تزامن توحيد المملكة العربية السعودية مع بدايات استكشاف البترول، فعبر المغامرون الأوائل صحراء المملكة مستكشفين ومستطلعين، وجاس الجيولوجيون جنبات تلك الصحراء الشاسعة منقبين وباحثين عن الثروات المدفونة في جوفها، وعن النفط المخبوء تحت أديم رمالها الذهبية، وفي كلتا المهمتين كان الأدلة الأفذاذ من أبناء البادية هم الرقم الصعب. كانت مهاراتهم العجيبة في اقتفاء الأثر وفي معرفة الأماكن هي التي لفتت الأنظار ولوت الأعناق، قدرة فريدة على الوصول لأي نقطة في الصحراء بلا بوصلة أو أية أجهزة تقنية ملاحية مساندة، إن هو إلا الحدس والمهارة الموروثة من آلاف السنين. دوّن المستشرقون والمستكشفون ملاحظاتهم بأمانة واقتدار، الأمر الذي حدا بإحدى الجامعات الأمريكية العريقة في ستينيات القرن المنصرم إلى دراسة هذه المهارات التي يمتلكها الأدلة البدو دراسة ميدانية بصفتها إرثاً إنسانياً جديراً بالاهتمام <span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">جامعة بيركلي، كاليفورنيا، رسالة دكتوراة في الأنثروبولوجيا، بحث أثنوغرافي عن قبيلة آل مرة نال به الباحث دونالد بأول كول درجة الدكتوراة.</span></span>. لذلك كان لابد من الشروع في هذه الدراسة لتسليط الضوء على هذا المكون الثقافي من التراث اللامادي السعودي. انتهجت هذه الدراسة منهجاً تاريخياً يبحث في المأثورات التي دونت هذه الظاهرة من عصر ما قبل الإسلام حتى الوقت الراهن، وعمدت كذلك إلى منهج وصفي تحليلي، يتناول علاقة الظاهرة بالمكان ودراسة الأسباب التي أدت إلى نشوئها في جزيرة العرب على وجه التحديد. كما تضمنت الدراسة مقابلات مع الأدلة المشهورين في هذا المجال، وخلصت الدراسة إلى بعض الملاحظات والتوصيات.
ترتكز الدراسة على المحاور الآتية:
1. القيافة قديمًا:
- ذكر القيافة عند العرب قبل الإسلام.
- القيافة في الإسلام.
2. القيافة في العصر الحديث:
- استخدام القيافة في القضاء.
- ذكر القيافة عند المستشرقين.
- استعمال القيافة في التنقيب عن النفط.
- خميس بن رمثان وقريان الهاجري.
- بدو البدو، مقابلة عائلة الكربي وبخيت بن بطحان.
- استخدام القيافة في أجهزة أمن الدولة.
- مقابلة عائلة العرق.
3. تفسير علمي لظاهرة القيافة:
- المعرفة الصريحة والمعرفة الضمنية.
4. التوصيات والخاتمة.
كلمات مفتاحية: قيافة، قافة، قص الأثر، آل مرة، المري، الربع الخالي، المعرفة الضمنية.
أجاد العرب منذ قديم الزمان عدة علوم ومعارف، منها ما اكتسبوه من أمم مجاورة ومنها ما أبدعوه وبرعوا به أصالة وريادة، أجادوا الطبابة بعد أخذها من الهنود والفرس، وحذقوا الاهتداء بالنجوم بعد اكتسابها من الكلدان والصابئة، وبرعوا في معرفة الأنواء واقترانها بالمواسم والمواقيت بعد احتكاكهم بالروم والبربر، ولكن القيافة كانت علمهم الأصيل ونبوغهم الفريد. يقول المسعودي: "القيافة من الأمور التي اختص بها العرب وبرعوا فيها وصار لهم بها مران وخبرة". <span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext"> المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر ج2 ص 145.</span></span>
القيافة لغة: اسم مصدر للفعل (ق و ف) مشتق من الفعل قاف، واسم الفاعل منه قائف، وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، ويجمع على قافة. يقال فلان يقوف الأثر، ويقتافه قيافة. وقاف الأثر اقتيافاً، ويقوفه قوفاً، وتقوفه أي تتبعه. <span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext"> ابن منظور، لسان العرب، ج 9 ص 293.</span></span> وينقسم علم القيافة إلى: قيافة الأثر، وقيافة البشر. أما قيافة الأثر فهي: تتبع الأقدام والأخفاف والحوافر المقابلة للأثر. وأما قيافة البشر فهي: الاستدلال بهيئات أعضاء الأشخاص على المشاركة والاتحاد بينهم في النسب والولادة وفي سائر أحوالهم وأخلاقهم. <span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext"> محمود شكري الألوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ص 263.</span></span>وذهب بعض الإخباريين القدماء في تفسير هذه الظاهرة وشرحها إلى الزعم بأنها أمر فطري وراثي فذكروا أن: "علم القيافة علم فطري وراثي لا يكتسب من طريق المدارسة والتعلم، بل يقوم على الحدس والتخمين" <span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext"> أ . الجباري عثماني جامعة الوادي، الفراسة كوسيلة للاستدلال في مجتمع وادي سوف. العدد السادس أبريل 2014، ص 124.</span></span>. مرد ذاك الظن إلى البداهة الآنية السريعة التي يمتاز بها القافة عند إطلاقهم أحكامهم بشكل فوري مباشر، فالقائف يستطيع بمجرد النظر إلى الأثر في الأرض أن يصف صاحب الأثر فوراً ويميز بشكل واضح ما إذا كان صاحب الأثر رجلاً أم امرأة، شيخاً أم شاباً، أبيض أم أسود، بل يستطيع تمييز أثر العذراء عن تلك التي سبق لها الزواج. في حين أن بعض الفقهاء والعلماء توصلوا إلى رأي مغاير؛ وهو أن القيافة أمر مكتسب لا فطري، يتأتى بالدربة والممارسة ولا يختص بقبيلة أو سلالة دون غيرها <span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext"> قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: القيافة لا تختص ببني مرة وبني مدلج، "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (9/31) ووافقه الشيخ ابن عثيمين حيث قال: كان مشهوراً في الحجاز والموجود الآن آل مرة وليسوا من بني مدلج ولهم الشهرة في ذلك ويظهر توسيع الدائرة فالتمرن والقيافة موجودة في غيرهم من حاضرة وبادية، فيوجد في الحاضرة أناس فيهم معرفة قوية وإنما الشهرة كما تقدم لآل مرة ولهم في ذلك من الحذق الشيء المشهور. ، محمد بن صالح العثيمين، الشرح الممتع على زاد المستقنع" (10/399).</span></span>، ونرى في هذا الرأي وجاهة علمية شبيهة بما توصلت له نتائج الأبحاث العلمية حول السلوك البشري والمهارات المكتسبة وعلاقتها بالبيئة والطبيعة المكانية.
عرف العرب هذه الممارسة وتمكنوا منها منذ أزمان سحيقة قبل الإسلام، ولعل خبر أبناء نزار بن معد بن عدنان مع العرّاف المشهور الأفعى الجرهمي يعتبر من أقدم النصوص التي ذكرت القيافة عند العرب، وقد ورد ذاك الخبر في عدد من مؤلفات العرب القديمة فهو على سبيل المثال: موجود في كتب السيرة عند الحديث عن نسب النبي ﷺ، وفي كتب التاريخ الحوليّة كتاريخ الطبري واليعقوبي، وأيضًا في كتب الأمثال؛ فهو موجود في كتاب "الفاخر في الأمثال" للمُفضّل الضَّبِّيّ (المتوفّى عام 291هـ)، وعند الميدانيّ في "مَجمَع الأمثال" وهو موجود في كتاب "التّيجان في ملوك حِميَر" المنسوب لوهب بن منبّه من رواية ابن هشام (ت 213هـ)، كما أنه موجود عند المسعوديّ في مروج الذهب <span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext"> ، تتبعه الباحث سعيد بن عبد العزيز الغامدي في بحثه المعنون بـ "قص أثر الدابة وفن التحري: دراسة مقارنة في خبر أبناء معد بن عدنان مع أشباهه في الآداب الأخرى" فوجده مذكوراً في عدد من المصادر الأدبية والتاريخية. </span></span>، وكذلك عند النّويريّ في نهاية الأرب، وغيرها الكثير من المصادر، فدلّ هذا على أنّ رواية خبر أبناء نزار بن مَعَدّ بن عدنان مستفيضة عن العرب، وأنّه ثابت عنهم.
يجمع نزار أبناءه الأربعة وهو على فراش الموت ويقسم بينهم ميراثهم، ويوصيهم إن اختلفوا في القسمة أن يرحلوا إلى الأفعى الجرهمي بنجران ليحكم بينهم. فيرحل الإخوة الأربعة بعد وفاة أبيهم، ويصادفون أثر كلأ أكله بعير، فيصف مُضَر البعير بأنّه أعور، ويصفه ربيعة بأنه أزور، ويصفه إياد بأنّه أبتر، ويصفه أنمار بأنّه شرود. ثم يلتقون بالرّاعي الذي أضلّ البعير فيسألونه عن صفة بعيره فيجيبهم ويسألهم أن يدلّوه عليه، فيجيبونه بأنّهم لم يروه، فيتهمهم بأخذه ويشكوهم إلى الأفعى ليحكم بينهم. وحين يشكوهم الرّاعي إلى الأفعى يسألهم كيف وصفوه دون أن يروه، فيجيب مُضَر بأنّه رأى البعير يرعى جانبًا ويترك جانبًا فعرف أنّه أعور، ويجيب ربيعة بأنّه رأى إحدى يدي البعير ثابتة الأثر لشدّة وطئه عليها والأخرى فاسدة فعرف أنّه أزور فلا أثر واضح ليده الأخرى، ويجيب إياد بأنّه رأى بعره مجتمعًا لم يمصعه بذيله فعرف أنّه أبتر، ويجيب أنمار بأنّه رآه يرعى في المكان الملتفّ نبته ثم يجوزه إلى أرق منه وأخبث نبتًا فعرف بأنّه شرود، فيحكم لهم الأفعى بأنّهم لم يأخذوا البعير.
