تُعَدّ الفنون الأدبية مرآةً تعكس كثيرًا من التغيّر الاجتماعي والحراك الثقافي في المجتمعات، وتطوّر عناصرها متأثّر بالمتغيّرات المحيطة بالأدب والأدباء في مجتمعهم المحلّي أو المجتمعات الثقافية الخارجية.
ولأنّ الرواية تحظى باهتمام كبير بين القرّاء في السنوات الأخيرة خاصة في المملكة العربية السعودية فقد توسّعت الدراسات النقدية لتحليل عناصر الرواية وتفكيك رموزها. والفضاء المكاني من أبرز عناصر الرواية أو هو سلطانها عند البعض، ومن هنا تأتي هذه الدراسة الموجزة لتلقي الضوء على (سيرة المكان في الرواية السعودية)، وتهدف إلى استقراء حضور المكان في الرواية السعودية، وتأمل ملامح المكان بكل أطيافه. والذي تباين حضوره بحسب اختلاف الأماكن والموضوعات التي قدمتها تلك الروايات، كما تهدف الدراسة إلى تقديم تصور عن مدى قدرة الرواية السعودية بحضورها الفني لدى القارئ بأن تكون عنصرا فاعلاً كقوة أدبية ناعمة تساهم في الترويج للمكان في المملكة العربية السعودية أو تجذب إلى التعرّف عليه.
وقد اعتمدت هذه الدراسة على المصادر من الروايات السعودية، والمراجع من الكتب النقدية حول المكان أو الرواية السعودية بصفة عامة، وكذلك الاستعانة بعدد من الحوارات في الصحف المحلية والمواقع الإلكترونية، في سبيل تقديم رؤية قريبة لهذا العنصر المهم من عناصر الرواية السعودية.
أما المحاور التي ارتكزت عليها الدراسة فهي: أولًا: المدن في الرواية السعودية، ومنها المدن العالمية مثل لندن، والمحلّية وخاصة: الرياض ومكة والمدينة، وهي المدن الأوسع حضورًا في الرواية السعودية، ثم بقية المدن وتسبر الدراسة أثر هذا الحضور في عمق العمل الروائي. وثانيًا: القرية في الرواية السعودية، أو الريف وما يستدعيه من موضوعات أو حنين، وثالثًا المعالم الجغرافية مثل: الصحراء والبحر وتأثيرهما سرديًا، وأخيرًا أثر هذا الفضاء المكاني بأنواعه في المتلقي.
وقد خلصت الدراسة إلى عدد من النتائج بعد استقراء العديد من الأعمال الروائية وأثر المكان فيها، ويُرجى أن تكون إضاءة لأفكار أوسع تسبر هذا الحقل المكتنز في الأدب السعودي.
سجلت الرواية كجنس أدبي حضورها مبكرًا في المشهد الثقافي السعودي، وعندما نتأمل تاريخ صدور أول رواية (التوأمان) عام 1930م، تأليف عبد القدوس الأنصاري نتذكر أن هذا التاريخَ قريب من رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل 1914م، ويسبق أول رواية لنجيب محفوظ 1939م. لكن هذا الحضور الروائي المبكر لم يتراكم ولم يستمر إلا من بعض الروايات التي صدرت في فترات زمنية مختلفة. وكانت تلك الروايات في مستواها الفني لا تعدو أكثر من محاولات روائية. وفترة الانقطاع الروائي الطويلة تحتاج بحثاً ومساءلة من الناقد السعودي عن سر عزوف أدباء تلك المرحلة عن التأليف الروائي.
في زمن التسعينيات من القرن العشرين حدثت الطفرة الروائية، ويرى كثير من النقاد والراصدين للمشهد السعودي بأن تلك المرحلة هي المرحلة الحقيقية للرواية السعودية، "حيث تزامن النضج الروائي على مستوى غزارة الإنتاج والجرأة في الموضوعات ومهارة السرد مع العديد من التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي طرأت على المجتمع آنذاك، وازدهرت معها الدراسات النقدية والتاريخية" <span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">اﻟﺮواية اﻟﺴﻌودية بين اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ واﻟﺘﻜﻔﻴﺮ: «ﻗﺮاءة اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ - ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ» - ﻋﻠﻴﺎء ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ اﻟﻌﻤﺮي.</span></span>، ويرى الناقد حسن النعمي "أن من أسباب تلك الطفرة الروائية الروايات التي أصدرها غازي القصيبي وتركي الحمد والتي اقتحمت فضاءات جديدة في كتابة الرواية السعودية حيث تعد رواية (شقة الحرية) لغازي القصيبي وثلاثية (أطياف الأزقة المهجورة) لتركي الحمد نقلة نوعية في تاريخ الرواية السعودية في فترة التسعينيات الميلادية، حيث تتمتع هاتان الروايتان بجرأة لم يشهدها السرد السعودي على مستوى المضامين السردية والتي كانت تخضع للرقابة الذاتية لدواعي النشر في مجتمع محافظ، وهو ما تمكن كل من القصيبي والحمد من كسره وخصوصاً أن روايتيهما نشرتا في دور نشر غير سعودية" <span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext">الرواية السعودية واقعها وتحولاتها. المؤلف: حسن النعمي. دار النشر: وزارة الثقافة والإعلام. 2009م. ص 31.</span></span>.
لكن هذا الحضور الروائي الصادم لتلك الروايات جعل من الرواية السعودية خطابا اجتماعيا وليس عملا إبداعيا فأصبحت الرواية رهينة النزاع بين التيارات السائدة في ذلك الوقت. وهذا النزاع ألقى بظلاله السلبية على النص الروائي من الناحية الفنية. كتبت بعد ذلك الكثير من الروايات التي كانت تركز على جانب الجرأة والبحث عن المسكوت عنه اجتماعيا دون الالتفات للجانب الفني.
في فترة الألفية وحتى اللحظة الراهنة تزايد عدد الإصدارات الروائية وسجلت الرواية حضورا لدى القارئ السعودي والعربي وحصلت العديد من الروايات على جوائز محلية وعربية، وبحسب الباحث خالد اليوسف فقد بلغ مجموع الروايات السعودية قرابة 2310 رواية. وفي هذا التناول الخاطف للمراحل الزمنية التي عاشتها الرواية نرصد مرورها بتحولات كبيرة سواء على مستوى البناء الفني أو الموضوعات، وهذه التحولات جاءت متناغمة مع التحولات الكبرى التي مرت بها المنطقة بصفة عامة والمجتمع السعودي بصفة خاصة.
وقد انعكس هذا على مسيرة الرواية في كيفية تقديم الموضوعات الروائية المختلفة أو جماليات السرد وتطورها من مرحلة إلى أخرى، أو من حيث تعاطي موضوعات بعينها ومدى جرأة التناول في بعض مراحل تطور الرواية، ومن خلال هذا المنظور تصبح نوعا أدبيا تلده التجارب الاجتماعية ومدى عمقها، وتغذي نموه التحولات الكبرى، بل تغير من تكوينه الجمالي والمعرفي.
المكـان فـي الروايـة هـو المـسـرح الـذي تجـري عليـه أحــداث الروايــة وتأخـذ شـخـصياتها منحاهـا فيـه، وثمـة علاقــة واضحة بـين الشخصية والمكـان. والروائيون يتفاوتون في مدى احتفالهم بالمكان، لا بمعنى غيابـه عن الرواية تماما، فهذا يكاد يكون مستحيلًا، لأن التحديد المكاني بشتى صوره ضـرورة من ضرورات العمل الروائي. ولكن بمدى توظيف هذا العنصر في أحداث الرواية. وهناك العديد من التعريفات للمكان الروائي ومن أهمها ما يراه مؤلف كتاب عالم الرواية: «إن المكان في الرواية بدلاً من أن يكون عنصراً لا يكترث به، يعبر إذن عن نفسه من خلال أشكال معينة ويتخذ معاني متعددة بحيث يؤسس أحياناً علة وجود الأثر" <span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext">عالم الرواية، رولن بورنوف ولاير أوئليه، تر:نهاد التكرلي، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد،1991. ص92.</span></span>.
أما جاستون باشلار فيرى أن «المكان هو المكان الأليف. وذلك هو البيت الذي ولدنا فيه، أي بيت الطفولة. إنه المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكل فيه خيالنا. فالمكانية في الأدب هي الصورة الفتية التي تذكرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة. ومكانية الأدب العظيم تدور حول هذا المحور» <span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext">جماليات المكان. المؤلف. غاستون باشلار. رقم الطبعة. 2. بلد النشر. لبنان. ترجمة. غالب هلسا. ص 30.</span></span>.
وفي الرواية السعودية حضر المكان وهذا أمر لا بد منه فلا يعقل أن تنهض رواية خارج الحيز المكاني، ولكن السؤال كيف حضر المكان وما مدى أهميته في مجرى الأحداث وهل لدينا رواية سعودية تصنف كرواية مكان؟ إن إجابة هذه التساؤلات تمنحنا تصورا لمدى حضور هذا العنصر السردي الهام في الروايات السعودية. فالناقد حسن النعمي يقول: "إن المتتبع لواقع الرواية السعودية يلحظ أن المكان في بعض الروايات مجرد كولاج يضاف على الرواية بشكل آلي غير مؤثر في مسيرة الأحداث" <span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext">رجع البصر. قراءات في الرواية السعودية. المؤلف. حسن النعمي منشورات النادي الأدبي بجدة 1442هـ. ص 26.</span></span>. والناقدة منى المالكي ترى حضور المكان من زاوية أخرى فهي تقول" ظلت الرواية السعودية زمناً طويلاً توارب المكان أو تتحاشاه، وكأنها قبضت فجأة على حيلة سردية للهروب منه واتخذ الهروب أشكالا متعددة فسافرت بأحداثها إلى مكان في الخارج" <span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext">المكان.. ذاكرة الوجع. منى المالكي. مقال نشر في جريدة عكاظ الاثنين 28 مارس 2022م.</span></span>.
إن هذه الآراء تقودنا إلى أننا عندما نتأمل ونرصد سير المكان في الرواية السعودية فلا بد أن نستحضر عوامل أثرت وساهمت في تشكيل كتابة المكان. ومن تلك العوامل ما هو فني ويتعلق بتجربة الروائي في الكتابة ومنها ما هو خارج النص ويتعلق بظروف المجتمع في ذلك الوقت.
لذا سنجد روايات البدايات في المشهد السعودي اختارت مدناً عربية كبيروت والقاهرة لتكون مسرحا للأحداث، كما في رواية حامد دمنهوري الرائدة (ثمن التضحية)، وروايات سميرة خاشقجي (ودّعت آمالي)، و(مأتم الورد)، كذلك رواية هند باغفار (البراءة المفقودة)، ورواية هدى الرشيد (غداً سيكون الخميس)، وفي التسعينات سنجد روايتي غازي القصيبي (شقة الحرية) و(العصفورية). وفي الألفية نجد هناك روايات أخرى اتخذت المدن العالمية أمكنة روائية مثل لندن -أوتاوا كرواية خالد الشيخ (يوم التقينا يوم افترقنا) و(أحببتك أكثر مما ينبغي) لأثير النشمي. وفي روايات أخرى تقع بعض أحداث الروايات في الخارج، في مدن عربية وأوربية مثل (سقف الكفاية)، و(صوفيا) لمحمد حسن علوان، و(هند والعسكر) و(الأرجوحة) لبدرية البشر، و(ستر) لرجاء عالم، و(نزهة الدلفين) ليوسف المحيميد و(بنات الرياض) لرجاء الصانع، و(سعوديات) لسارة العليوي و(عيون قذرة) لقماشة العليان. بل إن هناك أسماء مستعارة كتبت الرواية لمرة واحدة وغابت بعدها عن المشهد الروائي مثل رواية (الآخرون) لصبا الحرز، ورواية (غير وغير) لهاجر المكي، رواية (الأوبة) لوردة عبد الملك، رواية (القران المقدس) لطيف الحلاج، (ظل قميص أبيض) لسلمى الحقول.
