ذكر الله.. والشياطين نخزيها :: والعبوا ياعبيد الله ..جعل ربي يفضيها
وفي رواية أخرى، حافظتْ على نفس المطلع:
أول الفال ذكر الله.. والشياطين نخزيها :: يالا يالا... والنبي صلاتي عليّه
وفي رواية أخرى:
أول الفال ذكر الله.. والشياطين نخزيها :: لعبونا وصافون ولحذر لا يجي زله
مرحبا ياهلا واهلين بالمطية وخيالها
فالفأل -الذي ذُكر في هذه الأغنية- هو قَول أَو فعل يستبشر بِهِ، وضدّه الشؤم والتطير <span class="tooltip">(21)<span class="tooltiptext"> المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، القاهرة، مصر، ١٩٧٢، الجزء الثاني، ص ٦٧٢.</span></span> ، فتبدأ الأعراس بأغنية تستبشر بهذا الزواج وترى ارتباطًا وثيقًا بين التوفيق بالزواج مع ذكر الله، ودحض وساوس الشيطان، فالأعراس السعودية هي امتداد ثقافي للمكون الإسلامي العميق في وجدان المسلمين والذي يعلي من أهمية استفتاح أي شيء يسعى له الإنسان بذكر الله، حيث وردت أهمية الذكر في كثير من الآيات والأحاديث، التي تربط بين ذكر الله عزّ وجل، والشعور بالطمأنينة، كما في الآية الكريمة:" ألا بذكر الله تطمئن القلوب" <span class="tooltip">(22)<span class="tooltiptext"> القرآن الكريم، سورة الرعد، آية ٢٨.</span></span>، وبعد الاستفتاح بذكر الله والصلاة على النبي، يُرحب بالضيوف من خلال الأغاني.
كما نلاحظ أن هذه الأغنية ذكرت بعدة روايات، سمعتها الباحثة من ثلاث نساء يمتهنّ مهنة الغناء، تتفق في مطلعها، وتختلف في بقيتها، وهو ما لاحظته الباحثة في أغانٍ أخرى، فالنص الشفوي عامة :"يعاد تأليفه ساعة الأداء، ويتم في عملية تشبه المحاورة بين الراوي والمتلقي، وإذا لم تتم عملية التفاعل فإن النص يسقط، فكل النصوص التي في أيدينا هي بصورة أو بأخرى تأليف تم ساعة تسجيل النص أو ساعة أدائه" <span class="tooltip">(23)<span class="tooltiptext"> الحجاجي، أحمد شمس الدين، مولد البطل في السيرة الشعبية، دار الهلال، القاهرة، مصر، أبريل 1991، العدد (484)، ص 27.</span></span> وحسب قول أستاذ علم الفولكلور لاوري هانكو:" فإن دور الراوي لا يقتصر على مجرد مسألة إعادة إنتاج للنص المحفوظ كلمة كلمة، فالرواية في الحقيقة تولد من جديد مع كل أداء، خاصة تلك التي تُنْتج لتناسب مناسبات محددة" <span class="tooltip">(24)<span class="tooltiptext"> Honko, Lauri.Methods in Folk Narrative Research. In; Reimund Kvideland and Henning K. Sehmsdorf. “Nordic Folklore: Recent Studies”. Indiana University press. P. 34, 1989 </span></span> ، ولعل " أهم سمة تتسم بها الأغنية الشعبية هي المرونة، فهي تساعدها أن تظل محفورة في ذاكرة الناس وأن تتعدل باستمرار لمواجهة الأنماط الجديدة" <span class="tooltip">(25)<span class="tooltiptext"> مرسي، أحمد، الأغنية الشعبية، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، مصر، ١٩٧١، ص ١٣.</span></span>.
تعد الأعراس احتفالًا بمناسبة سعيدة، لذلك تحمل الأغاني معاني تعبر عن الفرح والسعادة بهذه المناسبة تتسق مع ثقافة المجتمع، ففي إحدى الأغاني ذُكرت هذه المناسبة كأنها عيد "عرسه علينا من ليالي العيد"، فالعيد هو أهم شعيرة دينية اجتماعية في المجتمع السعودي، ومن أقصى تعابير الفرح أن ليلة الزواج هذه تشبه ليلة العيد، وفي أغنية أخرى "مباركين عرس الاثنين..ليلة ربيع وقمره" فهذا التعبير ممتد من الثقافة الصحراوية التي تحتفي بالليلة النادرة خلال العام والتي يكون الربيع ملأ الأرض بشكل مبهج ولو صادف أن يكون القمر بدرًا ليلتها فأي سعادة ستملأ قلب ابن الصحراء، فالأغنية هنا مليئة بالمعاني التي تلامس وجدان وأحاسيس الإنسان السعودي وظروفه الاجتماعية والجغرافية، وأثر الصحراء عليه. لذلك نجد في هذه الأغنية تعبيرا لطيفا عن الطريقة التي ترتبط بها سعادته في ليلته الأهمّ، بمقدرته على تجاوز شقائه وشظف العيش، وقساوة الصحراء. وإن كان البحث عن حاضرة نجد إلا أن الدلالات الصحراوية والبدوية ظاهرة في أغانيها وفي هذا السياق يقول الصويان:" مهما حاولت الحضارة بمنظوماتها الفكرية والإيديولوجية أن تضرب سياجًا بين العربي وبين البداوة فإن لغته وشعره لن يسمحا له بالانسلاخ منها تمامًا، ومهما أوغل في التحضر تبقى البداوة الساكنة في موروثه اللغوي والشعري ماثلة في وجدانه كنموذج لعالم بطولي مثير وحياة فطرية جميلة، ومادة لا تنضب للاستلهام الشعري" <span class="tooltip">(26)<span class="tooltiptext"> الصويان، سعد، الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور، قراءة أنثروبولوجية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ٢٠١٠، ص ٨٣٢.</span></span>
، وهذا حديث قد يفسّر كون معظم الأغاني التي دونتها الباحثة عن أغاني الأعراس في حاضرة نجد مرتبطة بالصحراء وبدلالات البداوة.
لا يمكن أن يخلو عرسٌ من أغنية تمدح والد العروس، فالثقافة العربية ثقافة أبوية بشكل عام، فللأب مكانته العالية داخل الأسرة، فهو أساسها ومَن يمثلها أمام الآخرين، ويظهر ذلك جليًا في الأغاني الشعبية التي تلامس وجود الأب وأهميته، فلا يذكر اسم العروس في بعض الأغاني، بل يذكر أنها بنت فلان، فيتغنى بها كبنت محمد أو بنت سليمان مثلا. ومن الأغاني: "بنت محمد يالغلا الغالية.... دانة في البيت مبزيه" فيشار لها هنا نسبة إلى أنها ابنة فلان، والذي حافظ عليها كالدانة أي اللؤلؤة في الصدفة محمية ومحفوظة، وذكر الأب هنا هو إشارة لدوره في حفاظه الأخلاقي عليها.
وفي أغنية أخرى:
ترا ابوك يا نورة <span class="tooltip">(27)<span class="tooltiptext"> اسم العروس.</span></span> يثني لك الغلا :: وحي(ن) ولا رِزّت عليه النصايب
وهذه الأغنية تحمل تأكيدًا للعروس وللحاضرين أن والد العروس يحبّ ابنته، ولها شأن في قلبه، وأنه حي ولم توضع علامات على قبره في دلالة على عدم موته وأهمية وجوده، وفي هذا تذكير بأنه يدللها ويهتم لأمرها وسيبقى سنداً لها لو ضايقها شيء من زوجها. من الجدير بالملاحظة هنا، أن الأغنية ذكرت "النصايب" أي الأعمدة أو العلامات التي توضع على القبر، ولكن هذه الطقوس لم يعد يعمل بها بعد الدعوة الوهابية، مما يعني أنها قد تكون أغنية سافرت نحونا منذ زمن أبعد.
وفي حال كان الأب متوفى فهو يذكر أيضًا ويدعى له:
جعل محمد <span class="tooltip">(28)<span class="tooltiptext"> اسم والد العروس.</span></span> في الجنان :: ورّث لنا زين الدلال :: ورث لنا سارة <span class="tooltip">(29)<span class="tooltiptext"> اسم العروس.</span></span> غزال
بالإضافة لذلك فللأب نصيب كبير من أغاني المدح في عرس ابنته:
عبدالله <span class="tooltip">(30)<span class="tooltiptext"> اسم والد العروس.</span></span> شريف اشرافي :: وله في العرب ماريّه
له مجلســـــــــــن ينشـــــــافي :: على زل وزوليـــــــــــه
وفي أغنية أخرى:
نوف <span class="tooltip">(31)<span class="tooltiptext"> اسم العروس.</span></span> غزال صادها القناص :: يا بيت ابوها يا قوي الساس
يذبح خروف ودلة مركية :: ومعذب المحماس من حمسة البرية
كلتا الأغنيتين ترتكزان على مدح خصلة الكرم لدى الأب، فمجلسه يُرى من بعد، فهو مفتوح دائماً، وقهوته لا يتوقف حمسها من كثرة الضيوف ، وهذه الأغاني هي امتداد لثقافة الكرم المتأصلة في شبه الجزيرة العربية منذ العصر الجاهلي، وما تسرده القصائد العربية منذ القدم من مدائح للكرم، ومن المفاخرة به بين العرب، فيقول الصويان في قراءة تحليلية عن الكرم لدى رجال الجزيرة العربية: "الكرم من الخصال التي تقود المرء إلى الزعامة وتخلد اسمه في عالم الشعر والأسطورة وفي أحاديث السمر والتعاليل، مثل ما خلدت اسم حاتم الطائي،.... فكرم الرجل هو المحدد الأول لنظرة الناس إليه ومكانته بينهم وشهرته في أحياء العرب، إنه نوع من أنواع الاستثمار لكنه استثمار في السمعة الطيبة والذكر الحسن" <span class="tooltip">(32)<span class="tooltiptext"> الصويان، سعد، الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور، قراءة أنثروبولوجية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ٢٠١٠، ص ٤١٢.</span></span> ، إن هذا الاستثمار لا يجني ثماره الأب وحده، بل ينعكس أثره على أسرته ورؤية الناس لهم، لذلك تعزز هذه الخصلة من قيمة العروس من خلال التغني بأبيها وكرمه وجزيل عطائه، فكلما كانت قيمة الأب عالية حظيت ابنته باحترام الآخرين وتقديرهم.
كما يظهر أيضًا أهمية القهوة ودرجة حمستها كدلالة للضيافة والكرم، حيث إن ذكر القهوة في الأغاني والقصائد العربية هو تأصيل للعادات والتقاليد،" فمن أهم طقوس الضيافة في الصحراء إعداد القهوة وتقديمها، ويتضح لنا مدى تغلغل الطقوسية والرمز في إعداد القهوة العربية وتقديمها بمجرد مقارنتها بالقهوة التركية أو الأمريكية، بينما تتولى النساء في البادية جميع عمليات الطبخ وإعداد الطعام للضيوف، نجد أن إعداد القهوة مقصور علـى الرجال فقط، ...الهاون الذي لا يفتر صوته والنار التي لا تنطفئ علامتان من علامات الكرم البارزة، ...كما أصبح تقديم القهوة العربية أهم طقس من طقوس الضيافة ورمز من رموزها التي توحد بدو الجزيرة العربية وحضرها" <span class="tooltip">(33)<span class="tooltiptext"> الصويان، سعد، الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور، قراءة أنثروبولوجية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ٢٠١٠، ص ٤١٨.</span></span> ولذلك تبتدئ الأعراس السعودية بعد ذكر الله بالتغني بالقهوة:
على صبة القهوة تزيد التراحيب :: هلا بالحضور اللي سكن داخل الروح
كما يمتدح أخوال العروس بكرمهم، وذلك بذكر "الدلة" كرمز دلالي على الكرم والعطاء:
خوالي يرفعون الراس :: اهل دلة واهل محماس :: واهل ركبن على الأفراس
فبالإضافة إلى الكرم، ذكرت الفرس والتي تعد رمزًا للقوة والشجاعة في الجزيرة العربية، فيقول الصويان:"وأصبحت الخيل مصدر قوة القبيلة ورمز عزتها، وصارت تقاس قوة القبيلة بعدد خيلها" <span class="tooltip">(34)<span class="tooltiptext"> الصويان، سعد، أطروحات إثنولوجية، دار مدارك، دبي، الإمارات العربية المتحدة، ٢٠١١، ص ١٥٠.</span></span> وطالما ارتبطت خصلتا الكرم والشجاعة فلا يمكن أن يكون الرجل شجاعًا دون أن يكون كريمًا، ولذلك نلاحظ ذكر هاتين الخصلتين معًا في الأغنية السابقة، وقد حلل ذلك الدكتور الصويان:" يحترم البدو الرجل الشجاع ليس لشجاعته فقط وإنما لأن الشجاعة تمكنه من الكسب الذي ينفقه في طريق البذل والعطاء" <span class="tooltip">(35)<span class="tooltiptext"> الصويان، سعد، الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور، قراءة أنثروبولوجية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ٢٠١٠، ص ٤١٠. </span></span>.
