تتضاءل كل عظمة وتتوارى أَمام عظمة الخالق العظيم، وما ثَمَّ كبير مهما كَبُر ولا عظيم مهما عَظُم إِلَّا كان خالقه الكبير المتعالي أَكبر منه وأَعظم. وإِنَّ المنطق السليم والتفكير السَّوِيّ يستوجب أَن يكون أَوَّل ما يتبادر للذهن عند رؤية عظيم المخلوقات وعجيبها الإِقرار ببديع صنع خالقها، ثم إِعمال الفكر في تفاصيل هذه المخلوقات والوقوف على مواطن تفردها وأَسرار بديع صنعها.
إِنَّ مُطلَقَ التفكر والنظر عبادة مستقلة بذاتها وهي خير من كثير من العبادات الجسدية وأَجلُّ؛ لذلك رَغَّب اللهُ عبادَه فيها، وأَمرهم بها ففي محكم التنزيل: ﴿إِنَّ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ وَالفُلكِ الَّتي تَجري فِي البَحرِ بِما يَنفَعُ النّاسَ وَما أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماءٍ فَأَحيا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِها وَبَثَّ فيها مِن كُلِّ دابَّةٍ وَتَصريفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّماءِ وَالأَرضِ لَآياتٍ لِقَومٍ يَعقِلونَ﴾ [البقرة: ١٦٤] فالأَرض والسماء وما بينهما من أَحياءٍ وجمادات آيات دالَّة على عظمة الخالق وهي مجال تفكر ونظر يَستدِل بها أَهل العقول على خالقهم العظيم؛ لذلك جاء التوجيه الإلهي بالنظر إِلى هذه الموجودات فقال سبحانه: ﴿قُلِ انظُروا ماذا فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ وَما تُغنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَن قَومٍ لا يُؤمِنونَ﴾ [يونس: ١٠١].
ومما حث الله على النظر في خلقه الإِبل فقال جل وعلا: ﴿أَفَلا يَنظُرونَ إِلَى الإِبِلِ كَيفَ خُلِقَت﴾ [الغاشية: ١٧]، وانطلاقًا من ذلك، ورغبة في تجلية وفهم كثير من الأُمور المتعلقة بهذا الحيوان شرعت في كتابة هذا البحث الذي سميته: الإِبل تاريخٌ وهُوِيَّة، وقسمته إِلى أَربعة فصول عدا الخاتمة وهذه المقدمة، وسأُناقش في الفصل الأَوَّل لفظة الإٍبل ومعناها في اللغة ومرادفاتها في الاستعمال، ثم أَثر الإِبل في لغة العرب وشعرها وأَدبها، ثم بعض الصفات المميزة للإِبل كأَصواتها وضروب سيرها، ثم أَختم الفصل بالإِشارة للإِعجاز الرباني في خلق الإبل، أَما الفصل الثاني فسأُخصصه للحديث عن أَنواع الإِبل وأَقسامها من حيث الاستخدام ثم الأَصل ثم العمر ثم اللون، أَما الفصل الثالث فسأَنظر فيه إِلى الإبل في حياة العرب مبتدئًا بالعلاقة الوجدانية بين الإبل والعربي، ثم متبعًا ذلك بالحديث عن الإبل في الشعر العربي القديم، ثم عن لحوم الإبل وأَلبانها بوصفها غذاء، وكذلك عن تداوي العرب بأَلبان الإِبل وأَبوالها، ثم عن استعمال الإِبل في نقل البضائع والأَفراد، وأَهميتها الكبرى في هذا المجال، ثم أُخصص الفصل الرابع للحديث عن الإِبل في عصرها الذهبي في المملكة العربية السعودية قلب جزيرة العرب ممهدًا لذلك بالحديث عن مسابقات الإِبل في التاريخ العربي، ثم عن الإبل وفكرة الجمال، ثم عن مسابقات جمال الإِبل، والمعايير التي يحدد بها جمال الناقة، ثم عن سباقات الهجن خاصة، ثم أَختم الفصل بالإِشارة إِلى أثر مسابقات الإِبل في الثقافة السعودية.
وسأسعى في هذا البحث إِلى إِيصال مرادي بطريقة مختصرة اختصارًا أَرجو أَلَّا يكون مُخِلًّا، كما أَرجو أَن يجد قارئ هذا البحث المختصر بعض الفوائد والإِضافات التي لا أَحسبه سيجدها في أَكثر الكتب التي أُلِّفَت عن الإِبل. فقد حرصت على أَن أُعالج بعض قضايا هذا البحث من زوايا مختلفة عما اعتاده كثير ممن كتب عن الإٍبل.
الإِبل لفظ دالٌّ على هذا الحيوان المعروف قال الجوهري: «الإِبِلُ لا واحد لها من لفظها، وهي مؤنَّثة لأَنَّ أَسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إِذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لها لازمٌ. وإِذا صغرتها أَدخلتها الهاء، فقلت أُبَيْلَة وغُنَيْمَة، ونحو ذلك. وربما قال للإِبِل إِبْل، يسكنون الباء للتخفيف. والجمع آبَال. وإِذا قالوا إِبلان وغنمان فإِنَّما يريدون قطيعين من الإِبل والغنم. وأَرض مأَبَلَة: ذات إِبِل. والنسبة إلى الإِبِل إِبَلى، يفتحون الباء استيحاشًا لتوالي الكسَرات. وإِبِلٌ أَبْل، مثال قبر، أَي مهملة. فإِن كانت للقُنْيَةِ فهي إِبِلٌ مُؤبَّلَةٌ. فإن كانت كثيرة قيل إِبِلٌ أَوابِلُ» <span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية لإِسماعيل بن حماد الجوهري تحقيق أَحمد عبدالغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة 1407هـ. 1987م.1618:4.</span></span>.