لكن هذا الارتحال الروائي لأبطال الروايات السعودية إلى الخارج لم يكن الملمح الوحيد في كتابة المكان فهناك ظواهر أخرى كان لها حضورها وتأثيرها ومن أبرزها عدم التسمية أو عدم تحديد معالم المكان إذ يكون المكان غير معروف أو غير مُعَيَّن جغرافياً. نجد ذلك في رواية أمل الفاران (روحها الموشومة به) وكذلك في روايتها (كائنات من طرب) حيث تكتفي بتسمية المكان بالديرة. وفي رواية (ابن طراق) لبدر السماري ومحمد السماري سنجد المكان لم يحدد جغرافياً. وكذلك في رواية (ارتياب) لبدر السماري لا نجد اسما صريحا لهوية المكان. أما في رواية (حفرة إلى السماء) فنجد كاتبها عبدالله آل عياف يخترع اسما لقريته الروائية (مجهرة). أما عبده خال فهو وإن كان يؤطر المكان العام الذي تجري فيه أحداث رواياته ويسمي المدن كجيزان وجدة إلا أنه يتعمد عدم تسمية الحارات أو القرى التي تجري فيها الأحداث فرواياته التي مسرح أحداثها جدة لا وجود فيها لأسماء الحارات وكذلك نجده يخترع اسما للقرية التي جرت فيها أحداث روايته (الموت يمر من هنا) حيث دعاها بالقرية السوداء. وقد يذهب الأمر بالروائي إلى تحوير أسماء الأماكن وأسماء الشخصيات كما فعل عبد الله بن بخيت في روايته (شارع العطايف) إذ يبرر ذلك التحوير بقوله: "تحوير الأسماء جاء عن تجربة. كتبت قصة قصيرة قبل عشرين سنة تقريبا ونشرتها في مجلة اليمامة. صادف أن اسم البطل يطابق اسم رجل حي ومعروف. فأقام هذا الرجل دعوى ضدي وكسبها. ألزمني القاضي بالاعتذار العلني. كل قرائي يعرفون ما أقصد بخصوص الأمكنة" <span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext">الرواية السعودية حوارات وأسئلة وإشكالات – طامي السميري. دار الكفاح 2009م. ص 323.</span></span>.
وإذا كانت مسائل الارتحال الى أماكن خارجية، أو عدم التسمية للمكان أو اختراع مسميات أو تحوير الأسماء نتاج تخوف الروائي من الصدام المجتمعي. فإنها بلا شك قد ألقت بظلالها على كيفية كتابة المكان، وإن كانت هذه العوامل خارج النص الروائي.
من المؤكد أن حركة التأليف والنشر الادبي في المملكة تتزايد بشكل ملحوظ في حقل الرواية، وهذا أمر إيجابي ويعزز الحراك الثقافي في المشهد السعودي، ولكن إذا تأملنا من الذين كتبوا الرواية في المشهد السعودي؟ سنجد أطيافا متعددة من الأسماء، منهم كبار رجال الدولة والدبلوماسيون والأكاديميون والصحفيون ومن هواة الكتابة وقليل منهم من محترفي الكتابة السردية. وهذه الأسماء التي كانت طارئة في كتابة الرواية أو التي جربت الكتابة لمرة واحدة وهجرت عالم الرواية أو الأسماء التي تعاني من نقص الموهبة وتكتب بشكل مستمر. كل هذا أخرج لنا روايات حتى وإن استحضرت أسماء الأماكن إلا أنها تعتبر روايات ضعيفة المستوى من الجانب الفني ولم تجد المقروئية. وبالتالي لم تترك أثراً في القارئ.
وهناك عوامل فنية أخرى أثرت في كتابة ملامح المكان في الرواية السعودية. وهي أن الكثير من الروائيين السعوديين انشغلوا بالقضايا والأفكار والسجالات في رواياتهم ولم يكن هناك التفات لجانب المكان إلا في مستوى واحد لا يعدو احتضان حكاية النص. ومع ذلك تجد أبطال تلك الروايات يعانون من الاغتراب المكاني مما يخلق مسافة بينهم وبين المكان. ولهذا سنجد شيئا من هجاء المدن وعدم التصالح معها في عدد من الروايات. كذلك الكثير منهم يكتب من الذاكرة دون التقصي والبحث ولهذا نقرأ الأوصاف العمومية والضبابية للأماكن وخصوصا الروايات التي مسرح أحداثها المدن.
إن العوامل المؤثرة فنيا في كتابة المكان الروائي متعددة وما سبق ذكره كان بعضاً من التأمل في حضوره وملامحه حتى نتصور المكان في الرواية السعودية.
يذكر الأديب والفنان الإنكليزي (فرانك بادجـن) أنه كان يتنزه ذات مرة رفقة الروائي جميس جويس في شوارع مدينة تريستا الإيطالية، وعندما وصلا أروقة جامعتها المطلة على المدينة، التفت إليه جويس وقال: «إنني أريد أن أصور دبلن تصويرا دقيقا، غاية في الكمال، حتى إذا ما زالت المدينة على حين بغتة من على سطح الأرض، فإن في الإمكان إعادة بنائها استنادا إلى كتابي» <span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext">جيمس جويس تأليف ديفيد نوريس وكارل فلنت ت حمدي الجابري وامام عبد الفتاح امام المركز القومي للترجمة. ص 18.</span></span>. وكان جويس يقصد بكتابه رواية (يولسيس).
هذه الحكاية التي رواها فرانك بادجن عن الروائي جيمس جويس قد تؤخذ على أنها تمثل نموذج الاعتداد بقدراته الفنية في الكتابة وقد تؤخذ أيضا على أن فيها شيئا من الغرور الإبداعي وأياً كانت مقاصد جويس إلا أنها في الحقيقة تمثل رؤية سردية مهمة وهي مدخل ملائم لهذا المحور: كيف تُكتب المدن في الروايات؟ هل تكتب بذلك التصوير الدقيق الجغرافي لمعالمها من أحياء وشوارع وبنايات أم أنها تكتب بتأثيث فضائها بالحكايات والشخصيات والحوارات.
عندما نستعرض حضور المدينة في الرواية السعودية سنجد هذا الحضور متفاوتا بحسب عمق الروائي وقدرته على توظيف المكان. لذا نلحظ الحضور الهامشي حيث يكتفي الروائي بذكر اسم المدينة بوصفها مكاناً تجري فيه الأحداث دون تحديد معالمه الطبوغرافية، وأحياناً يكون اسم المدينة غير محدد، وإنما يمكن الاستدلال عليه ببعض المعالم المكانية التي قد يوردها الراوي في أثناء السرد، أو من خلال بعض الإشارات اللغوية التي لا تنطوي على الخصوصية، وقد تنطبق على أكثر مدن المنطقة، وربما جاء اسم المدينة عنواناً للرواية دون أن يُحْدث أثراً فاعلاً في بنية السرد، وأحياناً أخرى تكون المدينة بلا اسم وبلا معالم ولا تملك مرجعية واقعية.
وإذا كانت الرواية ابنة المدينة فقد أبدى العديد من النقاد في سياق تجربة الروائي السعودي تحفظهم على صورة المدينة في الرواية السعودية حيث أن معظم الذين كتبوا عن المدن السعودية هم من أبناء القرى الذين اتخذوها موطنًا لهم فكانت نظرتهم إلى المدينة نظرة من الخارج تغفل عن الكثير من تفاصيلها. فالناقد محمد الحرز يقول "إن الروائيين ً كتبوا الرواية بذهنية القرية" <span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext">من ورقة نقدية قدمها محمد الحرز لنادي الإحساء الأدبي جريدة الوطن السبت 30 يوليو 2011.</span></span>.
ويؤكد على هذه الرؤية الناقد حسن النعمي الذي يرى بأن أغلب المدن السعودية تريفت بمعنى أنها تحولت الى مجمعات قروية أو ريفية يسكنها أبناء القرى وأصبحت المدينة مدينة في شكلها الخارجي لكنها ظلت مسكونة بالقرية في كل مناحيها لذا يقول "أن جلّ من يكتب الرواية السعودية من أبناء القرى الذين يعيشون بوجدان القرية في المدينة، أنهم روائيون برسم قروي" <span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext">رجع البصر. قراءات في الرواية السعودية. المؤلف. حسن النعمي منشورات النادي الأدبي بجدة 1442. ص 19.</span></span>.
في ظل هذه الصورة المشوشة عن كتابة المدينة عند الروائي السعودي وعندما نتأمل التجربة الروائية السعودية نجد أن المدن السعودية حضرت كمسرح للأحداث في العديد من الروايات بل إن بعض الروائيين اتخذ من العناوين دلالة جغرافية لرواياتهم مثل (بنات الرياض) لرجاء الصانع و(شباب الرياض) لطارق العتيبي و(بنات في الرياض) لفايزة إبراهيم و(الرياض نوفمبر90) لسعد الدوسري و(سورة الرياض) لأحمد الواصل و(شوال الرياض) لحمد الرشيدي واذا كانت تلك الروايات استثمرت اسم العاصمة فقد تبعتها مناطق أخرى في روايات مثل (فتاة من حائل) لمحمد عبده يماني و(الحمام لا يطير في بريدة) ليوسف المحيميد و(فتنة جدة) لمقبول العلوي و(سور جدة) لسعيد الوهابي و(لا أحد في تبوك) لمطلق البلوي و(لا يوجد مصور في عنيزة) لخالد البسام و(يمرون بالظهران) فالح الصغير و(طريق القصيم) لعبدالرحمن اليوسف و(عاشق في مكة) لنجيبة السيد علي ومنصور آل سيف فضلا عن عناوين مواقع وأحياء على نحو (السويدي) لحسين علي حسين و(شارع العطايف) و(الدحو) لعبدالله بن بخيت و(غراميات شارع الأعشى) لبدرية البشر و(الشميسي) و(العدامة) لتركي الحمد و(حلة العبيد) لطارق الحيدر و(درة من الأحساء) لبهية بو سبيت و (رباط الولايا) لهند باغفار و(أثل الدوادمي ولا نخيل العراق) لعبد الكريم محمد المهنا. كما أننا نجد بعض الروايات راهنت في عناوينها على الهوية الوطنية مثل (سعوديات) لسارة العليوي و(حب في السعودية) لإبراهيم بادي.
