في مطلع القرن الماضي حين نُشر كتاب الفقيه الأندلسي الشهير أبي محمد علي بن حزم "طوق الحمامة" <span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">كاد كتاب ابن حزم أن يكون في عداد الكتب المفقودة، حتى جاء المستشرق الهولندي رينهارت دوزي عام ١٨٤١ واكتشف النسخة الوحيدة من مخطوطة «طوق الحمامة في الألفة والألاف» في جامعة ليدن بهولندا فنشرها، ومع ذلك لم يصل الكتاب كاملاً، وإنما بقيت أجزاء منه مفقودة.</span></span> اجتمعت لجنة من علماء الأزهر برئاسة الشيخ محمد عرفة وكيل كلية الشريعة لتبرئة ابن حزم مما نُسب إليه، ورفض هذا الكتاب الذي يتحدث بعمق وتفصيل عن الحب وأحواله ودقائقه، وعن طبائع المرأة وأسرارها، وهو أمر لم يعهده أولئك القوم على فقيه بمكانة ابن حزم أن يخوض في مثل تلك الأمور (أو هكذا تخيلوا)، لذا قرروا نفي نسبة هذا الكتاب إليه ظناً منهم أنهم بذلك يحسنون صنعاً! ولكن تمر الأيام ويتأكد بالاستفاضة من كل مكان أن "طوق الحمامة" هو لابن حزم، بل يدوي صدى الكتاب في العالم شرقاً وغرباً، فأقبل عليه العلماء والمحققون والمستشرقون بحثاً ودراسة وتحقيقاً، حتى عُد الكتاب أعجوبة من عجائب الزمان في فنه وبابه، وله الريادة والسبق على كل من جاء بعده.
يذكر الأديب زكي مبارك في كتابه "النثر الفني في القرن الرابع" أن الناس كانوا يعرفون عن ابن حزم أشياء قليلة من حياته الخاصة، ولم يعرف الجمهور أكثر من أنه كان أكبر علماء الأندلس في القرن الخامس الهجري، ومن أشهر أئمة الإسلام وأعرفهم بالمذاهب الفلسفية والدينية التي تأصلت جذورها عند علماء المسلمين، ولكن تبين أخيرًا أنه كان لذلك الإمام قلب خفاق، وأنه حمل راية الحب في زمانه واستهدف على عظمته للقيل والقال، وأول ما عُرف ذلك كان في دوائر المستشرقين <span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext">قبل المستشرقين، ذكره قديماً ابن القيم في كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، ونقل عنه أيضاً المقري التلمساني في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب".</span></span> حين طبع كتابه «طوق الحمامة» في لندن ١٩١٤ بعناية الأستاذ بتروف. وقد أحدث ذلك الكتاب رجة عنيفة جدًّا في أوربا وتناولته المجلات الأدبية بالنقد والتحليل، وكان موجب تلك الضجة أنه لم يثبت أن كتابًا ألف في «فن الحب» قبل ذلك الكتاب لا في اللغات القديمة ولا في اللغات الحديثة؛ لأن أوربا في القرن العاشر للميلاد كانت معارفها قليلة جدًّا في الشوؤن الوجدانية، فكان من المستظرف حقًّا أن يكتشف الباحثون أنه كان في ذلك العصر كاتب عربي يتناول حديث الحب والعشق والهيام في تفصيل شائق جذاب، هو آية الآيات في فهم أسرار الأهواء والقلوب، وذلك كله يقع من رجل كان إمامًا من أئمة الدين ومثالًا يحتذى في أدب النفس، وكرم الطبع، ومتانة الخلق".
يكسر ابن حزم بكتابه المذهل في فن الحب وأسراره الصورة النمطية المعتادة عن الفقيه، والشخصية التقليدية للفقهاء. فهو يخبرنا أن صورة الفقيه في تاريخ الحضارة الإسلامية أوسع وأشمل بكثير من تصوراتنا المسبقة فهي تعني ذلك العالم بأحكام الشرع وأدلته، لكنه في نفس الوقت قد يكون عالما بارعا في اللغة والشعر والأدب والأنساب والتاريخ، والفلسفة والمنطق والرياضيات والطب والفلك، وخبيرا في الذوق والفن والموسيقى والمشاعر والحب، وهذا ما تجلى في شخصية ابن حزم بكل وضوح، فهو صاحب المذهب الظاهري، قدم فقهه في "المحلى بالآثار"، وناقش العقائد والديانات في "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، ونحت اسمه في علم أصول الفقه في "الإحكام في أصول الأحكام"، وكان ذا شخصية قوية مستقلة برأيها تمام الاستقلال، ودفع ثمن ذلك في حياته، وكان في لسانه سلاطة وحدة حتى قُرن لسانه بسيف الحجاج. لكن هذا الرجل الثائر بآرائه، القوي في جداله ونقاشه، الصلب في مواقفه وأفكاره، ظهر وديعاً مرهف الحس إلى أبعد مدى في كتابه "طوق الحمامة" الذي أصبح شعاراً للحب ودوحة لأسرار المحبين <span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext">كان كتاب ابن حزم حلقة من سلسلة ممتدة لعلماء عُنُوا بالتأليف في الحب والعشق، ومن أبرزهم شيخه في المذهب أبو بكر محمد بن داود الظاهري (ت ٢٩٧هـ)، الذي ألف كتاب "الزهرة"، وكان من رواد هذا الفن، وكتابه من أقدم ما وصلنا في هذا الباب.</span></span>.