ولأَنَّ الإِبل لا مفرد لها من لفظها فإِنَّ العرب إِذا أَرادوا الإِفراد نظروا للجنس فإِن كان ذكرًا قالوا جمل وإِن كانت أُنثى قالوا ناقة، وإِن كانت ذكورًا كلها «فالجمع أَجْمال، وأَجَامِلُ جمعُ الجمع وجِمَال وقال سِيبَوَيْه جِمَال وجِمَالات وجَمَائِل» <span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext"> المخصص لأَبي الحسن علي بن إِسماعيل ابن سيده، تحقيق خليل إِبراهيم جفال، دار إِحياء التراث العربي، بيروت 1417هـ.137:2.</span></span>، أَمَّا «الناقة جمعُها نُوق ونِياق، والعَددُ أَيْنُق وأَيانِق» <span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext"> تهذيب اللغة لمحمد بن أَحمد الأَزهري، تحقيق محمد عوض مرعب، دار إِحياء التراث العربي، بيروت 2001م 244:9.</span></span>، وذكر بعض اللغويين جموعًا أُخرى للناقة ولكنَّها ليست في شهرة ما تقدم «فقالوا ناقات ونياقات» <span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext"> المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أَحمد بن محمد بن علي الفيومي، المكتبة العلمية، بيروت 1272:2.</span></span>، وهما جمعا قِلَّة <span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext"> شرح المفصل للزمخشري، يعيش بن علي بن يعيش، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأُولى 1422هـ 245:3.</span></span>.
والمشهور في كتب اللغة أَنَّ الإِبل تفرد كذلك على بعير، قال السمين الحلبي: «البعير: واحد الإِبل. وقد يقع للذكر والأُنثى، مثل الإِنسان يقع للرجل والمرأَة. هذا هو المشهور، وخصَّه بعضهم بالجمل» <span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext"> عمدة الحفاظ في تفسير أَشرف الأَلفاظ، أَحمد بن يوسف بن عبد الدائم المعروف بالسمين الحلبي، تحقيق محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى 1417هـ. 1996م 1: 208.</span></span>.
ويرى الأَزهري أَنَّ هذا الإِطلاق مقيَّد بسن مخصوص للجمل والناقة فهو يقول: «يَقع على الجمل والناقة إِذا أَجْذَعا. يقال: رأَيت بعيرًا، ولا تبالي ذكرًا كان أَو أُنثى، ويُجمع البعير أَبْعِرَة في الجمع الأَقلِّ، ثم أَباعر وبُعرانًا» <span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext">تهذيب اللغة 229:2.</span></span>.
ومن العلماء من يرى أَنَّ بعير تطلق على الجمل البازل، بل ويفهم من كلامه أَنَّ الأَصل في إِطلاق لفظ البعير كان للجمل لا الناقة، يقول ابن سيده: «والبعير: الجمل البازل، وقيل الجذع، وقد يكون للأُنثى» <span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext"> المحكم والمحيط الأَعظم، أَبو الحسن علي بن إِسماعيل بن سيده، تحقيق عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأُولى 1421هـ. 2000م 134:2.</span></span>.
وما يفهم من كلام ابن سيده هنا صرح به السمين الحلبي في تفسيره فقال: «والبعير لغة يقع على الذكر خاصة، وأَطلقه بعضهم على الناقة أَيضًا وجعلهُ نظير إِنْسَان» <span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext"> الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، أَحمد بن يوسف بن عبد الدائم المعروف بالسمين الحلبي، تحقيق أَحمد محمد الخراط، دار القلم، دمشق 520:6.</span></span>.
وهذه الأَلفاظ التي تناقلتها كتب اللغة لا يزال بعضها حيًّا متداولًا في مجتمعات أَهل الإِبل والعارفين بها، بينما توارى بعضها أَو اندثر استعماله بالكليَّة، فمن الأَلفاظ شائعة الاستعمال اليوم «الإِبِل» وتنطق في أَكثر البيئات «الْبِل» بحذف الهمزة ويستعملون تصغيرها «أُبَيْلة» وينطق في أَكثر الأَحيان بإِبدال الهمزة المضمومة واوًا فيقال: «وبيلة»، ويستعملون التثنية إِذا أَرادوا الحديث عن قطيعين من الإِبل فيقولون «إبلين» ويستعملون ياء التثنية في كل أَحوال الكلمة لأَنَّ أَلف التثنية لم تعد مستعملة فيما نعلم من عامياتنا.
ومن الأَلفاظ الشائعة «جَمَل» وجمعه «جِمال» ويقصدون بهما الذكور خاصة ولا يطلقونهما على الأُنثى ولا على جنس الإِبل خلافًا لما يشيع خطأً في لغة كثير من الكُتَّاب والمثقفين الذين تتكرر على أَقلامهم وأَلسنتهم لفظتا «الجمال» و«الجمل» بمعنى الإِبل والناقة.
ومن الأَلفاظ شائعة الاستعمال «ناقة» وجمعها «نياق» وهو الأَكثر استعمالًا في مجتمعات أَهل الإِبل، ثم «نوق»، ورغم استعمالها في بعض بيئات أَهل الإِبل إِلا أَنَّ شيوعها الأَكبر في اللغة الرسمية والكتابية.
ومن الجموع المستعملة التي لم أَجدها في كتب اللغة جمعا القِلَّة «نوقات» و«نويقات» والأَخيرة منهما على التصغير وهي جمع «نويقة» <span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext"> جاءت في شعر الفصحاء، انظر في ذلك المحكم والمحيط الأَعظم 478:10.</span></span>تصغير «ناقة».
ثم نجد لفظتي «بعير» و«أَباعر» وهما شائعتا الاستعمال، وليست الثانية في استعمالهم جمعًا للأُولى، وهذا يوافق من بعض أَوجهه ما نقله صاحب اللسان من أَنَّ «أَباعر» ليست جمعًا لـ«بعير»، «قال ابن بَرِّيٍّ: أَباعر جمع أَبْعِرة، وأَبْعِرَةٌ جمع بَعير، وأَباعر جمع الجمع، وليس جمعًا لبَعير» <span class="tooltip">(11)<span class="tooltiptext"> لسان العرب، محمد بن مكرم ابن منظور الإِفريقي، تحقيق اليازجي وآخرين، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة 1414هـ 71:4.</span></span>.
وأَمَّا «بعير» اليوم في أَوساط أَهل الإِبل فلا تكاد تستعمل إِلَّا بمعنى الذكر (الجمل) خاصة، وهذا يتوافق مع ما نقله السمين الحلبي فيما أَسلفنا. وجمع «بعير» السائر اليوم «بَعارِيْن».