ولا تخلو الروايات السعودية من الدلالة الواقعية للمكان، وهي دلالة تتميز بالخصوصية لتمايز الأمكنة بما لديها من تضاريس وتقاليد وأعراف، وقد يظهر المكان في الروايات التي ظهرت فيه المدن السعودية بصورة الرمز عن طريق الإشارة إليه بالتلميح دونما وصف كثير من تفصيلاته الدقيقة، أو رصد محتوياته، وفي حالات أخرى عن طريق تسمية المكان أو الشخصيات والأشياء في المكان. كذلك تعد التشبيهات ووصف العادات والتقاليد وجهاً آخر من أوجه الدلالة على المكان، وكذلك لغة الحوار والحديث على ألسنة الشخصيات من الدلائل التي تشير إلى المكان، تجلت هذه الروايات في تنوعها الجغرافي والثقافي بملامح مكانية متباينة ومتفاوتة.
وفي ظل هذا التراكم الروائي من الإصدارات سنجد أن "مدينة الرياض في المقدمة، بوصفها مكاناً رئيساً، واختصت بنصيب وافر من الروايات وجاءت مدينة جدة في المرتبة الثانية، كما أن هاتين المدينتين جاءتا مكاناً فرعياً في عشرات من الروايات الأخرى، لكثافتهما السكانية، ولما لهما من دور كبير التأثير؛ فالرياض عاصمة البلاد وعاصمة القرار، ورمز المرحلة، وهي إلى هذا المدينة كما هي التي تجمع بين صرامة الظاهر المحافظ، وعمق التفاعلات الثقافية والاجتماعية الضخمة. وجدة بوصفها العاصمة السياسية الثانية، والعاصمة الاقتصادية، والمدينة المنفتحة ثقافياً واجتماعياً على العالم، وشكلت مدن المنطقة الشرقية؛ الدمام والخبر والقطيف والأحساء، كتلة متراصة، مثلت البيئة المكانية لعدد من الروايات المشهورة. تأتي بعدها مكة المكرمة. وجاءت بعض المدن الأخرى مكاناً لعدد محدود من الروايات، مثل: المدينة المنورة والطائف وأبها وبريدة، بما يتناسب مع مقدار دورها في إنتاج الخطاب الثقافي " <span class="tooltip">(11)<span class="tooltiptext">جدلية المتن والتشكيل. سحمي الهاجري. دار الانتشار العربي –النادي الأدبي بحائل. ط1 2009. ص 376-375.</span></span>.
من أبرز تلك الروايات التي حضر فيها المكان بصورة ما سواء كعنصر أساسي أو كخلفية للأحداث نذكر: (ستر) لرجاء عالم، و(فسوق) و(الأيام لا تخبئ أحداً) لعبده خال و(الفردوس اليباب) لليلى الجهني و(أطفال السبيل) لطاهر الزهراني، و(غير وغير) لهاجر المكي و(نزهة الدلفين) ليوسف المحيميد و(الوارفة) لأميمة الخميس و(العدامة) لتركي الحمد و (أبناء الأدهم) لجبير المليحان و(المنهوبة) لعواض العصيمي.
شكّلت مدينة الرياض فضاءً مكانياً لافتا للنظر في الرواية السعودية، وقد تنافس في حضورها الروائي الكثير من المدن الكبرى في العالم التي استحضرها الروائيون. ولكن هذا الحضور المكاني الكثيف تشكل بعدة ملامح مختلفة.
أول ما نرصد في تأمل تلك النماذج الروائية هو أن الرياض التي كتبت روائيا هي الرياض القديمة سواء في مرحلة ما قبل الطفرة أو في مرحلة ما بعد الطفرة. وعندما نستعرض الرياض وحضورها في النماذج الروائية التي دونتها في تلك المرحلة سنجدها أكثر وضوحا سواء في استحضار الأماكن أو وصف الحارات والمنازل وكذلك الشوارع بينما تغيب ملامح الرياض بتفاصيلها الحديثة كلما كانت الرواية تدون الزمن الجديد.
فالروائي عبد الله بن بخيت كتب في روايته (شارع العطايف) مرحلة ما قبل الطفرة وكرر الكتابة عن تلك المرحلة في روايته الأخرى والتي جاءت بعنوان (الدحو) ونلاحظ أنه اختار لروايته أسماء حارات محددة تقدم إشارة الى عوالم وأحداث تلك الروايات التي نجد فيها ملامح الرياض القديمة وإن كانت سردية عبد الله بن بخيت تخوض في تفاصيل المكان بشكل دقيق سواء وصف المنازل أو الشوارع أو المستشفيات أو الأندية الرياضية أو حتى بعض المهن الحرفية السائدة في ذلك الزمن إضافةً إلى التنوع السكاني. في المقابل رواية (الشميسي) لتركي الحمد تقدم الرياض من وجهة نظر شاب جامعي له ميول فكري معين يسكن في حي شعبي، لكنه يرى الرياض بصورة مختلفة عن أبطال عبدالله بن بخيت وهذا الفارق في الرؤية يجعل الأماكن عند تركي الحمد تحضر في رواية (الشميسي) كأسماء وخلفية للأحداث لأن بطله كان مشغولاً بأفكاره اليسارية.
وعن ذات المرحلة نجد أن رواية (البحريات) لأميمة الخميس تقدم الرياض بوجه آخر يختلف عن الروايات السابقة، قدمت الكاتبة بطلات الرواية في قصور آل معبل بعيداً عن الحياة المختلفة في الأحياء الشعبية كما ارتحلت بالشخصيات من البيت الطيني إلى البيت الإسمنتي وحضر الأثاث الايطالي، وإكسسوارات الحياة التي جاءت بفعل الطفرة. والروائية بدرية البشر أيضا في روايتيها (هند والعسكر) و(غراميات شارع الأعشى) تقدم الجانب الاجتماعي والمكاني للرياض في زمن ما قبل وأثناء الطفرة وإن كان الحضور المكاني في رواياتها الأخيرة أقل من السابق.
والملاحظ في كل تلك الروايات السابقة أنها كانت تشير إلى التحولات الاجتماعية والاقتصادية في مجتمع الرياض أو تلتزم بتدوينها مثل تعليم المرأة وافتتاح التلفزيون وظهور أحياء جديدة كحي الملز والانتقال من البيوت الطينية الى المنازل الإسمنتية وتوصيف الطبقات الاجتماعية.
من أبرز الروايات التي استحضرت الرياض في تلك الفترة الزمنية (الرياض نوفمبر 90) لسعد الدوسري و(القارورة) ليوسف المحيميد و(عودة إلى الأيام الأولى) لإبراهيم الخضير و(كائن مؤجل) لفهد العتيق. وفيما عدا رواية (الرياض نوفمبر 90) والتي كتبت في عام 1994 وصدرت في عام 2011 نجد البقية استحضرت الرياض في زمن التسعينيات إذ كتبت من الذاكرة والقارئ لتلك الروايات سوف يلمس أن صورة الرياض قد اختلفت وأن أبطال تلك الروايات يشعرون بالاغتراب فالاهتمام بوصف الأماكن والفضاءات المفتوحة بات أقل وحضرت حرب الخليج الثانية في تفاصيل تلك الروايات حيث نرصد استحضار أجواء رياض التسعينات في تلك الظروف العصيبة. كما نجد مظاهرة قيادة السيارات للنساء التي شكلت محورا مهما في رواية (الرياض نوفمبر 90) وبشكل محدود في رواية (القارورة).
في هذه المرحلة كانت أبرز الروايات التي استحضرت الرياض (سقف الكفاية) و(طوق الطهارة) لمحمد حسن علوان و(بنات الرياض) لرجاء الصانع و(حب في السعودية) لإبراهيم بادي و(بيت الطاعة) لمنيرة السبيعي. والسمة المشتركة لهذه الروايات أن مؤلفيها الشباب في ذلك الوقت كتبوا عن لحظتهم الراهنة ولم تكن استدعاء من الذاكرة كالروايات التي تمثل الفترات الزمنية السابقة. لكن تلك الروايات كانت تركز على البعد العاطفي في العلاقات الغرامية وهكذا توارى وصف المكان. بل إن رواية (بنات الرياض) وهي الرواية التي اكتسبت شهرة عالية جدا كان وصف الرياض المكاني فيها غائباً تماما وكان تركيز المؤلفة في السرد على غراميات بطلات الرواية.
كذلك روايات محمد حسن علوان تخلو من الوصف المكاني في شكله الدقيق ويكتفى بذكر مسميات الأحياء، كما أن أبطال رواياته غارقون في همهم الذاتي والعاطفي. نلاحظ أيضاً غياب الحارة الشعبية في روايات تلك الفترة وهذا الغياب ترك أثره في وصف المكان بشكل عام. وإذا كانت تلك الروايات أغفلت تفاصيل المكان فإنها أرّخت لأفكار ذلك الجيل وعلاقاته العاطفية التي اتكأت على الوسائل الحديثة في التواصل كالأجهزة المحمولة والإنترنت وتلك علامات يستدل بها على التاريخ الاجتماعي للرياض في تلك المرحلة.
تبدو الرياض في هذه الفترة الزمنية غائبة عن التدوين الروائي. لم نرصد روايات شهيرة سجل المكان فيها حضورا في أحداثها إذ كانت في معظمها تمثل اللحظة الزمنية الراهنة، فأغلب الروائيين والروائيات اتجهوا إلى كتابة الرواية التاريخية بمختلف أطيافها.
شهادات روائية في كتابة الرياض روائيا:
في استطلاع صحفي نشر في جريدة الرياض بعنوان (بين خصوصية المكان وحداثة التجربة السردية الرياض كمدينة روائية) <span class="tooltip">(12)<span class="tooltiptext">جريدة الرياض استطلاع بعنوان (بين خصوصية المكان وحداثة التجربة السردية الرياض كمدينة روائية) الرياض الخميس 4صَفر 1428هـ -22فبراير 2007م -العدد 14122.</span></span>. شهادات لروائيين ونقاد عن كيفية كتابة مدينة كمدينة الرياض روائيا. وهذه الآراء قد تعطي دلالات وإشارات لحضور الرياض كمكان في المنجز الروائي السعودي.
وفيه يتساءل الروائي يوسف المحيميد: "ماهي المدينة الروائية، وكيف يمكن تشكيلها؟ أشعر أن علينا أولاً أن نتفق على أن ثمة مدنا متنوعة، مدنا متخيلة ولا مرئية، على غرار تعبير إيتالو كالفينو، ومدنا أخرى مرئية وموجودة، على غرار لندن ديكنز وقاهرة محفوظ وإسكندرية الخراط وإبراهيم عبد المجيد. ويضيف المحيميد قائلا: في رأيي لم تُكتب الرياض كمدينة لها واقع خاص، حتى وإن ظهرت شخصيات حميمة نوعاً ما، لكن المدينة سواء كانت طارئة، أم كانت ذات بعد تاريخي عميق، لم تظهر بحياتها وحيويتها وتحولاتها، حتى الآن في رواية ما، وأظن أن الحالة تنسحب حتى على المدن الأخرى، فتسمية الأماكن بأسمائها لا يكفي لخلق مدينة روائية حقيقية يمكن أن تصل ملامحها إلى من لم يزرها ولم يعايشها، كما وصلت مدن أخرى مثل القاهرة والإسكندرية وطنجة وبيروت وغيرها".
