المقالات
يناير 2024

إكسبو الرياض 2030 ومستقبل العمارة السعودية

يمكننا القول: إنّ جهود الدول في استقطاب ظاهرة الإكسبو العالمية، حققت نجاحًا منقطع النظير على عدّة مستويات اقتصادية وسياحية وتنظيمية ودعائية. إلا أنّ الإكسبو تاريخيًا كان يحتفل بالعالم من خلال العمارة.

مصدر الصورة:
قد تواجه بعض المشاكل في التصفح عبر الجوال عند وجود جداول في المنشور، ولتصفح أفضل ؛ ننصحك بالتصفح عبر شاشة أكبر أو التصفح بعرض الشاشة.

لم يكن يدور في خلد "ميس فان دروه"، عند تصميمه لجناح ألمانيا في إكسبو برشلونة 1929م؛ أن هذا المبنى سيصبح الأكثر تأثيرًا في تشكيل مسار الحداثة العالمية، وسيتم الحفاظ عليه، بصفته واحدًا من أهم المباني التي جسدت مفاهيم الحداثة بإتقان، ليصبح فيما بعد المثال الأكثر حضورًا وتأثيرًا في مآلات الحداثة. ولعلّ هذا المبنى بحضوره الرمزي القوي، هو أبلغ دليلٍ على تأثير عمارة الإكسبو عبر التاريخ، على حركات العمارة الحديثة، وحضورها القوي في ذهنية ممارسي العمارة ومعلميها.

يمكننا القول: إنّ جهود الدول في استقطاب ظاهرة الإكسبو العالمية، حققت نجاحًا منقطع النظير على عدّة مستويات اقتصادية وسياحية وتنظيمية ودعائية. إلا أنّ الإكسبو تاريخيًا كان يحتفل بالعالم من خلال العمارة. المتتبع لتاريخ الإكسبو منذ البداية في إكسبو لندن 1851 أو ما يعرف " بالمعرض العظيم"، يجدُ أنّ المبنى الذي كان يمثل اختراعًا تاريخيًا حينها؛ مثَّل تصورًا حديثًا بشكل غير مسبوق، لمبنى يغلفه الزجاج بالكامل، وباستخدام هياكل معدنية؛ مما أكسبه لقب القصر البلوري. ويعرفُ الدارس لتاريخ العمارة والتصميم، أن هذا المبنى الذي صممه "جوزيف باكستون"، يُعتبر نقلة نوعية في عالم العمارة، حيث فتح الباب على مصراعيه لتحدي المفهوم التقليدي للبناء، ومحاولة اقتفاء أثره في جعل الزجاج والفولاذ هما الأساس للمباني الحديثة مستقبلًا، بل ويرى بعضُ الباحثين، أنَّ هذا التوجه هو الذي حرّر المباني من حملها التقليدي، وجعلها أكثر خفّة، وهنا يمكننا القول: إنَّ عالم العمارة والتصميم قبل هذا المعرض، يختلف عمّا آلَ إليه بعده، حتى أنَّ المؤرخ الشهير "نيكولاس بفسنر" يقول: إٍنَّ هذا المبنى هو حجر أساس عمارة القرن التاسع عشر".

الجناح الألماني في معرض برشلونة 1929م. من تصميم ميس فان دروه

المصدر : https://divisare.com/projects/338931-ludwig-mies-van-der-rohe-maciej-jezyk-barcelona-pavilion

الشيء نفسه يمكننا قوله عن المعارض المتتالية، والتي أثْرَت عالم العمارة بتصاميم مذهلة، تجاوزت وقتها الذي بُنِيَت فيه، وفتحت الآفاق نحو عمارة المستقبل، وهذا ما يجب أن نعيره الكثير من الاهتمام. العمارة هي ذاكرة الأمم وثقافتها المتجسّدة، التي انصهرت فيها كلّ صنوف المعرفة؛ من أدب وشعر وتاريخ وعادات وتقاليد؛ صاغها المعماريّ والمصمم، بشكل يبعث برسالة إلى الزائر، أن هذا البناء هو ما يجسّد حقيقتنا الثقافية، و يعكس تجاربنا المتنوعة، ويرمز إلى تاريخنا العريق.