ومن الأغاني التي تذكر بها الأم:
عيال فلان <span class="tooltip">(36)<span class="tooltiptext"> أبو العروس</span></span> كلهم :: لا فرق الله شملهم :: يا زين فلانة <span class="tooltip">(37)<span class="tooltiptext"> أم العروس</span></span> بينهم
فمن الملاحظ أن حضور الأم في أغاني الأعراس أقل بكثير من حضور الأب، ولو ذكرت فتذكر بشكل لطيف ولا يحمل أي دلالة لأهميتها في هذا الحدث، أو بشكل غير مباشر من خلال مدح أخوال العروس، أو أنها أخت فلان، وقد يكون لذلك دلالة في التذكير بأن للعروس سندًا قد تلجأ إليه لو احتاجت فأبوها حاضر وأخوالها حاضرون، في مجتمع مركزه الرجل. وهذا لا يعني عدم أهمية الأم، فالأم لها أهمية بالغة في الثقافة العربية، ولكن دورها داخلي أي محصور بين أفراد الأسرة الواحدة، ولذلك ذكرت الأم في الأغنية السابقة مع الترابط العائلي وأهميته من خلال الدعاء لهم بألا يفرق الله جمعهم، وهذا الدور للأم ليس بطوليًا ولا ممثلًا ولا حاسمًا مع الآخر/ الزوج وأهله كدور الأب، لذلك يكون حضورها لطيفًا ومخففًا في حين أن الأب يحضر بشكل بطولي، وبشكل مباشر باسمه وصيته وكرمه، وحتى لو كان ميتًا فهو لا يُغيّب، فأستاذ الفلسفة الدكتور علي زيعور في تحليله النفسي للذات العربية يقول " إن الأب هو أساس العائلة وبطلها" <span class="tooltip">(38)<span class="tooltiptext"> زيعور، علي، التحليل النفسي للذات العربية "أنماطها السلوكيّة والأسطورية"، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1987م، ص52.</span></span> ، فوجود الأب الوجداني مهم في أغاني الأعراس السعودية، من ناحية النسب وأثر التربية والسند والإرث الأخلاقي وفي هذا دلالة على القيمة العالية للأب في المجتمع، وانعكاس للمجتمع الأبوي. وإذ نتأمل في هذه الملاحظة عن غياب ذكر الأم في أغاني الأعراس، والتي قد يدلّل عليها الطريقة التي تمتمت بها إحدى الطقاقات للباحثة:" ما أذكر أي أغنية عن الأم، وإن جابوا طاريها يقولون أخت فلان"، إننا إذ نتأمل هذه الملاحظة، ونضعها جنبًا إلى جنب مع ما نعرفه عن اللقب الذي يُذكر على سبيل الافتخار " إخوان نورة" فإننا نقف أمام سؤال لا يمكننا بالأدوات التي نملك، أن نجيب عليه بطريقة مرضية، وسنتركه هنا مفتوحا للاحتمالات والتأمل: ما الذي يجعل رجالا، من أعز وأشجع الرجال في وقتهم، يفتخرون بأخوّتهم لأختهم بذكر اسمها، ولا يحتفل بالأم في زواج ابنتها؟
كما أنه من اللافت أن الأغاني السعودية في مدحها للعروس لا تركز على صفات العروس الجمالية، بل جمالها يكاد ألا يُذكر، بل ترتكز على أن الاختيار كان معتمدًا على النسب والصيت، فيتغنّى بالعروس أنها " بنت صيت ومنقشينها"، ومنقشينها أي أن يديها نقشت وزخرفت بالحناء، أي أنها بنت صيت وتزيينها هو إضافة، وهذا انعكاس لأهمية النسب في المجتمع والذي له القيمة العليا في قرارات الاختيار والزواج قديمًا، ولو ذكرت بعض الأغاني دلالات على جمال العروس فهي لا تكون مباشرة، مثل تكرار "الغزال" في عدة أغاني كما ذكرنا سابقًا منها: "ورث لنا سارة غزال" و "نوف غزال صادها القناص" فالغزال صفة تتفق الشعوب على جمالها، ولكن دلالتها لدى العربي الذي ارتبطت ببيئته وندرة وجودها مختلفة، "فهي رمز للجمال والرقة والحسن ولا سيما سواد العين، الذي طالما أغرم به العربي، وسلوكها البعيد النوال ... وارتبط هذا الحيوان بذكر المحبوبة وكان رمزًا لها في الذاكرة العربية" <span class="tooltip">(39)<span class="tooltiptext"> العبودي، ضياء، دلالة الغزال في الشعر الجاهلي، مجلة حقول معرفية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، الجلفة، الجزائر، ٢٠٢١، المجلد ٢، العدد ٣.</span></span>، وهذا السلوك المتحفظ الذي يصعّب مهمة الراغب بنيلها، نراه متجليًا في الأغاني بثنائية الغزال والعروس، وهو دلالة أيضًا لأهمية الحياء كصفة تتصف بها المرأة في الجزيرة العربية، وبما إن الحياء صفة ذات قيمة عليا لدى المرأة السعودية، فهي تتضح أكثر لدى العروس، لذلك بعض الأغاني راعت هذا الجانب فمثلا:
"يا شايلين الظعاعين سيروا بالعروس على الهون"
وَ "يامن شاف العريّس.. يامن شافها :: تمشي على هونها.. على هونها"
فالهَوْن في اللغة: الرفق والوقار ويقال على هونك أي على رسلك <span class="tooltip">(40)<span class="tooltiptext"> المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، القاهرة، مصر، ١٩٧٢، الجزء الثاني، ص ١٠٠١.</span></span>، وذكر في القرآن قوله تعالى: "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا" <span class="tooltip">(41)<span class="tooltiptext"> القرآن الكريم، سورة الفرقان، آية ٦٣.</span></span>. ففي الأغنية الأولى دعوة أن يراعوا العروس أثناء نقلها لبيت زوجها، وذلك أن يسيروا بها على الهون مراعاة لقلقها وحيائها، أما في الأغنية الثانية فإن رؤية العروس نادرة فهي مختبئة في غرفتها ولذلك كان في الأغنية نداء تكرار للتنبيه: لمن شافها؟، والذي رآها فقد رآها تمشي على مهلها خجلًا وحياءً.
وبالتأكيد أن الأغاني الشعبية في الأعراس السعودية لها دلالات أوسع مما ذُكر أعلاه، فهذه القراءة ليست إلا شذرات بسيطة من معانٍ ومفاهيم متعددة، ولذلك من المهم تدوين الأغاني الشعبية من جميع مناطق المملكة وقراءتها وتحليلها.
عُرف الكثير من نساء الجزيرة العربية كشاعرات منذ ما قبل الإسلام، ولعبن دورًا في تشكيل الموروث الغنائي فتحولت قصائدهن إلى مقطوعات غنائية ولا يعني إطلاقًا أنهن غنّين ما باحت به قلوبهن، كما شكلت هذه القصائد وثيقة اجتماعية لمراحل تاريخية مختلفة.
إنّ مهنة الضرب بالدف والغناء عرفت في التاريخ العربي كمهنة تختص بها النساء الجواري ويطلق عليهن "القيان" وخصوصًا في العهد العباسي والأندلسي، حيث شاع وجود أماكن مخصصة أطلق عليها بيوت القيان؛ والتي تجلس فيها النساء للغناء والضرب بالدف، ويأتي إليها الناس للسماع والترفيه. فلم يكن عملًا مقبولًا للحرائر العربيات، " لأن الارتزاق في الغناء لم يكن في شيء من نساء العرب، وإنما كان صناعة موقوفة على القيان اللواتي كن يجتلبن من أطراف البلاد كبلاد فارس والروم" <span class="tooltip">(42)<span class="tooltiptext"> العلاف، عبدالكريم، الطرب عند العرب، منشورات المكتبة الأهلية، بيروت، لبنان، ١٩٦٩، ص٥.</span></span>.
ونستشهد بقول عمرو بن الإطنابة أحد ملوك الحيرة عن القيان وغنائهن، ويشير إلى أنهن من بلاد فارس:
عللاني وعللا صاحــــبيّا :: واسقياني من المـــــــــروّق ريّـــا
إن فينا القيـــــــــــان يعزفـن :: بالدف لفتياننا وعيشًا رخيا
يتبارين في النعيم ويصببن :: خلال القرون مسكًا ذكيًا
إنما همن أن يتحـــــلين :: سموطًا وسنبــــــلًا فارســـــيًا <span class="tooltip">(43)<span class="tooltiptext"> الأصفهاني، أبو الفرج، الأغاني، دار صادر، بيروت، لبنان، ٢٠٠٢، الجزء ١١، ص٨٢.</span></span>
والمرأة في العصر العباسي خصوصًا كان لها دور في تطور الغناء العربي، وذلك من خلال القيان اللاتي اشتهرن في تلك المرحلة، ولم تشتهر امرأة عربية كمغنية كشهرة العباسية علية بنت المهدي، "فربما كانت نساء عربيات غيرها نابغات في صياغة الألحان، ولكنهن لم يشتهرن مثلها، لأن المرأة العربية لم تكن تتخذ الغناء مهنة لها، ولم تتوسع الشهرة لعلية إلا لكونها من بنات الخلفاء وغنت أخاها هارون الرشيد ولابني أخيها الأمين والمأمون" ومن الجدير بالذكر هنا أن والدة عليّة كانت جارية تجيد الغناء <span class="tooltip">(44)<span class="tooltiptext"> العلاف، عبدالكريم، الطرب عند العرب، منشورات المكتبة الأهلية، بيروت، لبنان، ١٩٦٩، ص٤٧.</span></span>.
وظلت هذه المهنة في الثقافة العربية -وخصوصًا في منطقة الجزيرة العربية- مرتبطة بالجواري، إلى مرحلة إلغاء الملك فيصل -رحمه الله- للرق.
ذكر أحد الباحثين الميدانيين عبارة إبان عقد السبعينات في الخليج العربي تكشف وضعًا مستمرًا لاعتبارات اجتماعية، وهي تقول:" في العصور الغابرة كان الفنانون هم العبيد (الأرقاء) أو الأغراب، إن معظم الموسيقيين والمغنين والراقصين التقليديين كانوا من الفرس أو الأفارقة، أما العرب فلم يكونوا يمارسون الفنون، محتفظين لأنفسهم بدور أقل إرهاقًا وهو دور المتفرج والمستمع المقدّر" <span class="tooltip">(45)<span class="tooltiptext"> الواصل، أحمد، تغني الأرض: أرشيف النهضة وذاكرة الحداثة، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، ٢٠١٠، ص٤٥.</span></span>.
فقد عُرف عن نساء الجزيرة العربية أنهن يغنين في عزلتهن، ولا يتباهين بصوتهن فلا يسمعهن الغريب، ومن كانت امرأة حرة تغني بصوتها وعُرف عنها ذلك فهي تبدو كالمتمردة على سلطة المجتمع، وفي هذا السياق نذكر الشاعرة والمنشدة موضي البرازية (ت.١٨٦٠) والتي عُرف عنها أنها تغني قصائدها بصوت مسموع، فشكاها بعض المتدينين إلى الإمام، مما جعله تحت ضغطهم يرسل خادمه "سلامة" لضربها، وتحذيرها ألا تعود للغناء، فضربها عقابًا لها على الغناء، فسمعت هديل الحمام وهي تتألم من الضرب، فعبّرت بحسرة عن مقدرة الحمام على الغناء بحرية، فقالت <span class="tooltip">(46)<span class="tooltiptext"> بن رداس، عبدالله، شاعرات من البادية، دار الشبل للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، ١٩٩١، ص ١٩٨.</span></span>:
ياسِعد عينك بالطــرب ياحمامــة :: ياللي على خضر الجرايد تغنين
عزي لعينك إن درى بك سلامة :: خـــــــلاك مثلــي يالحمامة تونــــــين
كسّر عظامي كسّر الله عظامـــه :: شوفي مضارب شوحطه بالحَجَابين <span class="tooltip">(47)<span class="tooltiptext"> الشوحطة: عصا من شجر الشوحط، الحجابين: جمع حجبة وهي أسفل الظهر.</span></span>
ولذلك "تقبل هذه المهنة من الرقيق الأسود اللاتي يطلق عليهن الطقاقات، ولكن هؤلاء الفئة لسن من المجلوبات قريبًا، بل ربما يتحتم أن تكون إحداهن مولودة في البيئة التي ستغني فيها فنونها وتراثها" <span class="tooltip">(48)<span class="tooltiptext"> الواصل، أحمد، تغني الأرض: أرشيف النهضة وذاكرة الحداثة، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، ٢٠١٠، ص٤٨.</span></span>.