أما الروائي فهد العتيق فيقول: "ألاحظ كيف يحاول الكثير من الأدباء والأديبات الجدد تركيز اسم الرياض أو السعودية، بطريقة ساذجة في الغالب، على عناوين كتبهم الروائية الجديدة رغبة في كسب اهتمام الناقد والقارئ العربي بالذات أو محاولة التركيز على الجسد أو حالات الغزل أو محاولة نقل المسرح إلى مدن عربية بطريقة غير مقنعة فنيا، لكن أغلبها كانت محاولات تغلب عليها الصنعة الفنية والطموح الإعلامي الساذج، وليس الأدب الجاد الذي يحاول فهم الحياة في هذه المدينة". ويسترسل الروائي فهد العتيق في رؤيته للرياض كمدينة روائية فيقول: "الرياض بالنسبة لي حالة سردية طويلة لا تنتهي، حالة تتمازج فيها أشياء كثيرة، الناس الحياة المكان مع الأدب والفن ومع كل روح تائقة إلى الحق والجمال، حقيقة أحب هذه الرياض، أحبها رغم ملاحظاتي الكثيرة عليها، إذ أريدها بكل صراحة، مدينة مفتوحة على الفن والثقافة والحب والجمال والحرية دائما، مع احتفاظها بطابعها الأصيل في البناء، وعلى أية حال، في الكتابة والفن والأدب، هناك دائماً أسئلة نقدية مطروحة حول كل شيء، وليس فقط المدن التي نعيشها ونحبها. صحيح أن رواية "كائن مؤجل" كان مسرحها الرياض لكن البطل الحقيقي كان حالات إنسانية مؤجلة، كان أحلاما مؤجلة اصطدمت بواقع صعب وشرس واكب مرحلة انتقالية صعبة وفوضوية على كل المستويات، أربكت ذهنية وحياة ناس هذه المدينة".
أما الناقد والروائي سعيد الأحمد فيعبر عن وجهة نظره بقوله: "ظهور المدينة في الرواية السعودية كمكان بشكل سطحي أو ظاهري لا يتعدى سردا لأسماء شوارع ومقاهي ومراكز تجارية. المدينة وإن كنت ضد فكرة حضور المدينة التفصيلي بشكله التقليدي لا تعدو أن تكون خلفية للحدث، وهكذا يجب التعامل معها روائيا، فليس بالضرورة أن أقرأ اسم شارع أو مقهى يجلس فيه البطل ويفكر بحبيبته، ولست بحاجة إلى سرد أسماء محال الشارع وشكل أعمدة النور والأبنية بطريقة كلاسيكية، بل الأهم أن تحضر هذه المدينة كثقافة، كرائحة، كخلفية معرفية لشخوص النص، وكسلوك أيضا. فلكل مدينة سلوكياتها المتعارف عليها، والقارئ الحذق يريد أن يستشف سلوك وروح المدينة من خلال النص لا على عدد أشجار الزينة المضاءة بشارع التحلية كمثال، أو على ألوان لوحات "النيون" بمحلات ومقاهي الشارع الرياضي. ما قرأته من أعمال روائية تدور أحداثها في الرياض إلى الآن لم أجد به الرياض، بل بسهولة يمكن أن أبدل اسم المكان دون أن يتأثر العمل على المستوى المعرفي، ولا على المستوى السلوكي لاعتماد جل تلك الأعمال على طرح صور ضوئية للمدينة داخل العمل السردي عوضا عن الصور الفنية".
الروائي إبراهيم الخضير يقول: "هذه الرياض أسهل مدينة تُكتب عنها رواية وفي ذات الوقت أصعب مدينة تكتب عنها رواية. إنه تناقض مدينة الرياض الذي لا يُمكن أن تجده إلا في الرياض والرياض فقط في كل هذا العالم الكبير! وصحيح أن أغلب القراء من مدينة الرياض أو من يعيشون فيها غير سعداء بما يُكتب عن الرياض لكن هذه هي الحياة تسير إلى الأمام ولن تعود عقارب الساعة لتكتب عن الرياض البراءة والطهارة، سوف تظهر روايات مُستقبلية كثيرة عن الرياض لأنها المدينة الأكثر إلهاماً لكتابة الرواية في كل المدن السعودية والعربية".
الروائية وفاء العمير قالت: "الرياض لها حظ سيئ مع الروائي السعودي، تجدها تلقي بثقلها على العمل الأدبي فلا تكاد تقرأ إلا وجهها الحزين، لكني أتساءل: هل أنصفها؟ هل للرياض وجه واحد؟ أم عدة وجوه، هل هي متشابهة في كل جوانبها؟ أم أن ثمة اختلافا؟ لست شديدة الالتصاق بخفاياها، إني أعيش على جانب ضيق منها، ولا أدرك كل ما فيها، لذا لا أجيد الكتابة عنها كما ينبغي! أحيانا أتمنى لو أرتدي طاقية الاختفاء لأكون في كل بيت، وأعرف ما يدور خلف الأبواب".
الروائي إبراهيم بادي: "لن أقول كما قال إيهاب في (حب في السعودية): "هذه مدينة تمحو بصمات وآثار من مروا بها". لن أقول إنها "مدينة حديد وإسمنت"، كما أراها وأنا نابذ نفسي عن كل المشاعر والطقوس الاجتماعية فيها. في الأيام الأولى لي في الرياض، جاءني عنوان أطلقته على علاقتي بالرياض في تلك المرحلة: "الرياض والوباء". وباء العمران والمال والتقنية. تشبه "تصرفات" الرياض، اليوم، وعلى نحو لا يترك مكاناً لنية حسنة، تصرفات المدن التي يجتاحها الوباء فجأة ومن دون مقدمات. رغم الاختلاف في مفهوم الوباء الذي يجتاح الرياض، فإن له العوارض نفسها في الأوبئة الأخرى: العزلة، إذ يتحول الناس من كونهم سكان المدينة إلى كونهم سكان الوباء.
هناك العديد من الروايات السعودية اتخذت مـن المدينتين المقدستين (مكـة المكرمـة، والمدينة المنورة) بيئة سردية لأحداثها وحركة شخصياتها، وهو أمر طبيعي لأن مكة المكرمة أول بيت وضع للناس في الأرض وقبلة المسلمين في أقطار الدنيا، والمدينة المنورة هي أول عاصمة في تاريخ الإسلام، وثاني أقدس الأماكن لدى المسلمين. وهذا الفضاء المكاني تم استثماره سردياً لما له أيضاً من أبعاد حضارية وتاريخية.
وقد كان لحضور مكة المكرمة في الروايات السعودية عدة مستويات فمرة تحضر بوصفها المدينة ذات الأبعاد التاريخية والحضارة العريقة ومرة في صورة المدينة المقدسة. "والقدسية المقصودة هنا هي: كل ما يتصل بالأمور الدينية فيبعث في النفس احتراما ورهبة، ولا يجوز انتهاکه فهو المنزه المهيب لمكانته الدينية، وقد میزت مكة بهذه الصورة مرارا" <span class="tooltip">(13)<span class="tooltiptext">المعجم الفلسفي معجم المصطلحات الفلسفية ; المؤلف: مراد وهبة ; تاريخ النشر: 2011; الناشر: دار قباء الحديثة. ص 19.</span></span>، وعن كيفية ظهور قدسية مكة في الروايات تقول الناقدة خلود الحارثي :"ظهر عبر المكان المقدس صورة الحرم المكي الشريف من خلال الدور الديني والروحاني والعلمي للمسجد الحرام، وكوّن تميز مكة المكرمة، كما ظهر الحج من خلال صور أبرزت الاختلاف بين الرؤية التي يحملها كل ساكني مكة عن الحج كموسم اقتصادي وروحي، والقادمين له من خارجها تحفهم روحانية رحلة العمر" <span class="tooltip">(14)<span class="tooltiptext">مكة في الرواية السعودية -خلود الحارثي الناشر (دارا لانتشار العربي – نادي مكة الأدبي) تاريخ النشر:1437. ص 250.</span></span>. وتحضر مكة مدينة الحياة اليومية فكونها مدينة مقدسة، ومحجا للملايين، ومنبرا روحيا، لا يمنع أن سكانها يعيشون فيها كمدينة عادية توفر حياة يومية عادية فيها الخير والشر، والحزن والفرح، والنجاح والفشل، والرضى والسخط، وقد ظهرت تلك الحالات في روايات عديدة. ربما تكون (سقيفة الصفا) لحمزة بوقري من الروايات الأولى التي قاربت مكة المكرمة سردياً فتناولت كثيرا من الأماكن والشوارع من الطقوس والعادات الاجتماعية المكية الخالصة والمرتبطة تحديدا بتلك العلاقة العظيمة بين المجتمع المكي والحرم الشريف.
وأيضا الرواية تغطي مرحلة زمنية قديمة كانت وسيلة التنقل فيها بين المشاعر المقدسة هي الجِمال لنطالع معا هذا المقطع "وعندما شُدت الشقادف على جمالها وضِعت تلك الأخيرة في طابور طويل ووزع الجمالون توزيعا استراتيجيا، حيث أخذ بخطام «القيدة» أي البعير الأول، أكبر الجمالين سنا وأكثرهم خبرة ثم وزع الباقون على جانبي القافلة، كل بضعة جمال يسير بجانبها واحد منهم، ومشى اثنان في الخلف، ولما كانت القافلة حجاجا من مصر، فقد انطلقت زغاريدهم أول ما تحرك «القيدة» ثم استمروا في غناء واحد حتى تركنا مساكن مكة واتجهنا شرقا في الطريق إلى المشاعر" <span class="tooltip">(15)<span class="tooltiptext">رواية سقيفة الصفا -حمزة بوقري. ص 192.</span></span>.
إن بيئة مكة المكرمة لها ما يميزها عن باقي مدن المملكة فهي مع كونها مهبط الوحي وفيها البيت العتيق فإن موسمي الحج والعمرة يستدعيان توافد مئات الآلاف من الحجاج والمعتمرين سنويا إليها فتغدو مهرجانا إسلاميا لاجتماع المسلمين وطرح قضاياهم إضافة إلى ازدهار التجارة وحركة البيع والشراء فيها وكل هذا يؤثر في أفراد المجتمع المكي، فالبيئة المكية فضاء مكاني له خصوصيته فيما يتعلق بتنوع وتمازج العادات والتقاليد والقيم الأصيلة والوافدة بكل ملامحها ومظاهرها سواء في تنوع الطعام أو الأهازيج وفي الأزياء، كذلك على مستوى المهن لهذا نجد مهنة المطوف لا توجد إلا في مكة المكرمة لكن مثل هذه المهنة بطابعها الفريد لم تظهر بشكل جلي في الروايات السعودية ما عدا رواية (مطوفون وحجاج) لأحمد السباعي.
إن تجربة رجاء عالم تعتبر من أهم التجارب التي استحضرت مكة المكرمة كمسرح للأحداث لمعظم رواياتها. وهذا الاستحضار يستحق التوقف عنده، حيث كان له فرادته وخصوصيته السردية. وإن كان حضورا مختلفا بين رواية وأخرى إلا أنها حافظت على استحضار البيئة الحجازية بشكل عام والفضاء المكي بشكل خاص ففي رواية (مسرى يا رقيب) تشكيل المكان يحتمل دلالات عدة يختلط فيها عوالم الواقع بعوالم الأسطورة، وبخاصة حينما تسترجع الشخصية عبر مونولوجها الداخلي وعبر ذاكرتها دلالة المكان، فليس وجود المكان الواقعي (مكة) في مفاصل تلك الأحداث إلا دلالة واعية على حقيقتها المقدسة وعلى وعي الشخصيات بطبيعة المكان الهندسي من (حرم، ومنارات، وبئر زمزم، والكعبة، وصحن الطواف) الدالة على المكان المكي <span class="tooltip">(16)<span class="tooltiptext">مقاربة في المكان الأنثوي المهمش لسامي جريدي-مجلة الحكمة العدد 54 – تاريخ النشر أكتوبر 2011.</span></span>.
