قبل ثلاثة أشهر تقريبًا، بعث أحد الأصدقاء صورًا لمكان وقع عليه الاختيار كي يكون مكتبة. أخذت أتأمل الصور متعجبًا: رمل وحصى يملآن المكان، هيكل درج يصعد إلى الأعلى، جدران هامدة من الطوب والإسمنت، وفراغ صائت يُشعِر بالوحشة. إنه هيكل مكان ما زال يحلم بإمكانيات تحققه المختلفة؛ أن يكون منزلًا آهلًا، مطعمًا مزدحمًا، مكتبًا دافئًا، مستودعًا غاصًا، لكن مكتبة! كيف لهيكل الإسمنت والطوب هذا أن يتحوّل إلى مكانٍ حميمي، ودافئ، ومريح كمكتبة؟ الأمر الذي دفعني إلى التساؤل: ما الذي يجعل أيّة مكتبةٍ مكتبة؟ أهي الكتب التي تملأها؟ القرّاءُ الذين يتقاطرون إليها؟ التصميمُ الذي اختِير لها؟ المكانُ الذي تشغله؟ أم تُراه مجموعَ كل هذه العلاقات والقوانين التي تحكم مكوّناتها المختلفة؟ أظنني أميل إلى الخيار الأخير، لذا أريد أن أشرككم في تأملي السريع هذا عن الظواهر والقوانين التي تحكم هذا المكان المدعو: «مكتبة».
إذا كانت الكتب مُكوِّنًا أساسيًا للمكتبة، فكم العدد الأدنى الذي يمكن أن يمنحها هذا الوصف؟ كتاب؟ اثنان؟ ثلاثة؟ عشرة؟ مئة؟ سؤال صعب، لكن لنفترض أنّ أحدهم رجع بالتوّ من معرض الرياض الدولي للكتاب، وأنه اقتنى ديوان عبد الباري الأخير «أغنية لعبور النهر مرتين» ثم وضعه على الطاولة ونام. حتى الآن، لا يزال الكتاب شيئًا من الأشياء، قِطعةً من الأثاث الذي يشغل فضاء الغرفة، كالأبجورة، والمقعد، والطاولة، والملابس. لكنّ صاحبنا، بعد أن استيقظ وتناول طعامه، فتح الديوان كيفما اتفق وقرأ:
اللغز أوغل في مساورتي ولم :: يأخذ يدي للحِكمةِ الحكماءُ
لم يعلُ بي من صاحبِ المُثُلِ المثا :: لُ وبعدَه لم يمشِ بي المشَّاءُ
وغني عن القول إنّ صاحبنا لم يفهم شيئًا. أجرى بحثًا سريعًا عن نظرية المُثل وعن المشائين، ثم حين قرأ نبذةً عنهم، استبدّ به الفضول، فرجع إلى المعرض واشترى «الجمهورية» لأفلاطون، بينما تجاهل أرسطو تمامًا. بعد أن رجع إلى منزله وضع كتاب «الجمهورية» فوق «أغنية لعبور النهر مرتين» وأخلد إلى النوم. الآن، أستطيع أن أقول–وبكل راحة ضمير- إنّ صاحبنا يملك مكتبة، فالكتاب –في رأيي- يشبه الإنسان الفرد، وحيدٌ أمام العالم، لكن حين يوضعُ مع آخر، يكوّنان بذرة عائلة، أو عائلة، قادرة على النمو والازدهار، وهكذا هي مكتبة صاحبِنا الذي استجاب لداعي الفضول وبحث عما لا يعرف، استجابته تلك أثبتت أنّ الكتابين على الطاولة قادران على التكاثر والازدهار. إذن صحيح: 1 + 1 ≠ 2، وإنما = مكتبة.
إذا سلّمنا بما سبق وقلنا إنّ الكتاب لا يؤدي إلى آخر إنما إلى عشرة، وإنّ نمو المكتبة ليس علاقة خطيّة بل لوغارثمية، سنخلص إلى استنتاج بورخيس القائل بلانهائية المكتبة، وهي ثيمة وجدت لها ترجمة في قصّتين من قصصه الرائعة: «مكتبة بابل» حيث تخيّل غرفًا سداسية تمتلئ كتبًا، وكل غرفة تقود إلى ست غرف أخرى، إلى ما لانهاية من الغرف والكتب، و«كتاب الرمل» حين زاره بائع جوّال أخرج كتابًا عتيقًا يحوي عددًا لانهائيًا من الصفحات، بحيث يستحيل أن تقع على نفس الصفحة مرّتين. وهذا –بالمناسبة- يجعل المكتبة مكانًا مثاليًا لإخفاء الأشياء. اشترت لي زوجتي ذات مرّة خزانة معدنية على هيئة كتاب، وقالت غامزة إنني لو وضعتها بين كتبي فلن يهتدي أحد إلى سرّي. غني عن القول إنني لم أستأمن الكتاب الحديدي على أسراري، فهو يشبه تلك الكتبَ النافرة في الأفلام، تسحبها فينفتح بابٌ سريّ أو تستدير بك الغرفة، ثم ماذا لو كان اللص مهتمًا بالعنوان المرقوم على غلافه، كخزانتي التي تتنكر في زيّ كتاب عن «شارلوك هولمز»؟ لص مهتم بالقصص البوليسي، يبدو الأمر جائزًا! لذا تنفست الصَعداء حين انكسر قفل الكتاب وتخلّصت منه. لكن، ماذا لو كان ما تريد إخفاءه ورقةً، ودسست تلك الورقة في كتاب، ودسست ذلك الكتاب في مكتبة. هل سيعثر عليها أحد؟ ولو أردنا استعارة لغة بورخيس وزيادة الأمر صعوبة، لدسسنا ورقتنا في كتاب الرمل، ثم دسسنا كتابَ الرمل في مكتبة بابل. نم عندها قرير العين، لن يعثر أحد على ورقتك.