إنّ التغير الاجتماعي السريع الذي حدث في المملكة العربية السعودية ارتبط بشكل قوي مع التغير الاقتصادي الذي صاحب اكتشاف النفط، وهو ما ساهم في تغير نمط الحياة الاجتماعية السعودية ومنها مظاهر الترف. فبالأمس القريب لم يكن هناك فرقٌ غنائية ولا آلات موسيقية، واقتصر الأمر على الضرب بالدف والغناء بشكله البسيط والذي يكاد يكون تلقائيًا وحاضرًا في الأعراس السعودية.
ويذكر المؤرخ عبد الرحمن الرويشد - رحمه الله- بعض تقاليد الأعراس في الرياض قديمًا، فيقول: "عند وصول الجميع إلى بيت العرس تنطلق الزغاريد مرحبة بقدوم العريس، وتضرب الدفوف، ويشتد زحام الأطفال لرؤية المعرس"، أما في وصفه للجانب النسائي فيقول: " تتوافد النساء والفتيات إلى بيت العرس، ويعمر الحفل بوجود صاحبة الدف (الطقاقة) وغالبًا تكون من أسر الدفافات المعروفات، الشائع ذكرهن اللاتي توارثن هذه المهنة. وأذكر أنّ آخر من ضربت الدف في أعراس أهل الرياض قديمًا على الطريقة التقليدية امرأة عرفت بــ (بنت الحجيباء) التي اشتهرت مع بناتها بهذا العمل، إضافة إلى امرأة أخرى كانت تعرف بأم فيصل. ويقال إنّ عائلة الحجيباء قد توارثت الضرب بالدف في الرياض لأكثر من ثلاثمائة عام" <span class="tooltip">(49)<span class="tooltiptext"> الرويشد، عبد الرحمن، الرياض مشاهد وذكريات، الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، الرياض، المملكة العربية السعودية،١٤٢١، ص٦٧.</span></span>.
وقد فرّق الرويشد في كتابه بين دور الطقاقة أو الدفافة كما أطلق عليها ودور الربعية في أعراس الرياض قديمًا، حيث اقتصر دور الربعية على مساعدة العروس فقط. وذكر بعض من عاصروا تلك المرحلة أنّ العوائل ميسورة الحال هي التي كانت قادرة على إحضار دفافات/طقاقات بالإضافة إلى الربعية، وكانت بنت الحجيباء ونغيمشة -حسب قول من عاصر تلك المرحلة- مشهورات في منطقة الرياض، أما معظم العوائل فكانت تكتفي بالربعية ومن تحضره معها من أقاربها للمساعدة. وكذلك في منطقة القصيم كانت الربعية هي من تقوم بالضرب على الدفوف ومعها بعض من أهلها، أما في منطقة وادي الدواسر فالمرأة التي يوكل لها المهمة يكون من مهامها -أيضًا- الضرب بالدف والغناء، وهو دور يكاد يكون أقل قليلاً من طقاقة متفرغة لهذه المهنة؛ بحيث يكون دفًا بسيطًا مع أغانٍ عشوائية.
وهكذا استمرت النسوة -وجميهن سعوديات الجنسية- اللاتي يمارسن مهنة الربعية أو تجهيز ظعن العروس بأداء هذه المهنة، ثم تحوّل بعضهن لاحقًا إلى طقاقات، خاصة مع التوسع في قصور الأفراح وتغير نمط الأعراس في السعودية.
تذكر أم خالد من القصيم (٧٨ عامًا) أنه من المتعارف قبل ما يقارب نحو ٥٠ عامًا أن يكون لكل منطقة ربعية محددة؛ فمثلا كانت الربعية "جعباصة" وبناتها في منطقة الطرفية، و"مطرة" في منطقة خضيراء، و "أم نويصر" في الشماسية، و"رويشدة" و "أم دواس" وبناتهن في وسط بريدة. وكان دور الربعية لا يقتصر -فقط- على العناية بالعروس وملازمتها، بل كانت تقوم بمهام متعددة ممّا يستدعي أن تستعين ببناتها أو من تحضرهن معها من أقاربها لمساعدتها في هذه المهمة، فقد كان أهل العروس يعتمدون عليها فيما يتعلق بشؤون العروس قائلين لها: " ترا العرس بوجهك"، أي إنّها مسؤولة عن كل تفاصيله من طبخ عشاء العرس، والطق والأغاني، إلى العناية بالعروس؛ كترتيب فراشها، وتسخين الماء لها، وملازمتها أربعة أيام في بيت أهلها، ومرافقتها في يوم يسمى يوم الرحيل؛ وهو الذي تنتقل فيه العروس من بيت أهلها إلى بيت الزوجية، وتحصل مقابل هذه المهمة ما بين ٢٠٠ إلى ٣٠٠ ريال، والذي كان يُعد آنذاك مبلغًا مجزيًا.
وبهذا كانت الربعية تشرف على مراسم الزواج منذ بدايتها وحتى نهايتها؛ حيث تجتمع النساء من بعد صلاة العشاء مباشرة في بيت أهل العروس ويكون اجتماعهن في السطح أو في الحوش، ويباركون لوالدتها، وتظل العروس في غرفتها ولا تظهر للناس، ومن ثم يأتي المعرس إلى غرفة العروس حيث تصاحبها الربعية، فيعطي الربعية مبلغًا من المال، ثم تخرج الربعية قليلًا من الوقت إلى عرس النساء، وتبدأ بالطق هي وبناتها على "طشت" معدن -وهو الذي يستخدم لغسيل الملابس- أو على قدر الذبيحة الكبير، وتتشارك ثلاث نسوة فيضربن بأيديهن على القدر المعدني الكبير، وأحيانًا على تنكة التمر، وتغني الربعية بعض الأهازيج البسيطة، ولا يشترط أن تمتلك صوتًا رخيمًا أو تكون ذات قدرة غنائية عالية، فكما كانت الأعراس بسيطة فإنّ متطلباتها -أيضًا- كانت بسيطة جدًا. ومن هذه الأهازيج <span class="tooltip">(50)<span class="tooltiptext"> جميع الأهازيج جمعت شفويًا من قِبل الباحثة خلال المقابلات كما شُرح في حدود البحث ومصادره.</span></span>:
هلا هلا بالعروس ومن معها لافي :: مبروك عرس حضر به كل مزيونة
ومن الأغاني <span class="tooltip">(51)<span class="tooltiptext"> من الأغاني التي ذُكرت أكثر من مرة خلال البحث، والجدير بالذكر أنها وصلتنا من التراث الكويتي، والأغنية موجودة في اليوتيوب ومغناة بصوت عبدالمحسن المهنا.</span></span>:
يامن شاف العريّس.. يامن شافها :: تمشي على هونها.. على هونها
يامن شافها تزهي بثوب الحرير :: يجي يطمن قلبي على حالها
ومن الأغاني أيضًا:
كريم يابرق ســـــــرى عز واليــــــــــك :: من هيبتك يحلف على كل ساري
يوحش تنكاسك من أعلى مراقيك :: وتكثر حركة مــــــــــــــدورين المـــــــــــذاري
الظعن في اللغة العربية هو السير والارتحال، فالظعن هو الرحيل في الهوادج، ومن ثم سميت المرأة إذا كانت في هودجها ظعينة <span class="tooltip">(52)<span class="tooltiptext"> العسكري، أبو هلال، معجم الفروق اللغوية، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ١٩٩١، ص ٨٤٠.</span></span>.
ويستخدم لفظ الظعن في منطقة وادي الدواسر -كما سبق ذكره- لوصف يوم احتفالي لمسيرة نقل كل أغراض العروس من بيت أهلها لبيت زوجها في يوم محدد قبل حفل الزواج دون حضور العروس، ويكون من مهام المرأة التي تحمل مسؤولية الظعن الضرب بالدف والغناء.
وتتكون أغراض العروس في هذه المسيرة من صندوق خشبي يسمى الفاتية <span class="tooltip">(53)<span class="tooltiptext"> عيسى، عباس محمد، موسوعة التراث الشعبي في المملكة العربية السعودية، وزارة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية، ١٩٩٨، المجلد السابع، ص٦٨.</span></span> توضع به الأقمشة والعطور والقدور والمفارش، بالإضافة إلى الحلي، ويكون الصندوق ذا نقوش ملونة، وقد يحتوي على قطع من المرايا، وبعض أنواع المسامير ذات الرؤوس الذهبية، وتعد الفاتية من أهم شروط جهاز العروس والتي تتباهى بها الدفافات خلال ظعن العروس من بيت أهلها إلى بيت الزوجية.
تقول أم بندر وهي طقاقة من منطقة وادي الدواسر:
لقد عُرفتُ في منطقة وادي الدواسر قبل ٤٠ عامًا كأهم النساء المسؤولات عن ظعن العروس، حيث توكل لي مهمات عديدة من بينها ضرب الدف أو الطق، وهذه المهمات تتوزع على أربعة أيام: (يوم الجهاز، يوم النصبة، يوم الظعن، يوم العرس).
ففي يوم الجهاز وهو ما يسمى هذه الأيام المهر والهدايا، يدعوني أهل المعرس للذهاب معهم عند توصيل الجهاز لأهل العروس، وعند وصولهم لبيت العروس أضرب بالدف على قدر معدني وأغني مدحًا لوالد العروس وأهلها:
فلان <span class="tooltip">(54)<span class="tooltiptext"> فلان هنا اسم والد العروس.</span></span> عليه السلامة رحبّنا يوم جينا :: يفداه ولد العداما ولد الردي جعله يفداه
أما في يوم النصبة -وهو يوم خاص بأهل العروس فقط- وهو اليوم الذي يسبق يوم الظعن؛ حيث تجهّز أم العروس وقريباتها كل ما يخص العروس من أمتعة ستنقل في يوم الظعن من بيت أهلها لبيت زوجها، وحينها يدعوني أهل العروس من صلاة العصر لأساعدهم في جمع المواعين وصحون الغسيل والمفارش وسفر الأكل وأقمشة وملابس العروس، ونضع كل مجموعة داخل سفرة خوص ونلفها ونربطها بقوة، لتكون جاهزة لنقلها في الغد في يوم الظعن، ويحضر في هذا اليوم خالات العروس وعماتها وبنات أعمامها وأخوالها للمساعدة، ويكون دوري المساعدة والترفيه؛ حيث أساعد أحيانًا، وأغني وأطق في حين آخر على طشت معدني أو قدر نحاس، وبعدما ننتهي من تجهيز كل شيء، نتناول عشاءً خفيفًا، وأكمل الليلة مع النسوة بالطق والغناء، ويرقصن ويتمايلن قليلًا.
أما يوم الظعن فلا أستطيع أن أقوم بالمهمة وحدي؛ فكنت أستعين ببعض أخواتي أو قريباتي، وكانت تستخدم الحمير أو النياق لنقل جهاز العروس، أو السيارات من طراز الونيت، وذلك على حسب مقدرة أهل العروس المادية آنذاك. فإن كان النقل بالحمير فكنّا نمشي خلفها ونغني، أما إن كانت سيارة ونيت فكنّا نركب في الصحن ونضرب الدفوف على قدور معدنية، ونغني:
جايبين الظعن لسارة <span class="tooltip">(55)<span class="tooltiptext"> اسم العروس.</span></span> لبيت زوجها :: وسارة بنت صيـــــت ومنقـــــشينها
أو
ياشايلين الظعاعين سيروا بوجدان <span class="tooltip">(56)<span class="tooltiptext"> اسم العروس.</span></span> على الهون
وفي يوم العرس يدعونني للطق والغناء، ولا بد أن أغني أغاني في مدح أهل المعرس وأهل العروس، ومن أشهر الأغاني التي لا بد أن تُغنى في كل عرس:
سموا عساه مبارك وسعيد :: يا عرس منهو يمنع التالي
عرسه علينا من ليالي العيد :: ياما بركة من بدّ الليالي
وتتابع أم بندر:
ولكنّ الحياة تغيّرت فيما بعد، فلم يعد هناك يوم للنصبة أو للظعن، فأصبح دوري مقتصرًا على الطق والغناء في الأعراس، فمنذ نحو عشرين عامًا اقتصرت مهنتي على الطق؛ فأصبحت طقاقة وأسست فرقتي الغنائية الخاصة بي، ولم نعد نستخدم القدور، بل طارات أو دفوف خاصة للطق، وكانت أول عشر سنوات من تأسيس الفرقة سنوات خير عليّ وعلى عائلتي، ولكن فيما بعد فضّل الناس الأغاني الحديثة والموسيقى، واستخدام سماعات متقدمة وربط الغناء مع خلفيات موسيقية مسجلة، وأنا لا أعرف استخدام كل هذه الأجهزة.