وحتى نتعرف على آلية تفكير الروائية رجاء عالم وكيف رؤيتها لكتابة المكان نجد هذه الإجابات في حوارات متفرقة. فهي تقول عن مكة: "يبدأ الكاتب من الصفر، هو يبني على ذاكرة الآخرين. مدينة مكة وحدها لها ذاكرتها الكلية" وتضيف عن سر شغفها بالكتابة عن مكة: "أحب هذه الأسطورة التي اسمها مكة، أنها نجحت أن تكون مدينة الله ومدينتنا نحن البشر. هذا المركز الذي يستطيع العالم كله الدوران حوله. الوعي بهذه المركزية للكون هو ما أنا مشغولة به" <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext">جدليّة -مجلة إلكترونية حاورتها ابتسام عازم بتاريخ 14/12/2012م.</span></span>.
وفي حوار آخر لمجلة قنطرة يتناول ذات المحور عن كتابة المكان كان السؤال: مكة هي مدينة الإسلام المقدسة، المدينة التي يجب على كل مسلم أن يزورها مرة في حياته. عندما ينشأ المرء في مدينة كهذه، هل يشعر بهذه الطاقة الروحية؟ وهل تدفعه هذه الطاقة الروحية للكتابة؟ نجد إجابة الروائية رجاء عالم لا تبتعد عن الإجابة السابقة: "في مكة كنت أرى الناس يحجون من مكان مقدس إلى آخر. هذه الطاقة الروحية تطلق العنان لخيالي. إنني أكتب لأستكشفها، وأتعرف على حدودها القصوى، ولكي أسيل معها. رواياتي هي توسيع لذاتي، وعبرها أصل إلى عوالم عتيقة للغاية، ومستقبلية في الوقت نفسه. إنني أشعر ببهجة في التغلب على العوائق واجتياز الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الممكن والمستحيل، والحياة والموت" <span class="tooltip">(18)<span class="tooltiptext">المجلة الالكترونية قنطرة-حاورتها: روت رايف ترجمة: سمير جريس 24/3/ 2014م.</span></span>.
وبحسب رأي د. معجب العدواني: "روايات رجاء عالم لا تتمثل البعد العجائبي فحسب، بل تمتد إلى الأسطوري حيث التفاعل مع هذا البعد، وتستلهم أيضاً بُعد الكتابة الحديثة الذي يظهر في إطارات تشكيلية بصرية" <span class="tooltip">(19)<span class="tooltiptext">جريدة الرياض حاوره طامي السميري. الخميس 27 ذي الحجة 1429هـ - 25 ديسمبر2008م - العدد 14794.</span></span>، ولهذا نجد في رواياتها (طريق الحرير) و(مسرى يا رقيب) و(سيدي وحدانة) و(حبى) و(موقد الطير) و(خاتم) و(ستر) و(طوق الحمام) تفاصيل ملامح البيئة المكية بمستويات متعددة وهي مجال خصب للدراسة النقدية لإضاءة أبعاد المكان المكي في هذه الروايات.
تجارب روائية أخرى:
وفي تجارب أخرى نجد هناك أسماء أخرى أصدرت أكثر من عمل روائي وكانت مكة تمثل مسرح الأحداث، فالروائي صلاح القرشي أصدر العديد من الروايات (وادي إبراهيم) و(تقاطع) و(بنت الجبل) وكل تلك الروايات كان فضاؤها السردي مكة. كذلك الروائي محمود تراوري أصدر عدة روايات تستحضر الفضاء المكي (أخضر يا عود القنا)، (جيران زمزم) وأشهرها رواية (ميمونة) وهي رواية ترصد محنة مجموعة من الأفارقة رحلوا من أدغال الغابات في القارة السمراء متجهين نحو الحجاز، بقصد مجاورة بيت الله في مكة المكرمة.
وإذا كانت هناك روايات جعلت الفضاء السردي يختص بالمدينة المقدسة كرواية (طواف) لمي خالد العتيبي حيث مكة بطلة النص والطواف سبعة أشواط حول الكعبة هي ثيمة العمل. فإن رواية (الحفائر تتنفس) لعبد الله التعزي اكتفت بحارة الحفائر مسرحاً للأحداث دون التوغل في الفضاء المقدس لكنها في المقابل مشبعة بالبيئة المكية التي تمثل الحياة اليومية.
كما أن هناك روايات أخرى استحضرت مكة بشكل جزئي وغالبا تلك الروايات تستحضر مكة في أداء العمرة كما في رواية (الآخرون) أو في موسم الحج كما حضرت في رواية (فتنة) لأميرة القحطاني و(مدن لا تأكل العشب) لعبده خال وكذلك في روايات عبد العزيز مشري. كما أن هناك روايات استثمرت حادثة الحرم التي حدثت عام 1400 مثل رواية (الحمام لا يطير في بريدة) ليوسف المحيميد. الملاحظ أن غالبية الروايات التي استحضرت مكة هي روايات كتبت عن الأزمنة القديمة سواء التاريخية أو الأزمنة التي سبقت العهد السعودي أو ما بعده بفترات قصيرة. وهذا النوع من الكتابة الروائية القائمة على الحنين واستدعاء حميميات المكان إلى حارات مكة المكرمة القديمة جعل الكثير من تلك الروايات تغرق في استدعاء ذاكرة المكان على حساب الحكاية السردية.
المدينة المنورة هي أول عاصمة في تاريخ الإسلام، وثاني أقدس الأماكن لدى المسلمين بعد مكة المكرمة، ما يجعلها إحدى الوجهات الرئيسية لملايين المسلمين من مختلف أنحاء العالم. وقد شكلت مع شقيقتها مكة المكرمة مركزا حضاريا، وموقعا تنويريا ثقافيا وتعليميا على مر العصور، فانعكس ذلك على الإنتاج الأدبي في مختلف الفنون منذ أن بدأت الحركة الثقافية في المملكة العربية السعودية. وقد شهدت المدينة المنورة الريادة في النشر الروائي حيث صدرت رواية (التوأمان) عام 1930 لعبدالقدوس الأنصاري، والتي يصنفها المؤرخون بأنها أول رواية سعودية، مع هذا فإن أدباء المدينة المنورة والذين اشتهروا بالعمل الموسوعي، والأعمال الكاملة الجامعة، وتنوع المعرفة والإنتاج الأدبي نجد رواياتهم التي استحضرت المدينة المنورة كفضاء روائي لا يتناسب وحجم ذلك النتاج الثقافي.
من أهم الروايات التي حضرت فيها المدينة المنورة رواية (جاهلية) لليلى الجهني ولم يلعب المكان في تلك الرواية دورا مهما سوى أنه حاضن للحكاية، لهذا اكتفت الروائية بتسمية شوارع المدينة التي يعبرها بطل الرواية بسيارته دون ذكر لتفاصيلها (شارع الملك فيصل، شارع سلطانة، شارع الحزام، وطريق المطار). أما رواية (وجوه الحوش) لحسين علي حسين فقد قدمت المكان بخصوصيته ونهضت بإبراز صورة الحياة في المدينة المنورة في تلك الحقبة التي تتناولها الرواية. حيث يقول الناقد محمد الدبيسي "يبعث الأحواش ويعيدها حيَّةً بالكتابة، يحفظ سِيرتها وثقافتها وتجلياتها سرديًا. يستدعي تاريخها، ويكشف محتواها الجغرافي والديمغرافي في عملٍ روائيٍ غير مسبوق في موضوعه، وبدقةٍ وتقصٍ واستيعاب. إذ كانت الأحواش المدنيَّة عوالم قائمة بذاتها، وكانت روح مجتمع المدينة المنورة، الأكثر تمثيلاً لجوهره الاجتماعي بقواسمه الثقافية المتنوعة. وسِفرًا يحوي جزءاً كبيرًا من مجريات حياته وتقاليده وشؤونه وشجونه وموروثاته" <span class="tooltip">(20)<span class="tooltiptext">جريدة الجزيرة مقال لمحمد الدبيسي بعنوان (وجوه الحوش) لحسين علي حسين. سردية الأحواش وعوالمها بتاريخ26-27 محرم 1443 العدد 17793.</span></span>.
وكذلك علي محمد حسون في روايته (الطيبون والقاع) التي تدور في حي من الأحياء الشعبية في المدينة المنورة . أما رواية (كانت سلامًا) للكاتب عبد الله الطيب فقد اتخذت المدينة المنورة مكانا سرديا حيث تحفل بتاريخ المجاورين وهم من الشرائح المهمة في مجتمع المدينة المنورة. وتخوض الرواية في التساؤلات حول كنه ذلك الارتباط الروحي والوجداني للمجاورين بالمكان، وفي هذه العبارة دلالة على الفضاء الذي تلامسه عوالم الرواية: " تبسم الجد عثمان وقبض على يد محسد وسار به إلى بقعة يعرفها جيدًا داخل المسجد النبوي في الجهة الشرقية قرب باب الملك عبد العزيز توقف عندها قائلا: ما هذا الذي تقوله يا محسد؟ إنما ولد أبوك في هذه البقعة، انظر في هذه الناحية من الحرم: هنا حارة الأغوات وهناك رباط ستنا ملكة الذي نزلت به وقت أن هاجرت إلى المدينة، هنا كان بيتي وبيت جدتك ... فأي شرف تريد؟ " <span class="tooltip">(21)<span class="tooltiptext">رواية "كانت سلامًا" عبد الله الطيب. مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع، صدرت في 2017. ص 311.</span></span>.
شكلت القرية حيزا مكانيا مهما في الرواية السعودية على اختلاف أجيال الروائيين، واختلاف قراهم الموصوفة في مختلف مناطق المملكة. ونظرا إلى التحولات الاجتماعية إثر الطفرة الاقتصادية التي حدثت في الفترات الزمنية السابقة وأدت إلى بروز التفاوت في مجتمعي المدينة والقرية نشأت ملامح الاختلاف في تدوين تلك الحكايات في القصص والروايات بين ما يمثله عالم القرية وعالم المدينة. وتعتبر رواية (ثقوب في رداء الليل، 1961م) للروائي إبراهيم الناصر أول رواية تطرح أزمة العلاقة بين القرية والمدينة، "وهذا الموضوع سيصبح في رواية الثمانينات من أكثر الموضوعات حضوراً. العلاقة بين القرية والمدينة يكمن في اختلاف القيم، من إنسانية النزعة إلى براغماتية نفعية" <span class="tooltip">(22)<span class="tooltiptext">رجع البصر. قراءات في الرواية السعودية: حسن النعمي. ص 22.</span></span>.