هناك شيء طريف يطرأ على الكتاب، أو على علاقتنا به، عندما نضعه بجانب آخر، ولولا أن أتمادى بالخيال لقلت إنّ الكتاب كائن اجتماعي يتغيّر سلوكُهُ حين يجاور آخرين، لكنّ ما يتغيّر في الحقيقة هي نظرتُنا إلى الكتاب، فهي تأبى إلا أن تخضعَه لرؤيتنا الجمالية التي لا نستطيع أن نقارب الكون إلا بها، فنضمّ الشبيهَ إلى شبيهه، والنافرَ مع أضرابه، وإذا كانت الكتب تحوي هذه الخطوط والرقوش والشفرات التي تحاول أن تستخلص معاني وأنساقًا من هذا الكم الهائل من المحسوسات، فالأحرى أن يخضع مظهرها الخارجي لنفس تلك الإرادة الناسقة.
والناس يتباينون في ترتيب كتبهم. هناك من يرتّبها حسب اللون، ومن يرتبها حسب الحجم، ومن يرتبها حسب الدار الناشرة، ومن يرتبها حسب المؤلف أو الموضوع. وحتى داخل هذه الترتيبات الكبرى لا بدّ من وجود ترتيبات صغرى تحكم أماكنَها وتضبط علاقاتِ الأخوّة والجوار بينها. فمثلًا، في مكتبتي، في رُكن الآداب الأجنبية، وضمن الرفّ المخصص للشعر الإنجليزي، عندما أرى ديوان إليزابيث براونينج وأتذكّر كيف أنقذها زوجها من حياة المرض والعزلة والانكفاء، لا يهدأ لي بال إلى أن أضع ديوان زوجها روبرت براونينج إلى جانبها، فمن ذا يستطيع التفريق بينهما بعد كل ما جرى؟ ومثلًا عندما أرى الأعمال الكاملة لسيلفيا بلاث في رف الآداب الأمريكية، أحمد لإرادة التصنيف أن أبقت زوجها تيد هيوز بعيدًا في رف الآداب البريطانية، فمن اللؤم أن أجاور بينهما بعد أن هجرته وانتحرت بسببه بغاز الفرن. ومثلًا عندما أرى الرفّ المخصص لنشرات ديوان شاعر العربية أبي الطيب المتنبي، أدس بخبث كتابًا عن عدوّه ابن الحجّاج، لا لشيء إلا كي أبقيه مغتاظًا.
من بين كل الأماكن التي فرضت على مرتاديها لبس كِمَامة أثناء وباء كورونا، كانت المكتبة المكان الأجدر بإجراءات الوقاية تلك. إنها مكان عدوى بامتياز، وما عليك كي تصاب بالعدوى إلا أن تتأمّل قارئًا يقرأ، فترى ابتسامته الهانئة، وغشاوته المائية، ونظرته الساهمة التي ليست إلى الداخل ولا إلى الخارج، ذلك لأنها تنظر في كلا الاتجاهين معًا. وما زلت أتذكر ذلك اليوم البارد في إدمنتون، عندما نزل الثلج بكثافة وغمر ببياضه شوارعها ومتاجرها ومحالها، إلى أن ألجأني إلى متجر كتبٍ مستعملة يُدعى «الحمراء» كنت أحب ارتياده. ابتلعني المكان بدفئه ما إن دفعت الباب. أخذت أتهادى فوق الأرضيّة الخشبية، وبين الرفوف المكتظّة، والكتب المكوّمة، إلى أن دخلت فتاة يكاد يغرق رأسُها تحت قبعة صوف، وعندما وقعت على رواية لجورج إيليوت أظنها «رومولا» قفزت من مكانها، وأشارت إلى رفيقتها والأرض لا تسعها من الفرحة. لطالما كان هناك شيء داخلي يخبرني أن جورج إيليوت بعيدة كل البعد عن ذائقتي، لكنني بعد عشر سنوات عندما وقفت أمام رواياتها تذكّرت ذلك الموقف، فاقتنيت «ميدل مارش»، و«دانييل ديروندا»، و«الطاحونة على نهر فلوس»، فلولا براعة إيليوت لما قفزت تلك القارئة ذات القبعة الصوف وضمّت الرواية إلى صدرها.