وتتنهد أم بندر وتقول: راح الفن، راح الجهد الشخصي، ولم يعد الطق والغناء الشعبي جذابًا، ولذلك فإنّ عدد زبائني محدود الآن. <span class="tooltip">(57)<span class="tooltiptext"> انتهى كلام أم بندر.</span></span>
ونعرض فيما يلي صورة نادرة عثرت عليها الباحثة في موقع Flicker وهوية المصور مجهولة، ومرفق مع الصورة نفس التعليق المذكور في الموقع ممن أدرج الصورة على الموقع، وقد يكون صاحبها.
ونلاحظ في الصورة -كما وصفت أم بندر- يوم الظعن في شارع أبو حديج بالنويعمة في وادي الدواسر؛ حيث نرى نقل كل ما يخص العروس من بيت أهلها لبيت زوجها في مسيرة يرافقها الدف والغناء، ويلاحظ أنّ النساء في صحن الونيت "السيارة الأمامية" واقفات ومعهن الدفوف، والأطفال يركضون أمام السيارات وحولها، ومن السطوح يطل بعض الجيران لتأمل هذه الرحلة التي تكسر رتابة الحياة اليومية في القرية، أمّا آخر سيارة فيوجد بها صندوق الفاتية الخشبي الذي تشتهر به عرائس وادي الدواسر، بالإضافة لقدور كبيرة للطبخ، والذي يعني مسؤوليات جديدة للعروس في الحياة الزوجية.
صورة قديمة على شارع أبو حديج بالنويعمة وفيها صورة (الظعن) وهو عبارة عن نقل عفش العروسة إلى بيت العريس، ويتبين فيه الفاتية والقدور والفرش والقيان والنساء تدف كما في الصورة
إنّ التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها المملكة العربية السعودية في الخمسين عامًا الماضية كانت سريعة بحيث أثرت على مظاهر الأعراس، التي اعتراها تغيّر كبير، ومن مظاهر هذا التغيّر تلاشي دور الربعية، وفي محاولة من هؤلاء النسوة للحفاظ على مصدر رزقهن، سعين إلى أن يبقين دورهن مقتصرًا على الطق والغناء بما يتواءم اجتماعيًا مع تلك المرحلة، فتحولت معظم الربعيات إلى طقاقات، ثم قامت بناتهن -لاحقًا- بتأسيس فرق غنائية خاصة بهن، مثل بنت رويشدة، وبنت مطرة في منطقة القصيم، فقد توارثن المهنة عن والدتهن الربعية، ثم طوّرن عملهن بما يتسق مع التغير الاجتماعي الحاصل في المملكة العربية السعودية، ممّا يستلزم بناء هيكلة مختلفة لآلية عملهن.
أمّا في وادي الدواسر فقد جاء التغيير متأخرًا قليلًا عن منطقة الرياض والقصيم، فأم بندر كانت بنفسها مسؤولة الظعن قبل أربعين عامًا، ثم اقتصرت مهنتها كطقاقة فقط، وقبل عشرين عامًا أسست فرقة غنائية خاصة بها.
وإذا كانت معرفة تاريخ ظهور الفرق الغنائية السعودية مرتبطة بتتبع الأعراس وما رافقها من تغيرات متلاحقة؛ فإنّه يمكن القول إن بداية ظهور الفرق الغنائية النسائية السعودية كان -تقريبًا- في بداية سبعينيات القرن الماضي، كما يمكن القول إن بداية تشكّل الهوية لعمل الطقاقات ومن ثم تطورها لفرق غنائية جاء متزامنًا مع اندثار دور الربعيات وانحسار دورهن إلى الطق والغناء فقط، حيث تحولت مهمتهن الهامشية في الغناء – التي كانت ضمن مهامهن المتعددة- إلى المهمة الوحيدة والدائمة، مما استلزم لاحقًا تطوير مهاراتهن وأدواتهن الغنائية.
يتسبب هذا السؤال -مؤخرًا- بحساسية شديدة، وذلك لأنّ استخدام لفظ "طقاقة" أصبح يعتبر كأنّه إهانة وتقليل من القيمة الفنية والاجتماعية أيضًا. فجميع النساء اللاتي تواصلت معهن رفضن هذا الاسم تمامًا، على الرغم من أنّهن مررن بمرحلة كان دورهن ينحصر فيها على الطق فقط وذلك من خلال تتبع سيرتهن وبداياتهن الفنية، سوى امرأتين -وكانتا الأكبر عمرًا- تقبلتا هذا الاسم، إحداهن عبّرت باستسلام قائلة: "إيه طقاقة وحدتنا الظروف". وفي هذا السياق أذكر ردة فعل إحدى النساء اللاتي قابلتهن وقد رفضت -تمامًا- اسم طقاقة على الرغم من أن نشأتها منذ الصغر كانت مع فرقة طق، ولكنّها كانت تؤكد بصياغتها: "أنا أمسك المايك ما أمسك الطار"، وأخرى بدأت الطق والغناء دون علم أهلها في البداية، وحين واجهتهم بعملها رفضوا أولًا، ثم رضخوا للأمر بشرط ألا تمسك الطار وتطق، بل تقوم بالغناء فقط.
وما لا يمكن تجاهله في هذا السياق أنّ التغيّر في اللفظ المستخدم قد رافقه تغيّر في التفاصيل الوظيفية لهذه المهنة، حيث لم يصبح للطق على الدفوف القيمة العليا التي تقدم أثناء الاحتفال، فمع تطور الآلات الغنائية والسماعات الصوتية، أصبح الاعتماد على الرتم الموسيقي المسجل دون أن يكون هناك طق مباشر بالأيدي. وأصبحت الفرق الغنائية تعتمد على صوت الفنانة أو المغنية ومهندس الصوت الذي يضبط الإيقاعات الموسيقية، وفي حال وُجدت فرقة للطق على الدفوف فإنّه -غالبًا- لا يُعتمد على الصوت الصادر من الدفوف، بل على الإيقاعات المسجلة ويكون وجود الفرقة إيحائيًا فقط.
ولكن هل هذا التغيّر الوظيفي يستدعي كل هذه الحساسية والتخلي عن لقب طقاقة؟
وفي محاولة لفهم هذا التغيّر تساءلت الباحثة: من أين أتت كلمة "طقاقة" أساسًا؟ وهل تلبّست بالشوائب وأصبحت غير مقبولة ممّا استدعى البحث عن كلمة بديلة؟ أم إنّ مهنة "الطقاقة" قد انتهت -فعلًا- و"الفنانة" هي المرحلة التي تليها؟
لقد بدأ عمل النسوة بالطق أو الدف كعمل فردي وجزء من عمل الربعية أو مسؤولة الظعن، ثم انحسر دورهن لاحقًا كطقاقات، وبعض النساء كما ذكر الرويشد في كتابه كانت مهنتهن الطق أو الضرب بالدف -فقط- وخصوصًا في منطقة الرياض، واللاتي كان يسميهن الرويشد "دفافات". وربما يكون هذا التحول تفسيرًا لمسمى المهنة "طقاقة"؛ والذي ارتبط بالطق أي الضرب على القدور المعدنية سابقًا حيث لم تكن الدفوف متوفرة في معظم الأحيان، وحينها كان لصوت الطق أو الدف قيمة عليا فوق صوت الأهازيج، ولم يكن لصوت الغناء أو خامة الصوت أهمية مثل صوت الطق العشوائي والذي تأتي أهميته في دلالته على الفرحة والبهجة وإعلانه عنها.
ولكن كلمة "طقاقة" حملت -مع مرور الزمن- معنى اجتماعيًا يتجاوز دور امرأة تحاول مشاركة الآخرين أفراحهم، وتلعب دورًا مبهجًا ومهمًا في احتفالاتهم، وتكسب من ذلك قوت يومها؛ بل أخذت منحى آخر متدنيًا ومتواضعًا ومزدرى أيضًا.
ونذكر في هذا السياق أنّ إحدى الفنانات الخليجيات التي طالما كان لها صراعات في المنطقة قد سُئلت في عدة مقابلات: هل أنت طقاقة؟ أو هل بدأتِ مسيرتك الفنية كطقاقة؟ وكانت صياغة هذه الأسئلة تأتي في محاولة لاستفزازها، ممّا يجعلنا نستنتج أنّ طرح هذا السؤال من باب الاستفزاز وكذلك محاولتها الإجابة بنفي الإهانة المعلقة بهذه الوظيفة هو إثبات أنّ لهذه الوظيفة شوائب اجتماعية عالقة، بل إنّ بعض الجماهير الذين لا يحبون تلك الفنانة يسمونها "طقاقة الخليج" في محاولة للتقليل من مسيرتها الفنية.
إنّ كل هذا الصراع واللغط يحدث حساسية من كلمة "طقاقة"، وهذا يعني أنّ الكلمة مليئة بالمفاهيم غير المقبولة اجتماعيًا.
وفي محاولةٍ بسيطة لاستقراء المعاني المرتبطة بتلك اللفظة -وهي محاولة ليست علمية تمامًا، بل للحصول على انطباع عام- أدخلت الباحثة كلمة "طقاقة" في محرك البحث الخاص بتويتر، وفي قراءة لما يقارب أول ١٠٠ تغريدة، كان المغزى من استخدام لفظ "طقاقة" في التغريدات يتكرر في عدة سياقات، أهمها:
§ من يتحدث لإرضاء الآخرين، ولا يكون لشخصيته أي هدف أو معنى، وهو لفظ موازٍ -تقريبًا- "للتطبيل"، واستخدم في هذا السياق خصوصًا في المجال الإعلامي والرياضي، ومن الجدير بالذكر أنّ الإعلامي داود الشريان لديه مقالة عنوانها: " المثقفون والطقاقات"؛ حيث يعقد مقارنة بين دور المثقف في المناسبات الثقافية ودور الطقاقة في الأعراس لإرضاء الجماهير، ويكاد يكون هذا السياق هو الأكثر استخدامًا.
§ واستخدمت لفظة "طقاقة" أيضًا في نطاق ازدراء الآخرين والعنصرية والتقليل من الشأن بشكل مباشر، حيث توجد أبيات هجاء متداولة لشاعر يسمى محمد الشمالي المري، وترددت في تغريدات عديدة، تقول تلك الأبيات: "اللي لا ثورها يتقي راسه... علي الحرام إنه ولد طقاقة/ لا قلت له دنق براسك دنق...متعود راسه على الدناقة/ بالمعرفة مجهولة الهواية... ما عندهم رخصة ولا بطاقة"، وأدرجت بعض هذه التغريدات تلك الأبيات الشعرية القاسية بإلقاء صوتي مع خلفية موسيقية.
§ تُستخدم للكناية عن " صاحبة مزاج سيء، أو ذوق سيء في الأناقة، وصعوبة في التعامل" ومعظم من استخدم هذا السياق كان من الأوساط النسائية.
§ واستخدمت -أيضًا- في التقليل من مستقبل شخص على نطاق وظيفي، تقليلًا وامتهانًا لقدراته، أو لمن لم يؤدِ عمله بشكل جيد ومُرضٍ، فيقال له: "حدك طقاقة"، أي ليس لديك إمكانيات للوظيفة التي تشغلها.
§ وبشكل أقل استخدم اللفظ في سياق "استكثار الرزق أو الخير على الطقاقة "؛ حيث وصمت وظائف أخرى عالية الأجر وبجهد قليل بأنّها كوظيفة الطقاقة من حيث سهولة الحصول على المال، والجدير بالذكر أنّ هناك مقالًا في جريدة عكاظ يشير إلى مهنة الطقاقات بعنوان:"مهنة هامشية بأسعار خيالية".
إنّ التأمل الاجتماعي لما لحق بمهنة الطقاقة من وصمات بدت مختلفة في تفاصيلها، وإن كانت تتفق كلها بشكل عام في النظرة الدونية والتقليل من الشأن والازدراء، قد يستدعي ما يسمى في علم اللغويات " Euphemism / تلطيف التعبير"، ويعني استبدال كلمة بكلمة أخرى، حيث يغلب اجتماعيًا أن تكون الكلمة الأصل جارحة أو بذيئة، ومحاولة استخدام الكلمة البديلة لإخفاء أو التخفيف من الوصمات أو الترسبات العالقة على الكلمة الأصل <span class="tooltip">(58)<span class="tooltiptext"> Webster's Online Dictionary. </span></span>".