لن نحاول هنا أن نقدمَ نظرةً تاريخية للمعرض وتطوّره عبر الزمن، إذ هو متاح،  يمكن البحث عنه بسهولة عبر محركات البحث الإلكترونية، وما يهمّنا هنا، هو التأكيد على ما يقدمه من فرص عظيمة، تجعل من هذا العرس العالمي، نقطةَ تحوّل حقيقة وكبرى في عالم العمارة والتصميم، وذات أثر مباشر في عمارتنا المحلية.

التجديد والابتكار، والنظرة المستقبلية للتعاطي مع مشكلات العصر، هي الأساس لمعارض الإكسبو عبر التاريخ، فنجد أن المعرض بالمجمل، يحمل في طياته اختراعاتٍ وحلولًا تجعل من حياة البشر أكثر يسرًا. ولكن في عالم العمارة، وبالنسبة لمباني المعارض المشاركة، دائمًا ما نجد أن المعرض يشكل منصّة لاكتشاف الأسماء المهمّة، والتي ستغيِّر مجرى العمارة في المستقبل، وهذا ما يجعل الدول تتيح الفرصة للأسماء الشابة فيها؛ للدخول في مسابقات تصميم مقار الإكسبو؛ وذلك لاستشراف المستقبل عبر تصاميم عابرة للزمن.

الجناح الأمريكي في إكسبو 1967م. تصميم بوكمنستر فولر

المصدر: https://www.azuremagazine.com/article/mtl-biosphere-architecture-exhibition-imagines-the-montreal-of-2067/

في نهاية الستينيات الميلادية من القرن الماضي، وبالتحديد في ظلّ تحديات الإسكان العالمية، والحاجة للبحث عن حلول تساعد في القضاء على مشاكل الإسكان المتزايدة آنذاك؛ شارك في إكسبو مونتريال 1967م، الطالب "موشي صفدي" بمشروعه للتخرج، وكان عبارة عن حلّ عمراني قائم على تكرار الوحدة السكنية، ولكن بشكل إبداعي؛ بحيث يعطي فرصة لكي تصبح المجمّعات السكنية أكثر حيوية، و ليس مجرد تكدس للشقق السكنية بعضها فوق بعض. وظلّ المشروع محتفظًا برونقه حتى يومنا هذا، وقد سبق لي زيارته في صيف 2018م. وتكاد تلمس اهتمام ساكنيه وحرصهم على بقاء هذا الإرث العمراني المهم في مدينة مونتريال ؛ لذا يعتبر هابيتات 1967م، نقطة الانطلاقة الكبرى لموشي صفدي، حيث انتقل بعد هذا المشروع إلى العالمية. ويمكننا ضرب أمثلة كثيرة على معماريين برزوا من خلال فرصة الإكسبو، ووهجه الكبير الذي يلقاه المعماري الشاب بالمشاركة في هذا المحفل.

مبنى هابيتات إكسبو 1967 مونتريال. تصميم موشي صفدي

المصدر : المؤلف

كذلك يعتبر الإكسبو فرصةً كبيرة لعدد من المعماريين والمفكرين، في طرح نظريات جديدة، وتجسيدها في مباني المعرض، و إن لم ترَ النّور من قبل، ولعل أبرز مثال على ذلك، هو حركة الميتابولزم اليابانية، حيث شكل إكسبو أوساكا 70، فرصةً كبيرة لهم في العمل على وضع تصوّر مبتكر لحلول عمرانية فريدة، وشكّلت فيما بعد، نقطة العبور لعدد كبير من معماريي هذه الحركة الشهيرة، في إثبات أهمية نظريتهم العمرانية، التي أصبحت فيما بعد حركة عمرانية مهمة، بل تكاد تكون بالإضافة إلى حركة الإرشيقرام البريطانية، من أبرز الحركات المعمارية في القرن الماضي.

وبنفس السياق، تعطي بعض معارض الإكسبو الفرصة لعدد من الباحثين في المجال، الفرصة في صياغة مانفستو  الإكسبو، حيث يتم رسم ملامح العمارة التي ستشكلُ هذا الحدث، وهذا ما تمّ مع إكسبو هانوفر، حينما قامت بلدية هانوفر، بتكليف المعماري "ويليام ماكدونه"، بصياغة ما عُرف فيما بعد بـ "مبادئ هانوفر"، حيث تهدف إلى وضع أسس تصميمية تراعي الاستدامة والبيئة بشكل كبير. وربما شكّل إكسبو لحظة مهمة في تاريخ المعارض الدولية، من حيث الاهتمام بالاستدامة؛ مما أثَّر على الخطاب والممارسة المعمارية فيما بعد.