مع بزوغ نور الإسلام تم إقرار القيافة واعتمادها، فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة الكهف قول الله سبحانه وتعالى: "قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا"، قصصًا، أي: يقصان الأثر الذي جاءا منه، أي يتتبعانه. <span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext"> البغوي، وفيها يذكر الله سبحانه وتعالى قصة موسى عليه السلام مع خادمه أثناء بحثهما عن العبد الصالح "الخضر". فقد أوحى الله سبحانه وتعالى لموسى أن مكان العبد الصالح هو ذات المكان الذي سيفقد فيه موسى الحوت، ولما لم يعلم موسى عن أمر الحوت إلا بعد أن تجاوز المكان بمسافة ما كان منه إلا أن عاد قاصاً أثره مقتفياً إياه حتى وصل وجهته.</span></span>
ومما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري <span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext"> الراوي: أنس بن مالك، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 4192.</span></span> عن قتادة: أن أناسًا من عكل وعرينة قدموا إلى المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فقالوا: يا رسول الله إنا كنا أناسًا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوحموا المدينة، فأمر الرسول لهم بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا الراعي واستاقوا الذود، فبعث النبي في طلبهم قافة "جمع قائف" ثم أمر بهم وأقام عليهم حد الحرابة. ومن شواهد الاستدلال أيضًا حادثة النبي صلى الله عليه وسلم مع القائف الشهير في زمانه مجزز المدلجي، ومجزز هذا من بني مدلج الذين اشتهر عنهم حذق القيافة حتى أنه ليقال للقائف: مدلجي، كما يقال له في زمننا هذا: مرّي. دخل مجزز على أسامة بن زيد وأبيه زيد بن حارثة وعليهما قطيفة قد غطت رأسيهما وأبدت قدميهما فقال مجزز: إن هذه الأقدام بعضها من بعض فاستبشر الرسول بهذا القول ودخل على عائشة فرحًا يخبرها؛ وذلك لأن الناس كانوا يطعنون في نسب أسامة بن زيد؛ لأنه أسود اللون وأباه زيد أبيض البشرة. أما في عهد الخلفاء الراشدين فقد اشتهر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعانته بالقافة لإلحاق أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، وكذلك اشتهر عن علي بن أبي طالب، وورد عن كثير من الصحابة والتابعين أخذهم بالقيافة كحكم على الشيء وطريق للاثبات. <span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext"> أتى في موطأ الامام مالك في كتاب الأقضية حديث رقم 1423: "عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا عمر بن الخطاب قائفا فنظر اليهما، فقال القائف: لقد اشتركا فيه فضربه عمر بن الخطاب بالدرة، ثم دعا المرأة، فقال: أخبريني خبرك؟ فقالت: كان هذا لأحد الرجلين يأتيني، وهي في إبل لأهلها، فلا يفارقها حتى يظن وتظن أنه استمر بها حبل، ثم انصرف عنها، فاهريقت عليه دماء، ثم خلف عليها هذا -تعني الآخر- فلا أدري من أيهما هو؟ قال فكبر القائف فقال عمر للغلام: "والِ أيهما شئت".</span></span>
ولما للقضاء من أهمية حاسمة في حفظ العدالة وصون المجتمع وفض النزاعات، تم الأخذ بالقيافة في القضايا الجنائية كالسرقات والقتل وغيرها. ذهب جمهور العلماء إلى مشروعية القيافة وجواز العمل بها بصفتها "قرينة قاطعة بالغة حد اليقين" <span class="tooltip">(11)<span class="tooltiptext"> بحث محكم مجلة العدل العدد 76 ص 27 عن مجلة الأحكام العدلية في المادة 1741.</span></span>، وأنها من البيّنات الشرعية التي تثبت بها الأحكام. أما في قضايا إثبات النسب، أي: قيافة البشر، فقد انقسم الفقهاء تجاهها قسمين: قسم يرى مشروعيتها والعمل بها وأولئك هم جمهور الفقهاء، وقسم لا يرى مشروعيتها أو العمل بها وأولئك هم الأحناف. أما الجمهور فقد اتفقوا على الأخذ بها ولكنهم احتاطوا بأن وضعوا عدة شروط، وذلك لأهمية النسب واعتباراته العديدة. فمن شروطهم أن يكون القائف مسلماً عدلاً، فلا تقبل القيافة لا من كافر ولا من فاسق، وقال بهذا الشوافع والحنابلة. واشترطوا أيضاً أن يكون القائف صاحب تجربة وخبرة وأن يكون حراً ذكراً كالقاضي تماماً؛ لأن القاضي تعتبر له هذه الشروط <span class="tooltip">(12)<span class="tooltiptext"> فسر الشافعية التجربة " بأن يعرض عليه ولو في نسوة ليس فيهن امه ثم مرة أخرى في نسوة فيهن أمه، فإن أصاب في الكل فهو مجرب"،وأما الحنابلة فيعتبر القائف عندهم مجرباً بأن يترك الصبي مع عشرة من الرجال غير من يدعيه فإن ألحقه القائف بواحد منهم سقط قوله لأنه تبين خطؤه" .</span></span>، وأما العدد فقد اختلفوا في اشتراطه، فلم يشترط الشافعية والإمام مالك عدداً محدداً من القافة، إذ يكفي الواحد، في حين أن المالكية وأحد الأقوال الحنبلية اشترطوا قائفين اثنين. كما اشترط الشوافع أيضًا أن يكون القائف ناطقاً بصيراً غير محجور عليه، وليس عدواً لمن ينفي عنه النسب وأن ينتفي ولاؤه عمن يلحق النسب به، ولم يمنعوا قيافة الأخرس إذا فهم إشارته كل واحد.
وفي بحث محكم من إصدار وزارة العدل في المملكة العربية السعودية بعنوان: "القيافة طريق للحكم أو للإثبات" <span class="tooltip">(13)<span class="tooltiptext"> بحث محكم مجلة العدل العدد 76 ص 27 عن مجلة الأحكام العدلية في المادة 1741.</span></span>خلص الدكتور شوكت محمد عليان إلى نتيجة مفادها: مشروعية العمل بالقيافة والاعتماد عليها في القضاء؛ لأنها تحفظ مقاصد الشريعة الإسلامية التي منها حفظ النفس وحفظ النسل وحفظ المال. فعندما يستدل القائف في جريمة قتل مثلاً على آثار القاتل سواء كانت آثار أقدام أو غيرها فإنه يحقق المقصد الأسمى وهو حفظ النفس، وكذلك الحال عند اقتفاء آثار جانٍ قام بجناية السرقة تكون شهادة القائف بمثابة قرينة يعتد بها.
ومن الفتاوي المشهورة حول القيافة فتوى للشيخ ابن عثيمين رحمه الله " وقول القافة في الأنساب معتبر، فهل يعتبر قول القافة في الأموال؟ بمعنى أن القائف إذا رأى قدم السارق، وقال: هذا فلان بن فلان، فهل يؤخذ به، أو يقال: انه قرينة ويؤتى بالرجل إن أقر وإلا برئ؟ فيها خلاف بين العلماء: منهم من قال: إذا عرف بالإصابة بالتجربة فإنه يؤخذ به، وكما ذكرنا هؤلاء القافة ربما يشهدون شهادة على أن هذه قدم فلان بن فلان، وليس عندهم فيه شك، فيكون قرينة، وفي قضية داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام: (إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين* ففهمناها سليمان) استدل بالأثر على المؤثر. <span class="tooltip">(14)<span class="tooltiptext"> محمد بن صالح العثيمين، الشرح الممتع على زاد المستقنع (10/399).</span></span>
أما إن أجرينا بحثًا سريعًا على ما كتبه المستشرقون الأوائل الذين جابوا الجزيرة العربية وعبروا مفازاتها، فإننا سنجد كماً كبيراً من المشاهدات التي تم تدوينها بدهشة يشوبها ذهول عدم تصديق.
فالكابتن البريطاني الرحالة (روجر أبتون) 1875م كان قد عبر عن دهشته من مهارة البدو وقوة ملاحظتهم في قص أثر طائر الحبارى، فيخبر أن القافة يعرفون مثلاً أن الآثار القريبة من بعضها تعني أن الطائر يرعى في الصباح، أما إذا تباعدت خطاه وسار في خط مستقيم فهو قد رأى ما يريبه ولاذ بالفرار، وهم يعرفون آثار الطائر الذي على هو وشك أن ينهض ليطير، وفي أي اتجاه سوف يطير، وأين سيحط؛ لأنه يطير عكس الريح. <span class="tooltip">(15)<span class="tooltiptext"> سعد الصويان- في الأرض مرية وفي السماء برقية- جريدة الاقتصادية، 1 مايو 2009 عن (روجر.د. أبتون، مشاهدات في بوادي العرب).</span></span>
أما الرحالة الشهير هارولد ديكسون 1949م، فقد أفرد فصلاً خاصاً أسماه "أدلاء الصحراء ومتتبعو الأثر" في كتابه الشهير "عرب الصحراء" <span class="tooltip">(16)<span class="tooltiptext"> هارولد ديكسون، عرب الصحراء ص 335.</span></span>دون فيه بعض مشاهداته التي شاهدها بنفسه ولم يحر لها تفسيراً وقال إنها "ظواهر خارقة للعادة" ذكر منها أنه كان ذات مرة متجهاً لشاطئ العقير برفقة أحد الحراس الذين أوكلهم الملك عبدالعزيز بمرافقته، وكان هذا الحارس شاباً في ريعان شبابه اسمه باني بن شجاع ولم يسبق له أن زار المنطقة الشرقية في حياته، وعندما انتصفوا في المسافة بين العقير والدمام شاهدوا قطعان إبل (تبين لاحقاً أنها تعود لقبيلة آل مرة) متجهة للشمال، فقام الفتى باني بحلب إحدى النياق، وبينما هم ينعمون بشرب الحليب فاجأهم راعي القطيع وألقى عليهم السلام ثم تفرس لحظة في وجه الفتى باني ثم سأله كيف حال أبيك شجاع؟ الأمر لذي أدهش الفتى وهارولد ديكسون على حد سواء، أجاب الفتى بذهول: وكيف عرفت أن أبي هو شجاع؟ فأجاب المري: كنت قد تعرفت عليه قبل خمسة وعشرين عامًا، ومن المحتمل أنّك لم تكن ولدت بعد، ولم أره بعد ذلك، لكن وجهه ما يزال ماثلاً أمامي ومن هنا عرفت فيك والدك، إنك بحق صورة عنه تشبهه تماماً ولولا فرق العمر لقلت إنك هو، هذه الحادثة أدهشت هارولد ديكسون أيما دهشة فما كان منه إلا أن أجرى حديثاً مع الشيخ مطلق المسيلم شيخ قبيلة بني رشيد في دولة الكويت مستفسراً عن هذه الظاهرة العجيبة، أجابه الشيخ بأن هذا أمر شائع في قبائل الجزيرة العربية بالعموم، ثم ذكر بافتخار أن في قبيلته عدداً من الأدلاء الماهرين الذين باستطاعتهم معرفة الطريق لأي مكان في الجزيرة العربية، سواء أكانوا يقصدون الشام أم المدينة المنورة ومكة المكرمة أم نجد أم الأحساء. ثم استطرد الشيخ في تفصيله لهذا الفن مبيناً أن الدلالة أو معرفة الاتجاهات تقتضي معرفة تامة بالأرض مع عيون جيدة كما تقتضي معرفة ممتازة بالكواكب والنجوم، واستطرد الشيخ في كلامه قائلاً: أما القبيلة التي تفوز بقصب السبق في هذه المجال فهم قبيلة آل مرة الموجودون في الأحساء ويبرين وهم يمتازون بقدرتهم على معرفة الأثر. يعلّق ديكسون على هذا الكلام بعد أن أجرى عدة استطلاعات فيقول: "هذه قدرة تتطلب مهارة خارقة وحذاقة وبراعة، وهي أمور يمكن أن تسمى بحاسة سادسة لا سيما وهي ملكة عقلية تشمل تتبع الآثار بشكل صحيح للإنسان والحيوان في مختلف الظروف والأحوال"، ثم يدون بعض ملاحظاته حول قبيلة آل مرة، فيقول: "من السهل جدًا على أحد أفراد قبيلة آل مرة أن يفرق بين ألوان الجمال من مجرد رؤيته آثارها، فقد يستطيع القول بسهولة: إن هذه ناقة بيضاء (وضحاء) أو حمراء أو سوداء، وهو قادر أن يحدد جنس الجمل ذكر هو أم أنثى وقعود هو أم بَكرَة. ويزيد على ذلك أن البارعين من متتبعي الأثر لهم قدرة خاصة، اذ يستطيعون القول إذا كان صاحب الأثر متزوجاً أم عازباً أو إذا كانت صاحبة الأثر حاملاً أم لا".
على الرغم من الاكتشافات التي قام بها المستشرقون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للجزيرة العربية إلا إن الربع الخالي ظل عصياً على الاجتياز، فقد زار كثير منهم الحجاز وشمال الجزيرة العربية ووصلوا نجدًا، بل إن بعضهم تمكن من عبور الجزيرة من شرقها لغربها، ولكن ظلت رمال الربع الخالي عصية على العبور، الأمر الذي جعل المستشرقين الأوائل يسبغون على هذه الصحراء الرملية الشاسعة هالة أسطورية تشبه أساطير ألف ليلة وليلة. وجدت كتابات المستشرقين الأوائل وملاحظاتهم هوى في أفئدة صديقين بريطانيين يشتركان في حبهما للمغامرة وخوض المجهول، كما يشتركان في شغفهما تجاه الشرق، هذان الصديقان هما بيرترام توماس وهاري سانت جون فيلبي (عبدالله فليبي). كان هذان الصديقان يعملان في الهند في بدايات القرن العشرين، ونشأ بينهما نوع من التحدي عمن يستطيع اجتياز الربع الخالي أولاً.
أعد بيرترام توماس العدة اللازمة مستفيداً من إجادته للغة العربية وعلاقاته الودية مع حكام عمان والقبائل الموجودة على تخوم الربع الخالي وتمكن من اجتياز الربع الخالي في بدايات الثلاثينيات الميلادية، عابراً من صلالة في عمان إلى الدوحة في قطر، وبعد رحلته تلك بعام كامل تمكن عبدالله فيلبي من عبور الأجزاء الشمالية من الربع الخالي منطلقاً من الأحساء وصولا للسليل. وقد دوّنا تجربتهما تلك في كتابين يعتبران من أدب الرحلات، كان كتاب توماس بعنوان: "العربية السعيدة: عبور الربع الخالي في الجزيرة العربية"، في حين أن كتاب فيلبي كان عنوانه: "الربع الخالي".