وفي مقالة من أرشيف ذا نيويورك تايمز لستيفن بينكر <span class="tooltip">(59)<span class="tooltiptext"> Pinker, Steven, The Game of the Name, The New York Times, New York, USA, 1994.</span></span> أطلق على نظرية " تلطيف التعبير" واستبدال كلمة بأخرى ما سماه The euphemism treadmill أي إنّها لعبة كلمات، وأنّها تشبه حالة من يتمرن على جهاز السير الكهربائي؛ فهو يدور حول نفسه بلا نهاية، ليعود مرة أخرى إلى نقطة البداية، فهو يدور في حلقة مفرغة؛ ما يعني أنّ هذا التغيير اللفظي لا يغيّر المفهوم، وسرعان ما ستظهر الشوائب على الكلمة الحديثة ويضطر الناس للبحث عن كلمة تلطيفية أخرى، وأنّ ما يجب تغييره ليس الكلمات بل المفهوم العميق تجاه الشيء وليس اللفظ. ولذلك نبقى أمام تساؤلات: هل غيّر المجتمع اللفظ فقط؟ أم أنّه تخلص من المفهوم بكل شوائبه؟ وهل سيشعر من يسمع اللفظ الجديد بأنّه يخبئ تحته لفظًا آخر دون أن يُنطق؟! أم أن مهنة "الطقاقة" اندثرت وظهرت مهنة مقننة بشكل آخر وهي "الفنانة" أو "المطربة"؟
ترى الباحثة أنّ تغيير مصطلح "طقاقة" قد يبدو على السطح كأنه محاولة تلطيفية، ولكن عند البحث في جذور الدوافع التي قادت إلى تغيير اللفظ من خلال تتبع التغيرات التي طرأت على هذه المهنة من ناحية الحاجة إلى المهارة والإتقان وتحديد آلية العمل من جهة، بالإضافة إلى التغير في المجتمع الشاب الحيوي من جهة أخرى، فإن تغيير المصطلح لا يندرج تحت تلطيف التعبير، بل هو تغيير ناتج عن التطور الجذري لهذه المهنة، وتكاد أن تكون مرحلة تحرر من الفرق الغنائية إلى المغنية المنفردة، بالإضافة أن هذا التغيير يتسق مع التغيرات الاجتماعية الأخيرة، فيبدو كعتبة جديدة في رؤية الفن داخل المجتمع، من جيل لن يتقبل كلمات الشاعر محمد الشمالي العنصرية، ويرى الفن والموسيقى ومن يقدمه بطريقة مختلفة، ونستدل على ذلك بالاحترام الذي تحظى به الفنانة في الآونة الأخيرة، فمن المفارقة الجديرة بالذكر أنّه أصبح يُدفع للفنانة مبلغٌ إضافي حتى تُزف حال حضورها من نفس مدخل زفة العروس.
تطرقت بعض الروايات السعودية لجوانب تلامس حياة الطقاقة من خلال الحديث عن الطبقات الاجتماعية المهمشة وصراعاتها، مثل رواية "الطقاقة بخيتة" <span class="tooltip">(60)<span class="tooltiptext"> المزيني، محمد، الطقاقة بخيتة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، ٢٠١١.</span></span> لمحمد المزيني، وكذلك رواية "قنطرة" <span class="tooltip">(61)<span class="tooltiptext"> السماري، أحمد، قنطرة، دار أثر، الدمام، المملكة العربية السعودية، ٢٠٢٢.</span></span> لأحمد السماري والتي كانت إحدى شخصياتها الطقاقة سارة وهي من سكان حي الطرادية وتحيي حفلات الأفراح، أما المسلسلات السعودية فتطرقت أكثر لعمل الطقاقة في بعض حلقات "طاش" مباشرة أو ضمن الحديث عن أعباء حفلات الأعراس، وكذلك عدة حلقات من مسلسل "سيلفي" وكان اسم الطقاقة في حلقة "المرقوق" بخيتة، أما في حلقة "حمام جانا مسيان" فكان اسمها زبيدة، ومن اللافت في نطاق الأفلام -والتي تعتبر في مراحلها الأولية في السعودية- أن يكون التطرق لحياة طقاقة في حي شعبي من أول الموضوعات التي تطرح في الأفلام السعودية كما في فيلم "حد الطار".
كانت الأعراس السعودية قديمًا تعتمد فقط على الضرب بالدف أو الطق بشكله البسيط على القدور أو تنك التمر ودون رتم مدروس، حتى إنّ بعض الأعراس كانت تعتمد على الطق فقط بلا غناء، ومع المدنية والتطور الذي حدث في المملكة العربية السعودية تطورت مظاهر الأعراس، وأصبحت هناك فرق غنائية نسائية سعودية تمتلك عدة خاصة وتتكون من دفوف بالإضافة إلى الفحم، لتسخين الدفوف قبل البدء بالطق كي يشتد جلد الطبل ويكون الصوت أكثر حدة ولاحقًا استخدمت المدافئ الكهربائية. ثم اتسعت الآلات المستخدمة في الفرق الغنائية؛ فبالإضافة إلى الدفوف يتم استخدام الطبلة والزير، ثم بدأت بعض الفرق الغنائية تستخدم الموسيقى بناءً على طلب أهل العرس، ومع التطور في الآلات الموسيقية بدأ استخدام المؤثرات الموسيقية الصوتية مع الفرق الغنائية دون عزف حي، وأحيانًا مع عزف حي يرافق الخلفية الموسيقية للإيحاء بروح الموسيقى.
ولكن كل هذه التغيّرات وإن بدت تغيّرات تقنية في طريقة الأداء داخل الفرق الغنائية النسائية إلا أنّه صاحبها الكثير من المقاومة الاجتماعية والصراع الديني الاجتماعي خلال مرحلة استحداثها.
لقد كانت النساء يتساءلن قبل العرس: هل سيكون في العرس فرقة غنائية أم لا؟ وهذا التساؤل يحمل وجهين: إمّا رغبة في وجودهن وحماسًا للعرس الذي سيتم إحياؤه بالرقص والغناء، وإمّا تعففًا عن وجودهن كونه غير مناسب دينيًا وأنّ المسموح به -فقط- هو الدف إعلانًا للزواج وبلا غناء. وهذه المرحلة بدأت في منتصف الثمانينيات مع بداية الصحوة، فكانت بعض النساء يظهرن فرحة بالعرس القادم الذي سيصاحبه فرقة غنائية نسائية، في حين أنّ بعضهن قد يعتذرن عن الحضور، أمّا البعض الآخر فقد يأتي للعرس ويمارس دورًا وعظيًا، بل وصل الأمر ببعضهن إلى سحب أسلاك السماعات من باب تغيير المنكر باليد، وكانت معظم الأعراس في تلك المرحلة لا تستخدم الطبلة ولا الزير لأنّه مغلق من كلتا الجهتين وليس مثل الدف مفتوحًا من جهة، حيث إنّهم يرون أنّ الأخير هو الجائز استخدامه فقط، ويسمى حينها (طق إسلامي).
وبلا شك أن مرحلة الصحوة التي كانت مرحلة صراع ديني واجتماعي تركت أثرها على الأعراس ونمو الأغنية الشعبية، فالمجتمع الذي كان الأجداد يرددون ببهجة:"راس مابه غوا..موته وحياته سوا" أو "راس مابه هوى.. موته وحياته سوا"، بدأ يتساءل عن شرعية الأغنية، ومحاولة طمسها حتى في الأفراح.
ومع انحسار الصحوة وأثرها على المجتمع، أصبح الناس أكثر انفتاحًا لقبول خيارات الآخرين في طريقة ضيافتهم، والتي قد تكون إحدى مظاهرها وجود فرقة غنائية قد يصاحبها موسيقى، فإن لم يناسبهم ذلك فإنّهم يعتذرون عن الحضور، أو يقومون بزيارة قصيرة للعرس للمباركة والخروج مباشرة دون إحداث بلبلة.
ومع تطور الإيقاعات الموسيقية قلّ استخدام الدف أو الطق الحي بشكل كبير وخصوصًا في أعراس منطقة الرياض، فبقي عدد قليل في الرياض من الفرق الغنائية النسائية التي استمرت بطريقتها التقليدية المعتمدة كليًّا على الدفوف، ومعظم هذه الفرق تكون أفراحها في جنوب الرياض حسب ما لاحظته معظم الفنانات اللاتي تواصلت معهن. أمّا الفرق الأخرى فتعتمد على مطربتين ومهندس صوت، وقد يرافقهم عزف موسيقي حي، وهكذا تصبح مهارة المهندس الصوتي وجودة السماعات هي العامل الأساسي والمهم في ضبط الإيقاعات الموسيقية.
ويلاحظ أيضًا أنّ بعض الأعراس تُحضر فرقة غنائية رجالية ويتم نقل عرضها لقاعة النساء عن طريق الشاشات، ويكون ذلك عائدًا لعدة أسباب؛ منها أنّ عدد الفرق الغنائية الرجالية يفوق الفرق النسائية، لذا تكون الخيارات المتاحة واسعة وبأسعار قد تكون مناسبة أكثر، والسبب الآخر أنّه لا يوجد في الرياض فرقة غنائية نسائية تقدّم العزف على العود أو الكمنجة بشكل حي، بل تتعاقد الفرقة مع عازفة وتكون على الأغلب ليست سعودية، وتتقاضى أجرها بالساعة، وهو أجر مرتفع بسبب ندرة هؤلاء العازفات، ولذلك يفضّل بعض الناس الفرق الرجالية والتي تطورت في هذا المجال بشكل أكبر.
كانت الفرق الغنائية النسائية تتكون على الأقل من سبعة أفراد وذلك حينما كانت قائمة على العزف والإيقاع الحي، حيث تتكون من الفنانة والكورال، وتتوزع الأدوات على الفرقة (المصقاع، والزير، والطبلة، والتشكيل، والمرد، والمرواس)، كما تضم الفرقة -أيضًا- النقيبة، وهي من تُعرف الآن باسم المنسقة، فهي المسؤولة عن إدارة الفرقة، وتسخين الدفوف، وكذلك عن المواصلات والتواصل مع الزبائن. وكانت الفرقة تُعرف باسم المغنية الرئيسية، ولكن أحيانًا تعرف باسم النقيبة التي يتواصل معها الناس، ولا يُشترط في النقيبة أن تمارس الطق أو الغناء، بل يُكتفى أن تمتلك شخصية قادرة على إدارة الفرقة. فمثلًا عرفت المداحة أم عبد الله بأنها كانت تدير فرقة غنائية قبل عشرين عامًا في الرياض، ولم تكن تغني أو تطق، ولكن كان لديها ثلاثة عوامل قوة: أولًا: شخصيتها القوية القادرة على الإدارة والتنسيق، ثانيًا: توفر سيارتين لدى ولديها ممّا يمكّنها من توفير المواصلات لجميع أعضاء الفرقة، وثالثًا: أنّها كانت تمتلك دفترًا خاصًا وثمينًا لا تمكّن أحدًا من لمسه، وهذا الدفتر يحتوي على قصائد مدح، فتلقي منه قصائد المديح لأهل العروسين، ولذلك عُرفت باسم المدّاحة أم عبد الله.
أمّا الآن فالفرقة تتكون من الفنانة والكورال والمهندس الصوتي فقط، ويُعتمد بشكل كبير على الإيقاعات المسجلة، وحينما يكون هناك عزف حي تزداد التكلفة، وتتكون الفرقة حينها ممّا يقارب العشرة، ومن ضمنهم مهندس الصوت والمنسقة.
كانت الأعراس هي المسرح الغنائي الوحيد لجميع الفنانات السعوديات، حيث كان التحفظ الديني -وخصوصًا على الصوت النسائي- كبيرًا آنذاك، وبالرغم من ذلك فقد برزت عدة أسماء غنائية نسائية سعودية؛ مثل الفنانة عتاب، وتوحة، وابتسام لطفي، وسارة عثمان.
وبقيت بعض الأسماء المؤثرة على نشأة الفرق الغنائية النسائية السعودية تحت غطاء حفلات الأعراس، وإن كان ثمة محاولات بسيطة من بعضهن لنشر بعض الألبومات الغنائية.
ولا يمكن التطرق إلى تاريخ الفرق الغنائية النسائية السعودية ومن عمل بها سواء في الماضي أو الحاضر دون الحديث عن أثر الفنانة "ماري سعيد" واسمها مريم سعيد وتكنى بأم فهد، وقد عملت كفنانة لأكثر من ثلاثين عامًا، وتوفيت -رحمها الله- في عام ٢٠٠٧م. فقد ذاع صيتها وصيت فرقتها في سائر منطقة الخليج، وأحيت آلاف الحفلات بإتقان وأداء متميّز ومختلف، حيث إنّها من الفنانات القليلات اللاتي أجدن عزف العود في ذلك الوقت، فقد تعلمت عزف العود على يد الفنان حيدر فكري رحمه الله، كما أنّها كانت تتميز بالصرامة والجدية في العمل مع خفة ظل ومرح في التعامل مع الآخرين، وكانت حريصة بشدة ألّا يحدث أي خطأ أثناء أداء فرقتها، لذلك كانت تقيم في بيتها جلسات تدريبية كثيرة وصارمة لفرقتها، وتحاول في كل فترة أن تضيف أغنية جديدة متقنة لفرقتها، ومن خلال جهدها أخرجت العديد من الفرق النسائية الغنائية التي تدربت على يدها، من بينها فرقة "بنات ماري"، وقد دربتهن في بيتها الواقع في حي الطرادية، وهو الحي الذي قال عنه بشير شنان: "وسط الطرادية في حارة حية، أهلها زكرتيه نمام ما تلقاه"، ويقع هذا الحي شرق حي البطحاء، وسمي جزءٌ منه لاحقًا بحلة العود، حيث عُرف أنّ كثيرًا من الفنانين قد نشأوا فيه، وفيما بعد أصبح مركزًا للمحلات اللاتي تبيع الآلات الموسيقية وخصوصًا العود.