لا يمكننا تصوّر حضور إكسبو في إحدى الدول، دون تأثير مباشر على العمارة والتصميم، حيث يظلّ حضور العالم المهيمن، هو الأبرز في تلك المحافل،  ولعلنا نتذكر ما قدمته من أعمال مهمة، لا زالت خالدة في تاريخ العمارة، مثل معرض فيليبس للمعماري "لوكوبوزييه" إكسبو 58 في بروكسل، أو "البايوسفير" في مونتريال، أو ما تعرف بالقبة الجيوديسة إكسبو 67 في مونتريال، أو تصميم "كينزو تانج" لأكبر سقف في إكسبو 70 في أوساكا.  لذا فإنّ الإكسبو يشكل فرصة مهمة جدًا للمعماريين السعوديين، لكي يعبروا عن أنفسهم إقليميًا وعالميًا، وهذا ما ينقص تجربة المعماري السعودي؛ فهو لازال منهمكًا في انشغالات الالتزامات المهنية المحلية، دون حضور عالمي مهم، باستثناء بعض الأسماء التي تعلمت في الدول الغربية وأكملت ممارستها في كنف هذه المجتمعات، أو إقليميًا في بعض دول الجوار. الإكسبو سيشكل بلا شك فرصة مهمة للاحتكاك بالخبرات العالمية،والعمل من قبل المعماريين، بالتعاون مع الدول المختلفة من العالم؛ لإتمام تنفيذ هذه التصاميم على أرض الواقع، وهذه بلا شك فرصة عظيمة للتعاون مع مختلف الخبرات من جهات متعددة من العالم.

يمكننا قراءة قيم رئيسة، في الإعلان عن المخطط الرئيس لمعرض إكسبو الرياض 2030م، حيث كانت الأصالة هي الفكرة الرئيسة للمعرض، من حيث الاستلهام من تاريخ الرياض، وقد  جسَّدت من خلال الممرات المظللة، التي تعكس روح المكان وتربط الزائر بثقافة المدينة؛ الاستدامة، من حيث تمثيل المعرض بالواحة الخضراء، التي لم تمثل جانبًا للزينة فقط؛ بل عكست مفهوم الاستدامة هنا من خلال تقليل الأثر البيئي للإكسبو، حيث سيكون أول معرض يحقق مستوى صفري على مستوى الانبعاثات الكربونية، من خلال استخدام وسائل الطاقة البديلة النظيفة؛ مثل الاستخدام الكفء للطاقة الشمسية. على مستوى مباني المعارض للدول المختلفة، وسيكون الإكسبو أحدَ نقاط التحول على مستوى معارض العالم؛ لأن السعودية في السنوات الأخيرة رفعت السقف عاليًا في ابتكار المشاريع المختلفة، وأصبحت واحدةً من أهم الدول التي تشكّل مسار العمارة والتصميم حول العالم.

تمثل العمارة والتصميم، البُعْد الحضاري الماديّ للدول وللثقافات المختلفة، والإكسبو هو الملتقى الحقيقي الذي تتنافس فيه الدول؛ لتبيان تميُّزها وقدرتها على إظهار هذا التقدم الحضاري. النجاح هو في القدرة على تجسيد هذه الحضارات، دون استجلاب مباشر للماضي، والاتكاء على مفردات العمارة التقليدية، ولكن بقدر يعكس روح العمارة، من خلال التفسير العميق للمعاني الخفية للعمارة الأصيلة للمكان، وفي نفس الوقت، وضع التصوّر المستقبلي لنوع العمارة، التي تحاول تقديم حلول مبتكرة للتحديات المستقبلية، والتي تواجه مستقبل العمارة والتصميم بشكل خاص، والتحديات التي تواجه البشرية بشكل عام.

اطّلع على منشورات أخرى

تم تسجيلك .. ترقب ضوء معرفة مختلفة!
عذرًا، أعد المحاولة