استغرقت رحلة عبور الربع الخالي من بيرترام توماس شهرين كاملين، بدأها من صلالة في عمان، حتى وصل إلى الدوحة في قطر. استعان خلالها بعدة أدلاء من قبيلة الرواشدة ومن قبيلة آل مرة، ودون بإعجاب بالغ ملاحظاته ومرئياته حول مهارات مرافقيه التي تتعلق بالقيافة ومعرفة الاتجاهات، تحدث في البدء عن قبيلة الرواشدة الذين عرفوا صاحب ناقة ما بمجرد رؤيتهم لآثار قدمه، وعرفوا أيضاً أن الناقة يتبعها وليدها، فيما كان هو ينظر للآثار فيراها كأي آثار أخرى لأي ناقة أو جمل. وعندما توغل داخل الربع الخالي استعان بأدلاء من آل مرة الذين أدهشوه بمهارتهم العجيبة ودقتهم الفائقة، ولما حاول استبانة هذه المهارة قام بسؤالهم عن كيفية تمييزهم للآثار التي تبدو متشابهة؟ فقام أحد الأدلاء بشرح عملي للآثار المطبوعة أمامهم، فقال: "إن هذه آثار تدل على أن الجمل عائد من المرتفعات، ألا ترى آثار المشي الوعر؟ ثم أضاف الدليلة: "إن الجمال التي تعيش فترة طويلة في المناطق الرملية تكون آثار أقدامها رقيقة ثم قام الدليلة بعد ذلك بتبيين الفروقات الطفيفة بين آثار الجمال الكبيرة في السن عن تلك الأصغر سناً فالجمال الأكبر سناً تغوص قوائمها الخلفية في الرمال أعمق من قوائمها الأمامية، وأدرك الرحالة توماس أن ثمة علماً دفيناً وتقنيات خفية خلف هذه الظاهرة، ثم حاول توماس أن يفسر دقة الدليلة حمد بن هادي المري في تحديد الاتجاهات فقال: "لقد أعجبت كل الإعجاب بدقة حمد في تحديد الاتجاهات التي كنا نسير فيها، وقد أخذت أراجع البوصلة لكي أقارنها بتحليلاته فلم أكن أجد فيها فرقاً أكثر من خمس درجات، وقد اكتشفت أن حمد كان يعتمد في تحديد المسافات والمواقع على الممرات الرملية، أما فيما بعد وفي المناطق الرملية التي لم تكن توجد فيها مثل تلك المعالم فقد كان الاتجاه كما حدده حمد في غاية الدقة مما جعلني أبحث عن أسباب أخرى لتلك المهارة، ربما كانت التعرجات الواضحة على الرمال التي تنشأ عن هبوب الرياح أحد الأسباب وإن كنت أعتقد في الواقع أن تلك المهارة ترجع في المقام الأول إلى الموهبة الفطرية التي يمتاز بها الأفراد مثل حمد" <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext"> بيرترام توماس، العربية السعيدة (عبور الربع الخالي في الجزيرة العربية ) ص 248.</span></span> ثم قص قصة حصلت في عمان في عام 1929م إبان وجوده فيها، فقد تم اغتيال أحد التجار الصينيين الذين قدموا لمسقط لشراء اللؤلؤ فما كان من سلطان عمان وقتها إلا أن أرسل في طلب خبير آثار من البادية، وبعدما حضر الخبير بعد عدة أيام وتمعن في آثار القاتل طلب من السلطان عرض المواطنين عليه، وبالفعل حضر المواطنون في جموع غفيرة ومروا أمام الخبير إلى أن أطلق الخبير الإشارة، وتبين أن القاتل شاب في العشرين مشهور بسوء الخلق كان يسكن في البيت المقابل للضحية، وحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص. يخلص توماس من هذه المشاهدات فيقول: "إن اقتفاء الأثر في شبه الجزيرة العربية يعتبر علماً قائماً بذاته، وعندما نقارن طريقة البدو في اقتفاء الأثر بالطريقة في الغرب والمبنية على فحص البصمات فإن الطريقة الغربية تبدو أكثر بطئاً كما تحتاج إلى مجهود أكبر، إن الرمال بالنسبة للبدو أشبه في نظري بجهاز التقاط الإشارات، فالبدوي أياً كان سنه هو الشخص الوحيد الذي بإمكانه حل ألغاز الصحراء، وبما أنه لم يتعود على انتعال الحذاء ففي إمكانه من النظرة الأولى أن يعرف أي جمل أو ناقة من آثار أقدامها بل وفي إمكانه أن يعرف القبائل الأخرى أصديقة هي أم معادية، فلا يطير طير أو يتحرك حيوان أو بهيمة أو تدب حشرة على الأرض إلا ويعرفها" <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext"> بيرترام توماس، العربية السعيدة (عبور الربع الخالي في الجزيرة العربية ) ص 34.</span></span>. أما زميله هاري سانت جون فيلبي الذي عبر الربع الخالي بعده بسنة كاملة مستدلًا بخريطة بيرترام توماس فيدون بعضاً من الحوادث المدهشة التي قام بها الأدلاء مرافقوه من قبيلة آل مرة، منها أنهم وصلوا إلى بئر ملحية في قلب الربع الخالي كان قد رسمها توماس، فسألهم فيلبي: "هل تستطيعون أن تجدوا أثر النصراني الذي مر من هنا؟ فقام أحد الأدلاء بالتمعن في الرمال وتقليب الرمل الناعم باحثاً عن دليل حتى وجد بعرة بعير فالتقطها وقال بثقة: هذه البعرة من راحلته. فقال فيلبي متحدياً: قد تكون بعرة لأي بعير من إبلنا نحن، فقال المري بثقة: لا طبعاً، الروث الحديث يكون ليناً طرياً. ثم إن هذه البعرة صغيرة وهذا دليل على أن الذلول قطعت مسافة بعيدة لا مرعى بها، ثم إنها بعرة ناشفة جداً ويابسة، ثم أمعن الدليلة النظر بها مرة أخرى وقال مؤكداً، عمرها سنة بالتأكيد. وفي نفس الرحلة عبر الفريق كثيباً رملياً به عشرات آثار الإبل والبشر وعندما رآها الأدلاء من آل مرة قفزوا يتضاحكون ويتحدثون بشوق، فهذه الآثار آثار قبيلتهم التي غادروها منذ أشهر، كانوا يناجون الآثار كما لو أنهم يتحدثون مع أصحابها، يشيرون لأثر قدم ما فيقولون هذه أثر فلان، ولأخرى فيقولون لعلان، ثم يشيرون لأثر ناقة فيقولون ببشر: الحمد لله، لقد لقحت الناقة الفلانية. يستطرد فيلبي في ذكر عديد من القصص الطريفة التي حدثت في تلك الرحلة الاستكشافية منها أنهم مروا بآثار حديثة عهد فقام أصحابه على الفور بقراءة هذه الآثار فعرفوا أنها آثار لخمسة أفراد أحدهم فتاة وأن هؤلاء الأفراد ساروا على أقدامهم مسافة طويلة لإراحة إبلهم، وأنهم عائدون إلى قطعانهم التي ترعى في الرمال البعيدة. سأل فيلبي بحذر أمتأكد أنها فتاة؟ فأجاب الدليل علي بن جهامان: "نعم، فتاة، وعذراء أيضاً وقد تكون حلوة كعادة بناتنا"، ثم استطرد قائلاً بفخر:" نحن بنو مرة، إن عرفنا ناقة فإننا نستطيع التعرف على آثار وليدها مع أننا لم نره قط". <span class="tooltip">(19)<span class="tooltiptext"> هاري سانت جون فيلبي :الربع الخالي.</span></span>
أما الرحالة الشهير (ويلفريد ثيسيجر) 1945م المعروف بمبارك بن لندن فيحدثنا عن حدث عجيب أثناء عبوره الربع الخالي. فهو قد رأى أثراً غير واضح المعالم، اشتبه عليه تحديد ما إذا كان لإنسان أو حيوان لاختفاء معالمه بفعل الرياح فما كان من أحد مرافقيه إلا أن قام بتفحص سريع للآثار متتبعًا إياها لمسافة قصيرة أخذًا بيده فتات بعر ثم التفت إليه وقال بحسم إنهم ستة رجال من (العوامر) مروا من هنا منذ عشرة أيام بعد أن نهبوا ثلاثة من الإبل، استبعد ابن لندن حدوث مثل هذا (السيناريو) لعدة أسباب، ورجح أن الدليلة متطرف في فرضيته هذه، ولكنهم عندما تقدموا في طريقهم حدث أن قابلوا أُناساً من آل كثير الذين أخبروهم أن ستة أشخاص من العوامر غزوا وقتلوا ثلاثة رجال ونهبوا ثلاثة من إبلهم <span class="tooltip">(20)<span class="tooltiptext"> ويلفريد ثيسيجر : الرمال العربية ص 49.</span></span>.
استمرت مهارة القيافة في تقديم خدماتها في العصر الحديث، واتسع نطاقها حتى شمل مؤسسات رسمية كبرى ربحية وغير ربحية وكان أن أفادت شركة أرامكو السعودية الفائدة الكبرى من هذه المهارة لا سيما في بواكير بدء نشاطها في التنقيب عن البترول. واستمرت في الإفادة من خبرات عديد من القافة الأفذاذ حتى وقتنا الراهن، ولعل من أول هؤلاء القافة وأكثرهم صيتًا وشهرة الخرّيت خميس بن رمثان، وقد قدمت أرامكو السعودية عرفانًا وتقديرًا للراحل خميس بن رمثان نظير جهوده الكبرى بأن أطلقت اسمه على أحد حقول النفط تكريمًا له وعرفانًا، وحقل رمثان هذا هو الحقل الوحيد الذي تم تسميته بشخص علم ، إذ إن سياسة أرامكو السعودية تمنع تسمية الحقول بالأشخاص مهما كانت مكانتهم ومهما علت بهم الرتب ، الحقول تسمى بالأماكن، وحقل رمثان هو الاستثناء الوحيد في خريطة حقول المملكة العربية السعودية على الإطلاق، كما أطلقت اسمه على ناقلة نفط عملاقة من ناقلات البترول ضمن اسطولها البحري الضخم. وأفردت له ركناً ثقافياً في مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) يستطيع الزائر له التعرف على الجهود الضخمة والعظيمة التي قدمها خميس بن رمثان مع الرواد الأمريكيين الأوائل في بدايات التنقيب عن البترول. أُطلق عليه لقب "بوصلة الصحراء". أما قصة التحاقه بأرامكو السعودية فيرويها وزير البترول والثروة المعدنية السابق علي بن إبراهيم النعيمي في كتابه "من البادية لعالم النفط" ، وفيها أن خميس بن رمثان رجل من بادية العجمان التي تقع مضاربها في صحراء الدهناء وكان قد التحق بأرامكو السعودية في عام 1934م بأمر من الملك عبدالعزيز <span class="tooltip">(21)<span class="tooltiptext"> علي بن إبراهيم النعيمي: من البادية إلى عالم النفط ص 25.</span></span>، وذلك أنه عندما بدأت رحلات التنقيب عن البترول واجه الجيولوجيون الأمريكيون صعوبة شديدة في تحديد الأماكن والمواقع في هذه الصحراء الشاسعة مترامية الأطراف متشابهة الملامح والتضاريس، الصحراء بالنسبة للأمريكيين تعني التيه والضياع والهلاك. فلا أنهار جارية أو جداول يروى منها ولا ثمة جبال يستدل بها ولا غابات يستظل بها ولا بحيرات تنفع كأعلام ونقط ارتكاز، كل ما هنالك محيط من الرمال يمتد لمئات الأميال، كثبان هلالية على مد النظر يصل ارتفاعها إلى 300 متر في بعض الأحيان متشابهة الملامح والأشكال لها درجة اللون السائد نفسها، لا يستطيع المرء تمييز كثيب عن آخر. التمس هؤلاء الجيولوجيون المساعدة من الحكومة السعودية فكان أن أمر الملك عبدالعزيز بتكليف الدليل خميس بن رمثان لمرافقة البعثة الاستطلاعية للتنقيب، وفعلاً رافقهم خميس بن رمثان فكان نعم الدليلة ، كان يمشي بهم في مجاهل الربع الخالي كما لو كان يتنزه في حديقة منزله الخلفية, كتب عنه رئيس أرامكو -آنذاك- توماس بارغر "في الصحراء لا يتوه خميس بن رمثان أبداً، لأنه إضافة إلى حاسته السادسة وهي نوع من البوصلة الدفينة التي لا تخطئ، كانت لديه ذاكرة مدهشة تمكنه من تذكر دغلة مر بها وهو شاب أو بئر قد سمع بها قبل عشر سنوات" <span class="tooltip">(22)<span class="tooltiptext"> Tomas Barger : out in the blue, letters from Arabia ص 20</span></span>. قادت مساعدة خميس بن رمثان إلى الإسهام في اكتشاف عديد من آبار النفط الواقعة في الأجزاء الجنوبية والغربية من الظهران، فيما يعرف الآن بحقل الغوار الممتد من بقيق إلى صحراء حرض على مدى يقارب نحو ثلاثمئة كيلو متر. دهش الجيولوجيون الأمريكيون من قدرة ابن رمثان الاستثنائية على تحديد المواقع ومعرفة الأماكن واتجاهها لا يفرق معه الأمر أكان ليلاً أم نهارًا، صحواً أم غائما ساكناً أم عاصفاً، أسهب الوزير النعيمي في الحديث الماتع عن بن رمثان مورداً طرائف عديدة منها قصة حدثت