وقد أنتجت الفنانة "ماري سعيد" فيما بعد ألبومين من الأغاني الشعبية، حيث شارك الفنان رابح صقر بالإشراف الموسيقي على ألبومها "أبنسحب بسكات"، كما كان لها دور في نجومية رابح صقر وفنانين آخرين.
ومن الفنانات اللاتي عُرفن في بدايات نشأة الفرق الغنائية النسائية السعودية وكان لهن أثر واضح الفنانة حياة الصالح -رحمها الله- ومن أشهر أغانيها "ساكت تكلم" و "صاح داعي السفر"، وكذلك الفنانة نديبة "أم عبد الله" وهي من نفس جيل الفنانة "ماري سعيد" و"حياة الصالح"، وقد بدأت عملها في سبعينيات القرن الماضي، وتطور أداؤها في الثمانينيات بعدما تدربت على عزف العود، ثم أنشأت فرقتين غنائيتين في الرياض والدمام باسم "شاطئ الخليج"، وغنت مع الفنانة ذكرى وعصام كامل وطارق السليمان.
إنّ التطور السريع الذي حدث في المملكة وخصوصًا في جانبه الاقتصادي ترك أثره الكبير جدًا على مظاهر الأعراس في السعودية، فتغيّرت خلال خمسين عامًا من أعراس بسيطة في سطوح المنازل إلى قاعات أفخم الفنادق وبمظاهر مبالغ فيها. وهذا التغير لامس أيضًا دور الفرق الغنائية النسائية في الأعراس، حيث كانت الفرقة تأتي بدفوفها ومعها عدتها وعدة الفحم للتسخين، ويكون مكانها في طرف المنصة أو الميدان وهو الجزء المرتفع من القاعة الذي ترقص فيه النساء، ولا يكون لحضورهن وملابسهن أي أهمية. ولكن في الآونة الأخيرة أصبح حضور الفرقة الغنائية مجالًا للتباهي في الأعراس، وأصبح يُدفع للفنانة مبلغ إضافي لتزف من نفس بوابة دخول العروس إيذانًا ببدء الحفلة غنائيًا، وهذا يستلزم أن ترتدي فستانًا فاخرًا، وتصفف شعرها بتسريحة لافتة، وتضع مكياجًا يناسب حجم المناسبة. وإلى جانب المبلغ الذي يُدفع لها مقابل الزفة يُدفع كذلك مبلغٌ آخر لو قبلت بالتصوير؛ للتباهي بحضورها في وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصًا في برنامج السناب شات الشهير، حيث توجد عدة حسابات متخصصة بنقل تفاصيل الأعراس في السعودية؛ من اسم القاعة، وتفاصيل الضيافة، ومصمم فستان العروس إلى اسم الفرقة الغنائية، واسم الفنانة خصوصًا. تقول الفنانة أشواق: "أحيانًا يُطلب مني أن أرتدي لونًا معينًا مثل لون الكوشة وديكور الحفل، ولكنني أرفض ذلك بشدة، أنا لست قطعة ديكور، أتقبل فقط لو طُلب مني ارتداء لبس محتشم، وهو ما أفعله دائمًا، أمّا غير ذلك فهو غير مقبول، ذائقتي في اللبس هي امتداد لشخصيتي، ولفني أيضًا".
وهذا التغيّر وإن كان يبدو في صميمه أنّه قائم على الجانب الاقتصادي فقط، فإنّه يوحي بتغيّرٍ اجتماعي كبير في النظرة لهذه المهنة، وهو يقارب التغيّر في استخدام لفظة الفنانة بدلًا من الطقاقة، فكأنّه أتيح لها الآن قيمة أعلى، وحضورٌ مهمٌ لا يقتصر فقط على الغناء، بل أصبحت مظهرًا من مظاهر التباهي والتفاخر الذي صاحب التغيّر الجذري في المجتمع من جانب، ومن جانب آخر بروز الاهتمام بالفنون وتقديرها في المجتمع، وخصوصًا مع الجهود التي بذلت مع رؤية ٢٠٣٠، حيث أصبح هناك عدة هيئات معنية بالاهتمام بالفنون بشكل عام، ومنها الفنون الغنائية وتعزيزها.
لا يقتصر دور الفنانة على الطق والغناء، بل عليها أن تذكّر الحضور بذكر الله بعد زفة العروس خوفًا عليها من العين، فتقول: "اذكروا الله يالحاضرين"، وأصبح هذا التعليق من البديهيات، ولا يحتاج لاتفاق مسبق مع أهل العروس. أما التذكير بأنّ التصوير ممنوع وقت الزفة، أو دعوة الضيوف للتفضل على العشاء، فيحتاج اتفاقًا مسبقًا لتحديد هذه المهمة.
ومن الأمور البديهية التي تقوم بها الفنانة بلا اتفاق مسبق ما يسمى "زفة القهوة"، فمن المعروف أنّ للقهوة قيمة عليا في مجتمعنا وهي أحد رموز الضيافة، لذا تغني الفنانة بداية الحفل ترحيبًا بالضيوف وإيذانًا بضيافة القهوة، حيث تصطف جميع الصبّابات على شكل طابور ثنائي ومعهن دلال القهوة، وتغني الفنانة إحدى هذه الأغاني: "على صبة القهوة تزيد التراحيب... هلا بالحضور اللي سكن داخل الروح"، أو: "يا مرحبًا بالقدوم وحي هالطلة.. يفدونكم الناس واحد ورا الثاني، أصب لك شاهي ولا أصب لك دلة، وش رايك أصب لك من دم شرياني"، أو أغنية سميرة توفيق: "بالله صبوا هالقهوة وزيدوها هيل... واسقوها للنشامى على ظهور الخيل".
كأي مهنة وعمل تحتاج الفرق الغنائية إلى عمليات إدارية لتتابع شؤونها وتؤدي عملها كما ينبغي، وهذا يرتبط بالموروثات الاجتماعية الثقافية لتلك المهنة وما طرأ عليها من تغيرات مع التقدم الحضاري. وفيما يلي نستعرض أهم الشؤون الإدارية للفرق الغنائية النسائية وتفاصيلها:
ويجري التواصل لسير عمل الفرق الغنائية في اتجاهين:
التواصل بين أهل العرس والفرقة الغنائية النسائية:
قديمًا كان أهل العروس أو المعرس يطرقون بيت الربعية أو مسؤولة الظعن ويخبرونها بموعد الزواج والواجبات المنتظرة منها، ولا تأخذ الربعية أو مسؤولة الظعن أي مبلغ مسبقًا كعربون، ولا يتم الاتفاق على مبلغ محدد، حيث كان الاتفاق والثقة المتبادلة بين الطرفين على تحديد الموعد يعد ضمانًا كافيًا.
وفي المرحلة التي تلتها والتي كانت بداية مرحلة الطقاقات، كن يحضرن حفل الزواج بلا عربون أو اتفاق مسبق على مبلغ مادي، فكان بعض الضيوف حينما يطلبون أغنية معينة يدفعون للطقاقة في حينها خمسة أو عشرة ريالات أو أي مبلغ لا يتجاوز العشرين ريالًا تقريبًا، وفي آخر الحفل قد تحصل الطقاقة على مبلغ زهيد من أهل الحفل، أو قد تكتفي بالعشاء مع الضيوف.
ثم تطور الحال لاحقًا فيما يخص الاتفاقات المادية؛ فلا يمكن أن تخرج أي فرقة غنائية بلا عربون واتفاق مسبق لقيمة المبلغ المستحق، فكانت النساء حينما يحضرن عرسًا ويعجبهن أداء الفرقة الغنائية؛ يقمن بالاتفاق معها إذا كانت لديهن مناسبتهن الخاصة قريبًا، فيتفقن مع الفرقة على الموعد، ويتبادلن أرقامهن، ويبقى موضوع الاتفاق على العربون ووقت تسليمه والذي يناقش -لاحقًا- هاتفيًا. وهكذا أصبح دفع عربون -مسبقًا- أمرًا لازمًا لدى جميع الفرق الغنائية النسائية، وكان الاتفاق لكتابة العقد ودفع العربون لدى معظم الفرق الغنائية في الرياض يحدث عند محطة مسجد الراجحي في مخرج ١٤، حيث تتم مطابقة هوية دافع العربون مع عقد صالة الأفراح لضمان حقوق الفرقة الغنائية.
ومع التطور التكنولوجي وظهور وسائل التواصل الاجتماعي تمكن الناس من سماع أداء الفرقة الغنائية، ومن ثم التواصل معها هاتفيًا للحجز، وتحويل العربون بنكيًا.
إن تطور طرق التواصل بالإضافة إلى تطور مظاهر الأعراس في السعودية استدعى -أحيانًا- وجود منسقة لترتيب التواصل بين الزبون والفرقة الغنائية الموسيقية، وتكون وظيفة المنسقة إدارية ولا علاقة لها بالغناء والطرب، ويبدأ عملها بحجز الفرق؛ إذ يكون لديها قائمة منوعة من الفرق الغنائية تعرضها على الزبون ليختار ما يتناسب مع ذوقه ورغبته وميزانيته، لتقوم هي بالتنسيق مع الفرقة الغنائية الموسيقية.
وتزامنًا مع التطور والمبالغة في مظاهر الأعراس في السعودية والتي أخذ بعضها طابع البذخ؛ أصبح التنسيق يتم من خلال شركات تجهيز الأفراح والتي تكون مسؤولة عن كل شيء يخصها؛ ومنها التنسيق مع الفرق الغنائية وخصوصًا الفنانات المشهورات جدًا.
التواصل بين أعضاء الفرقة الغنائية النسائية:
كانت النقيبة هي المسؤولة عن التواصل مع باقي أعضاء الفرقة وإخبارهن بموعد الحفلة، وكذلك مواعيد التدريب في بيتها أو بيت الفنانة الرئيسية قبل موعد الحفل إن استدعى الأمر ذلك. ففي الماضي كانت النقيبة تمر على بيوت أعضاء الفرقة وتطرق الباب لإخبارهن بالموعد، فلم يكن جميعهن يمتلكن هواتف في بيوتهن مما يستلزم إخبارهن مباشرة.
ومع مرور الزمن وحدوث تطور في وسائل الاتصال واعتماد الناس على الهاتف كوصيلة للتواصل أصبح تواصل النقيبة مع باقي أعضاء الفرقة يتم عن طريق الهاتف، فتتصل بهن لإخبارهن بموعد الحفل قبلها، وأحيانًا كانت تحادثهن في نفس يوم الحفل، فكان أعضاء الفرقة يترقبن الهاتف منذ يوم الأربعاء أو الخميس وذلك حين تقترب إجازة نهاية الأسبوع، فينتظرن بحماس رنين الهاتف منذ صلاة الظهر وحتى نهاية اليوم. أما الآن فقد انتهى دور النقيبة واستحدث دور المنسقة التي تقوم بترتيب الموعد بين أعضاء الفرقة عن طريق وسائل التواصل الحديثة التي لم يعد هناك غنى عنها في التواصل بين الناس.
كانت المواصلات قديمًا تعد من أكبر الصعوبات لدى الفرق الغنائية النسائية، حيث لم يكن يسمح للمرأة بقيادة السيارة، ولم تكن هناك تطبيقات النقل السريع. فكان أعضاء الفرقة جميعًا يجتمعن في بيت النقيبة من بعد صلاة المغرب، ثم ينطلقن سويًا بعدة سيارات ترتب حضورها النقيبة على الأغلب، حيث يكون السائق أحد أولادها أو إخوانها، وبعد الانتهاء من العمل يعدن في وقت متأخر يقارب صلاة الفجر إلى بيت النقيبة، ومن هناك ينتظرن أقاربهن ليعدن لبيوتهن، وقد تتشارك بعضهن المواصلات في طريق العودة.
وهذا بالتأكيد يجعل الرجل الذي قام بالتوصيل شريكًا في الربح المادي بسبب ما قام به من جهد؛ تقول إحداهن: "حتى لو كان ابنك أو زوجك أو أخاك فلا بد أن يشاركك نصيبك المادي من الحفلة، فقد لعب دورًا في التوصيل وفي أوقات زمنية صعبة في حين كان من المفترض أن يكون نائمًا في سريره، وأحيانًا ينتظر ساعات عند بيت النقيبة فهو لا يعلم متى سنعود، ولم يكن هناك -آنذاك- جوالات للتواصل، وهذا ما لا يقدّره أهل العرس أحيانًا حينما يطالبون بتخفيض السعر".