عندما نتحدّث عن مرتادي المكتبة، نميل إلى اختصارهم ضمن لقب واحد هو «القرّاء»، لكن هل هذا صحيح؟ هل يمكن اختصار هذه الطوائف العدّة، هذه الأشتات من الناس، المتعبين، والناقمين، والناجين، واللاجئين، ضمن لقب واحد يجمعهم؟ إنّ المكتبةَ مكانُ لجوء للقلوب المُتعبة، وكأي مكان لجوء يتوافد إليها أناس ينتمون إلى شتّى الطوائف والأنواع. فمثلًا، هناك من إذا دخل جأر بصوته، وسأل بأعلى عقيرته عن كتاب ما، وسواءٌ وجده أم لم يجده لن يتردد عن إسماع رأيه بالمؤلف وإن لم يطلبه أحد. وإياك أن تتأفف وتنسبه إلى النرجسية وجذب الأنظار، هذا قلب وحيد، لم يأتِ للمكتبة إلا للتواصل! ومثلًا، هناك من يهرب من ضجيج حياته ويلجأ إلى هدوء ورتابة المكتبة. إياك أن تفسد استراحته وتقترح عليه أكثر الكتب رواجًا أو آخرها صدورًا، هو لم يأتِ إلا ليضمِّد قلبه في بياض الورق. ومثلًا، هناك من يفترشون الأرض، ويضعون كتابين أو ثلاثة بجانبهم، ويقرأون رابعًا، إياك أن تضطرَهم إلى المغادرة أو التحوّلَ من أماكنهم، فليس هناك أقسى من الضجر باللاجئين!
يتعرّف كثير من القرّاء على بعضهم في المكتبة، فتنشأ صداقات راسخة انعقدت أول مرة ما بين الرفوف والكتب. الكتاب صلة أفقية، فهو يدور بين الأصحاب، يتهادونه، ويتحاورون حوله، ويدور بينهم، إلى أن يعود إلى مهديه الأول، تمامًا كما قال بدر شاكر السيّاب في ديوان شبابه «أزهار ذابلة» واصفًا رحلة دفتر الأشعار:
ديوان شعرٍ ملؤه غزلُ :: بين العذارى بات ينتقلُ
أنفاسي الحرّى تهيمُ على :: صفحاتِه والحبُّ والأملُ
وستلتقي أنفاسهنّ بها :: وتحومُ في جنباتهِ القُبَلُ
والكتاب صلة عامودية أيضًا، قد يربط القارئ بأجيال من القراء السابقين، كأن يقرأ المرء ما قرأه أبوه، أو ما كتبه جدّه على صفحات كتاب، أو ما تركه شخص غريب في ديار غريبة اشترى منها ذلك الكتاب، وإن أنسَ لن أنسى وردة وجدتها داخل الأعمال الكاملة المستعملة لألكساندر دوما. كان المجلد رواية «الملكة مارغو»، وكانت الوردة مجففة ومتهالكة، بحيث كنت أخشى معالجة الرواية كي لا تضمحل الوردة كلما فتحت الصفحة. فإذا علمتم أنّ عمر تلك النشرة ثمانين سنة، ماذا سيكون عمر الوردة؟
لا أريد أن أطيل أكثر، فأنتم لم تأتوا إلا للاستمتاع بالمكتبة وما تحويه من مباهج. لكن بعد كل هذه التأملات، هل أصبحتم أقرب إلى معرفة ما يجعل أية مكتبةٍ مكتبة؟ بالطبع لا، فهذا التأمل–منذ بدايته- وقع في خطأ معرفي يحاول اختصار المكتبة ضمن كنه معين، أو جوهر واحد، تمامًا كما حصل حين حاول الفلاسفة تعريف الإنسان فقالوا إنه حيوان ناطق، ثم لاحظوا أن الحيوانات تتواصل فقالوا الإنسان حيوان جمالي، ثم لاحظوا أنّ الحيوانات تراعي الجمال حين تبني أوكارها فقالوا الإنسان حيوان شكّاك، إلى آخر هذه التعريفات اللانهائية، لكن أليس اختصارُ الإنسان ضمن كنهٍ واحد خطأً معرفيًا وتسويةً تناسب عقله العاجزَ عن الإحاطة بهذا الكم الهائل من المعطيات الحسيّة؟ لماذا لا يكون الإنسانُ ناطقًا وجماليًا ومفكِّرًا وشاكًا في نفس الوقت؟ وهذا يدفعني إلى تعريف آخر، قد يكون الأكثر دقّة: الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يختصر الأشياء ضمن جوهر واحد كي يقدر على التعاطي معها. لكن أليس هذا دَورًا منطقيًا؟ رائع، ما إن انتقدت الظاهرة حتى وقعت فيها، لذا، كي أنقذ نفسي، سأضيف تعريفًا أخيرًا للإنسان وأهرب: إنه الكائن الوحيد الذي يقتني مكتبة.