قدم ابن حزم في كتابه تفسيرا مذهلا دقيقا لعاطفة الحب الإنسانية، بأسلوب فريد، لم يكن منطلقا فيه من مبدأ تقرير الأحكام الشرعية، بقدر ما كانت بغيته الخوض في أسرار مشاعر النفس الإنسانية، ومحاولة فهمها، والتصالح معها، فقال في مطلع كتابه: «الحب أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبدالرحمن بن معاوية لدعجاء، والحكم بن هشام، وعبدالرحمن بن الحكم وشغفه بطروب أم عبدالله، ومحمد بن عبدالرحمن وأمره مع غزلان، والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هشام المؤيد بالله رضي الله عنه وعن جميعهم»، يكمل ابن حزم: «وقد اختلف الناس في ماهيته (أي الحب) وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع. وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال. والشكل دأبًا يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد، والموافقة في الأنداد»، ثم أفرد ابن حزم فصولا خاصة عن طرائق وأحوال الحب والعشق، كـ(باب من أحب بالوصف، باب من أحب من نظرة واحدة، باب من لا يحب إلا مع المطاولة، باب الإشارة بالعين، باب المراسلة، باب السفير بين الأحباب)، وغيرها من الأبواب التي تطالعها مندهشاً من هذا القدر الكبير من التسامح والانفتاح في الحديث الصريح عن مشاعر العلاقات بين الجنسين.
وربما يكون سر تميز ابن حزم، ودقة تصويره، وعمق تحليلاته لأبعاد المشاعر الإنسانية، أن ذلك ناتج عن تجربة حب شخصية خاض غمارها، دفعته لأن يكتب من عمق معاناته ولوعة فؤاده، فهو يقول على لسان أحدهم، وكأنه يعني نفسه:
أرى دارها في كل حين وساعة :: ولكن من في الدار عني مغيب
وهل نافعي قرب الديار وأهلها :: على وصلهم مني رقيب مرقب
فيالك جار الجنب أسمع حسه :: وأعلم أن الصين أدنى وأقرب
ولم يتوقف ابن حزم عند هذا الحد، بل بلغ مداه إلى مشهد عجيب من رهافة الحس، واتقاد العاطفة، حيث تحدث عن حالة غريبة قد يشعر بها الإنسان، وذلك أن يقع الرجل في حب امرأة لا وجود لها على أرض الواقع، وإنما شاهدها في أحلام نومه، فغمر ذلك الحلم الرومانسي قلبه، حتى وقع في غرام تلك المرأة التي رآها في المنام، وذلك موضوع دقيق عجيب، كيف تفطن له ابن حزم، وكيف أفرد له الحديث والمقال، بل جعله في مطلع أبواب الكتاب.
يقول في هذا الأمر: "باب من أحب في النوم، ولا بُد لكل حُب من سبب يكون له أصلًا، وأنا مبتدئ بأبعد ما يمكن أن يكون من أسبابه ليجري الكلامُ على نسق، أو أن يُبتدأ أبدًا بالسهل والأهون؛ فمن أسبابه شيء لولا أني شاهدته لم أذكره لغرابته.. وذلك أني دخلتُ يومًا على أبي السريِّ عمَّار بن زياد صاحبنا مولى المؤيد فوجدته مفكرًا مهتمًّا، فسألته عمَّا به، فتمنَّع ساعةً ثم قال: لي أُعجوبة ما سُمِعتْ مثلها قط. قلت: وما ذاك؟ قال: رأيت في نَومي الليلةَ جاريةً، فاستيقظتُ وقد ذهَب قلبي فيها وهِمْت بها، وإني لفي أصعب حال من حبها. ولقد بقي أيامًا كثيرةً تزيد على الشهر مغمومًا لا يهنئه شيء وَجْدًا، إلى أن عذلتُه وقلتُ له: من الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتُعلِّق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم مَن هي؟ قال: لا والله. قلت: إنك لقَيْل الرأي مُصاب البصيرة إذ تحب مَن لم تره قط ولا خُلِق ولا هو في الدنيا".
يعلق ابن حزم: "وهذا عندي داخل في باب التمني وتخيل الفكر. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
يَا لَيْتَ شِعْرِيَ مَنْ كَانَتْ وَكَيْفَ سَرَتْ :: أَطَلْعَة الشَّمْسِ كَانَتْ أَمْ هِيَ القَمَرُ؟
أَظنَّهُ العَقْلُ أَبْدَاهُ تَدَبُّرُهُ :: أَوْ صُورَةُ الرُّوحِ أَبْدَتْهَا لِيَ الفِكَرُ
أَوْ صُورَة مثلت في النَّفْسِ مِنْ أَمَلِي :: فَقَدْ تَخَيَّلَ فِي إِدْرَاكِهَا البَصَرُ
أَوْ لَمْ يَكُنْ كُل هَذَا فَهْي حَادِثَةٌ :: أَتَى بِهَا سَبَبًا فِي حَتْفِيَ القَدَرُ".
ختاماً أقول: كان الفقهاء في العصور الإسلامية المتقدمة على درجة كبيرة من التنوع والشمول، كانوا جزءا من الظاهرة الثقافية، مشاركين في حقول المعرفة المتنوعة من فن وأدب وشعر ولغة وتاريخ وفلسفة، منفتحين على حياة الناس وأنسهم، وطرائفهم وملحهم ولهوهم، لا يتعالون على مشاعرهم الإنسانية، ولا يتكبرون عن الإفصاح عما تجيش به قلوبهم من مشاعر العشق والوله، والغزل والتعلق، فأنتج ذلك حالة من الانفتاح والتسامح أدباً، وشعرا، وكتباً، في غزل الفقهاء وأدبهم وأشعارهم، بل إلى أبعد من ذلك، الكتابة والتأليف في فلسفة الحب ودقائق أحواله وعميق أسراره.