أما الآن ومع السماح للمرأة بقيادة السيارة أصبح الأمر أكثر سهولة، وليس بالضرورة أن تمتلك جميع أعضاء الفرقة سيارات، ولكنهم يرتبن الأمر فيما بينهن، ويعتمدن على زميلتهن التي يكون معها سيارة.
لم تكن الفنانات في الجيل الأول متعلمات، ولكنّهن كن يجدن القراءة والكتابة، وكان للقراءة والكتابة أهمية عالية حيث كن يكتبن الأغاني بنفسهن في دفتر، ويستذكرنها عدة مرات قبل الذهاب للحفلة. ومع تطور تعليم المرأة في السعودية والوعي بأهميته اجتماعيًا تحسّن تعليم النساء ومنهن اللاتي يعملن في الفرق الغنائية، وإن كان الجيل السابق يكتفي بشهادة المتوسطة تقريبًا إلا إنّ معظم الفنانات الآن حاصلات على الثانوية العامة على الأقل، وبعضهن جامعيات.
وكانت بداية عمل الفنانات في هذا المجال مرتبطة بالشغف الذي امتزج بالحاجة المادية، حيث لم تكن الفرص الوظيفية النسائية آنذاك واسعة، وكانت تقتصر على المتعلمات اللاتي يمكنهن الحصول على وظيفة معلمة أو طبيبة.
تقول الفنانة ترنيم:" لقد بدأت عملي كفنانة كورال في الفرق الغنائية النسائية في الأعراس منذ كنت في الصف الثاني من المرحلة المتوسطة، أختي التي تكبرني بثماني سنوات كانت فنانة أيضًا، وأمي لم تمانع أن تبدأ أختي الغناء مع الفرق الغنائية وكذلك إخوتي لم يمانعوا ذلك، لأنّ أبي غادرنا إلى مدينة جدة وترك أمي ومعها ستة أطفال في الرياض دون أن يتواصل معنا أو يدعمنا ماديًا، فكانت أختي هي المصدر المادي الأساسي للعائلة، ولكن حينما بدأت أذهب معها -أحيانًا- لأعمل ككورال بكت أمي، كانت تتمنى أن أكون طبيبة، أن تراني وأنا أرتدي البالطو الأبيض، وكانت ترى فيّ قدرة لإكمال تعليمي، فوعدتها أنني سأكمل تعليمي ولكنني أيضًا أحب الغناء وسأذهب مع أختي، كان أي مبلغ مادي أحصل عليه أسلمه لوالدتي، لا آخذ منه ريالًا واحدًا، وكانت هي آخر الشهر تقرر -حسب الميزانية- إن كان هناك فائض تعطيني منه عشرين أو خمسين ريالًا لا أكثر من ذلك، وأكملت تعليمي إلى الثانوية إرضاء لوالدتي. تزوجت بعدها ولم أخبر زوجي أنني أغني في الأعراس، وانتقلت معه إلى مدينة أخرى، وحينما يكون هناك حفل في الرياض أقول له: سأذهب لزيارة أهلي، ومن هناك أذهب إلى الحفلات وأغني، كنت أستمتع جدًا بالغناء، وكنت أيضًا بحاجة للمبالغ المادية لمساعدة إخوتي الصغار في إكمال تعليمهم، وبعد فترة واجهت زوجي وأخبرته بالحقيقة، لم يعارض إطلاقًا، وأكّد حقي في العمل، ولكنّه طلب مني أن أخفي هذه المعلومة عن أهله. وخلال سنوات توسع عملي، وبرزت أكثر في المناسبات، وفي أحد الأعراس التي كنت أغني فيها، رأيت أهل زوجي في القاعة، ابتسموا لي، ولكن لم يحدثني منهم أحد، ولم يعطني أحد أي إشارة تدل على أمر ما، لقد بقيت كل تلك الليلة أغني بقلق، أنتظر أي إيماءة رضا. ولاحقًا عرفت من زوجي أن والده اعترض بقوة وقال: كيف زوجتك "أم عيالنا" طقاقة؟ ولكن زوجي أكّد له أنّ عملي هو الغناء فقط، أنا أمسك المايك وليس الطار، أغني فقط. والحقيقة أنّ أم زوجي أقنعته أنّ هذا العمل أصبح له قيمة داخل المجتمع، وأنّه مثل أي عمل آخر لا يشوبه شائبة، والآن تتباهى بي العائلة كفنانة، وأصبحت أغني -أحيانًا- في المقاهي، ولكن وأنا محافظة على حجابي".
لكنّ معظم الفنانات اللاتي تواصلت معهن لم يجدن معارضة في بداية عملهن، حيث إنّ القبول الاجتماعي لهذا العمل داخل بيئتهن كان عاليًا جدًا، قالت إحداهن ضاحكة: "إذا كان دخلي يوميًا ما يقارب ١٥٠٠ ريال وهو لا يستطيع أن يزيد دخله عن ثلاثة أو أربعة آلاف ريال شهريًا، فلماذا سيعترض؟" مشيرة لأبيها أو زوجها. إنّ العامل الاقتصادي كان الدافع الأول لهذه المهنة، وخصوصًا أنّ معظم الفنانات هن من طبقة اجتماعية أقل من متوسطة، ولذلك يقع على كاهلهن الكثير من الأعباء العائلية، ابتداء من توفير السكن إلى توفير الطعام وغيره، بل تكاد تكون العائلة معتمدة عليهن تمامًا من الناحية المادية.
ومع ذلك فتطمح هؤلاء الفنانات جميعهن إلى توفير بيئة تعليمية جيدة لبناتهن، حتى يتمكنّ من العمل مستقبلًا في وظائف حكومية أو في القطاع الخاص، ويرفضن أن تتوارث بناتهن هذه المهنة، بسبب صعوبتها. كانت إجابة إحداهن على سؤالي: "ما دافعك الأول لهذا العمل؟" بأن قالت: "الفقر، ثم الفقر، لا تصدقي من يقول لك حب الفن أو الشغف، لو تتحسن أوضاعي المادية قليلًا سأتوقف".
كانت المهن النسائية السعودية إلى بداية الألفية محدودة جدًا، فلا بد أن تكون المرأة متعلمة لتكون معلمة أو طبيبة وهي المهن التي كانت متاحة آنذاك، لذلك كان لابد من توارث مهنة الطق والغناء في الأجيال السابقة، حيث نجد الكثير منهن تتوارث تلك المهنة عن أمها أو خالتها أو أختها الكبيرة، وإن كانت مهنة صعبة وتفتقر إلى التقدير الاجتماعي. ولكن بعد انفتاح سوق العمل للنساء في السعودية أصبحت المرأة السعودية نظيرة للرجل السعودي في معظم الفرص الوظيفية، لذا فقد فضلت معظم الفنانات اللاتي لديهن بنات ألا تدخل بناتهن هذا المجال، بل فضّلن أن يحصلن على فرصتهن التعليمية والوظيفية الجيدة، والتي -حسب وجهة نظر إحداهن- قد تساعدهن على الاندماج أكثر داخل المجتمع، فهم يرون أنّ هذه المهنة بقدر ما تمنحك الاطلاع على طبقات اجتماعية مختلفة؛ إلا أنّ هذا لا يعني الاندماج معها.
تحديات العمل:
تواجه العاملات في مجال الفرق الغنائية العديد من التحديات والضغوطات، يتعلق بعضها ببيئة العمل، وبعضها الآخر بالعامل الاجتماعي، وبعضها بطبيعة أهل المناسبة، وغيرها من العوامل التي تتسبب بتحدٍ يستوجب من الفنانة وأعضاء الفرق الغنائية المزيد من العمل والتطوّر وتحمل الضغط للوصول للنتائج المرجوة. وفيما يلي نعرض بعض تلك التحديات:
إنّ الضيافة لها قيمة عالية لدى المجتمع السعودي، ومن ملامح هذه الضيافة أن يكون الجو العام يعبر عن الفرح والاحتفاء ويظهر ذلك من خلال أداء الفرقة الغنائية، لذلك كان من تحديات العمل لدى الفرق الغنائية هو إرضاء العميلة، وخصوصًا إذا كانت المناسبة حفلة زواج. تقول إحداهن: "أتفهم الضغط النفسي الذي يكون لدى العميلة حينما يكون لديها حفل زواج، فهي ليلة العمر التي أُنفق عليها آلاف الريالات، ويحدث أنّه حينما لا تكون العميلة راضية على الديكور أو لون الورد أو حجم الكعكة أو كمية الشوكولاتة حسب اتفاقها مع الجهات المعنية بها؛ فإنّها حينها لا تجد أحدًا من هؤلاء في القاعة لتفرّغ عليه غضبها وملاحظاتها، ولكنّ الفرقة الغنائية هي الأداء الحي في المكان، فعليك دائمًا امتصاص غضب العملاء أو عدم رضاهم حتى لو لم يكن سببه مرتبطًا بكِ مباشرة، إن الساعة الأولى من العمل تكون صعبة، لأنّ أهل المناسبة في بداية الحفل يكونون متوترين، وأحيانًا يلومونك: لماذا لا يرقص المعازيم؟ لماذا لم تحيي الحفلة جيدًا؟ والحقيقة أنّ معازيم بعض الحفلات لا يحبون الرقص، أو يكون معظم المعازيم من الكبار في السن وليس من البنات الشابات اللاتي يرغبن بالرقص، لذلك من المهم أن نكون صبورات ونتقبل التوتر العام لأهل العرس، فهذا جزء من اهتمامهم بالضيافة".
§ ومن التحديات المهمة والمؤثرة على حياتهن الاجتماعية طبيعة العمل المسائي، حيث يبدأ العمل في معظم الحفلات من الساعة التاسعة مساء وينتهي عند أذان الفجر، وبالتالي لا يصلن إلى بيوتهن إلا بعد الساعة السادسة صباحًا، وهذا يؤثر على الكثير من شؤون حياتهن ومنها متابعتهن لأطفالهن في الدراسة، تقول إحداهن: " لذلك توقفت عن قبول أي مناسبة في وسط الأسبوع، حفاظًا على التوازن داخل منزلي، وكي لا أفقد السيطرة على متابعة أطفالي ودراستهم".
§ ضرورة الالتزام رغم أي ظرف قاهر، وهذه هي القيمة الأخلاقية لهذا العمل، وهي التي تصنع سمعة الفنانة، فمهما يكن من ظرف فلا يمكن الاعتذار عند آخر لحظة، "إنّها ليست وظيفة تحضرين لها من العيادة إجازة مرضية" حسب تعبير إحداهن، "فهذه الحفلة هي ليلة العمر وهي ليلة مهمة جدًا في حياتهم، لا يوجد أي عذر مقبول، إحدى زميلاتي وصلها خبر وفاة أخيها بحادث أثناء الحفل، لا يمكن أن تترك الحفلة وتمضي، من حق أهل العرس الالتزام معهم مهما يكن".
§ تحتاج هذه المهنة إلى استمرارية دائمة في تطوير المهارات، وحفظ الأغاني الجديدة، ومتابعة ما تفضّله النساء من أغانٍ في حفلاتهن.
§ صعوبة التعامل مع الآخرين أحيانًا، واستشعار النظرة الدونية خلال الحديث معهم.
§ أغاني المدح في الأعراس القبلية تسبب -أحيانًا- ضغطًا على الفرقة الغنائية، فيتحول العرس إلى شد وجذب بين أطراف مختلفة يظهر من خلال الضغط على الفرقة الغنائية للتغني بآل فلان أو آل فلان، ولوم الفرقة لو كان الأداء أفضل في مدح قبيلة دون أخرى، أو حتى مدح عائلة دون أخرى داخل القبيلة الواحدة، وللتخلص من هذا الإشكال يتم الاتفاق بين معظم الفرق الغنائية أن يكون المديح بعد الزفة لأهل العروس بأغنية واحدة، ولأهل المعرس بأغنية واحدة، وغير ذلك يُتفق عليه مسبقًا قبل الزواج ومقابل مبلغ ماليّ إضافي.
§ ضرورة التحلي بمهارة التركيز والحدس؛ وهي من أهم مميزات الفرقة الغنائية الجيدة، حيث ينبغي أن تلاحظ منذ البداية نوعية الأغاني والموسيقى التي تناسب الحضور، فبعض العوائل تميل إلى الرقص البطيء والأغاني الهادئة، وأخرى تفضل السريعة، فلا بد من معرفة مسار الأغاني المختارة منذ بداية الحفل في قراءة لحركة الحضور في الرقص.
