لماذا تبقى القصيدة العربية عصيةً على الزمن؟ لماذا نظلّ نلجأ إليها كلّما احتجنا إلى فضاء يحتضن آمالنا وأفراحنا، انتصاراتنا وهزائمنا، كلّما بحثنا عن أفق جديد للغة والفكر؟ والقصيدة التي أعنيها هنا هي التي يصفها الأكاديميون بالكلاسيكية أو القديمة، والصفتان قاصرتان عن التعبير عن شعرية هذا الصرح اللغوي والبلاغي. فصفة الكلاسيكي تحيل إلى ما هو تقليدي أو محافظ أو ملتزم قوانينَ صارمة، وصفة القديم تحيل إلى ما هو سابق في الزمن أو بائد، علينا تخطيه أو تجاوزه لأنه لا يصلح لزمننا. أما القصائد العربية الخالدة التي نظلّ نعود إليها، وإن كانت كلاسيكية بالتزامها قواعد عروضية وبنائية محددة، وإن كانت قديمة في الزمن، بها نؤرخ لبداية تاريخ لغتنا وتراثنا، فهي خالدة لأنها تجاوزت الحدود الصارمة وأرست لنفسها حدوداً جديدة ولأنها انتصرت على التاريخ وظلت متجددة على مرّ الزمن.
والدليل على هذا حاضر في كل المشاريع الشعرية العربية التي دائماً ما تنطلق من اشتباك أو حوار مع القصيدة العربية، كقصيدة التفعيلة وحتى قصيدة النثر. ولكني في هذا المقال سأسلّط الضوء على تجربة فريدة مع القصيدة، ألّا وهي تجربة أم كلثوم التي كانت من أنجح وأبدع من قرأ القصيدة العربية وترجمها وأدّاها في القرن العشرين.
*
في ما يلي سأعرض قصة بيت من الشعر ورحلته من قصيدة ألّفتْ عام ١٩١٤م إلى ساحات العالم العربي بعد أحداث ١٩٥٢م وما تلاها من لحظات ثورية، وتحوّله إلى شعار خالد يُرفع ويُهتف به أينما بحث العرب عن جملة جامعة تحوي آمالهم وتربطهم بتاريخهم القريب والبعيد. وكل هذا بترتيب من أم كلثوم ونتيجة لفهمها العميق للشكل الشعري العربي ونجاحها في استقطاب جمهورها العريض إلى فضاء القصيدة العربية المتجددة دوماً.
في ما توالى على العالم العربي من ثورات وحركات، كثيراً ما تظهر جملة يرفعها المعتصمون في الساحات، ويهتف بها الثائرون في الشوارع، ويردّدها الناس وكأنها مثل سائر: "وما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غلابا..." تلخّص هذه الجملة الروح الثورية التي تملّكت الشباب العربي في أكثر من لحظة منذ منتصف القرن الماضي وحتى بدايات هذا القرن، ولكنها ليست قولاً قديماً ولا حكمة تداولتها الأجيال عبر العصور، بل هي بيت شعر من قصيدة ألّفها الشاعر أحمد شوقي عام ١٩١٤م. ومع ذلك، فإنّ للبيت وقعَ المثل أو الحكمة. وعلى الأرجح، فإنّ معظم من يرددون هذا البيت ويستشهدون به، يعرفونه وإن كانوا لا يعرفون بالضرورة كيف يعرفونه. هذه المعرفة التي تفرض نفسها علينا كالحقيقة، دون الحاجة إلى المعالجة أو التفكير، هي معرفة تتسرب إلينا من نسيج الثقافة التي تكوّننا واللغة التي نسكنها وتسكننا يوماً بعد يوم. فالمعرفة التي يقدمها لنا المثل أو القول المأثور نقبلها ونؤثرها دون تحليل أو تفحّص، لأنها معرفة تربطنا بالجماعة. نصدقها لأننا كلَّنا نعرفها معاً، ونفهمها ونأمنُ إليها بالطريقة نفسها.