في الأربعينيات الميلادية مفادها أن فريقاً من فرق المسح الجيولوجي والتنقيب كان في مهمة ميدانية لتركيز إحداثيات أحد الأماكن المستكشفة ذاك الوقت بهدف رسم خريطة ذلك المكان وإضافته للخرائط الأساسية، كان خميس بن رمثان في معية هذا الفريق، وعلى عادتهم الفنية في وضع الإحداثيات كانوا يجعلون على رأس كل خمسة عشر كيلاً نقطة ارتكاز مرجعية، ثم ينتقلون بخط مستقيم تمامًا لمسافة خمسة عشر كيلا آخر ليضعوا نقطة ارتكاز أخرى، وهكذا بالتعاقب حتى ينتهوا من رسم شبكة تربيع دقيقة تتساوى المسافات بين نقطها تماماً. جرت العادة أن تكون نقاط الارتكاز هذه بجانب علامة جغرافية مميزة يستدل بها، بغض النظر عن ضآلة هذه العلامة، قد تكون فوهة بئر لا يتجاوز قطرها المتر مثلا أو قد تكون هذه العلامة تكويناً صخرياً مميزا أو أي جِرم طبيعي ثابت، ولسوء حظهم تلك المرة فقد كانوا في وسط فلاة منبسطة تمامًا على امتداد النظر ولا يوجد بها أي علامة تميزها على الإطلاق، صحراء رملية خالية من المعالم كأنها وجه المحيط الممتد للأفق. الأمر الذي يعني أنهم لن يستطيعوا رسم خط مستقيم، ولما تحيروا في أمرهم عرض عليهم خميس بن رمثان أن يتوجه للنقطة المحددة بخط مستقيم على ظهر راحلته. لم يصدقوه بداية الأمر، ولكن لأنه لا يوجد أمامهم أي طريقة أخرى فما كان منهم إلا أن اتبعوه على راحلته، وفعلًا، ماهي إلا ساعات معدودة حتى كانوا في ذات المكان. قطع بهم خمسة عشر كيلاً في خط مستقيم بهامش خطأ لم يتجاوز العشرين متراً فقط (علي النعيمي، من البادية إلى عالم النفط). <span class="tooltip">(23)<span class="tooltiptext"> علي النعيمي (من البادية لعالم النفط) ص 25.</span></span> ، ثم حكى النعيمي تجربة شخصية له هو مع خميس بن رمثان وهي أنهما كانا محلقين على متن طائرة صغيرة من طائرات أرامكو المخصصة للتنفيذيين فوق الجزء الجنوبي من صحراء الربع الخالي، وبينما أخذت الطائرة بالانعطاف أشار بن رمثان قائلا: "علي، هل ترى ذاك الكثيب؟ لقد خيمنا هناك قبل عامين"، يقول النعيمي نظرت من النافذة فلم أجد سوى كثبان متشابهة ملساء ، فسألته :" كيف تعرف ياعم؟ أنا لا أرى شيئا" فاكتفى بهز رأسه قائلا "ثمة علامات، تبدو لك إن نظرت عن كثب". أما الكاتب الأمريكي والاس ستيغنر فقد دون عن بن رمثان قصة طريفة في كتابه "Discovery , The Search Of Arabian Oil " <span class="tooltip">(24)<span class="tooltiptext"> Wallace stegner "Discovery , The Search Of Arabian Oil ص 153</span></span>مفادها أن مجموعة من المستكشفين من ضمنهم توماس برغر كانوا في رحلة استكشافية للأجزاء الجنوبية الغربية من الربع الخالي على متن مركبتين اثنتين، على بعد مسيرة ثلاثة أيام من مقرهم في الظهران وكانوا في منطقة يطؤونها لأول مرة في حياتهم، وحدث لسوء الحظ أن تعطلت إحدى المركبات عطلاً لا ينفع معه إصلاح مؤقت، بل كان لابد من العودة للورشة الميكانيكية في الظهران لجلب بديلٍ للقطعة التالفة، كانت المشكلة أنهم لا يمتلكون إحداثيات للمكان الحديث إذ إنهم طليعة المستكشفين ومما زاد الطين بلة أن الأرض جرداء خالية من أي معالم، ولكن لثقتهم الكبيرة بخميس بن رمثان قرروا العودة للظهران وجلب القطعة ثم العودة مرة أخرى، وفي أثناء عودتهم انتاب توماس بارغر الشك لوهلة فسأل خميسًا: كم بقي على موضع السيارة؟ فأجاب بقي قرابة الثمانية أميال، وفعلاً، بعد سبعة أميال ونصف فقط كانوا عند سيارتهم التي تركوها واستطاعوا إصلاحها بعد استبدال الجزء التالف. ومما رواه قريان الهاجري أن خميساً كان ذات مرة برفقة رحلة استطلاعية على متن طائرة داكوتا DC3وأنهم كانوا عائدين من الربع الخالي باتجاه الظهران وفجأة وبلا سابق إنذار تعطل جهاز الإرشاد الملاحي وفقدوا القدرة تماماً على تحديد موقعهم، أصيب الكابتن الطيار ومعاونه بذعر شديد وطفقا يحاولان إصلاح الجهاز ولكن بلا فائدة للأسف، أدركا وقتذاك أن نهايتهم اقتربت، وأنهم على مشارف الهلاك ، فلا هم بالقادرين على العودة لمطارهم الذي أقلعوا منه، ولاهم قادرون على المواصلة لوجهتهم التي يبغونها وهم في ذات الوقت محكومون بمقدار معين من الوقود لن يسنح لهم بترف البحث والخطأ، وفي تلك اللحظات العصيبة تقدم خميس بن رمثان بكل هدوء باقتراح جريء، وهو أن يحلقوا على ارتفاع منخفض لكي يستطيع رؤية المعالم على سطح الأرض وتمييزها، ما كان من الكابتن الطيار إلا أن اتبع هذا الاقتراح الذي لا يوجد غيره، وبالفعل قام خميس بتولي مهمة الإرشاد، ثم طفق يعطي الأوامر، انعطف يمينًا قليلا، حافظ على المسار، انعطف لليسار، وهكذا، وما هي إلا ساعتين من الطيران المنخفض ليطلوا على مطار الظهران قادمين من الجهة الجنوبية.
لم يكن خميس بن رمثان الدليلة الوحيد الذي تمت الاستعانة به من قبل أرامكو السعودية في بواكير أعمالها، بل كان برفقته عدد من الأدلاء البدو الآخرين من أمثال: عبد الهادي بن جثينا، ومحمد بن علي القطري، ومحمد بن خرصان القحطاني، وسالم بن ناصر بن هندي المري وسالم أبا الروس وغيرهم كثير. ثم لما توسعت أعمال أرامكو السعودية وشملت المناطق البعيدة في الربع الخالي في أقصى المجاهل الجنوب شرقية على الحدود السعودية الإماراتية العمانية في سبعينيات القرن المنصرم تعاظم التحدي، وكان لابد من موهبة فريدة تسبر أغوار الربع الخالي وتعرف مفازاته كما يعرف المرء ظاهر يده. وهنا برز الخريت قريان الهاجري الأشهر في العقود الأربعة الأخيرة. يقول عنه عثمان الخويطر نائب الرئيس الأعلى السابق في أرامكو السعودية ما يلي: "قريان الهاجري لا يقل مهارة وحنكة عن ابن رمثان. بل قد يتميز بمواكبته عصر طفرة الحفر والتنقيب في المناطق النائية، بالتحديد في مجاهل الربع الخالي. كان يرشد فرق التنقيب ويعبر بهم الطرق المتعرجة وسط الكثبان الرملية المتحركة كما لو كان يتنزه داخل أزقة مدينته التي ولد بها. والمذهل هو عندما نعي كثرة المواقع المطلوب منه معرفتها. مئات الأبراج ومئات مواقع الحفر المتناثرة في جنبات صحراء الربع الخالي يعرفها تماماً عن ظهر قلب. عندما يطلب منه تحديد بئر ما فإن ذلك لم يكن يكلفه أكثر من التحديق في الأفق لوهلة، ثم الإشارة بسبابته للمسار الصحيح". <span class="tooltip">(25)<span class="tooltiptext"> عثمان الخويطر، جريدة الاقتصادية ، 17 يناير 2016 : مقالة بعنوان " قريّان الهاجري.. مهندس طرق البترول" </span></span>
كان لنا لقاء مع هذا الدليلة الفذ ونقاش عميق حول قدرته الاستثنائية في معرفة الأماكن وتمييز الآثار، بدأ حديثه بالتأكيد أن الأمر غير مختص بقبيلة معينة دون غيرها، بل هي موهبة يمتلكها الأفراد الأذكياء ذوو الأذهان الحادة الذين يستطيعون الانتباه لأدق التفاصيل. قد تجد أخوين اثنين أحدهما دليلة فذ لا يشق له غبار بينما الآخر لا يستطيع تمييز أثر الكلب من أثر الذئب أو حتى لا يستطيع تحديد اتجاه القبلة. ثم أضاف شارحاً أسرار هذه المهارة الفريدة فقال: إن الصحراء تبدو متشابهة لمن لا يعرفها، وهي فعلاً تبدو كصفحة بيضاء خالية من الكتابات ولكن عند الغوص في التفاصيل نجد أن هناك تمايزات واختلافات على عدة مستويات. طريقتي التي أتبعها هي التقسيم الشجري من الأعلى للأدنى، فأنا على سبيل المثال أعمد إلى تقسيم الربع الخالي لشريطين أساسيين يمتدان من الجنوب للشمال، ثم أقوم بتقسيم هذين الشريطين لبضعة مناطق رئيسة متمايزة كل التمايز معتمداً في هذا التقسيم على السمات الطوبوغرافية. ثم أقوم بعد ذلك بتقسيم كل منطقة رئيسة إلى عدة أقسام فرعية معتمداً على تصنيف فرعي دقيق هو تصنيف الغطاء النباتي ونوع النظام الإيكولوجي المميز في كل قسم. هذه التصنيفات المقسمة من الأعلى للأسفل هي التي تمكنني من تكوين خريطة ذهنية لكامل مفازات الربع الخالي وهي في نفس الوقت التي تمنحني القدرة على رسم خريطة دقيقة بإحداثيات ممتازة لأي بقعة في صحراء الربع الخالي. ثم أسهب قريان الهاجري باستفاضة معلوماتية ثرية لشرح التباينات الموجودة في صحراء الربع الخالي والتي تمكن الأدلاء من القيام بمهمتهم على أكمل وجه، أضاف حديثاً شيقاً نزع السحر عن هذه الظاهرة العجيبة فاسترسل قائلاً: على المستوى الطبوغرافي نستطيع القول بشكل عام إن القسم الشرقي من الربع الخالي الذي يتاخم الحدود السعودية الإماراتية والحدود السعودية العمانية الممتد شمالا حتى حدود الاحساء يسوده نمط الكثبان الهلالية والنجمية والمرتفعات الرملية الهائلة، في حين أن القسم الغربي يسوده نمط "العروق" والشقق الطولية. ثم إن نحن ذهبنا لتقسيم أدق لكل شريط من هذين الشريطين فإننا سنحظى بتصنيف أكثر دقة، دعنا نبدأ من "القعد" المنطقة الواقعة في أقصى الركن الجنوبي الشرقي على الحدود السعودية العمانية. هذه منطقة تمتاز بوجود كثبان رملية عملاقة يصل ارتفاعها إلى قرابة ثلاثمائة متر، كثبان ضخمة جدا متفرقة بشكل عرضي متوازٍ كأنها أمواج بحر متلاطمة ، ثم يقل ارتفاع هذه الكثبان قليلاً لندخل منطقة "الكدن" لنجد أن الكثبان تحافظ على شكلها الهلالي كأمواج بحر هائج ، كل موجة رملية تعقب الأخرى بشكل متوازٍ، ثم بعد ذلك وعندما ننتصف في القسم الشرقي من الربع الخالي نجد تلك المنطقة المسماة "الحباكة"، ولعلها اكتسبت هذا الاسم بسبب تشابك كثبانها كحلقات في سلسلة رملية هائلة تتصل لعشرات الكيلومترات؛ هكذا، كأنها محبوكة بفعل فاعل، من يشاهدها من علو سيراها كسجادة محبوكة بإتقان ، مضفورة كثبانها ببعض على مدى 200 كيلو متر تقريباً باتجاه الشمال ومثلها تقريبا باتجاه الغرب، ثم إن نحن تجاوزنا هذه المنطقة باتجاهنا للغرب فإننا سنلحظ أول ما نلحظ تضاؤل هذه الكثبان وتباعد بعضها عن بعض، تنكسر حدة الارتفاعات الشاهقة بشكل ملحوظ. تدريجياً كلما اتجهنا للغرب، فنجد على سبيل المثال: المنطقة المسماة "الدكاكة"؛ تصغر كثبانها للنصف ويتباعد بعضها عن بعض، ثم إن نحن أبعدنا نجعتنا للغرب أيضا شاهدنا منطقة "أبو بحر" التي تتميز بصغر الكثبان الرملية إلى حد ما، والتفاف بعضها على بعض بشكل دائري مشكلة ظاهرة جغرافية حلقية يكون قعرها دائرة ضيقة لا تتجاوز الأمتار المعدودة مرتفعة الجوانب الرملية بشكل يشبه القمع ويصل ارتفاعها بضعة أمتار، لتنتهي هذه المنطقة، ثم تبدأ المنطقة المنبسطة المسماة "السنام" التي تختفي منها الكثبان الضخمة بالكلية ويحل محلها كثبان قصيرة أكثر انفراجاً وأكثر تذررًا وابتعاداً، ومن هذا الشكل المميز الشبيه بأسنمة البُخت اكتسبت اسمها، تعتبر منطقة السنام هي المنطقة الفاصلة بين الشريطين الشرقي والغربي من صحراء الربع الخالي وما يليها من الغرب فرشات رملية متموجة صلبة في بعض أجزائها تمتد حتى أقصى الحدود الغربية للربع الخالي متاخمة منطقة نجران ومنطقة السليل.