أَمَّا «أَباعر» فتستعمل اليوم موافقة استعمالها في لغة الفصحاء، فتطلق على عموم جنس الإِبل غير مختصة بالذكور دون الإِناث ولا بالإِناث دون الذكور ومن الإِيغال في مطابقة معناها اليوم لمعنى «إِبِل» فقد رأَينا مستعمليها يقولون: «أَبَاعِرَيْن» إذا أَرادوا معنى «إِبِلَيْن» التي تعني قطيعين منفصلين من الإِبل.
لم يحظ في لغة العرب حيوان ولا جماد بأَلفاظ مثل التي حظيت بها الإِبل، ولم يهتم العلماء بشيء اهتمامهم بمفردات الإِبل «فقد أَدرك علماء العربية القدامى منذ القرن الثاني الهجري شيوع الأَلفاظ المتَّصلة بالإِبل في لغة العرب وكثرتها فأَفردوا لها معاجم خاصة تعنى بشرح معانيها وتقريب مدلولاتها، وذكر منها ابن النديم في الفهرست في مواضع مختلفة ما يزيد عن العشرين لجماعة من العلماء كالأَصمعي، والنضر بن شميل، وأَبي عبيدة معمر بن المثنى، وأَبي زيد الأَنصاري، والكسائي، والرياشي، وأَبي حاتم السجستاني، وابن قتيبة، وابن حبيب، والقالي، وغيرهم» <span class="tooltip">(12)<span class="tooltiptext"> تعميم الدلالة في أَلفاظ الإِبل، د. عبد الرزاق بن فراج الصاعدي، الدارة مجلة فصلية محكمة تصدر عن دارة الملك عبد العزيز – الرياض- العدد الأَول- محرم 1418هـ -السنة الثالثة والعشرون- ص 99.</span></span>.
وبعض هذه الكتب في حكم المفقود اليوم إِلَّا أَنَّ محتواها منثور في معاجم اللغة الكبرى كالصحاح للجوهري، وجمهرة اللغة لابن دريد، وتهذيب اللغة للأَزهري، ولسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، وتاج العروس للزبيدي، وغيرها من المعاجم.
والذي ينظر في مجمل هذه الأَلفاظ يجد أَنَّ العربي كان يتتبع هذا الحيوان تتبعًا عجيبًا فيراقبه في جميع أَحواله، ويجعل لكل حال اسمًا أَو وصفًا خاصًّا، بل ربما تفنن في ذلك حتى جعل لبعض الأَحوال أَوصافًا متعددة مراعيًا في ذلك التغيّرات الجزئية التي لا يكاد يلحظها إِلَّا القليل.
«ونتيجة لهذه الكثرة المفرطة في الأَسماء والأَوصاف الخاصة بالإِبل نالت اللغة العربية ثراء واسعًا في أَلفاظها ومفرداتها وتعبيراتها، ولا شك أَن كثيرًا من المفردات إِنَّما وضعت في الأَصل أَسماء لأَشياء تتصل بالإِبل من قريب أَو بعيد ثم تطورت فأُطلقت على ما يخص الإِنسان في مختلف مواقف حياته، ولا شك أَنَّه كان للمجاز أَثر كبير في تحويل كثير من الكلمات من دلالاتها الحسيَّة إِلى دلالات معنويَّة» <span class="tooltip">(13)<span class="tooltiptext"> من أَلفاظ الإِبل قديمًا وحديثًا دراسة لغوية تاريخية، عبد الحكيم عبد الله غالب جهيلان، بحث ماجستير من جامعة أم القرى، ص 11 نقل بتصرف يسير.</span></span>.
ومن الأَمثلة على هذه الأَلفاظ:
وأَمثال هذه الأَلفاظ كثيرة في لغة العرب قديمًا وحديثًا <span class="tooltip">(15)<span class="tooltiptext"> انظر في هذا بحث د. عبد الرزاق الصاعدي «تعميم الدلالة في أَلفاظ الإِبل» الذي سبقت الإِشارة إِليه.</span></span>.
وكما أَثْرَت الإِبل معجم الأَلفاظ العربية أَسهمت كذلك في نشوء فنِّ العرب الأَوَّل فكثير من مؤرخي الأَدب يرون أَن المرحلة الأُولى للشعر العربي كانت الحداء وهو فنٌّ إِنشاديٌّ ارتبط في تاريخ العرب بالإِبل فقد اقترن الحداء الذي يتمثل في بحر الرجز بالإبل سواء في السَّفَر أو عند ورود المياه أَو أَثناء السقي، وقد كانت الإِبل تنشط لصوت الحادي عند الإِنشاد وقد عُرف حداة بأَصواتهم التي كانت تستثير الإِبل وتستحثها على السرعة ومنهم أَنْجَشَة حادي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبغض النظر عن محاكاة الحداء وبحر الرجز لحركة أَقدام الإِبل عند سيرها وهو ما يراه بعض المتقدمين ويفسر به اكتشاف بحر الرجز وبالتالي أَوليَّة الشعر العربي، وسواء أَأَخذنا بهذا الرأَي أَم لا؟ فذلك لا يغير حقيقة ارتباط الرجز والحداء بالإِبل.
من مظاهر إِثراء الإِبل للغة العرب وآدابها ما نجده في معاجم اللغة من أَلفاظ عديدة اندثر بعضها في استعمال الناس اليوم وبقي البعض الآخر حيًّا متداولًا يستعمله الصغير والكبير من أَهل الإِبل. ولعل من أَوضح هذه المظاهر كثرة الأَلفاظ المتعلقة بأَوصاف أَصوات الإِبل وضروب سيرها دون باقي الحيوانات مستأنسها ووحشها. ومع ما يقدمه هذا التعدد والكثرة للغة فإِنه يلفت النظر كذلك إِلى المساحة التي شغلتها الإِبل في تفكير العربي وحياته.