وعندما نتأمل حضور القرية في الرواية السعودية سنجد هذا الحضور أكثر وضوحا من المدينة سواء على مستوى تفاصيل المكان أو الحكايات ولكننا في هذا الجانب نرصد مفارقة بأننا نجد الروائيين في اختيار موضوعاتهم الروائية يلجؤون إلى التعبير عن القرية، وإن قضوا أكثرية أعمارهم في المدينة. وربما يعود ذلك إلى ارتباطهم بنشأتهم وسنوات التكوين الأولى، بما يمكن أن نسميه الحقبة الحميمية في حياتهم، بجانب أيضًا التجارب والشخصيات التي عاشوها عن قرب. وهذه المفارقة ألقت بظلالها على المنجز الروائي الذي اختص بالقرية حيث يقول الروائي عبده خال "إن القرية بمثابة البئر التي يستقي منها عوالم الدهشة وأجد في حكايات القرية مادة غزيرة، وكلما أتحدث مع بعض أصدقائي العرب والأوربيين عن قصص القرية تنتابهم الدهشة، وكل شخص في هذه المنطقة هو مشروع رواية" <span class="tooltip">(23)<span class="tooltiptext">لقاء بنادي جازان الأدبي لعبده خال نشر في جريدة عكاظ الاحد 18 فبراير 2018م.</span></span>.
ولهذا نجد عبده خال في روايته (مدن لا تأكل العشب) يقول على لسان بطل روايته يحيى الغريب عن قريته: "في قرية تقف خلف سنابل القمح وتمد طرقاتها بسعة صوب الشرق، كانت لنا أبقار وأغنام تسرح خلف الحقول، وكنت أنا وأخي نركض خلفها، وفي أحيان كثيرة نمرح بين قوائم السنابل نطارد الفراشات ذات الألوان الزاهية " <span class="tooltip">(24)<span class="tooltiptext">رواية مدن تأكل العشب. عبده خال. دار الساقي نشر سنة 1998م. ص 197.</span></span>. ويبرر ذلك د. حمد البليهد بقوله: "ولعل الحنين الدائم إلى موطن الطفولة ومدارج الصبا، إلى القرية، ذلك الوجد الذي يخفق في النفوس هي الحال التي ظل يستشعرها أبطال بعض الروايات السعودية حين طوحت بهم الأقدار في متاهات الاغتراب وضياع المدن" <span class="tooltip">(25)<span class="tooltiptext">جماليات المكان في الرواية السعودية. حمد البلهيد. تاريخ النشر 1428. الناشر. دار الكفاح. ص 134.</span></span>.
لكن الحنين وحده لا يكفي لكتابة عوالم القرية فالروائي الغائب عن قريته عندما يريد استحضارها سيعيش مأزق الكيفية التي سيقدم بها تلك القرية. يقول الروائي أحمد الدويحي: "غادرت القرية مبكراً، وبقيت القرية حلماً مقدساً يراود مخيلتي، وبالتأكيد حضرت في نصوصي الأولى وجاءت لتحملها لغة رشيقة مكثفة تقترب من الشعر بدلالة الصفاء والبراءة، صحيح أني أستحضر القرية في بعض المشاهد ولكنه استحضار فنتازي وسريالي لا واقعي، فالقرية التي أعرفها اعترتها عجلة التحولات والتشويه والتغير، ولم يبق لي من القرية غير طقسها وتضاريسها وأساطيرها" <span class="tooltip">(26)<span class="tooltiptext">جريدة الراية القطرية حاوره عبد الحي شاهين الثلاثاء, 27 أغسطس, 2013م.</span></span>.
وعندما نتأمل الروايات التي كتبت القرية سنجد أنها أكثر حرصا لإبراز التقاليد وبعض العادات التي تحضر في البيئة المكانية. كذلك تتأكد هوية المكان عندما يأتي الحديث على ألسنة شخصياته باللهجة التي تسود فيه، وقد تكون بعض اللهجات التي تتحدث بها الشخصيات مغرقة في المحلية التي تختص بها قبيلة أو بيئة مكانية محددة. وفي الروايات التي استحضرت القرية يتجلى أثر العادات والتقاليد في تحديد هوية المكان، ومنحه طابع الخصوصية المتميز، فعلى سبيل المثال هناك أكثر من رواية كان فيها وصف دقيق لعادة الختان المتبعة في مناطق من جنوب المملكة، وما يصاحبها من طقوس واحتفالات ورقصات مصحوبة بالأهازيج والفرح وقد تكرر وصف هذا المشهد في روايات مثل (الحزام) لأحمد أبو دهمان، (ساق الغراب) ليحيى أمقاسم، (الموت يمر من هنا)، و(مدن لا تأكل العشب) لعبده خال. وربما حضر وصف هذه العادة في روايات أخرى. كذلك نجد الفضاءات المفتوحة حاضرة "حيث يأتي حضور السوق بوصفه مكانًا مفتوحًا يعكس الوجه العام لحياة الناس حيث يلتقي فيه الناس لتبادل الأخبار، والبيع والشراء محدثًا بذلك حركة جامعة تتجانس مع إيقاع الحياة وحاجات الناس بيعًا وشراءً" <span class="tooltip">(27)<span class="tooltiptext">جريدة الجزيرة. ذاكرة فلكلورية القرية. حسين المناصرة. العدد 10885الخميس 8 ,جمادى الاولى 1423هـ.</span></span>.
ومن الإشكالات التي تبرز في كتابة القرية روائيا اتكاء الروائي على الحكايات والأساطير الشعبية لذا قد نجد تشابهاً في الأحداث بين الكثير من الروايات حتى وإن كانت هناك اختلافات في البيئة المكانية، لهذا تصبح الذاكرة التي تكتب بنمطية عن تفاصيل تلك الحكايات والأساطير سبباً في هذا التشابه الذي يشير إليه الناقد حسين المناصرة في عدد من الروايات: "كذلك المرأة التي تفقد زوجها حقيقة أو مجازا في القرية فهي تصبح رجلا لمواجهة الوحوش وأطماعهم، ولكي تحمي أطفالها وإرث زوجها كما في (الحزام) لأحمد أبو دهمان، وهذا ما وجدناه في شخصية «صالحة» في رواية (صالحة) لعبد العزيز المشري، وفي شخصية «غزالة» في رواية (فيضة الرعد) لعبد الحفيظ الشمري".
والسمة الغالبة على تلك الروايات أن القرية التي تحضر هي القرية في الزمن القديم التي يستدعيها الروائي من ذاكرة الماضي، أما القرية الحديثة بوصفها الحالي فهي غير موجودة. وعندما نعود للكثير من الروايات سنجد أن الكثير من تلك التفاصيل والعادات والطقوس الاجتماعية لم يعد لها وجود في تلك الأماكن.
ومن أشهر الروايات التي دونت عالم القرية السعودية رواية (الحزام) لأحمد أبو دهمان، والتي كتبت باللغة الفرنسية ونشرتها دار غاليمار، وحققت نجاحًا كبيرًا وقد نقلها الكاتب بنفسه إلى العربية. "ويبدو الراوي في (الحزام) ينتمي الى المؤلف نفسه الذي يدمج بين السيرة الذاتية والسيرة الجمعية القروية العامة حيث تشكلت الرواية من مجموعة من القصص القصيرة أو من المشاهد السردية الفلكلورية التي يلتف بعضها على بعض في سياق ذاكرة الراوي (حزام) القرية.
كذلك من الروايات الشهيرة في هذا الجانب: روايات (ثقوب في رداء الليل، رعشة الظل، سفينة الموتى) لإبراهيم الناصر، و (الموت يمر من هنا ، مدن لا تأكل العشب، الطين) لعبده خال، (ساق الغراب) ليحي امقاسم، و(شرقيون في جنوب الجزيرة العربية) لعلي الشدوي، و(مصابيح القرى) لخالد المرضي، و(نحو الجنوب ، الفيومي) لطاهر الزهراني، و (ريحانه بحس الاغتراب، أوان الورد ، المكتوب ، وحي الآخرة ، مدن الدخان ، غيوم امرأة استثنائية) لأحمد الدويحي (وجهة البوصلة) لنورة الغامدي. لكن تظل تجربة عبد العزيز مشري هي الأكثر ثراء في كتابة القرية السعودية ولهذا سيكون الحديث عنها مستقلا.
إذا كانت رواية (الحزام) لأحمد أبو دهمان قد خطفت الأضواء من الروايات السعودية التي تحدثت عن القرية واستحوذت على اهتمام النقاد والقراء فإن تجربة الروائي عبد العزيز مشري في كتابة القرية وتحديدا القرية الجنوبية جعلته من الرواد الذين ذكروا القرية في الرواية السعودية. حيث أصدر العديد من الأعمال الروائية منها: (الوسمية)، (الغيوم ومنابت الشجر)، (ريح الكادي)، (الحصون)، (صالحة)، (في عشق حتى). وقد جسد في هذه الأعمال الروائية القرية الجنوبية وقام بوصفها ووصف أهلها وأشيائها وصفا دقيقا. وفي قصصه ورواياته لمس التغيرات التي تشهدها القرية وعبر عن كل ذلك بلغة سهلة، وجذابة وبسيطة مستحضرا الألفاظ التي تستخدم في منطقة الجنوب. ويقول الناقد د. محمد الشنطي واصفا فن عبد العزيز مشري: “وحين تقرأ للمشري، فأنت أمام إشراقات إبداعية منهمرة من ثقوب التربة في احتكاكها بلحم الواقع في شراسته وخشونته وتوليفته العجيبة، أنت أمام عمل يتمرد على مواضعات الهيكلة والقولبة والتقنين والتنظير، فهو يقيم هندسته الخاصة من شظايا الشروخ التي عصفت بكيانه الإنساني على المستوى الذاتي والعام معاً" <span class="tooltip">(28)<span class="tooltiptext">المكان في رواية "الغيوم ومنابت الشجر" لعبد العزيز مشري دراسة نقدية، الباحثة ملهية عبد العزيز محمد موسى.</span></span>.
هل كان المشري في رواياته منحازاً للقرية ضد المدينة؟ الناقد حسن النعمي يجيب على هذا التساؤل: "تبدو رواياته للوهلة الأولى معادية للتمدن، غير أنها في حقيقة الأمر، تطرح سؤال الهوية. فقد رمز لانهيار القيم في رواياته بأزمة العلاقة بين القرية والمدينة من حيث استقطاب الإنسان خارج فضاء حضوره التقليدي" <span class="tooltip">(29)<span class="tooltiptext">رجع البصر قراءات في الرواية السعودية: حسن النعمي. ص 66.</span></span>. والقارئ سيجد في روايات مشري اليوميات القروية كمثل هذا المشهد: عفراء تقوم بواجبات البيت وكذلك ها هي المسؤولة عن الدجاجات وإحضار العلف. يقول السارد عن مهمة عفراء “في الصباح ستخرج العجل، والحمارة، والفراريج إلى الساحة، لتنظف كل روث في المرابط وتصبه في كل مكان تجمعه بالخارج، ولما تقضي هذا الواجب اليومي، تغسل الكفين الصغيرين والقدمين الملوثتين وتوقظ العيال.” <span class="tooltip">(30)<span class="tooltiptext">الغيوم ومنابت الشجر. عبد العزيز مشري. الناشر: دار الأسرة.ص 259.</span></span>.
أما الروائي أحمد الدويحي الذي يرى في عبد العزيز مشري صاحب مشروع سردي وتثقيفي وتوثيقي في كتابة القرية فيقول: "يعدُ أول من جسد القرية الجنوبية، ولم يأت هذا التجسيد صامتاً ينقل من تراثها العظيم، ولكنه تجسيد واع وراصد، تأمل التحولات المجتمعية في القرية الجنوبية، ورصدها كنموذج للتحولات في المجتمعات السعودية" <span class="tooltip">(31)<span class="tooltiptext">جريدة الرياض. الأدباء يحيون ذكرى المبدع عبد العزيز المشري. أعداد: محمد با وزير -20 ديسمبر 2014م -العدد 16980.</span></span>.