أما إن انتجعنا شمالاً فسنجد صحراء الجافورة بطبوغرافيتها الأكثر صلابة ولونها الفاتح المائل للبياض والتي تمتد كقوس كبير يمتد من جنوب الأحساء لشمالها موازية القوس الغربي المسمى صحراء الدهناء، اكتسبت الدهناء هذا الاسم بسبب لونها الأحمر الشبيه بلون سمن الغنم البري، وأطلق عليها البدو هذا الاسم لأنهم رأوها وكأنها مصطبغة بالدهن، أما الجيولوجيون فيقولون: إن هذا اللون بسبب وجود أكسيد الحديد الذي تكون في أزمنة سحيقة. تمتد عروق الدهناء في شكل شريط ضيق يبلغ عرضه 45 كيلو تقريبا ويبلغ طوله 1100 كيلو متر على هيئة قوس محاذٍ يمتد من شمال الربع الخالي منتهياً في صحراء النفود الكبير. هذا التصنيف الأولي مفيد للعملية التحليلة التي تجري في ذهن القائف أو الخريت، إلا إنها غير كافية بالنسبة لنا بالطبع، فلابد أن نلج لمستوى أكثر دقة في تصنيف كل منطقة، وهنا نستعمل المستوى الإيكولوجي المعتمد على الغطاء النباتي. هناك عديد من النباتات الموجودة في الربع الخالي، على سبيل المثال هناك الزهر والعبل والهرم والبركان والعلقاء والعندب والحمض والحاذ وغيرها. والملاحظ هو أن كل قسم من هذه الأقسام يمتاز بوجود نباتات متميزة تختلف كثافة وجودها باختلاف المكان، بل إن كل قسم من الأقسام يوجد به عدة أنواع من النباتات لا توجد في غيره. الغطاء النباتي على قلته وندرته إلا إنه متميز كل التميز ومتنوع كثير الاختلاف، هناك عشرات الأنواع المختلفة التي تتكتل في منطقة معينة، ثم تختفي في المنطقة المجاورة، هذا التنوع الشديد يمنح الدليلة خريطة ذهنية بالغة الكفاءة تمكنه من معرفة موقعه بالضبط بمجرد رؤيته هذه النباتات. الطبوغرافيا وأحجام الرمال وأشكالها وألوانها بالإضافة لأنواع النباتات المتعددة تشكل في مجملها قاعدة بيانات ضخمة ثرية ومتنوعة. ليس هذا فقط، بل إن هناك وسائل أخرى ديناميكة تساعد على معرفة المكان كاتجاه الرياح على سبيل المثال. فمن المعروف أن الرياح السائدة طيلة العام هي الرياح الشمالية، لذلك، نستطيع تحديد الاتجاه من مجرد رؤية الرمل المتراكم حول ساق النبتة، فالرياح تقوم بنقل الرمل من الجهة الجنوبية للنبتة للجهة الشمالية مكونة كثيباً صغيرًا لا يتجاوز حجمه بعض الأحيان قبضة اليد. ولكن عندما نقترب من الجهات الجنوبية في أقصى الربع الخالي فإن رياح الكوس الهابة من المحيط الهندي صيفًا تغير الاتجاه، فهي تهب من الشرق باتجاه الغرب والشمال الغربي وبذلك تساعد آثارها في الأرض على تحديد المناطق بشكل أكثر دقة.
كل هذه التدوينات التي دونها المستشرقون مع الملاحظات التي كتبها الجيولوجيون رواد شركة أرامكو وجدت لها صدى واسعًا في الأوساط الأكاديمية الغربية، والأمريكية على وجه الخصوص، الأمر الذي حدا أحد طلاب جامعة بيركلي في كالفورنيا إلى القيام بدراسة ميدانية مع قبيلة آل مرة في الربع الخالي مدة 18 شهراً كاملة؛ استحق في إثرها درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا. هذا هو الدكتور دونالد باول كول صاحب كتاب "بدو البدو" (Nomads of the nomads). قام بهذه الدراسة من عام 1968م حتى عام 1970م؛ مدونًا مهارات قبيلة آل مرة في فصل خاص أسماه " مهارات المعرفة الخاصة بالبدو"، وتحدث في هذا الفصل بكثير من الإعجاب عن تلك المهارات المتعددة والمختلفة لأفراد قبيلة آل مرة، سواء أكانت مهارات اقتفاء الأثر، أم مهارات المعرفة المكانية في تلك الجغرافيا الواسعة، أم معرفة أنواع النباتات، أو حتى نجوم السماء وعلاقتها بالتقويم المناخي وفصول السنة. يقول الدكتور دونالد متحدثا عن أطفالهم: "يمكن لأي فتى أو فتاة من قبيلة آل مرّة تحديد أثر كل حيوان يعيش في الصحراء، وعند بلوغهم سن المراهقة يصبح بإمكانهم تحديد الوقت الذي مضى على وجود الأثر، بل وتحديد عدد الحيوانات والأشخاص، والميزات الخاصة بالأفراد. على سبيل المثال: باستطاعتهم تحديد ما إذا كان الأثر عائداً لامرأة أو لرجل، أو إذا كان صاحب الأثر عجوزاً أم شاباً، وفي حالة كون الأثر يخص امرأة ما فإن باستطاعتهم معرفة ما إذا كانت حاملاً أم لا، ونفس الدقة من المعلومات يستطيعون تقديمها عن الإبل بمجرد النظر لآثار الأخفاف. ويسرد عددًا من القصص الطريفة عن مرافقيه، منها: أنّه كان يتولى قيادة الشاحنة عندما يشعر رفيقه المري بالتعب، وذات مرة كانوا مسافرين في شمال الربع الخالي في رحلة استغرقت منهم يومين كاملين، يقول: "ظللت أقود الشاحنة في تلك السهول الخالية المسطحة التي لا تحتوي على أي علامة جغرافية وصديقي المري نائم، وبعد أن استيقظ قام بتصحيح وجهتي مباشرة للجهة التي ينبغي أن أتجه لها. ويا لشد ما كانت دهشتي عندما وصلنا إلى المكان المقصود" <span class="tooltip">(26)<span class="tooltiptext"> دونالد بأول: بدو البدو ص 66، 67، 68، 69، 70، 113 </span></span>.
ثم يشرح الدكتور باول تأثير هذه المهارات على بعض الأساطير التي نشأت حول قبيلة آل مرة، هذه المهارات المتميزة والمتفرقة هي ما تجعل بقية قبائل الجزيرة العربية تعتقد أن قبيلة آل مرة "ينتمون إلى الجن"، في إشارة طريفة لتلك الأسطورة المتداولة حول أن قبيلة آل مرة أخوالهم من قبائل الجن. وعند التوجه لقريان الهاجري مرة أخرى وسؤاله عن دونالد بأول قال بأنه يعرفه تماماً ويعرف تلك العائلة من قبيلة آل مرة التي كان السيد باول بمعيتها، عائلة الكربي المري. ثم زودنا قريان ببضع قصص طريفة عن بخيت بن بطحان، أحد أفراد هذه العائلة فهمنا خلالها لماذا تم اختيار هذه العائلة بالأساس ليرافقها البحاثة الأمريكي دونالد باول <span class="tooltip">(27)<span class="tooltiptext"> الأمير طالب بن راشد بن شريم أمير قبيلة ال مرة هو الذي اقترح هذه العائلة ليرافقها دونالد بأول، وذلك لعلمه بأن هذه العائلة لازالت محافظة على نمط البداوة الأول والارتحال من جنوب الجزيرة لشمالها كل عام. أما اقتراح قبيلة آل مرة من الأساس فكان مقدما من الدكتور عبدالعزيز الخويطر.</span></span>، الامريكان يطلقون على العرب بالعموم لفظ "البدو" ، ولكن آل مرة على الأخص هم بدو البدو، وذلك لأنهم القبيلة الوحيدة التي لا تزال تمارس البداوة كما كانت من قبل توحيد المملكة، لا يزالون يتبعون قطعانهم متتبعين الكلأ والمياة، ولهم في هذا رحلة سنوية يذرعون فيها السعودية من جنوبها حتى شمالها. وهذه العائلة الكريمة لا تزال محافظة على نمط بداوتها الأول، قضت شتاء العام المنصرم شمالي بلدة رفحاء بالقرب من الحدود السعودية العراقية ثم ارتحلت جنوبا حتى وصلت منطقة تدعى "غنيم" بالقرب من الحدود السعودية العمانية . يقول قريان: بخيت بن بطحان أحد المشهورين بالقيافة على مستوى قبيلة آل مرة، فهو يعرف الناقة الضائعة من مجرد سماعه صوتها، وقد حدث أن نزل ضيفا على أحد الأشخاص وبينما هم يشربون القهوة سمع رغاء ناقة ضاعت منه منذ سنين طويلة ووجدها لحسن الحظ مع نوق الشخص الذي حل عليه ضيفا، ولا عجب فأبوه بطحان وجد ناقته الضائعة في ليل بهيم مظلم لأنه استطاع تمييز رائحتها من على بعد مسافة طويلة. واستطرد قريان في قص القصص الطريفة التي حدثت له مع بخيت، منها أن قريان كان في معية فريق من فرق أرامكو للتنقيب في مهمة عمل في مكان قريب من منزل بخيت، ولما مر بهم بخيت دعاهم إلى وليمة عبارة عن حبارى برية، الأمر الذي أدهش قريان فسارع بالسؤال متى اصطدت هذه الحبارى، فابتسم بخيت وقال لم اصطدها بعد، ولكني رأيت أثرها قريباً من هذا المكان قبل يومين، الأمر الذي جعل قريان يضحك باستهجان، إذ كيف ستجد طيراً لم تره ، بل لم تر إلا أثره قبل يومين، بدا الأمر برمته لقريان ضرباً من المحال، ولكن بخيتاً انطلق حتى وصل مكان الأثر ، بجانب أثلة متوسطة الحجم فوجد أثراً جديدا للحبارى تمعن فيه بهدوء ثم قال لقد اتجهت للغرب، واتبعوا الأثر ثم توقف بخيت فجأة وقال : "لقد رأتنا، لأن آثارها أصبحت تتباعد دلالة على تسارعها"، وما هي إلا لحظات يسيرة حتى أمسكها بخيت بيديه .