جاء في كتاب المنتخب من غريب كلام العرب: «يقال للبعير إذا بدأ يُصَوِّتُ فَصَوْتُهُ: البُغَامُ لأَنَّه يضغطه ولا يمده، وقد بَغَمَتِ الناقة تَبْغُمُ، فإذا ضَجَّتْ قيل: رَغَتْ تَرْغُو، فإذا طرَّبَتْ في أثر ولدها قيل: حَنَّتْ حَنِينًا، فإن مَدَّتْ حنينها قيل: سَجَرَتْ تَسْجُرُ سَجْرًا، فإن مدت الحنين على جهة واحدة قيل: سَجَعَتْ تَسْجَعُ سَجْعًا، وأدَّتْ تَؤُدُّ أَدًّا، وأَطَّتْ تَئِطُّ أَطًّا: إذا مدت صوتها مَدًّا، وإذا بلغ البعير الهدير فأوله: الكَشِيشُ وقد كَشَّ يَكِشُّ، فإن ارتفع قليلًا قيل: كَتَّ يَكِتُّ، فإن أفصح قيل: هَدَرَ يَهْدِرُ هَدِيرًا، فإن صَفَا صوته ورَجَّعَ قيل: قَرْقَرَ قَرْقَرَةً، فإن جعل يَهْدِرُ هَدِيرًا كأَنَّه يَعْصِرُهُ قيل: زَغَدَ يَزْغَدُ زَغْدًا، فإِن جعل كأَنَّه يَقْلَعُهُ قَلْعًا قيل: قَلَخَ يَقْلَخُ قَلْخًا وهو بعير قَلَّاخٌ» <span class="tooltip">(16)<span class="tooltiptext">المنتخب من غريب كلام العرب، علي بن الحسن الهُنائي الأَزدي الملقب بكراع النمل، تحقيق محمد بن أَحمد العمري، نشر جامعة أَم القرى ص 297.</span></span>.
والشائع في استعمال أَهل الإِبل اليوم مما تقدم الرُّغاء والحنين والهدير، ويضاف إِليها الإِرزام وهو مما نصًّت الكتب على فصاحته، قال الخليل: «ويقال: أَرزمت الناقة إِرزامًا، وهو صوتٌ تُخرِجه من حلقها، لا تفتح به فاها» <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext"> العين، الخليل بن أَحمد الفراهيدي، تحقيق مهدي المخزومي وإِبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال 365:7.</span></span>وهذا الصوت تصدره الناقة عندما تعطف لتَدُّر على ولدها.
ومن المسموع الذي قلَّ استعماله كثيرًا قولهم: بَغمت الناقة ويستعمل بنفس المعنى الذي ذكره أَهل اللغة تمامًا.
قال الثعالبي فيما نقله عن أَئمة اللغة في كتابه فقه اللغة تحت عنوان «ضروب سير الإِبل»: «التَّهوِيدُ السَّير الرَّفِيق عن الأصمعي. الملْخُ السَّير السَّهْل عن أَبي عمرو. الذَّمِيلُ السَّير اللَّيِّن. الحَوْز السَّير الرُّويد عن أَبي زيد. التَّطْفِيل أَن تكون معها أَولادها فيُرفَق بها حتى تُدْرِكها. الوَخَدَان أن ترمي بقوائمها كمشي النَّعام. التَّخْوِيد أن تهتزَّ كانَّها تضطرب. التَّعَمُّج التَّلوِّي في السَّير. الارْمِدَاد والارْقِدَاد سيرٌ في سهولة وسرعة. التَّبْغِيل والهَرْجَلَة مشي فيه اختلاط بين الهَمْلَجَة والعَنَق عن الفرّاء والكسائِي. العَجْرَفِيَّة أن لا تقصد في سيرها من النَّشاط. المَعْجُ أَن تسير في كلِّ وجهٍ نشاطًا. العِرَضْنَة الاعتراض في السَّير من النشاط. المَرْفوع السَّير المًرتفع عن الهَمْلجَة. المَوْضُوعُ سيرٌ كالرَّقَصَانِ. الهِرْبِذَى مِشْية تشبه مشي الهَرَابِذَة. الرَّتَكَان عدْوٌ كعدْو النَّعام. الجَمْز أَشدّ من العَنَق. الكَوْس مشي على ثلاث. المَلْع والمَزْع والإعْصَاف والإجمَار والنَّصّ السَّير الشَّديد».
ثم قال تحت عنوان «في ترتيب سير الإبل»: «عن النَّضْر بن شُمَيْل أَوَّلُ سير الإبل الدَّبِيب. ثمَّ التَّزَيُّد. ثمَّ الذَّمِيل. ثمَّ الرَّسِيم. ثمَّ الوَخْد. ثمَّ العَسِيج. ثمَّ الوَسِيج. ثمَّ الوَجِيف. ثمَّ الرَّتَكَان. ثمَّ الإجْمَار. ثمَّ الإرْقَال».
ثم قال: «عن الأصمعي العَنَق من السَّير المُسْبَطِرُّ. فإذا ارتفع عنه قليلًا فهو التَّزَيُّد. فإذا ارتفع عن ذلك فهو الذَّمِيل. فإذا ارتفع عن ذلك فهو الرَّسِيم. فإذا دَارَكَ المشيُ وفيه قَرْمَطَة فهو الحَفَد. فإذا ارتفع عن ذلك وضرب بقوائمه كلِّها فذاك الارْتِبَاع والالْتِبَاط. فإذا لم يدعْ جُهْدًا فذلك الادرنفاق» <span class="tooltip">(18)<span class="tooltiptext"> فقه اللغة وسر العربية، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي، تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي ص 139.</span></span>.
هذه التسميات إِلَّا ما ندر انقطع استعمالها وربما لم تكن جميعها مستعملة عند جميع العرب فقد يكون بعضها مستعملًا في بعض القبائل والبيئات والآخر في بيئات وقبائل أُخرى.
وإِذا نظرنا إِلى حال متأَخري العرب وجدنا أَلفاظًا كثيرة تشيع فيهم لهذه المعاني لم تذكر أَكثرها كتب اللغة؛ فمما يقوله العرب المتأَخرون في عَدْو نجائب الإِبل: شِلِيل وشَلَّة، ودِرْهَام ودَرْهَمة، وزِرْفال وزَرْفَلَة، وهُوْذال وإِهْذال، وإِقران، ورْثَعَان، ورْبَعَان، وسْبَحَان، وسْكَرَان، وهِجِيج، وتَسْرِيْب...