وما خوّل هذا البيت التسرّبَ هكذا إلى اللاوعي الجماعي والدخول في النسيج الثقافي الشعبي ليس قصيدة أحمد شوقي، بل صوت أم كلثوم. وهو صوت متجذر في أذهان أجيال من العرب على مستوى عاطفي عميق.<span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">تجدر الإشارة هنا إلى أن البيت هذا يرد في سيناريو فيلم سعاد حسني الشهير "خلّي بالك من زوزو" (١٩٧٢) الذي كتبه الشاعر صلاح جاهين وأخرجه حسن إمام. ولا شك في أن جاهين قصد الإشارة إلى أم كلثوم أكثر مما قصد الإشارة إلى أحمد شوقي في استخدامه البيت في سياق الفيلم الذي ينتقد التقاليد الاجتماعية المتزمتة وينتصر لروح الشباب الثائر. هذا دليل على رسوخ الأغنية في الثقافة الشعبية وفي الشعر بالعامية المصرية. ولا بد أنّ جاهين كان متأكداً من أن مشاهدي الفيلم سيتعرّفون على جملة أم كلثوم هذه مباشرة.</span></span>
من يحبون صوتها ومن ينزعجون منه، جميعاً، يعترفون بسطوته وقدرته على إيصال المعنى، لا بل على تحقيق المعنى من خلال دعوته كلَّ مستمع ومستمعة إلى حالة عاطفية واحدة وتجربة جمالية مشتركة. وقد استطاعت أم كلثوم توظيف صوتها الفريد لتصبح رمزاً للثقافة العربية وقيمها الأثيرة، وأعانها في هذا منذ بداية مسيرتها الفنية، فهمها العميق للشكل الشعري العربي وقدرتها على ترجمته وتفعيله في المستوى الشعبي.
في مواجهة التحولات السياسية التاريخية التي طرأت على مصر والعالم العربي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، وجدت أم كلثوم في القصيدة العربية أداة مرنة ذات أثر عميق، مكّنتها من التواصل مع جمهورها الواسع ومن دعوتهم إلى حالة عاطفية وجدانية مشتركة. فبَنَت مشروعها الفني على معرفة بالأشكال الفنية التراثية ومن بينها القصيدة العربية، وقد اقترنت ثقافتها التراثية هذه بذكائها في استخدام التكنولوجيا ولا سيما وسائل الإعلام الجماهيرية، كالراديو والتلفزيون التي وفرت لها انتشاراً واسعاً لم يسبق له مثيل في العالم العربي. فصارت بذلك ظاهرة ثقافية، لا مجرد مطربة أو فنانة.
ترتبط أم كلثوم في أذهان محبيها بمفهوم "الأصالة" فيرونها ممثلة لقيم ومشاعر تمتد إلى ما هو أبعد من الموسيقى والترفيه، إلى قضايا الهوية والانتماء. طوال مسيرتها، كانت محل إشادة لإتقانها اللغة العربية والشعر. والكثيرون من معجبيها يفتخرون بكونها بدأت مسيرتها كطفلة تتلو القرآن. علاقتها هذه بالتراث العربي وباللغة العربية كقارئة وحافظة عزّزت مكانتها لتصبح رمزاً ثقافياً عربياً ومترجمةً لتلك الثقافة في المجال الشعبي.
*
عُرفت أم كلثوم بمشاركتها الفعّالة في اختيار كلمات أغانيها وتنسيقها مع اللحن بشكل يلائم شخصيتها الفنية وتوقعات جمهورها. لذا فإنّ ما تركته لنا من إرث فني هو بالفعل مِلكٌ لها ونتاجُ موهبتها ومهاراتها في القراءة والاختيار، وليس مجرد نصوص وألحان من تأليف آخرين قامت هي بأدائها.<span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext"> Danielson, Virginia, The Voice of Egypt: Umm Kulthum, Arabic Song, and Egyptian Society in the Twentieth Century (Chicago, 1977), 2.</span></span>
وقد كانت حريصة بشكل خاص في انتقائها وترتيبها لما غنته من كلام. ففي كثير من الأحيان، كانت تقوم بتغيير كلمات أو عبارات بطريقة تتناسب بشكل أفضل مع توقعات جمهورها.