كان لنا زيارة لهذه العائلة التي قضى الدكتور دونالد باول عامين بمعيتها، قابلنا شيخين على مشارف السبعين من العمر، هما علي الكربي وبخيت بن بطحان، كان الكربي مسروراً وهو يرينا صورته التي تم التقاطها عام 1968 وكان وقتها طفلاً صغيراً لم يتجاوز العاشرة من العمر. بعد الترحيب والضيافة قصا علينا تلك الأيام التي يتذكرانها جيداً، وتذكرا آبائهم الراحلين الذين كانوا رفاقاً للسيد دونالد باول. ثم دار الحديث عن فن القيافة وعن مشاهدات دونالد باول ، قال الكربي: للأسف، يبدو أن هذا الضرب من الفنون على وشك الانقراض، فمع وجود التقنيات الحديثة كتطبيقات الملاحة وتحديد الاتجاهات أضحت الحاجة أقل إلحاحاً لمهارات الأدلاء، بالإضافة إلى تحضر قبيلة آل مرة وانخراطهم في أساليب الحياة المدنية، لذلك لم يعد يوجد من القافة الأفذاذ في كامل قبيلة آل مرة إلا أقل من عدد أصابع اليدين، ويكاد يكون الأمر منقرضا في أوساط الشباب والشابات، ثم أشار لبخيت المري وقال، هذا الرجل بالإضافة إلى أخته بخيتة وبعض أفراد عائلة العرق هم آخر الأحياء الذين يجيدون هذا الفن باقتدار بالغ. ثم استرسل علي الكربي في سرد قصص عجيبة هي للخيال أقرب منها للواقع، قصص تكاد تكون عصية على التصديق من شدة غرابتها، إلا إنها تفسر دهشة الأوروبيين والامريكان من هذه الملكة الفطرية العجيبة التي كانت سبباً في شهرة آل مرة في المقام الأول. أعجب هذه القصص قصة بطلها بطحان المري حدثت أحداثها بين الحربين العالميتين وكان مسرحها الربع الخالي. فقد تمكن بطحانا من عبور الربع الخالي مشياً على الأقدام منطلقاً من الأحساء حتى وصل إلى مسقط في عمان ثم قفل عائداً بمعيته ابن أخيه الذي يبلغ ثماني سنوات من العمر. <span class="tooltip">(28)<span class="tooltiptext"> في بداية العشرينيات الميلادية غادر عبد الله بن سالم الشقيق الأصغر لبطحان بن سالم العائلة متوجها لعمان طلبا للعيش، وكان أن انتظرته العائلة سنوات طوالاً كي يرجع ولكن بلا فائدة، وبعد وفاة الأب سالم في عام 1932 تقريبا عزم بطحان على الذهاب للبحث عن أخيه. فكان أن انتظر حتى حل فصل الخريف ثم انطلق من الأحساء قاصدا عمان قاطعا الربع الخالي وحيدا على قدميه الحافيتين. لم يكن معه سوى زوادة صغيرة وضع فيها متاعه ثم انطلق قاطعا الربع الخالي معتمدا على مهارته في معرفة أماكن الآبار وعلى حظه الحسن لملاقاة أظعان آل مرة المتفرقة في قلب الربع الخالي. وفعلا استطاع قطع 1000 كيلو متر في قرابة شهرين وعندما وصل مدينة مسقط ظل يسأل عن أخيه ولكن بلا طائل، وبينما كان بطحان يتجول بين الأزقة وأكواخ العشاش التقليدية التي يقطنها أهل الساحل لفت انتباهه ثلاثة أطفال يلعبون أمام أحد العشش، فعرف فيهم أبناء أخيه، وتوجه مباشرة لهذا الكوخ ليجد امرأة عجوزا قامت بإخباره أن أخاه أوكل إليها رعاية ابنائه ريثما يعود من رحلة الغوص التي قد تستمر أياما اضافية. وبالفعل ماهي الا ايام معدودة حتى عاد عبد الله ولم يستطع التعرف على أخيه بطحان الا بعد جهد، وبعد لقاء حار مخلوط بدموع أخبر أخاه أنه قد تزوج وأنجب ثلاثة أولاد ولكن زوجته ماتت، فأخذ بطحان أحد الاولاد بمعيته وقفل عائدا للأحساء وماهي إلا بضعة أشهر حتى لحق به عبدالله وولداه الآخران.</span></span>سافر وحيداً حافياً بلا أي مؤونة اللهم من زوادة صغيرة فيها بضع تمرات. يعلق قريان الهاجري على هذه القصة فيقول: أعرف بخيت بن عبدالله بن سالم الولد الذي رافق عمه بطحان عائداً من مسقط، كان زميلاً لي في شركة أرامكو في بقيق وقد قص علي هذه القصة، ذكر أحداث الرحلة ومنها أنه عندما كان يشعر بالتعب من طول المسافة فإن عمه يحمله على كتفيه ثم يقطع الكثبان العالية ويمشي به المسافات الطويلة، لم يكن عمره يتجاوز ثماني سنوات وقتذاك، يستطرد قريان فيقول على الرغم من صحة هذه الحادثة وتأكدي من حدوثها تماما ولكنها في حقيقة الأمر أشبه بالمعجزة، فأنا قد قضيت أكثر من أربعين سنة في مجاهل الربع الخالي وأعرف وعورة الأماكن التي قطعها بطحان، يكفي أن تعرف أن البشر الذين يحاولون قطع تلك المفازات غالبا ما ينتهي بهم الامر بالهلاك والموت، وقفت بنفسي على عدة حالات هلك أصحابها على الرغم من أنهم يركبون السيارات ، تلك المفازات لا يستطيع اجتيازها إلا الفرق المدربة الاحترافية المزودة بأجهزة اتصال بالأقمار الصناعية وأجهزة ملاحة حديثة متطورة، لذلك الأمر أشبه بالمعجزة فعلاً بل وأستطيع أن أقول بثقة إن بطحان بن سالم هو الوحيد الذي استطاع اجتياز الربع الخالي بمفرده والعودة سالماً.
ثم انتقل الحديث لبخيت بن بطحان الذي سرد بدوره بضعا من القصص الطريفة التي حدثت له ، وعلى الرغم من أنه مشهود له من كافة قبيلة آل مرة بأنه أحد القافة الماهرين إلا إنه يخبر بكل تواضع أنه ليس بتلك العظمة التي يصفونه بها، وعند سؤاله عن أفضل القافة الذين قابلهم أو سمع بهم، أطرق برأسه قليلا ثم قال: عرفت كل قصص آل مرة وأنا طفل وعشتها شاباً وكهلاً وها أنذا على مشارف السبعين ولا أظن أن هناك بشراً على الإطلاق يبز أختي الكبرى "بخيتة" مهارة وحذقاً ، لا من قبيلة آل مرة ولا من غيرهم، ثم استرسل في سرد عديد من القصص العجيبة حقاً ، قصص متفرقة تتشابه في النمط ولكن تختلف في الأزمنة والأمكنة. يقول ، ضاع جمل من جمالنا وطفقنا نبحث عنه ، ابتعدنا عن مضارب أهلنا لما يزيد على المائة كيلو متر، يقول كنت أقود السيارة بسرعة متوسطة وكانت هي تتمعن في الأرض وفجأة أمرتني بالتوقف وكان على محياها بِشر طافح، نظرت للأرض فلم أر أي أثر لخف جمل، إن هي إلا مئات آثار الأغنام ، فقالت بحبور: لقد وجدت عنزة أمي التي ضاعت العام المنصرم. يقول لم أصدقها في البداية، ولكنها اتبعت الأثر حتى انتهى بنا إلى حظيرة أغنام منصوبة في العراء بجانب بيوت شعر على بعد بضع مئات الأمتار، وعندما دخلنا الحظيرة أشارت إلى جديين صغيرين وقالت لابد أنهما صغيرا العنزة إياها، ثم أشارت لقوائم الجديين الأماميين ، وكانا محجلين كقوائم أمهما، وفعلا ماهي إلا لحظات حتى قابلنا أصحاب الحظيرة الذين فرحوا بوجودنا وأخبرونا أنهم وجدوا هذه العنز قبل بضعة أشهر تائهة في الصحراء، فضموها لقطيعهم على أمل أن يجدها أصحابها يوماً من الأيام. لم يخفوا دهشتهم من فراسة بخيته وظلوا يتحدثون عن هذه الحادثة بتندر ردحاً من الزمن.
ولأن أحداث ضياع أفراد القطيع هي الأكثر انتشاراً عند عائلة الكربي فقد أضاعوا ذات مرة بكرة مفرودة وطفقوا يبحثون عنها، هذه المرة كانت بخيتة هي من تقود السيارة في خبوت الربع الخالي وكانت تقودها بسرعة فوق المتوسطة وفجأة ضغطت على المكابح وتوقفت تماماً ثم قالت ، هذا أثر قعود من إبلنا، يقول بخيت : تمعنت في الأثر فلم أذكر أن لنا قعوداً يشبه أثره بل ولم يضع لنا جمل ذكر في فترة قريبة، ولكن لم يملك شيئا أمام إصرارها، اتبعوا الأثر حتى انتهى بهم إلى ظعن قبيلة أخرى من قبائل آل مرة واتبعت أثر القعود حتى وصلت للقعود ذاته، يقول بخيت :عندما رأيناه شعرت بالارتياح لصدق حدسي وتأكدت تماماً أن هذا الجمل ليس من جمالنا أبداً، ولم أره قبل ذلك اليوم، ولكنها لم تشعر بارتياح كالذي شعرت به، فسألَت أصحاب الجمل عن الفحل والد الجمل، فأشاروا لجمل كبير في آخر القطيع، وعندما رأيناه فوجئنا به إذ أنه أحد جمالنا التي ضاعت منا قبل بضع سنين. ثم يبرر بخيت رأيه الأسبق بألمعية أخته بخيته وعلو كعبها في فن القيافة بأنها تعرف الآثار دائما على الرغم من أن السيارة تمشي بسرعة كبيرة، في حين أن غيرها يتمهل ويتمعن في الأثر.
أما في المجال الأمني فقد اعتمدت وزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية على قصاصي الأثر منذ أيام المؤسس الملك عبد العزيز رحمه الله. لعل الراحل صالح بن عامر العرق من قبيلة آل هادي بن زايد إحدى فخوذ قبيلة آل مرة هو أول القصاصين المشهورين في هذا المجال ويعتبر أحد الرواد المؤسسين لإدماج هذه المهارة الثقافية الفريدة ضمن مؤسسات الدولة الرسمية في وزارة الداخلية وغيرها. كان صالح العرق أحد الأفراد الأذكياء النابهين الذين امتازوا بحدة الذهن والذكاء الخارق الأمر الذي مكنه من حل قضايا معقدة وتقديم مساعدات لا تقدر بثمن كان من إثرها أن تم تكريمه بعد وفاته بأن أطلقت حكومة المملكة العربية السعودية اسمه على شارعين رئيسيين في مدينة الرياض وفي مدينة جدة. أورث هذه المهارة لأولاده وأحفاده الذين استمرت خدمتهم في وزارة الداخلية حتى الآن، كان لنا زيارة لمقر عائلة العرق في هجرة "الطويلة" التي تقع على تخوم الربع الخالي في آخر منطقة من صحراء الجافورة على بعد يتجاوز 200 كيلو متر جنوبي الاحساء. قمنا بلقاء الأستاذ عبد الهادي بن صالح العرق وراشد بن صالح العرق اللذين عملا في وحدة قصاصي الأثر في وزارة الداخلية لمدة تربو على الأربعين عاما، كانا الجيل الثاني من عائلة العرق، ولهما إسهامات عديدة في هذا المجال، في حقيقة الأمر أن الأستاذ عبد الهادي بن صالح كان قد درس هذه المهارة دراسة أكاديمية في بحثٍ بعنوان "قصاصي الأثر" تقدم به في أكاديمية نايف للعلوم العسكرية نال على إثره شهادة الماجستير. يتحدث عبدالهادي عن الإفادة الكبيرة التي استفادتها الأجهزة الأمنية من هذه المهارة فيقول عندما يتعلق الأمر بملاحقة المجرمين واكتشافهم فإن القضايا أكثر من أن تعد، شاركنا في حل آلاف القضايا، ولعل دورنا الأكبر كان إبان ملاحقة الإرهابيين في مرحلة نشاطهم التي عصفت بالمملكة، كنا نلاحقهم ونقتفي آثارهم كما نلاحق الصيد، وبفضل الله تمكنا من اقتناصهم. ثم يتحدث عبدالهادي عن والده صالح فيقول كان أبي مؤسس وحدة قص الأثر في وزارة الداخلية، وبسببه أصبح اسم "مري" يطلق على كل من يمارس هذه المهنة حتى لو لم يكن من قبيلة آل مرة. أراد الملك عبدالعزيز اختبار مهارات والدي أول ما تم تعيينه فانتهز الملك فرصة خروجه في نزهة برية في منتزه "الخفس" فقام بطي السجادة الفاخرة التي في منتصف الخيمة ثم قام بمعية ابنه الملك سعود -ولي العهد آنذاك- وأحد الخدم المرافقين بإخفائها في مكان قصي، ثم أرسل في حضور صالح العرق قائلا "يا صالح أنا مسروق، سرقت زوليتي وهذي آثار اللي سرقوها" ثم أشار لآثار الأقدام وسط الخيمة، فتعرف والدي مباشرة على آثار الملك وولي عهده آنذاك الملك سعود عليهم جميعا الرحمة، فاقترب من أثر الملك فوضع يده عليه ثم قبلها، ثم وضع يده على أثر الملك سعود فقبلها أيضا وقتذاك ضحك الملك عبدالعزيز وقال ممازحا الحمدلله عقل الله زوليتنا والحراميه"
أما أخوه راشد بن صالح فقص علينا عديداً من القصص بالغة الطرافة تتمحور حول إلحاق النسب، منها قصة كان هو أحد أبطالها عندما كان في العاشرة من العمر. فقد حدث أن حجاجأ عراقيين كانوا عائدين من الحج للعراق في الأربعينات الميلادية، وأثناء مرورهم بمنطقة "أم الجماجم" صادفتهم عاصفة رملية اضطرتهم للتريث والوقوف عن مواصلة السفر، وحالما انقشعت العاصفة فوجئت القافلة بطفل تائه لم يبلغ الثالثة من العمر فما كان من زوجين عراقيين إلا أن قررا رعايته وتبنيه سيما أنهما لم يرزقا بأولاد، وبالفعل عاش الطفل بمعية عائلته الجديدة حتى بلغ الخامسة والعشرين من العمر، وعندما تقدم الشاب للزواج من إحدى بنات القرية رفض أهلها تزويجه بحجة أنه مجهول النسب، الأمر الذي أغضب الشاب وفاجأه على حد سواء، فهو لم يكن يتذكر أي شيء عن الحادثة، ولما سأل أمه بالتبني عن أصله أجابت بعد ممانعة أنت من قبيلة " أم الجماجم" ظنا منها أن أم الجماجم اسم لإحدى القبائل. توجه الشاب لأم الجماجم وأعلن عن نفسه فتنازعته عائلتان أضاعتا طفليهما في تلك العاصفة وزعم رب كل عائلة أن هذا هو ابنه المفقود. فما كان من الجهات الرسمية إلا أن استعانت بالمرية ليفصلوا في هذا النزاع وكان على رأسهم الشيخ صالح العرق وابنه راشد الذي بلغ لتوه العاشرة من العمر. يقول راشد: طلب والدي من كل عائلة الحضور بكامل أفرادها، كما طلب حضور الأخوال أيضا، إذ إن شبه الخال يكون في أحيان كثيرة أكبر من شبه الأعمام. وبالفعل حضرت كل عائلة، وطلب صالح من أولاد كل عائلة وبناتها المشي على الرمل، إذ أنه بهذه الطريقة يستطيع تمييز الأثر ومعرفة الشبه، يستطرد راشد فيقول: على الرغم أني بالكاد بلغت العاشرة إلا أني صرخت ملء فمي " هذه اخته" حالما رأيت أثر قدم الفتاة أخت الشاب. وكان هذا الرأي هو الذي اتفق عليه الثلاثة الأدلاء المرية الخبراء وبفضلهم تحدد نسب الشاب.