ويصفون مجموعات الإِبل في مشيها وعدوها فيقولون: جِهْجُول وجَهَاجِيل، وجُوْدال وجواديل، وزِعْجول وزعاجيل، وعِرْجود وعراجيد، وعرزيل وعرازيل، وجندوب وجناديب، وأَبُّوْد ووَبُّود، ومِقْطير... ولكل لفظ معناه ودلالته الخاصة؛ فالجهجول المجموعة التي تعدو مجتمعة متقاربة غير منتظمة، والجودال مشي الإِبل مجموعات متتابعة، والزعجول هو القطعة التي تعدو منفردة متقدمة عن المجموعة وعرزيل وعرازيل مثلها، والجناديب مجموعات الإِبل تسير سيرًا مستمرًا غير منقطع لمسافات طويلة، والعرجود مشي الإِبل أَو عدوها ممتدة كتلة واحدة ووصولها جميعًا في نفس الوقت ويكون انطلاقها من مكان قريب، والمقطير هو تتابع الإِبل ومشيها في خط مستقيم وتقاربها الشديد حتى كأَنَّ التالية مقطورة في التي أَمامها، والأَبُّود قصد قطيع الإِبل إِلى موضع واستمرارها على حال واحد من أَقصى السير لا تغيره حتى تبلغ غايتها فيقولون: جاءت أَبُّوْد.
وإذا نظرنا إِلى استعمالات العرب المتأَخرين لهذه الأَلفاظ، وراجعنا شواهدها من الشعر الشعبي وجدنا أَن العَدْو يتدرج بهذا الشكل: فأَوَّله الزِّرفال والهُوذال، ثم الشِّليل والدِّرهام، ثم الرّْبَعَان ويقال له أَيضًا الرّْثَعان وهو عدو شديد جدًّا ولكنه مجهد للراحلة لا تدوم عليه طويلًا حتى تدخل في السّْبَحَان ويقال له كذلك السّْكَران وهو آخر عدو الراحلة الذي تستمر عليه، أَمّا الهجيج فهو كل العدو، والتَّسْريب هو تراجع العدو وضعفه بعد الاستمرار.
ومن شواهد بعض هذه الأَوصاف من شعر متأَخري العرب هذه الأَبيات الشهيرة جدًّا التي تنسب للشاعر سعد بن صبيح العجمي وفيها الشَّلَّة والدِّرْهام:
يا هَل الهجنْ خوذوا بهنْ شَلَّه | اسْرَوا الليلْ واطرافْ الايَّامِ
كلّْ شيٍّ طراتهْ على حِلّه | بدِّلوا سيْرْ الانضا بدرهامِ
ومما جاء فيه ذكر الزِّرْفال، والدِّرْهام أَيضًا قول بديوي الوقداني في قصيدته الشهيرة:
منْ كلّْ عِمْلِّيّةٍ تقطعْ بْراكبْها | فدافدْ البِيْدْ دِرْهامٍ وزِرْفالِ
ومما جاء فيه الهُوذال، والزِّرْفال كذلك قول هزَّاع بن عبيَّد الغزيلي:
يا بِعدْ رِجْمٍ زِمى من دون مستوره | ما تاصلهْ عُوْصْ الانضا كُوْدْ زرفالِ
اللهْ على نِضْوةْ الحُوبى وابا ازوره | عِمْلِيِّةٍ تقطعْ الديرهْ بهُوذالِ
ومما جاء فيه الإِهذال والفعل يهذل قول محمد ابن لعبون:
يا راكبٍ من فوقْ زَينْ الدَّلالِ | مامونْ مع دَوْ الخلا يهذل اِهذالْ
ومما جاء فيه الهجيج قول سهل القوس:
يا فاطريْ هِجِّيْ هِجِيْجْ مجَرِّي | اَلِّيْ على عُوصْ النِّضا ما نام
ومثله قول سالم بن خرمان ال ضاعن العجمي:
يا فاطريْ لا لويتْ الوَرْكْ هِجِّيْ بي | هِجِّيْ هجيجْ القطا في يومْ هَيْفيَّهْ
ومما جاء فيه التسريب، وكذلك جاء الشليل وفعل الأَمر منه قول عوض بن بادي الغنَّامي:
شِلِّيْ شليلٍ وفي تاليهْ تسريبِ | تسريبْ عروىً وَلَدْهَا تلتفتْ يَمِّه
ومما جاء فيه الإِقران قول شليويح العطاوي:
يا راكبْ اَلِّي كانِّه الهِيْقْ ذاير | واليا عطى دَوْ الخَلا يِقْرِنْ اِقْران
وهناك أَوصاف أُخرى جاءت في شعر الفصحاء وذُكِر بعضُها في كتب الأَوائل، وجاء غيرها في شعر متأَخري العرب لم نذكرها بغية الاختصار واكتفاء بما نظنُّه الأَشهر.
إِنَّ من مجمل ما حثنا القرآن المجيد على التفكر فيه والنظر في كيفية خلقه الإِبل، فقال سبحانه: ﴿أَفَلا يَنظُرونَ إِلَى الإِبِلِ كَيفَ خُلِقَت﴾ [الغاشية: ١٧] وهذا التوجيه الربَّاني حريٌّ أَن يبعث همم أَهل العلم من المسلمين خاصة، ثم الشغوفين بالمعرفة والاكتشاف من غيرهم فلقد رأَينا في بعض الدراسات الحديثة – رغم قلتها – ما يحفز على تكرار النظر والبحث في بديع صنع الله في هذا الحيوان.
فالناظر إِلى ما اكتشفه العلماء في العصر الحديث من أَسرار وظيفية لأَعضاء جسد البعير يعلم أَنَّ ما عَلِمه السابقون لم يكن إِلَّا ظاهر العَجَب. فالحديث عن ضخامة جسم البعير وصفة خلقته من طول الرقبة التي يتناول بها أَوراق الشجر التي يزيد ارتفاعها عنه أَكثر من المتر، وخفضها إِلى ما دون مستوى يديه ورجليه، أَو صفة أَخفافه المنبسطة المرنة التي خلقها الله بهذه الصفة حتى لا تغوص في رمال الصحراء؛ وحتى تساعده كذلك على المشي في الأَرض غير المستوية فتحفظ توازنه، أَو طول صبره عن شرب الماء وبقائه أَيامًا وأَسابيع من غير شرب، أَو قدرته على أَكل أَوراق الشجر بالأَشواك الجارحة التي لا يكاد يأكلها غيره، أَو قدرته العجيبة على تحمل حرارة الشمس والأَرض في شدة القيظ، وتحمل برد الشتاء في أَكثر شهور السنة برودة، وتعايشه مع تقلبات الطقس على مدار العام؛ حتى لا يكاد يُرى فارق بين عيشه في غاية البرودة أَو غاية الحرارة إلَّا في شربه للماء فقط الذي يزيد قيظًا ويقل وينعدم شتاء. كل هذا الحديث وغيره يخفت ضوء عجبه إِذا رأَينا ما توصلت له بعض الدراسات التي بحثت في أَسرار هذا الخلق للإِبل فعللت بعضًا من هذه الخصائص وحاولت تفسيرها لتكشف لنا عن خصائص أُخرى أَدَقّ وأَعجب، وأَدعى لمزيد من التفكر في جلال خلق الله لهذا الحيوان.