ومثال مشعّ على هذا أغنية "رباعيات الخيام" التي غنّتها عام ١٩٥٠م وكانت قد عملت عن كثب مع الشاعر أحمد رامي والملحن رياض السنباطي لتحضير الكلام للغناء. وكان رامي قد أكمل بين العام ١٩٢٤م والعام ١٩٣٢م أول ترجمة مباشرة لرباعيات عمر الخيام من الفارسية إلى العربية، مترجماً مئة وسبعاً وستين رباعية من المخطوطات الموجودة في معهد اللغات الشرقية في باريس حيث أمضى سنتين باحثاً زائراً. <span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext"> نشر أحمد رامي ترجمته لرباعيات الخيام في طبعة أولى عام ١٩٢٤ وفي طبعة ثانية عام ١٩٣٢.</span></span>
في عملية البناء أو التأليف هذه، اختارت أم كلثوم شخصيًا خمس عشرة رباعية مما ترجمه رامي. وقامت مع فريقها بترتيب الأبيات الثلاثين في قصيدة مترابطة البناء، متّسقة الحركة تشبه القصائد العربية التي قدمتها من قبل، مع أن الأصل الفارسي وترجمة رامي، كلاهما يفتقد التجانس والترابط من ناحية الموضوع والبناء. <span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext"> Huda Fakhreddine, “FitzGerald, Rāmī and Umm Kulthūm: The Making of Khayyam in Arabic,” Abḥāth 60 (2016): 87-110.</span></span>
إذا عدنا إلى قصيدة "سلوا قلبي"، نرى أن أم كلثوم لعبت الدور الحاسم نفسه في تهيئة القصيدة للغناء، فتدخلت في النص تدخلين حاسمين غيّرا مزاج القصيدة ورسالتها العامة تغييراً جذرياً. ولكنها مع ذلك حافظت في ما اختارته من أبيات على نسق القصيدة العربية وخيط تطورها العاطفي.
"سلوا قلبي" في الأصل قصيدةُ مديح نبوي، ألّفها شوقي عام ١٩١٤م. تطرّق في نهايتها إلى حال مصر والأمة الإسلامية على مشارف الحرب العالمية الأولى، وتحت سلطة قوى الاستعمار البريطاني التي كانت تحكم مصر وتدير أمورها منذ العام ١٨٨٢م. يفتتح شوقي قصيدته بمطلع غزلي، كما هي عادة الشعراء منذ الجاهلية، فيقول:
سلوا قلبي غداة سلا وتابا :: لعلّ على الجمال له عتابا
ويُسأل في الحوادث ذو صواب :: فهل ترك الجمال له صوابا
وكنت إذا سألت القلب يوماً :: تولّى الدمع عن قلبي الجوابا
ولي بين الضلوع دم ولحم :: هما الواهي الذي ثكل الشبابا
تسرّب في الدموع فقلت ولّى :: وصفق في الضلوع فقلت ثابا
ولو خُلقت قلوب من حديد :: لما حملت كما حمل العذابا <span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext"> أحمد شوقي، ديوان الشوقيات، تحقيق علي عبد المنعم عبد الحميد، الجيزة: الشركة المصرية العالمية للنشر، ٢٠٠٠، ص. ١٩٩.</span></span>
ينتقل بعد ذلك إلى أبيات في الحكمة، يستخدمها ليتخلّص من المطلع وليمهّد لغرض القصيدة الذي هو المديح النبوي. إلا أنّ شوقي يتخذ من المديح النبوي فرصة لانتقاد الوضع الراهن في زمنه ولتقديم النصح والعظة في ما يتعلق بالمستقبل، واضعاً أمله في عودة أبناء دينه إلى نهج رسول الله الذي ضلّوا عنه، عساهم يستعيدون بعضاً من كرامتهم الضائعة وعزّهم الغابر.