ثم ذكروا قصة أخرى كان بطلها حمد بن ناصر آل اللواء المري، وهو ابن أخت صالح العرق وكلاهما من قبيلة آل هادي بن زايد المرية، كان حمد بن ناصر هذا يعمل في الحدود الشمالية في مركز أم رضمه بمهنة حارس، وكان حول هذا المركز مجموعة من بيوت أبناء البادية تناهز الثلاثمائة بيت، وكان من ضمن هذه البويتات خيمة صغيرة لحداد يعمل بشكل مؤقت لخدمة هذه البيوت كإصلاح الأواني المعدنية وخلافه، وكان لهذا الحداد ابن في الثالثة عشر من عمره، وفي إحدى الأمسيات أقام أمير المركز وليمة لأحد الضيوف فاجتمع أهل المركز للسمر وتبادل أطراف الحديث، وكان ولد الحداد يلعب مع شقيقين آخرين في سنه، وكانوا يمارسون لعبة تسمى " المطارحة" وهي ضرب من الألعاب الشعبية شبيهة بالمصارعة الحرة، وحدث أن تغلب ولد الحداد على خصمه وقام بتثبيته في الأرض، ولكن الأخ الشقيق تدخل وأزاح ولد الصانع ثم قام بمعية شقيقه بتثبيت الولد، وقتذاك ندت من ولد الحداد صرخة حمية واعتزاء، وعندها بالضبط قال حمد بن ناصر المري " هذي العزوة من راس عتيبي، الولد ذا ماهو بولد صانع" . وقتها ساد صمت ووجوم وقال رئيس المركز هل أنت متأكد من هذا الكلام يا حمد؟ فأجاب حمد بكل ثقة، نعم، أنا على ثقة شديدة أن هذا الولد عتيبي وليس ابنا لهذا الحداد ولم يتحدر من صلبه، أبداً. وعند استجواب الحداد قال بكل صدق وتلقائية: نعم هذا الكلام صحيح، الولد ليس ابني، وجدته قبل سبع سنوات تائهاً في صحراء نجد وكان مشارفاً على الهلاك، فأنقذته وقمت برعايته، فما كان من أمير المركز إلا أن أذاع الخبر في الأرجاء ولم يمر أسبوع واحد فقط حتى قدم أهل هذا الولد وعرفوه وكان لقاءً مؤثراً كل التأثير.
ثم تحدث محمد بن راشد بن صالح العرق، الذي يعمل في نفس الوحدة التي أسسها جده وعمل بها أبوه راشد قبله، وقال: أشعر بالفخر الكبير لأني أعمل بنفس المهنة التي عمل بها أبي وجدي قبله، الأمر الآن في المجال الأمني أكثر تطورا عما كان في البدايات. نحظى الآن بتدريب ممنهج يكسب المتدربين المهارات الأساسية للتعرف على آثار الأقدام على أسس علمية رصينة، سواء أكانت متعلقة بالعلامات والسمات المميزة بالجزء التشريحي الخاص بالأقدام، أم بطبيعة الأثر نفسه من حيث عمقه ورسمه، الأمر الذي يترتب عليه تحديد سرعة صاحب الأثر وحجمه، بل وربما عمره، كما أننا نستفيد من أهل الخبرة الكبيرة في مختلف قطاعات وزارة الداخلية فقد تضمنت مناهجها التدريبية فصلاً عن تأثير المكان والظروف البيئية المحتملة على ذلك الأثر.
أولاً: هيمنة حاسة البصر عند البدو. وهذا التفسير الحذق كان قد قدمه الانثروبولوجي السعودي الدكتور سعد الصويان يقول فيه: إن العيش في الصحراء المفتوحة ينمي لدى البدو قوة الملاحظة البصرية بشكل غير عادي، عالم البدو عالم بصري يقوم على دقة الملاحظة" <span class="tooltip">(29)<span class="tooltiptext"> سعد الصويان- في الأرض مرية وفي السماء برقية- جريدة الاقتصادية، 1 مايو 2009.</span></span> وهو تفسير له قدر كبير من الوجاهة فالبدو ينظرون للمعالم الجغرافية كما ينظر أهل المدينة لإرشادات الطريق أو علامات المرور. علاقة البدو بالمكان علاقة وطيدة نستطيع التماسها في قصائدهم وتراثهم الشفهي، لا تكاد تخلو قصيدة من قصائد البدو من أسماء الاماكن، بغض النظر عن موضوع القصيدة، سواء أكانت قصيدة فخر أم هجاء أم غزل أم حتى قصيدة رثاء. ولأن الصحراء مفتوحة الأفق واسعة الأرجاء تلتقي في آفاقها على مرمى البصر حدود القبة السماوية بالتخوم البعيدة للأرض فإن الهيمنة الحسية كانت من نصيب الإبصار، حاسة النظر والرؤية على ما سواها من الحواس.
ثانيًا: طبيعة الصحراء الرملية، فالرمال تحتفظ بالآثار أفضل ما يكون، هي أفضل من البيئات الصخرية، والزراعية المعشبة. وهذه الملاحظة هي التي قد تقدم بها الخبير عبدالهادي بن صالح العرق، فهو يقول "الأمر له علاقة مباشرة بطبيعة الأرض، فلو تتأمل قليلا فستجد أن الأراضي التي يقطنها ال مرة هي الصحراء الرملية، فإن هم ارتحلوا للجنوب فإن رمال الربع الخالي هي موطنهم، وإن هم أشملوا فإنك ستجد أن رمال الدهناء هي مراعيهم".
الصحراء تحتفظ بالآثار لفترة وجيزة، ثم لا تلبث أن تمحى، بفعل الرياح والعواصف، الأمر الذي يشكل قاعدة بيانات ضخمة تجعل من رواد الصحراء قادرين على تكوين أنماط لمختلف الآثار. الصحراء هنا تشابه لوحة فنان "كانڤاس" بيضاء تحمل البيانات، ثم لا تلبث أن تتغير باستمرار. عملية التغيير المستمرة تزود المراقب بالآف البيانات الصادقة التي تسهل عليه عملية تكوين الفروض وتشكيل الأنماط وملاحظة أدق التفاصيل ثم وضع هذه الفرضيات تحت الاختبار ومن ثم مراقبة النتائج. هذه العملية الوئيدة هي ما تسفر لاحقا عن هذه القدرات التنبؤية الدقيقة ومراقبه النتيجة.
حتى لو كانت الأجسام المادية معدودة، فإن مزية المسح والتكرار تسمح بوفرة الآثار /البيانات.
فلو كان هناك على سبيل المثل عائلة مكونة من خمسة أفراد وتعيش في إحدى تخوم الصحراء وتملك خمسين رأساً من الإبل، فإن هذا العدد المحدود كفيل بتوليد آلاف آثار الأقدام التي تطبع وتمسح كل يوم ، ليس هذا فقط، بل إن الآثار ذاتها ستكرر معهم في حلهم وترحالهم، المتأمل منهم لهذه الآثار سيبتكر نمطاً يميّز به آثار الرجال من النساء و أنواع الإبل بحسب تصنيف دقيق يراعي أدق الفروقات، ثم سيراقب فعالية هذه الأنماط ويجري عليها التعديلات والتحسينات كل يوم حتى يصل إلى أنموذج محكم. وإن نظرنا لصحاري الجزيرة العربية نظرة عامة فإننا سنجد أن صحراء الربع الخالي برمالها الناعمة وكثبانها المترامية هي أكبر صحراء رملية خالية من الحصى والصخور، وهي نفس الصحراء التي يستوطنها آل مرة. لذلك نجد أن آل مرة هم أكثر قبائل الجزيرة العربية حذقاً، إلا إن الأمر ليس مقصوراً عليهم، بل إن كل من قدر له العيش في هذه الصحراء أو في صحراء تشابه صفاتها الإيكولوجية وسماتها الجغرافية والطوبوغرافية وكان يمتاز بحدة الذهن والذكاء الفريد فإنه يكتسب نفس الصفات التي اكتسبها آل مرة.
ثالثاً: طريقة عمل العقل البشري نفسه، فالعقل البشري كما يصفه ديفيد ايغلمان "حاسوب طري وظيفته توليد السلوك الملائم للظروف البيئية، فقد صاغت عملية التطور البيولوجي عينيك وأعضاءك الداخلية كما صاغت طبيعة أفكارك واعتقاداتك، فنحن لم نطور أنظمة مناعة متخصصة ضد الجراثيم وحسب، بل طورنا كذلك آلية عصبية لحل مشكلات واجهت أسلافنا في مرحلة الصيد وجمع الثمار" <span class="tooltip">(30)<span class="tooltiptext"> ديفيد ايغلمان: الحيوات السرية للدماغ، ترجمة الدكتور حمزة المزيني ص 125. </span></span>
للعقل البشري قدرة فائقة على التعلم واكتساب المعارف الجديدة، ليس فقط عن طريق الشرح والتعليم النظامي المؤسساتي كما في المدارس بل حتى عن طريق المراقبة ، مراقبة الخبراء ومحاكاتهم ثم القيام بمحاولات فردية تكرارية يغلب عليها طابع الصواب والخطأ حتى يصل المتدرب لنتيجة مرضية، يقول ايغلمان: إن هذا النوع من التعلم هو تعلم لا شعوري، وهو وإن كان تعلماً مقصوداً فإنه يجري بطريقة لا واعية ولا شعورية، بل يعمل العقل بطريقة عجيبة حتى يتمكن من إتقان المهارة المراد اكتسابها، يضرب ايغلمان عدة أمثلة على هذا المفهوم نختار من أمثلته مثالين شديدي الشهرة وهما "محددو الجنس، وراصدو الطائرات".
أما مثال محددي الجنس، فأبطاله هم اليابانيون العاملون في مزارع الدجاج، ومهمتهم تقتضي فصل ذكور الصيصان عن الإناث، لأن البرامج الغذائية تختلف لكل جنس. وعلى الرغم من تعقيد عملية تحديد الجنس وصعوبتها لاسيما أن الصيصان في أيامها الأولى، فإن هؤلاء الخبراء قد استطاعوا تطوير مهارة تشبه كل الشبه مهارة القيافة في صحراء الجزيرة العربية. استغرق منهم الأمر سنوات طوالاً من التجارب المتكررة وعمليات التحسين البطيئة حتى تمكنوا في النهاية من التوصل لطريقة تمكنهم من تحديد جنس الصوص بنسبة تقارب من نحو 96%. يقوم هؤلاء الخبراء بالإمساك بكل صوص على حدة من على السير الآلي المتحرك ثم ينظرون في مؤخرته لوهلة ثم يضعونه في المجموعة اليمنى إن كان ذكراً أو يضعونه مباشرة في المجموعة اليسرى إن كانت أنثى، هكذا بشكل تلقائي ولا شعوري، والعجيب أن دقتهم عالية جداً وهامش الخطأ لا يتجاوز 4 في المائة. وعند سؤال هؤلاء الخبراء عن الفنيات الدقيقة التي تجعلهم يتمكنون من تحديد السمات الدقيقة والفوارق الضئيلة بين الجنسين فإن هؤلاء الخبراء لا يتمكنون من الشرح التفصيلي، تعجز كلماتهم عن الشرح، يقولون "الأمر يحدث هكذا" والأعجب من هذا أن هؤلاء الخبراء عندما يقومون بتدريب متدربين جدد، فإنهم يجعلون هؤلاء المتدربين بجانبهم ويطلبون منهم المراقبة اللصيقة بلا كلام وبلا حديث، ثم يقومون بأداء العملية بشكل اعتيادي، كل خبير بجانبه متدرب جديد بلا خبرة، يقوم هذا المتدرب بمراقبة الخبير وبالنظر لهيئة الصوص ومؤخرته حتى يكتسب المهارة. يشرح ايغلمان هذه العملية فيسميها عملية "تطويع الدماغ" أثناء التدريب وغالبا ما تتم بطريقة لا شعورية.