وسنلخص هنا شيئًا مما توصلت إليه بعض الدراسات العلمية الحديثة <span class="tooltip">(20)<span class="tooltiptext">نقل بتصرف عن كتابَيْ: الإِبل العربية نظرة في إِعجاز خلقها وجمال أَخلاقها، تأليف د. مصطفى فايز وهدى الله حاتم ص 17، والثقافة التقليدية للمملكة العربية السعودية، دار الدائرة للنشر والتوثيق، الطبعة الأُولى 1420هـ. 2000م 105:6.</span></span>من خصائص تفردت بها الإِبل يمكن أَن تفسر بعض ما لاحظه الناس من صبر الإِبل وتحملها وتكيفها مع المناخ الصحرواي:
وإِذا أَضفنا ما تقدم إِلى ما رأَيناه من تركيب بعض أَجزاء الإِبل الخارجية كتركيب عيونها المحمية بجفن ثالث، ورموش طويلة كثيفة تقيها الغبار، ووهج الشمس وضوءها، وكتركيب أُنوفها التي تستطيع إِغلاقها عن الغبار مع وجود تجاويف كيسية ترطب الهواء المستنشق، وتبرد الهواء الخارج عند الزفير؛ لتكثيف بخار الماء الموجود فيه والاستفادة منه، وكشفاهها المشقوقة التي تساعدها على التقاط النباتات، وأَفواهها المبطنة بطبقة سميكة لتستطيع أَكل الأَشواك، وكوبرها الذي يحميها من شدة البرد ويتساقط في الصيف مع بداية حرارة الجو مضافًا إِلى خصائصها السلوكية كشربها الكثيف للماء إِذا وجدته لتعويض السوائل، وتوزعها في مساحات فسيحة للرعي، وحرصها على الرعي في الأَوقات التي لا تتعرض فيها لحرارة الشمس كالصباح الباكر ووقت غروب الشمس وأَوَّل الليل.
كل هذا وغيره الكثير مما تركنا وربما الكثير مما لم يكتشف بعد، يدل دلالة واضحة على أَنَّ الله قد وهب الإِبل القدرة العجيبة التامة لتتأَقلم وتتكيف مع حياة الصحراء القاحلة شحيحة الموارد التي يصعب العيش فيها حتى على الإِنسان الذي وهبه الله الحيلة لتطويع ما خلقه سبحانه وأَوجده من مقدرات مهما قلَّت.
الإِبل عند العرب لا تقتنى إِلَّا لإِحدى غايتين: إِمَّا الركوب وإِمَّا الحلب، والفرق بين المركوب والمحلوب كبير من حيث الصفات الخَلْقِيَّة ومن حيث القيمة والكثرة، فالركوبة قليلة العدد متعددة الأَغراض، ومنها ما هو مرتفع الثمن إِذا ما وازنَّاه بغيره من الإِبل حتى من المركوب، وفي الحديث «تجدون الناس كإِبل مائة لا يجد الرجل فيها راحلة» <span class="tooltip">(21)<span class="tooltiptext">صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه 1374هـ. 1955م 1973:4.</span></span>وفي هذا إِشارة إلى ندرة الرواحل وقلتها.
والركوبة من الإِبل تنقسم إِلى ما يركبه الرجال في غزوهم وسفرهم وهي النجائب (الهجن)، وما يركبه رعاة الإِبل عند تنقلهم في المراعي وورود المياه، وهذان القسمان يكونان في الغالب من إِناث الإِبل؛ لأَنَّهنَّ أَسرع استجابة وأَخف حركة.
أَمَّا ما تركبه النساء عند الظعن وتوضع عليه مراكبهن من الهوادج وغيرها، أَو ما يكون مخصصًا للأَحمال فيكونان عادة من ذكور الإِبل؛ لأَنَّها أَكثر احتمالًا وأَهدأ أَثناء السير وأَثقل خطوة، فيكون الأَمان على المحمول عليها من السقوط أَكبر، وجمال الأَحمال خاصة سواء ما كان مُعدًّا منها لحمل بيوت الشعر والأَثاث والأَطفال عند الارتحال من موضع إِلى موضع، أَو ما تجلب عليه الأَطعمة من تمر وبُرٍّ وغيرها من القرى لا تكون عادة إِلَّا من الجمال القوية الصلبة الشديدة، وهي التي يُسمِّيها العرب قديمًا الزوامل وواحدتها زاملة، ويُسمِّيها متأَخرو العرب الزَّمْل وربما جمعوها فقالوا: زْمُول.
ومما يلحق بالمركوب الإِبل التي تستخدم لسُقيا الزرع، وتسمِّيها العرب قديمًا نواضح وواحدها ناضح، وتسمِّيها سَواني والواحد سَانِيَة، والأَخير منهما ما يزال مستعملًا إِلى اليوم، ومن المستعمل كذلك معيد وتجمع معاويد، ولهذا الاستعمال أَصل فصيح أَيضًا.
أَمَّا القسم الثاني من الإِبل: فهي التي تُقْتَنى للحلب، وهذه هي الأَكثر، وهي ما يطلق عليه العرب اسم الإِبل أَصالة؛ فإِذا قالت العرب: فلان ذاهب مع الإِبل، أَو اشتريت إِبلًا، فهم يعنون إِبل الاقتناء هذه؛ حتى وإِن كان بينها بعض النجائب أَو جمال الأَحمال أَمَّا إِذا تحدثوا عن النجائب (الهجن)، أَو جمال الأَحمال مُستقِلَّة فإِنَّهم يقولون مثلًا: أَطلقوا الركائب، وردوا الركائب، أَو أَنا ذاهب إِلى الهجن، إِذا كانوا يعنون الأُولى، وجاء القوم يسوقون جمالهم، أَو ردوا الجمال، إِذا كانوا يعنون الثانية، ولا يقولون في مثل هذه الحال ردوا الإِبل أَو جاءوا يسوقون إِبلهم وهم يعنون الهجن خاصة أَو الجمال خاصة.