سَأَلتُ اللهَ في أَبناءِ ديني :: فَإِن تَكُنِ الوَسيلَةَ لي أَجابا
وَما لِلمُسلِمينَ سِواكَ حِصنٌ :: إِذا ما الضُّرُّ مَسَّهُمُ وَنابا <span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext"> الشوقيات، ص. ٢٠٢.</span></span>
ويختم قصيدته بنبرة حسرة ورثاء قائلاً:
كَأَنَّ النَحسَ حينَ جَرى عَلَيهِمْ :: أطارَ بِكُلِّ مَملَكَةٍ غُرابا
وَلَو حَفَظوا سَبيلَكَ كان نورًا :: وَكانَ مِنَ النُحوسِ لَهُمْ حِجابا
بَنَيتَ لَهُمْ مِنَ الأَخلاقِ رُكنًا :: فَخانوا الرُكنَ فَانهَدَمَ اضطِرابا
وَكانَ جَنابُهُمْ فيها مَهيبًا :: ولَلأَخلاق أَجدَرُ أَن تُهابا
فَلَولاها لَساوى اللَيثُ ذِئبًا وَساوى الصارِمُ الماضي قِرابا
فَإِن قُرِنَت مَكارِمُها بِعِلمٍ :: تَذَلَّلَتِ العُلا بِهِما صِعابا
وَفي هَذا الزَمانِ مَسيحُ عِلمٍ :: يَرُدُّ عَلى بَني الأُمَمِ الشَبابا <span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext"> المرجع نفسه.</span></span>
يذكّرنا شوقي بأنّ في السيرة النبوية دروساً علينا التنبّه إليها والتعلّم منها لكي نخرج مما نحن فيه من خضوع للمستعمر. فلا بدّ من جهد على الأمة أن تبذله لتصنع مستقبلاً أفضل، فحالها في اللحظة التي يصفها شوقي حال "نحس" وخنوع.
أمّا أم كلثوم، فقد أرادت لأغنيتها رسالةً ونبرةً مختلفتين تماماً، فأعادت تشكيل ما اختارته من قصيدة شوقي بطريقة جذرية وحوّلتها من عظة ورثاء إلى بيان ثوري مدوٍّ. كما أنها حرّرت القصيدة من هموم شوقي في لحظته التاريخية، وجعلتها تعبيراً عن الأمل والإيمان بالروح العربية الثورية في كل زمان ومكان. وما كانت لتنجحَ في ذلك إلا من خلال تمكّنها من الشكل الشعري العربي وقدرتها على التحكّم به.
فاختارت من أبيات القصيدة الواحد والسبعين، واحداً وعشرين بيتاً فقط، أي ثلث القصيدة تقريباً. وعلى الرغم من نزوعها إلى التكثيف والتقصير، حافظت على المطلع الطللي بالكامل تقريباً. لأنها عرفت أهمية هذا العقد الذي يُبرم بين الشاعر والمستمع في مطلع القصيدة. ففي المطلع الطللي أو في النسيب، يمسك الشاعر أو المؤدي بانتباه المستمعين ويقنعهم بالاستثمار العاطفي الشخصي في ما سيأتي من القصيدة. هكذا تظل أزمة القصيدة أو عقدتها، مهما كانت عامة ومشتركة، شخصية وحميمة، تنطلق من مخاوف وهواجس وجودية كالفقد والحب ومواجهة الزمن وحوادثه. كأنّ أم كلثوم وفريق عملها كانوا على دراية برأي ابن قتيبة حين فسّر ضرورة الوقوف على الديار والكلام في الحب في القصيدة مهما كان غرضها. فمَن يذكرُ الأحبة والظاعنين ويشكو من الدهر "يُميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه... ويستدعي إصغاء الأسماع، لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب." <span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext"> عبد الله بن مسلم ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، القاهرة: دار المعارف، ١٩٦٦، ص. ٢٠.</span></span>
بمحافظتها على المطلع الغزلي تُبرم أم كلثوم مع مستمعيها ذاك العقد العاطفي الحميم وتصحبهم بعد ذلك في رحلة في فضاء القصيدة. وهي وإن كانت قد حافظت على مطلع أحمد شوقي إلا أن قصيدتها تختلف اختلافا كبيراً عن قصيدة شوقي ولا سيما في ناحيتين جوهريتين.