المثال الثاني، وهو مثال راصدي الطائرات: تم تدوين هذه الحادثة أثناء الحرب العالمية الثانية وحظيت بدراسات مستفيضة أفضت لنتائج مهمة، وهي تشبه إلى حد كبير مثال تحديد جنس أفراخ الدجاج كما أنها تشبه القيافة، أبطال هذه القصة هم الأطفال البريطانيون الذين كانوا يعيشون في أطراف لندن، فقد تمكنوا وبطريقة عجيبة من تمييز الطائرات الألمانية القادمة من بعيد، وتمييزها عن طائرات الحلفاء. كانت إحدى المشاكل التي وقع بها الحلفاء هي اسقاط طائراتهم بنيران صديقة، إذ إن سلاح الدفاع الجوي والمصدات البريطانية الملكية تهاجم الطائرات القادمة ظنا منها أنها أسراب اللوتفافا الالمانية. وبدا وكأن الأمر سيستمر بلا حلول عملية، خصوصا في ضوء ضعف التنسيق العسكري ورداءة أجهزة الاتصال آنذاك. وبلا سابق إنذار لاحظ أحد جنود المصدات الأرضية أن ثمة أطفالاً بجانبه يتراهنون على تحديد نوع الطائرات القادمة، ولاحظ أنهم يربحون الرهان كل مرة، فما كان منه إلا أن استعان بهم، فلم يكن أمامه أي شيء ليخسره، وبالفعل اكتشف أن تحديدهم لنوع الطائرات صحيح إلى نسبة تقارب المائة بالمائة، وما هي الا أيام معدودة حتى كان هؤلاء الأطفال في الجبهة مع الجنود يقومون بتحديد أسراب اللوتفافا وهي قادمة من أقصى الأفق. وكانت مساعدتهم شديدة الحسم في سير المعارك الجوية أثناء الحرب العالمية.
يستطرد ديفيد ايغلمان في شرح هذه الظواهر فيعزوها للقدرات الخفية غير المكتشفة حتى هذه الساعة للدماغ البشري <span class="tooltip">(31)<span class="tooltiptext"> يقسم ايغلمان الدماغ البشري إلى قسمين، دماغ صلب ودماغ لين، ويقصد بالدماغ اللين أو الدماغ المرن ذاك الجزء الذي يغير من وظائفه باستمرار ويتكيف على مر الزمان وفيه تكمن قدرات التعلم اللاشعورية التي تميز الدماغ البشري كالقدرة على تشكيل الانماط، واكتشاف الفروقات، والاستفادة من عملية التغذية الراجعة للبيانات المتوفرة. ص75.</span></span>.
رابعاً: التراكم المعرفي الكبير
نستطيع القول بمقدار من الثقة إن القيافة بشكل من الأشكال إفراز من إفرازات البداوة وناتج ثانوي من نتائجها، والبداوة بدورها ليست إلا ظاهرة بشرية نتجت مباشرة بعد استئناس الجمل قبل قرابة الأربعة آلاف عام. استئناس الجمل لم يكن حدثاً عادياً أو هامشياً في تاريخ البشرية بل إنه أحد الأحداث المفصلية في تاريخ البشر التي أذنت بتغييرات كبرى في مسار الحضارة البشرية أو كما يصفه الدكتور ريتشارد بوليت أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا المتخصص في تاريخ التكنولوجيا وتاريخ دور الحيوانات في المجتمع البشري "كان لاستعمال الجمل تاثير عميق في مجرى تاريخ سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خاصة، تأثير ظهر دائماً في ثقافة تلك المناطق من القرن الثالث أو الرابع قبل الميلاد وحتى الوقت الراهن" <span class="tooltip">(32)<span class="tooltiptext"> ريتشارد بوليت الجمل والعجلة ص 26</span></span>. لا تقتصر تلك التأثيرات على نشوء خطوط التجارة القديمة التي ربطت بين شرق العالم وغربه كخط تجارة البخور أو حتى خط الحرير ولا تقتصر على نشوء الممالك العربية القديمة قبل الإسلام بل تمتد إلى جوانب ثقافية أخرى. هذا الرأي لهذا الدكتور المرموق وآخرين غيره منهم الانثروبولوجي السعودي الدكتور سعد الصويان يجعلهم يقولون إن البداوة ظاهرة حديثة في عمر البشرية الممتد لم تكن ممكنة بلا استئناس الجمال، ونظرا لأن هذه الظاهرة امتدت لبضعة آلاف من السنين فقد أسهمت في تخليق إرث مهاري عريق لأساليب العيش في الصحراء تم توارثه واستمراره عبر الأجيال.
في النصف الثاني من القرن العشرين حدث تطور كبير في مجالات الدراسات الادراكية والسايكولوجية وقدرة العقل البشري على اكتساب المعارف، وكان من أثر هذه الدراسات أن توصل العالم مايكل بولاني (1959) لتصنيف جديد لأنواع المعرفة فقد صنفها في مجموعتين كبيرتين: معرفة صريحة ومعرفة ضمنية explicit Knowledge and implicit knowledge <span class="tooltip">(33)<span class="tooltiptext"> Encyclopedia of the Sciences of Learning, edited by Norbert M. Seel ص 480 .</span></span>. أما المعرفة الصريحة فهي المعرفة القابلة للنقل والمشاركة إما عن طريق الكلام أو عن طريق الكتابة. وبالإمكان تحديدها والتعبير عنها بكلمات وأرقام ورموز كما يمكن تخزينها على وسائط. أما المعرفة الضمنية، أو المعرفة المضمرة فهي المهارات والأفكار والخبرات الموجودة في عقول الناس بسبب تجاربهم الشخصية وخبراتهم الذاتية المتولدة من صراعاتهم الفردية الاستثنائية مع الحياة <span class="tooltip">(34)<span class="tooltiptext"> المعرفة الضمنية بعبارة أخرى هي التي تميز كل فرد عن بقية الأفراد على الرغم من تلقيهم نفس المعلومات، مثلا مهارة الطبخ، لكل طاه نَفَس مختلف يميزه عن بقية الطهاة، ولا يستطيع نقله للآخرين مهما كان الأمر، الأم الماهرة في الطهي على سبيل المثال قد تنجح في تعليم بناتها الطهي ولكنها ستجد صعوبة شديدة في جعل بناتها يطهين مثلها تماما بحيث لا يستطيع أحد التفريق.</span></span>. وهي على العكس من المعرفة الصريحة، فهي معرفة لا يمكن نقلها أو تدوينها. من التعريفات التي مرت علينا للقيافة التعريف الذي ذكر أن القيافة لا يمكن تعلمها بالشرح أو الكلام، وهو تعريف لا يجانبه الصواب كثيرًا، لأن القيافة تندرج تحت المعرفة الضمنية التي لا تكتسب الا بالدربة العملية والممارسة الميدانية المستمرة. القيافة معرفة فورية، حضورية، يطلق القائف حكمه فوراً وبشكل مباشر بعد تمعن وجيز. فيخبر أن هذا ابن ذاك أو إن هذا هو أثر ناقة بعينها أو أن بينهم وبين وجهتهم المقصودة كذا وكذا. كما قد رأينا أن القيافة تكتسب بالدربة منذ الصغر ومراقبة القافة الخبراء الذين ورثوا المهارة بدورهم عن آبائهم، كما قد رأينا أن الأفراد قد يتمكنون من صقل مهاراتهم بشكل جديد ويضيفون إليها تحسينات جديدة لم تكن موجودة عند من سبقهم.
من أكبر المخاطر التي تواجه المؤسسات والمنظومات بمختلف أنواعها هو تقاعد الأفراد الخبراء الذين يمتلكون معرفة ضمنية لم يتمكنوا من توصيلها بشكل جيد للأفراد الجدد الملتحقين بالمنظومة حديثاً، لذلك تعمد هذه المنظومات جهد قدرها لوضع برامج تدريبة لانتقال الخبرات المؤسسية بشكل جيد؛ كيلا يتأثر أداء المؤسسة بعد رحيل الخبراء الذين قضوا عقوداً طويلة بين جنباتها. القيافة ليست بدعاً من ذلك، بل إن الأمر معها مهم كل الأهمية، فهي معرفة ضمنية لم تتشكل في عقد أو عقدين من الزمان، بل تشكلت عبر مئات العقود التي قضاها إنسان الجزيرة في الصحراء، وثمة خطر مُلح بانقراض هذه المهارة نظراً لتمدن البادية ولقلة القافة الخبراء في وقتنا الراهن الأمر الذي قد يفضي إلى انقطاع سلسلة انتقال هذه المهارة ومن ثم انقراضها. عليه نقترح الآتي:
1. المسارعة بتدوين هذا الملمح الثقافي الفريد والنادر في القائمة التمثيلية للتراث اللامادي السعودي واعتماده من اليونسكو. لوزارة الثقافة جهود مرموقة ومشكورة في تدوين التراث اللامادي أفضت مؤخرا إلى تسجيل 11 عنصراً ثقافياً سعوديا ًضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي اللامادي لليونسكو، وهي: المجلس، والقهوة العربية، والعرضة النجدية، والمزمار، والصقارة، والقط العسيري، والنخلة، وحرفة السدو، والخط العربي، وحداء الإبل، والبن الخولاني السعودي، والقيافة جديرة كل الجدارة بالانضمام لهذه القائمة المرموقة لتعزيز الهوية الوطنية وتشجيع الحوار الثقافي مع العالم. لا سيما في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها التي تجابه بها خطر الانقراض، حيث لم يعد يوجد من القافة المشهورين عدد يتجاوز أصابع اليدين.
2. وضع برنامج انتقال معرفي يستفيد من خبرات القافة الأحياء لتدريب صغار السن ونقل هذه المعرفة إلى المتدربين الجدد والتأكد من اكتسابها. لصيانة هذا الملمح الثقافي من الاندثار وللحفاظ على امتداده عبر الأجيال لابد من وضع برنامج لتدريب صغار السن الراغبين باكتساب هذه المهارة والاستفادة من خبرات القافة الأحياء، والعمل على تطوير هذا البرنامج ليكون نواة لمشروع تدريب مهاري ثقافي متكامل.
3. تشجيع الجامعات على القيام بدراسات أنثروبولوجية ميدانية. على الرغم من أن هذا الضرب من الفنون منبعه المملكة العربية السعودية وتكاد تتفرد به هذه البلاد المباركة إلا إن هناك عزوفاً أكاديمياً عن تناول هذه الملامح الثقافية تناولاً أكاديمياً جاداً يفضي إلى استنتاجات أصيلة وتحليلات معرفية جذرية من شأنها تقديم قراءة جديدة لإرثنا الحضاري العريق.
4. إنتاج مواد إعلامية مرئية سواء كانت ذات محتوى وثائقي صرف أو ذات بعد ميلودرامي تهدف إلى توظيف القيافة كملمح فريد ونادر من ملامح ثقافة المملكة العربية السعودية.
- بيرترام توماس: العربية السعيدة: عبور الربع الخالي في الجزيرة العربية.
- الجباري عثماني: الفراسة كوسيلة للاستدلال في مجتمع وادي سوف.
- دونالد بأول كول: بدو البدو: حياة ال مرة في الربع الخالي.
- ديفيد ايغلمان: الحيوات السرية للدماغ، ترجمة الدكتور حمزة المزيني.
- ريتشارد بوليت: الجمل والعجلة.
- روجر.د. أبتون: مشاهدات في بوادي العرب.
- سعيد بن عبد العزيز الغامدي: "قص أثر الدابة وفن التحري: دراسة مقارنة في خبر أبناء معد بن عدنان مع أشباهه في الآداب الأخرى".
- شوكت محمد عليان: القيافة طريق للحكم أو للإثبات.
- علي بن إبراهيم النعيمي: من البادية إلى عالم النفط.
- فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم.
- المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر.
- محمد بن صالح العثيمين: الشرح الممتع على زاد المستقنع.
- محمود شكري الألوسي: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب.
- معجم لسان العرب: ابن منظور.
- موطأ الامام مالك.
- هارولد ديكسون: عرب الصحراء.
- هاري سانت جون فيلبي:الربع الخالي.
- ويلفريد ثيسيجر: الرمال العربية.
- . Encyclopedia of the Sciences of Learning
- . Tomas Barger : out in the blue, letters from Arabia
- . Wallace Stegner "Discovery , The Search Of Arabian Oil