كان اهتمام العرب بأُصول الإِبل مُنصبًّا على النجائب (الهجن) <span class="tooltip">(22)<span class="tooltiptext"> انظر (أَنساب الإِبل عند العرب بين السِّمة والسُّلالة)، تركي الغنَّامي، مجلة الجمعية السعودية لدراسات الإِبل الصادرة عن جامعة الملك سعود العدد الأَول 2019/1440 ص 99.</span></span> ؛ لما بينَّاه من ارتفاع ثمنها وقلتها مضافًا إِلى أَنَّها وسيلتهم الأُولى في السفر وفي الغزو وللعرب تفنن في الإِشارة إِلى أُصول النجائب فربما نسبوا حينًا إِلى الموضع الذي تعود إِليه أُصول النَّجيبة، وربما نسبوا إِلى القبيلة التي تعود إِليها ملكيَّة أَوَّل فحول هذه السلالة، وربما نسبوا إِلى اسم الفحل مباشرة إِذا كان الفحل مسمًّى.
عُمانِيَّةٌ مَهرِيَّةٌ دَوسَرِيَّةٌ | عَلى ظَهرِها لِلحِلسِ وَالكورِ مَحمَلُ <span class="tooltip">(23)<span class="tooltiptext"> ديوان ذي الرُّمَّة بشرح أَبي نصر الباهلي ورواية ثعلب، تحقيق عبد القدوس أَبو صالح، مؤسسة الإِيمان، بيروت، الطبعة الأُولى 1982م – 1402هـ 1603:3.</span></span>
إِذًا لمَطَوتُ النِّسعَ في دَفِّ حُرَّةٍ | يَمانِيَّةٍ تَطوي البِلادَ الفَيافِيا <span class="tooltip">(24)<span class="tooltiptext"> نفسه 1317:2.</span></span>
قَطَرِيَّةٌ وَخِلالُها مَهرِيَّةٌ | مِن عِندِ ذاتِ سَوالِفٍ غُلْبِ
خوصٌ نَواهِزُ بِالسُّدُوسِ إِذا | ضَمَّ الحُداةُ جَوانِبَ الرَكْبِ <span class="tooltip">(25)<span class="tooltiptext"> ديوان الراعي النميري، جمعه وحققه راينهرت فايبرت، دار النشر فرانتس شتاينر بفيسبادن، بيروت 1401هـ ص 8.</span></span>
وفي جمعها قال جرير:
لَدَى قَطَرِيَّاتٍ <span class="tooltip">(26)<span class="tooltiptext"> قال الأَزهري: «أَراد بالقطريات: نجائب نسبها إِلى قطر، لأَنَّه كان بها سوق في قديم الدهر» تهذيب اللغة 7:9 .</span></span> إذَا مَا تَغَوَّلَتْ | بِها البِيْدُ غَاوَلْنَ الحُزُومَ القَيَاقِيَا <span class="tooltip">(27)<span class="tooltiptext"> ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب، تحقيق د. نعمان محمد أَمين طه، دار المعارف، الطبعة الثالثة 78 .</span></span>
زَجَرتُ عَلَيهِ حُرَّةً أَرحَبِيَّةً | وَقَد كانَ لَونُ اللَيلِ مِثلَ اليَرَندَجِ <span class="tooltip">(28)<span class="tooltiptext"> ديوان زهير بن أَبي سلمى شرحه وعلق عليه علي حسن فاعور، دار الكتب العلمية، ص33 .</span></span>
فَقُمتُ إِلى مَهريَّةٍ <span class="tooltip">(29)<span class="tooltiptext"> ضبط في الديوان بالضم ولعله سبق طباعة.</span></span> قد تعوَّدَت | يداها ورجلاها خبيبَ المواكبِ <span class="tooltip">(30)<span class="tooltiptext"> ديوان القطامي، تحقيق إِبراهيم السامرائي وأَحمد مطلوب، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الأُولى 1960م ص 48.</span></span>
نَجائِبَ مِن نِتاجِ بَني غُريرٍ | طِوالَ السَمكِ مُفرِعَةً نِبالا <span class="tooltip">(31)<span class="tooltiptext"> ديوان ذي الرُّمَّة 1525:3.</span></span>
قَطَعتُ عَلى عَيرانَةٍ حِميَرِيَّةٍ | كُمَيتٍ يَئِطُّ النِّسعُ مِن صُعَدائِها <span class="tooltip">(32)<span class="tooltiptext"> شرح ديوان الفرزدق، ضبط معانيه وشروحه وأَكملها إيليا الحاوي، منشورات دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأُولى 1983م ص 18.</span></span>
سَلامِيَّةٌ كَالجِنِّ أَو أَرحَبِيَّةٌ | عَلائِفُ أَمثالُ السَّمامِ هِجانُ <span class="tooltip">(33)<span class="tooltiptext"> شرح ديوان عمر ابن أَبي ربيعة لمحيي الدين محمد عبد الحميد، مطبعة السعادة، الطبعة الأُولى 1371هـ، ص 254.</span></span>
وَلَقَد أَقطَعُ السَباسِبَ وَالشُهــ | ـبَ عَلى الصَيعَرِيَّةِ الشِّملالِ <span class="tooltip">(34)<span class="tooltiptext"> ديوان عبيد بن الأَبرص، تحقيق وشرح حسين نصار، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأَولاده بمصر، الطبعة الأُولى 1377هـ. 1957م ص 110.</span></span>
غُرَيرِيَّةٍ كالقُلْبِ أو حَوشَكِيَّةٍ | سِنَادٍ تَرَى في مِرْفَقَيْهَا تَجافِيا <span class="tooltip">(35)<span class="tooltiptext"> ديوان ذي الرُّمَّة 1317:2 وما بعدها.</span></span>
نُجِدُّ لَكَ القَولَ الحَلِيَّ وَنَمتَطي | إِلَيكَ بَناتِ الصَيعَرِيِّ وَشَدقَمِ <span class="tooltip">(40)<span class="tooltiptext"> ديوان كثير عزة جمعه وشرحه د. إِحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، ص 300.</span></span>