عندما يتمثل المكان في روايات عبد العزيز مشري نلمس فيه خصوصية القرية والإيغال في سرده الوصفي للأشياء والحيوات وأشكال العلاقات بين الناس والممارسات الحياتية لهم، فيحقق مشري أداء شعبيا يتسع بخصوصيته المحلية شديدة البكارة رغم ضيقه الجغرافي. وهذا ما نرصد في هذا المشهد:
" هذا هو اليوم الثاني بعد ليلة الزفاف، ومن بعد صلاة العصر، سيجتمعون، ويقيمون "رقصة العرضة". كان لهم ذلك، جاء واحد ينقر بعصاتيه القصيرتين، طبلة الزير وحضر الشاعر فلان، ليقول كلاما يمتدح فيه العائلتين وكرم الضيافة، انعقدت دائرة واسعة في ساحة عريضة قريبة من البيت، وحمل نفر غير قليل من الرجال بنادقهم، وتوسعت الدائرة بعد سماع الطبل. ورقص الأولاد في ذيل الصف الطويل الدائرة، وخرجت النساء على الأسطح وفي النوافذ، حوم الغبار من تحت الأقدام إلى ما فوق الرؤوس، وعلى الإيقاع المرتب تقافز راقصان خفيفان في وسط الدائرة، دون ترديد مع الآخرين، فقفزا ونط عقالهما من على رأسيهما، ولوحا في الفضاء بـ "سلاق الجناني" الخاطفة كالبرق " <span class="tooltip">(32)<span class="tooltiptext">الغطاريف: عبدالعزيز مشري. ص 198.</span></span>.
"ولعل عبد العزيز مشري من أشد الروائيين السعوديين احتفاء بالتشبيهات والعناية بأدق تفاصيل البيئة المكانية فهو يحرص أشد الحرص على أن يوحِّد بين الإنسان والبيئة المكانية التي يعيش فيها، فتأتي تشبيهاته حاملة طابع البيئة المكانية، متأثرة أشد التأثر بروح المكان بترابه وشجره ومائه وحيوانه، بقسوته وصلابته، بألفته ووحشته، فحين يشبه عبد العزيز مشري ثوب ( البَفْتَة) الأبيض المغسول والمضمخ بالصبغ النيلي بعد أن بان على حبل الغسيل يراه " كأنه زهرة لوز في ربيعها "، وحديث ظافر أحد شخصيات رواية (الغيوم ومنابت الشجر) "يأتي جافاً كلحاء شجر الطلح فيسقط في أذن (ابن زايد) كما تسقط قطرات المطر من السقف في إناء النحاس "، وصوت غصون اللوز إذ تهزها الرياح يشبه "حزمات قصب الذرة الجاف وقد راح يسحبه على الأرض قطيع من الإبل"، والضيف يقبض على فنجان الشاي الساخن " كما لو أنه يقبض على رقبة طائر صغير" <span class="tooltip">(33)<span class="tooltiptext">جماليات المكان في الرواية السعودية. حمد البلهيد. تاريخ النشر 1428. الناشر. دار الكفاح. ص 54.</span></span>.
من يتأمل الشعر الجاهلي، يدرك ما كان للصحراء العربية من حضور في القصائد حيث نجح الشعراء في تصوير مشاهد وصور شعرية مهمة سواء ما اتصل منها بالطبيعة أم بالحيوان أو ما كان له صلة بالمشاهد الإنسانية الصرفة. وهذا ما كان في ديوان العرب: الشعر. أما في عالم الرواية فكان للصحراء نصبيها في الحضور الروائي وإن كانت ملامحه وعوالمه تختلف عن الشعر. وهذا الحضور على المستوى الجغرافي لا يتعلق بالصحراء العربية وحدها ولكن في فضاءات صحراوية أخرى متعددة ومختلفة كان للرواية حضورٌ سردي في تشكيل هذا الفضاء.
ولأن الصحراء مكان له خصوصيته السردية فهناك إشكالية تحضر عند كتابة هذا العالم، وهذا ما أشارت إليه ميرال الطحاوي "عالم الصحراء غالباً ما يتم النظر إليه بصفته واقعاً ايكولوجياً فقط تُنزع عنه كل المفردات المتعلقة بالثقافة والتاريخ وعلم الأجناس، وتنفي عنه كل ارتباط بالجماعة البشرية التي تعيش فيه، وهو خطأ لا ينبغي الوقوع فيه، بل ينبغي النظر إلى الصحراء كفضاء غزير متخم بالدلالات والرموز، وكعالم مكثف يبني رؤى فكرية لا فكاك منها ويخلق نصّه الروائي المتخم بالدلالات، وهذا ما يجعل الكتابة عن الصحراء أمراً ليس سهلاً، أو ممكناً حتى، إلا ضمن شروط محدّدة تستوعب خصوصيته وتخلق الشروط الضرورية لمثل هذه الكتابة. فليس ذكر الصحراء في النص أو المرور عبرها شيئاً يجعل النص صحراوياً" <span class="tooltip">(34)<span class="tooltiptext">محرمات قبلية – المقدّس وتخيلاته في المجتمع الرعوي روائياً: ميرال الطحاوي. ص 154.</span></span>.
وهناك العديد من الروايات العربية التي استثمرت الصحراء بكل أبعادها المختلفة، حتى غدت الصحراء مكاناً فاعلاً يمنح عالم الرواية الداخلي مزيداً من التنامي والحيوية والجماليات الإضافية الخاصة ، وربما كان المكان الصحراوي بسبب حركته الدائمة هو " المكان الأقدر على التدخل في حياة البشر وتغييرها باستمرار في الواقع وفي الرواية، فمن الطبيعي أن تتوجه الرواية إلى المساحة الأكبر من البشر قبل توجهها إلى المساحة الأكبر من الجغرافية والأرض، ولم تتوجه إلى الصحراء قبل أن يصبح توجه البشر إلى الصحراء كثيفاً وغزيراً بفعل الانتقال إلى مواقع النشاط الاقتصادي وتمركز الثروات" <span class="tooltip">(35)<span class="tooltiptext">الزمن والمكان في رواية المجوس لإبراهيم الكوني» الباحثة أم السعد بلعيد.</span></span>.
إذا ما تأملنا أبرز التجارب العربية في تدوين الفضاء الصحراوي سنجد الروائي الليبي إبراهيم الكوني الذي يعده البعض (راوي الصحراء الكبرى وسجينها) والذي اشتغل على عالم الطوارق في رواياته مثل (المجوس) و (التبر) و (نزيف الحجر) و (الفم) و (واو الصغرى) وسواها.
على أن الكوني أثقل عالمه الصحراوي باللغة الشاعريّة المغرِقة بالمجاز التي تتقدّم وتسيطر بشكل واضح على حساب السرد والأحداث والحبكة، وكذلك استغراقه في التابو وما هو فلسفي حتى كأن الصحراء في تلك الروايات لم تعد صحراء الطوارق بل هي صحراء إبراهيم الكوني.
وفي المقابل نجد تجربة روائية لعبد الرحمن منيف والذي قدم الفضاء الصحراوي ولكن بنكهة أيدلوجية كانت هي من تسير أحداث تلك الروايات كخماسية (مدن الملح) وكذلك رواية (النهايات)، وعلى مستوى التجربة النسائية العربية سنجد ميرال الطحاوي استلهمت من عوالم الصحراء الكثير من رواياتها (الخباء ، الباذنجانة الزرقاء ، نقرات الظبا).
كذلك هناك تجارب روائية عربية أخرى استأثرت بالصحراء مكاناً وموضوعاً مثل (فساد الأمكنة) لصبري موسى، و(رجال في الشمس، وما تبقى لكم) لغسان كنفاني، و(رامة والتنين) لإدوارد الخراط، و(البحث عن وليد مسعود) لجبرا إبراهيم جبرا.
أما في الرواية السعودية فإن المفارقة الغريبة ألا يشكل فضاء الصحراء مساحة واسعة في أغلب المنجز الروائي السعودي كذلك نرصد إشكالية أخرى في تدوين هذا الفضاء روائيا عند الروائي السعودي.
"عندما تصبح الصحراء مسرحاً حقيقيا لأحداث الرواية. يأتي السؤال كيف يُكتب هذا الفضاء في الرواية السعودية. ألا ينتاب الروائي شيء من الارتباك بين أن تكون رغبته في كتابة عوالم الصحراء من الداخل وبين أن يتخذ مكاناً قصياً لتكون الرؤية آتية من الخارج؟".
هذا السؤال الذي طرح في جريدة الرياض في استطلاع صحفي بعنوان "الصحراء بين هاجس الأسطورة والايديولوجيا" <span class="tooltip">(36)<span class="tooltiptext">جريدة الرياض استطلاع بعنوان (الصحراء بين هاجس الأسطورة والايديولوجيا) إعداد طامي السميري الخميس 1 يونيو 2006م - العدد 13856.</span></span> ونستطيع القول بأن إجابات الأسماء السردية التي شاركت في هذا الاستطلاع تمثل شهادات حية على وجهة نظر الروائي السعودي إلى حدٍ ما وتمنحنا إشارات في كيفية كتابة الصحراء روائيا. وهي أيضا ترسم ملامح للرؤى المختلفة في تدوين هذا الفضاء وكيفية التعاطي معه وهل الروائي يكرس الأسطوري في هذا الفضاء أم يعيد إنتاجه؟
فالروائية أميمة الخميس تجيب عن السؤال بقولها: "فيما يتعلق بظهور الصحراء عبر الأعمال السردية، كذريعة ترويجية لقارئ غربي، عبر الإسراف في ذكر التفاصيل الصحراوية فأعتقد أن لهذا الموضوع بعض التفسيرات على مستوى تجربتي الشخصية. التفاصيل جزء مهم وحيوي من التجربة الأدبية فهي التي تصب الماء في عروق العمل الأدبي، وتربط تفاصيله وتثبتها والتفاصيل هي التي تنقل الطعم واللون والرائحة، وبدونها يصبح العمل الفني سردا باهتا مملا. أعتقد بأنه لا بأس أن ننقل نحن تفاصيلنا بدلا من أن ينقلها متأمل خارجي، وعلى الأقل نحن ننقلها عبر درب الحب. يختلف وقع العالم الخارجي على ذهنية الكاتب وهذا الاختلاف يختلف من كاتب لآخر، ومن متلق لآخر فلا بأس عندها من أن نشاهد الدهشة بالعالم من حولنا عبر أعين مختلفة، فتراث المنطقة ظل مغيبا كثيرا عن العالم ونحن بدأنا نعشق أمريكا اللاتينية عبر أدب كتابها وتفاصيلهم، من منا لم يحب تشيلي بعد إيزابيل الليندي؟ على المستوى السردي إذاً لابد أن نؤسس لمشروع من هذا النوع".