أولاً، تهيئ أم كلثوم للقصيدة ذروة تتطور نحوها أبيات القسم الأول وتنحدر منها أبيات القسم الثاني. بعد المطلع الغزلي وما يليه من أبيات الحكمة التي تتضمن تأملاً في الدنيا وتقلباتها، تصل القصيدة بأداء أم كلثوم إلى قمتها عند البيت الذي انطلقنا منه في هذا المقال. ومَن يتمعّن في تسجيل الأغنية <span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext"> غنّت أم كلثوم "سلوا قلبي" أول مرة عام ١٩٤٦، ثم عادت وقدمتها عام ١٩٦٧، قبل اندلاع الحرب بأربعة أيام، في حفل افتتحته بأغنية "الله معك" (كلمات صلاح جاهين) المهداة لعبد الناصر. قدّم الحفل المذيع جلال معوّض واضعاً إياه في إطار الجهد الحربي الداعم للقوات العربية المتحدة. والتسجيل المتوفر لدينا اليوم لأغنية "سلوا قلبي" هو من هذا الحفل. </span></span>
المتوفر لدينا، يلاحظ أنّ أم كلثوم تمضي ما يقارب الخمس عشرة دقيقة من دقائق الأغنية الثماني والثلاثين في تكرار هذا البيت والذي يسبقه، مؤكدة على أننا مع هذين البيتين نصل إلى بيت القصيد في أغنيتها:
وعلّمنا بناءَ المجد حتّى :: أخذنا إمرة الأرض اغتصابا
وما نَيل المطالب بالتمنّي :: ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
بالإضافة إلى التأكيد، يلعب التكرار دوراً في إيقاف الزمن في الأغنية، مما يسهم في تحرير القصيدة من سياقها التاريخي أو مناسبتها، سواء كانت لحظة أحمد شوقي أوما تلاها من لحظات استخدمت فيها أم كلثوم هذه الأغنية لتعلّق على مناسبات تاريخية معينة كأحداث ١٩٥٢م أو ١٩٦٧م. فيصبح البيت ومعه الأغنية كلها تعبيراً مطلقاً عن الإرادة والثورة وتحدي الزمن، تعبيراً يصلح في كل زمان ومكان.
ثانياً، تتخلص أم كلثوم من خاتمة شوقي وتختار أن تنهي قصيدتها بنبرة تلائم الذروة التي رتّبتها لها، فتختم بهذين البيتين:
سَأَلتُ اللهَ في أَبناءِ ديني :: فَإِن تَكُنِ الوَسيلَةَ لي أَجابا
وَما لِلمُسلِمينَ سِواكَ حِصنٌ :: إِذا ما الضرُّ مَسَّهُمُ وَنابا <span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext">Laura Lohman, Umm Kulthūm: Artistic Agency and the Shaping of a Legend, Middletown: (Wesleyan University Press, 2010), 31.</span></span>
وبذلك تتفادى أم كلثوم شكوك أحمد شوقي ونبرته المتشائمة، وتؤكد على ما في هذين البيتين من ثقة وإيمان بأنّ طريق النجاة واضح وبأنّ للمسلمين حصناً يقيهم من الزمن مهما جار. بهذا تُكمل أم كلثوم طقس القصيدة بنجاح وتترك مستمعيها وقد قطعوا رحلة القصيدة من النسيب إلى المديح دون أن يفقدوا الأمل أو الزخم الثوري اللذين أرادت لأغنيتها أن تبعثهما.
تفرّدت أم كلثوم بمهارتها في جعل القديم جديداً والكلاسيكي ثورياً وعصرياً. فقد كانت قارئة مبدعة ومترجمة ذكية للقصيدة العربية. وبفضل مهارتها في التحكم بأدائها، استطاعت أن تبيّن لمستمعيها الخيط العاطفي الذي يمسك بالقصيدة، وأن تيسّر لهم الرحلة في تضاريس الشكل الشعري العربي. فنجحت في تحويل القصائد العربية القديمة والحديثة، سواء كانت قصائد اختارتها من التراث أو قصائد لمعاصريها من الشعراء، إلى أغان ما زالت حيّة إلى يومنا هذا، نعود إليها كلّما احتجنا إلى لغة للتعبير عن انتصار يجمعنا أو فخر أو خيبة أو هزيمة، نحن الذين ما زلنا نجد الأوطان والديار، أكثر ما نجدها، في اللغة العربية وفي فضائها الشعري.