كان عمل معظم الفرق الغنائية النسائية إلى بداية الألفية مقتصرًا على حفلات الأعراس، ولكن توسع العمل فيما بعد، مع ما رافق المجتمع من تغيّر في طبيعة حياة المرأة الاجتماعية والاقتصادية، حيث أصبحت الفرق الغنائية النسائية تشارك في حفلات التخرج، وفي التجمعات النسائية في احتفالات العيد الوطني ويوم التأسيس، وكذلك في الأعياد وخصوصًا عيد الفطر المبارك. كما انتشرت ظاهرة التجمعات النسائية بلا مناسبة محددة، ففي الشتاء يجتمعن في المخيمات الفاخرة ويحضرن فرقة غنائية نسائية، وفي الصيف يجتمعن في الشاليهات أو في بيوتهن، وهكذا اتسع دور الفرق الغنائية النسائية ليتخطى مناسبات الأعراس إلى مناسبات أخرى متفرقة.
من العمل الجماعي إلى الفردي:
كانت الفرق الغنائية تعتمد سابقًا بشكل كامل على أدائها الحي، فكان لا يمكن أن يقل عدد أفراد الفرقة الواحدة عن عشر نساء بالإضافة إلى النقيبة، وكان لزامًا على جميع أعضاء الفرقة أن يتقن عملهن، بالإضافة إلى أن يمتلكن مهارة جيدة لأداء أي مهمة أخرى بديلة داخل الفرقة. فمثلًا من كانت مهمتها في الفرقة الضرب على المصقاع فلا بد أن تجيد الضرب على الزير أو المرجاف أو غيره من الأدوات، تحسبًا لأي ظرف طارئ على الفرقة.
ولكن التغيّر والتطوّر التكنولوجي الذي صاحب الفرق الغنائية أدى إلى تغيير في هيكلة الفرق الغنائية، فمنذ أصبحت تعتمد على المؤثرات والإيقاعات الصوتية صار العمل فيها فرديًا، فمهندس الصوت لا دور له إلا فيما يخص ضبط السماعات ودرجة الصوت المناسبة لحجم القاعة، والمغنية مسؤولة عن الغناء ومعها ما تحتاجه من أجهزة (آيباد) لقراءة الأغاني منها.
وصفت إحدى الفنانات -وقد عاصرت المرحلتين- هذا التغيّر بقولها: "لقد كان عملًا جماعيًا بامتياز، كان شعارنا (يدٌ واحدة لا تصفق)، كنا نتبادل المهام بسهولة عند أي ظرف طارئ، ولكن الآن تغيّر كل شيء مع انتهاء الأداء الحي واستبداله بإيقاعات صوتية، لو حدثت أي مشكلة فكل شخص لا يهمه إلا مهمته فقط، حتى بدون أي تعاطف، قد تمسك جوالها لتتابع التيك توك حتى يتم حل الإشكالية".
وهذا يطرح تساؤلاً ماذا سيكون أثر الذكاء الصناعي على الفن الغنائي، وكيف سيؤثر على التراث الثقافي غير المادي وخصوصًا على اللامحفوظ منه؟ مما يدعو إلى المسارعة في تدوين الأغاني الشعبية وحفظها وصونها.
هل يمكن قراءة المجتمع من خلال أعراسه؟
تقول إحدى الفنانات إنّه بالرغم من أنّ بعض الأعراس قد تتشابه حاليًا من ناحية الديكور وطريقة الضيافة، إلا أنّ هذه المهنة قد منحتها معرفة بجميع طبقات المجتمع، وفهمًا لتصرفاتهم وانفعالاتهم، فهي تستطيع الآن أن تحضر زواجًا في الرياض وتخمن منذ الساعة الأولى المنطقة التي تعود أصول أهل هذا الزواج لها، وكذلك القبيلة التي ينتمون إليها. وترى الفنانة "أفنان" أنّ هذا الاطلاع الاجتماعي الكبير على مجتمع متنوع وواسع مثل الرياض أفادها كثيرًا في تطوير شخصيتها، ومنحها مهارة الحديث مع أشخاص مختلفين عنها، وأنّ هذه المهنة تخرجها من الانغلاق الاجتماعي الذي قد تُوضع فيه، إلى نافذة تطل منها على الآخرين، وهذا لا يعني -بطبيعة الحال- أنه مرحبٌ بها للاندماج معهم كما سبقت الإشارة لذلك.
من خلال الصفحات السابقة استعرضنا التطوّر الذي صاحب نشأة الفرق الغنائية السعودية النسائية، والعوامل التي أثرت في ذلك، كما سلطنا الضوء على بعض الجوانب التاريخية والجغرافية المتعلقة بذلك، فجاء البحث بعد المقدمة في جانبين: الأول: الحديث عن مهنة الطقاقة وأصولها وجوانبها المختلفة باعتبارها الصورة البسيطة الأولية للفن الغنائي النسائي، والثاني: دراسة الفرق الغنائية النسائية والنظر في جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية المختلفة. ومن خلال ما سبق عرضه وبسطه خرج البحث بالنتائج التالية:
§ كانت البداية الغنائية للفرق النسائية بسيطة وعشوائية؛ إذ لم تُخصص لتلك المهنة امرأة بذاتها، بل كانت امرأة الظعن والربعية هي من تقوم بمهام الغناء والضرب بالدف؛ ومن ثم تحولت إلى طقاقة إلى جانب المهام الأخرى التقليدية.
§ بدأت الفرق الغنائية النسائية تأخذ شكلًا واضحًا ومنظمًا مع تطوّر متطلبات الأعراس والطفرة الاقتصادية؛ وأدى هذا التحوّل إلى حدوث تغييرات تشمل كافة الجوانب المتعلقة بهذه الفرق؛ كالجانب الاجتماعي والاقتصادي وحتى الإداري والتنظيمي.
§ تفوقت الفرق الغنائية الرجالية على النسائية في النشأة والظهور الاجتماعي؛ وذلك لارتباط الفرق النسائية بالأعراس فقط دون باقي المناسبات على عكس الفرق الرجالية، وأيضًا بسبب الأعراف الاجتماعية التي حالت دون تسليط الضوء على تلك الفرق.
§ الدور الغنائي الهامشي للربعيات، ودور نساء الظعن في وادي الدواسر هو شرارة نشأة الفرق الغنائية النسائية من خلال التحول النوعي لمهامهن لاحقًا وحصرها على الغناء فقط.
§ حدوث انزياح دلالي لكلمة "طقاقة" من مهنة امرأة تشارك الناس أفراحهم لتحمل دلالات متدنية ومتواضعة اجتماعيًا.
§ تغير المهنة من طقاقة إلى فنانة لا يقع تحت مفهوم تلطيف التعبير، بل صاحبه تطور في الخصائص الفنية والأدوات المستخدمة للفنانة.
§ الصراع الديني في مرحلة الصحوة أثّر سلبًا على تدوين نشأة الفرق الغنائية النسائية، ونمو الأغنية الشعبية.
§ التغيرات الاقتصادية المذهلة في المملكة العربية السعودية كان لها دور كبير في تغير الأعراس السعودية ومنها نمو الفرق الغنائية النسائية وتطورها وتوسع مجال عملها خارج نطاق الأعراس فقط.
§ فكما تطورت الفرق الغنائية النسائية تطورت أيضًا آلية إدارتها وتواصلها وتسويقها.
§ إنّ الأغنية الشعبية السعودية مليئة بالمعاني والدلالات الثقافية والتاريخية، ووظيفتها لا تقتصر على الترويح عن النفس، بل لها وظيفة تربوية واجتماعية.
§ نرى من خلال هذا الموروث الغنائي الثقافي الذي يصل ماضينا بحاضرنا تأصل القيم الثقافية، التي لا تخرج من إطار المنظومة الاجتماعية، بل إنها تستمد مصدرها ودوافع استمراريتها ورواجها من بيئتها والظروف الاجتماعية والجغرافية والتاريخية، ومهما استدعت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية على المجتمع من تشذيب لبعض الأغاني، أو اندثار بعضها، واستحداث أخرى، فهي تظل تحت نفس المنظومة الاجتماعية.
يوصي البحث بتدوين الأغاني الشعبية في جميع مناطق المملكة وأهمية حفظها وصونها، ودراسة معانيها وجمالياتها، وبتسليط الضوء أكثر على الجوانب الاجتماعية المرتبطة بالفرق الغنائية النسائية والأغاني والأعراس، والتي كانت خافية بفعل الأعراف التقليدية؛ وذلك لتتبعها والبحث في عوامل تطورها، وتكييفها لتتسق مع نظام المجتمع وقيمه، وكذلك دراسة مقارنة بين أغاني الأعراس الشعبية قديمًا والآن، وعوامل تغيرها، أو تشبثها ببعض المعاني والدلالات.
- أبو هلال، أحمد، الانثروبولوجيا التربوية، المطابع التعاونية، عمان، الأردن، ١٩٧٤، ص٩.
- الأصفهاني، أبو الفرج، الأغاني، دار صادر، بيروت، لبنان، ٢٠٠٢، الجزء ١١، ص٨٢.
- باغفار، هند، الأغاني الشعبية في المملكة العربية السعودية، ١٩٩٤، ص٨.
- بن خميس، عبدالله، من أحاديث السمر، مطابع حنيفة، السعودية، الرياض، ١٩٧٨، ص ١٧.
- بن رداس، عبدالله، شاعرات من البادية، دار الشبل للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، ١٩٩١، ص ١٩٨
- جاد، مصطفى، "مشروع تــوثـيق التراث الشعبي في المصادر العربية"، مجلة الثقافة الشعبية، المنامة، البحرين، العدد ٣٩.
- الجواهري، محمد، التاريخ الشفاهي، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، القاهرة، مصر، أبريل ٢٠١٣، المجلد ٧٣ العدد ٣.
- الحجاجي، أحمد شمس الدين، مولد البطل في السيرة الشعبية، دار الهلال، القاهرة، مصر، أبريل 1991، العدد (484)، ص 27.
- الرويشد، عبد الرحمن، الرياض مشاهد وذكريات، الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، الرياض، المملكة العربية السعودية،١٤٢١، ص٦٧.
- زيعور، علي، التحليل النفسي للذات العربية "أنماطها السلوكيّة والأسطورية"، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1987م، ص52.
- السماري، أحمد، قنطرة، دار أثر، الدمام، المملكة العربية السعودية، ٢٠٢٢
- السويداء، عبدالرحمن، نجد في الأمس القريب، دار العلوم للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، ١٩٨٩، ص٢٥١.
- الصويان، سعد، أطروحات إثنولوجية، دار مدارك، دبي، الإمارات العربية المتحدة، ٢٠١١، ص ١٥٠.
- الصويان، سعد، الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور، قراءة أنثروبولوجية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ٢٠١٠.
- العبودي، ضياء، دلالة الغزال في الشعر الجاهلي، مجلة حقول معرفية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، الجلفة، الجزائر، ٢٠٢١، المجلد ٢، العدد ٣.
- العسكري، أبو هلال، معجم الفروق اللغوية، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ١٩٩١، ص ٨٤٠.
- العلاف، عبدالكريم، الطرب عند العرب، منشورات المكتبة الأهلية، بيروت، لبنان، ١٩٦٩، ص٥.
- عيسى، عباس محمد، موسوعة التراث الشعبي في المملكة العربية السعودية، وزارة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية، ١٩٩٨، المجلد السابع، ص٦٨.
- غيرتز، كليفورد، تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ٢٠٠٩، ص ٨٢.
- فانسينا، يان، المأثورات الشفاهية، ترجمة أحمد مرسي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة مصر، ١٩٨١، ص ٣٢١.
- محرك بحث التصنيف السعودي الموحد للمهن، التابع للهيئة العامة للإحصاء.
- مرسي، أحمد، الأغنية الشعبية، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، مصر، ١٩٧١، ص ١٣.
- المزيني، محمد، الطقاقة بخيتة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، ٢٠١١.
- المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، القاهرة، مصر، ١٩٧٢، الجزء الثاني، ص ٦٧٢.
- الموقع الإلكتروني للهيئة العامة للإحصاء.
- الموقع الإلكتروني لمركز الحرب الفكرية التابع لوزارة الدفاع في المملكة العربية السعودية.
- الموقع الإلكتروني لهيئة التراث.
- هولتكرانس، إيكه، قاموس مصطلحات الأثنولوجيا والفولكلور، ترجمة محد الجوهري وحسن الشامي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، مصر، ١٩٧٢، ص ٢٨٠.
- الواصل، أحمد، تغني الأرض: أرشيف النهضة وذاكرة الحداثة، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، ٢٠١٠.
- Bascom, William R. "Four Functions of Folklore". The Journal of American Folklore, Vol.67, No 266, (Oct-Dec), 1954.
- Honko, Lauri.Methods in Folk Narrative Research. In; Reimund Kvideland and Henning K. Sehmsdorf. “Nordic Folklore: Recent Studies”. Indiana University press. P. 34, 1989
- Pinker, Steven, The Game of the Name, The New York Times, New York, USA, 1994.
- Webster's Online Dictionary