أما الروائي عواض العصيمي والذي كتب العديد من الروايات التي استلهمت عالم الصحراء فيقول: "أن أكتب عن الصحراء من الداخل، ليس معناه أني في هذا الداخل بشروطه، وفي الأساس لم أفكر في تمثلها على النحو الذي يستهوي الرومانسيين أو المولعين بالحديث عن المكان كرمز للتعبير المفرط عن الأصالة والانتماء وغير ذلك من الموضوعات التي تجعل العلاقة بمكان ما علاقة مغلقة في مثاليتها. الشيء الآخر هو أن الصحراء عندي ليست الأفق الرملي فحسب، وإنما هي الزمن والأحداث التي تقع فيه، وهي أيضاً الناس والثقافة والذاكرة، ولكن كل ذلك بمعزل عن الدخول في شروط الترافع عنها من منطلقات ضيقة. على هذا الأساس، كنت أتحرك داخل الصحراء وأنا منفصل عنها، كنت أمشي فيها ليس كما يفعل الغريب، وإنما كأحد أبنائها الذين عاشوا فيها ردحاً من الزمن وعرفوها، ومع ذلك لم أكن أتيح لها فرصة مشاغلتي بصوتها الذي يحيل اللغة عندي إلى صدى له، بمعنى أن يكون سابقاً على الكتابة ومتحكماً فيها لهدف دعائي أو بطولي لا يخص الكتابة الإبداعية التي أريد".
ورأى الناقد سعود السويدا بأن ما كتب عن الصحراء يأتي في محاولة لأسطرة هذا الفضاء دون إقناع حقيقي إذ يقول: "في ظني أن الدافع لاختيار الصحراء كفضاء للرواية يقع ضمن أيديولوجيا الهوية، وهذا على الأغلب بالطبع فقد قرأت لإبراهيم الكوني بعض أعماله. لا أحمل رأيا إيجابيا في تجربته. أظنها تدخل ضمن الترويج وتذكرني إلى حد بالمنشورات السياحية، هناك محاولة لأسطرة هذا الفضاء الأبكم (الصحراء) وملئه بالضجيج، دون إقناع حقيقي. أتعاطف أكثر مع بعض الروايات التي اتخذت من الصحراء أفقا عبر أبطال طارئين عليها، أجانب أو رحالة وغيره. في بالي بعض أعمال بول بولز وحتى قصص البير كامي. محاولة أن تكون صوت الصحراء، لا يختلف كثيرا عن محاولة أن تكون صوت الشعب أو الجماهير. هو وقوع في أجوبة الأيدولوجيا الجاهزة. همنغواى كتب باقتدار عن الأدغال الافريقية كما حلبات المصارعة الأسبانية كما الحانات كما البحر. الأصالة هي إذن في التناول وليست في الموضوع".
أما الناقدة عائشة الحكمي فتقول: "حين يشتبك الروائي المحلي على الأخص والعربي على الأعم مع مفردات الصحراء سيعمل على أن يكون متميزا من بين كل روائيي الأرض -وهذا جواز سفره الأوحد الذي لن تناله أختام كل الحدود الروائية، فهو يمتح من مواد خام فريدة لن تتكرر إلا عند روائي له بها علاقة، كعلاقة الأصول بالفروع، أو قل إن شئت الأم بوليدها. إذن سنتفق على أن الصحراء بالنسبة للروائي المحلي حتما (حضور في الطبيعة وحضور في الروح). وإذا نحن أدركنا أبعاد حضور الصحراء في الروح، وأدركنا أبعاد الاستعداد الذي يقوم به الروائي مسبقا سندرك الفرق بين (الترويج والحيادية). الروائي وهو يكتب الصحراء لا يهمه سوى الحياة التي استحضرها ورسمها في مشاعره وفكره يتلذذ بتقلبه بين جنابتها، وبدأ يبتلعها على الورق، وحين تكون الصحراء ضمن تلك (التشكيلة) سينسى ذاته ويتلاشى".
والصحراء في الرواية السعودية اقتصر حضورها على عدد من الروايات وإن كان نسبة هذا الحضور لا يتناسب مع ما تمثله ثقافة الصحراء في وجدان الإنسان السعودي، وقد تنوع هذا الحضور بأشكال مختلفة كالحضور الغرائبي والعجائبي والطقس الأسطوري وذلك ما نجده في روايات رجاء عالم (مسرى يا رقيب، حبى، طريق الحرير) وذلك الحضور جزئي ولكنه يشير الى المكان الصحراوي وفي روايات أخرى تحضر الصحراء كامتداد للمدينة كرواية (ابن طراق) لمحمد السماري وبدر السماري، و (فخاخ الرائحة) ليوسف المحيميد، و (شرق الوادي) لتركي الحمد.
أو تلعب الصحراء دورا عكسيا كمنقذ وملجأ عندما تلم بأهل القرية فاجعة الوباء كما حدث في رواية (حنى القفار) لعلي الحبردي. أو تصبح الصحراء مكانا أسطوريا ممتلئا بحكايات الجن كرواية (وادي العشرق) و(مفازة الجن) لعبد الرحيم الأحمدي. ولكن التجربة الروائية التي تشكل الصحراء حضورا رئيسيا تجربة الروائي عواض العصيمي الذي أصدر العديد من الروايات لكن الصحراء استحوذت على الجزء الأكبر من هذه الإصدارات وهذا ما نجده في رواياته (على مرمى صحراء، في الخلف، قنص، نار المرخ، المهرّب). كما نجد الصحراء حضرت في إصدارات حديثة كرواية (غواصو الأحقاف) لأمل الفاران وكذلك رواية (الصريم) لأحمد السماري ورواية (الحدود) لنايف الجهني، أو (عقدة الحدار) لخليف الغالب التي ظهر فيها انحياز الروائي للصحراء بوصفها فضاء للأحداث التي تصوّر الانتقال من البداوة إلى المدنيّة، دون تغلغل في عمق الصحراء وأثرها الثقافي والاجتماعي والإنساني.
شغل البحر مخيلة الإنسان بشواطئه وسواحله وبما يحتويه في أعماقه من أسماك ورخويات وحيوانات، وخلق علاقة ذات عادات وتقاليد متنوعة. والبحر من حيث هو عالم مليء بالتفاصيل والصراعات حضر في الكثير من الروايات العالمية وكان موضوعها الملهم، مثل رواية (البحر البحر) للكاتبة البريطانية آيرس مردوك، و(موبي ديك) للروائي هرمان ملفل و(عمال البحر) لفيكتور هيجو، ورواية (الشيخ والبحر) للأميركي ارنست هيمنجواي، وفي هذا السياق على مستوى العالم العربي سنجد تجربة الروائي حنا مينا في كتابة روايات تصنف تحت مسمى أدب البحر. وهناك روايات أخرى حضر فيها عالم البحر بشكل أو بآخر مثل رواية (السفينة) لجبرا إبراهيم جبرا و(الإسكندرية) لإدوارد الخراط. إلا أن أدب البحر وبشكل عام يبدو حضوره محدوداً في الرواية العربية وبشكل أكثر محدودية في الرواية السعودية برغم أن البحر يحيط بالمملكة العربية السعودية شرقاً وغربا. إلا أنه لم يسجل حضوراً فنيًّا مؤثراً، حتى في تلك الروايات التي اتخذت من مفردة البحر ومشتقاتها عنواناً لها؛ كرواية (حارة البحارة) لعبد الكريم الخطيب التي ورد فيها البحر بشكل ثانوي غائم، فقد كان حضوره في هذه الرواية لا يتجاوز جغرافية المكان في صمتها وسكونها. والأمر لا يختلف كثيراً أيضاً في رواية (جراح البحر) لمحمد عبده يماني التي حاولت تقديم بيئة الصيادين وطرق عيشهم، إلا أن الرواية ليس فيها من بيئة البحر وعوالمه الغنية غير الاسم. وقد حضر البحر في شكله الرومانسي في العديد من الروايات كرواية (العدامة) لتركي الحمد و(اسمي يوسف) لخالد المجحد وروايات عبده خال ورواية (امرأتان) لهناء حجازي ولكن حضوره لم يتجاوز كونه مصدرا لمناجاة البطل أو التغني بمهابته أو أنه معلم مكاني لمدينة معينة مثلما حضر في رواية (المعطوب وآكلو الورق) لمصطفى الحسن. لكنه بشكل عام لا يتجاوز مثل هذه العبارة التي جاءت في رواية (مدن لا تأكل العشب) لعبده خال: "هناك على شاطئ البحر تكثر الأجساد التي اصطبغت بلسان الشمس تجعلها خليطاً من البياض والحنطي. هجمات البحر المتدافعة الأمواج وكأنما يروم أن يخطف حسناء من بينهن حتى تشاطره السهر لحين الصباح " <span class="tooltip">(37)<span class="tooltiptext">مدن لا تأكل العشب. رواية. عبده خال. تاريخ النشر: 01/12/2011 الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر. ص 104.</span></span>.
حتى نتلمس صدى الرواية السعودية عند القارئ العربي ونتعرف على مدى مقروئيتها وهل لعب المكان دورا في تحريضهم على رغبتهم في التعرف على أرض الواقع؟ سألت العديد من القراء العرب الذين عرفوا في مواقع التواصل الاجتماعي باهتمامهم وحرصهم على قراءة الروايات. حيث اشتملت العينة على قراء من كافة الدول العربية، مع محدودية العدد إلا أن الإجابات كانت تعكس انطباعات وتؤدي إلى إشارات قد تمنح الراصد تصورا عن ملامح رؤية القارئ العربي للرواية السعودية بشكل عام وكيف ينظر إلى المكان في تلك الروايات بشكل خاص. وقد اعتذر الكثير من قراء دول المغرب العربي ومصر عن الإجابة بحجة عدم قراءتهم لأي رواية سعودية. أما الإشارة الأخرى فإن المقروئية العالية للرواية السعودية تكمن في القراء من دول الخليج، بل كانت إجاباتهم تعبر عن متابعة للرواية السعودية بشكل واسع. وقد تنوعت الإجابات وجاء ذكر العديد من الروايات بشكل متفرق. إلا أن الرواية الوحيدة التي تكرر حضورها في الإجابات هي رواية (الحزام) لأحمد أبو دهمان. وقد حافظت في نقل الإجابات على صياغتها كما كتبها القراء حتى تعبر وتدل على مضامين رؤيتهم للرواية السعودية. والسؤال الموجه للقراء هو التالي:
"من خلال قراءتك للروايات. هل عرّفتك رواية سعودية على مدينة أو معلم تاريخي أو أي تفاصيل مكانية أخرى وأحببت أن تتعرف على تلك الأماكن على أرض الواقع؟".
ومن إجابات القراء:
فيما تقدّم دراسة لموضوع (سيرة المكان في الرواية السعودية)، وشملت استقراء لعموم الروايات السعودية التي حضر فيها عنصر المكان جليًا وبارزًا، واعتمدت على محاور منها: المدن في الرواية السعودية، ثم تخصيص الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة لحضور هذه المدن المتفرد في الرواية السعودية، ثم محور القرية في الرواية السعودية، ثم عناصر مكانية جغرافية مثل الصحراء والبحر وانعكاسهما على السرد السعودي.
وخلصت الدراسة إلى عدد من النتائج، منها:
ولعل هذه الدراسة تقدح الأسئلة للباحثين لدراسة الموضوعات على رافد المكان في الرواية السعودية، مثل: ما الفلسفة المكانية التي يمكن أن تحتفظ بها الرواية السعودية عن الأماكن المركزية فيها؟ وكيف يطوّر الروائي السعودي أداوته عند وصف المكان؟ ومتى يكون المكان عنصرًا دافعًا للسرد ورمزًا لا خلفية فقط للأحداث؟ كما يمكن الموازنة بين المكان في الرواية السعودية والمكان في الروايات العربية المتميزة.