صُهْبًا أَبُوها داعِرٌ وبُحْتُرُ | تَحْدُو سُرَاهَا أَرجُلٌ لَا تَفْتُرُ <span class="tooltip">(41)<span class="tooltiptext"> ديوان ذي الرُّمَّة 318:1.</span></span>
كفَحل الهِجان الماطلِيِّ المُرَفّلِ <span class="tooltip">(45)<span class="tooltiptext"> تهذيب اللغة 244:13.</span></span>
وَلَمّا بَلَغنا الجَهدَ مِن ماجِداتِها | وَبَيَّنَ مِن أَنسابِهِنَّ شَجيرُها
تَجَرَّدَ مِنها كُلُّ صَهباءَ حُرَّةٍ | لِعَوهَجَ أَو لِلداعِرِيَّ عَصيرُها <span class="tooltip">(46)<span class="tooltiptext"> ديوانه 409.</span></span>
شُمَّ الكَواهِلِ جُنَّحًا أَعضادُها | كانَت نَجائِبَ مُنذِرٍ وَمُحَرِّقٍ
صُهبًا تُناسِبُ شَدقَمًا وَجَديلا | أُمّاتُهُنَّ وَطَرقُهُنَّ فَحيلا <span class="tooltip">(48)<span class="tooltiptext"> ديوانه 216.</span></span>
ومن أَشهر النجائب على الإِطلاق التي تتكرر كثيرًا في شعر العرب الأَوائل والمتأَخرين العِيدِيَّة والاختلاف فيها كبير جدًّا فبينما يراها بعض العلماء المتقدمين منسوبة إِلى فحل اسمه عيد يراها آخرون منسوبة إِلى قبيلة من مَهرَة من سكان الشحر بين عُمان وعدن يقال لهم بنو العيد بن الندغي ويرى آخرون أَنَّها منسوبة إِلى قبيلة أُخرى هم بنو عيد بن الآمري ويرى غيرهم أَنَّها منسوبة إِلى عاد على غير قياس ويجزم بعض العلماء أَنَّه يعرفها من الإِبل العُقيليَّة، ولكنَّه يصرح بعدم معرفته إِلى أَي شيء نُسبت <span class="tooltip">(53)<span class="tooltiptext"> تهذيب اللغة 85:3.</span></span> ويراها بعض المتأَخرين منسوبة إِلى قبيلة من كلب بن وبرة في شمال جزيرة العرب <span class="tooltip">(54)<span class="tooltiptext"> الثقافة التقليدية للمملكة العربية السعودية 62:6.</span></span>.
أَمَّا الذي يرى تكرارها في استعمال العرب المتأَخرين خاصة يجدها ترد عندهم وصفًا لا اسمًا فهي تأتي بمعنى الأَصائل من الهجن فقط وهذا الاستعمال له ما يعضده في بعض شعر العرب الأَوائل أَيضًا.
وهناك نجائب أُخرى في كتب الأَوائل منسوبة ولا يخلو الحديث عن نسبها من تهويل إِمَّا بنسبتها إِلى الجن، أَو أَنَّها من بقايا إِبل عاد وثمود، أَو أَنَّها بشعة المنظر قبيحته ومن ذلك الحوشيَّة والبَهونيَّة، وإِبل الوحش...
وبعض ما تقدم من الأَسماء لم ينقطع استعماله في جزيرة العرب إِلى اليوم ومن ذلك:
يا راكـبٍ مـِنْ فـوقْ بنـتْ العمانـي | حَوْلْ الرّباعْ وتَـوْ مـا شَقَّـت النَّـاب
فيهـا مـن العَيـرات وَقْـمْ الثَّمانِ | محفوظـةْ الميـلادْ تاريـخْ وضْـراب
بالـشَّـدّْ لا تـَرْغِـيْ ولا مِضْبَحَـانـي | مثلْ الهنوفْ الْيَا اسْتَحَتْ عنـدْ خَطَّـاب
والصَّيعـــريَّـةْ للعصـا مــا تـدانــــي | ولا هيْ من الِّـي يَشْعبونـه بمشعـاب
وَهَل تَقطَعَنَّ الخَرقَ بي عَيدَهِيَّةٌ | نَجاةٌ مِنَ العَيدِيِّ تَمرَحُ لِلزَجرِ <span class="tooltip">(55)<span class="tooltiptext"> منتهى الطلب من أَشعار العرب، محمد بن المبارك بن محمد بن ميمون، تحقيق د. محمد نبيل طريفي، دار صادر، بيروت، الطبعة الأُولى 1432هـ. 2011م 249:3.</span></span>
فهي من العيدي أَمَّا العيدهيَّة فوصف. ومن استعمالها بهذا المعنى قول عبد المعين بن عقل ابن ثعلي وقد استعمل أَيضًا صيعريَّات مشيرًا إِلى السلالة:
يا راكبٍ منْ عندنا فوقْ عَيرات | حرايرٍ بوروكهنّْ انْهِزاعه
فِجّْ الزّغونْ وكلهنْ صيعريَّات | ومْرَمَلاتْ عن الحوارْ ورضاعه
يَنْصَنّْ مَنْصَى ضُمَّرْ العيدهـــيَّات | راع القديمهْ والشَّرَفْ والرّفاعه
يا هَلْ العيدي عليكم مَشْرهِيَّة | اركبوني يا هَلْ الجيش الأصايل
وقد اختفت أَسماء كثير من الفحول النجبية فلم تعد النجائب المنسوبة لتلك الفحول معروفة فلا يعرف اليوم اسم شدقم ولا داعر ولا جديل ولا عصفور... ولكن برز في العصور المتأَخرة فحول شهيرة نسبت إِليها النجائب مثل:
ذيب يا الِّـي تجرّ الصوت جيعانِ | جَتْكْ الارزاقْ جَرّك للعوا خَلّه
جرّ صوتكْ لذيبْ اَكبادْ وهدانِ | والوعدْ مركزْ البيرق ليا فَلّه
في ضحى الكونْ دَوّرْنيْ وتلقاني | في ذرى بيرقٍ ريمات يبرن لّه
ولم أَجد -فيما اطلعت عليه من المراجع- ذكرًا لهذا الفحل المنجب رغم شهرته في الأَخبار والأَشعار، ومن وروده في الشعر قول فاضي بن ساير الغنَّامي:
ألا يا راكبْ الِّـيْ كنْ رَكَّابهْ على زَلِّ | هميمٍ يقطع الجِيَّان يمْسِ الفَنْتَق الخالي
هميمٍ من حرارْ الشامْ جايٍ من هتيم العام | ولد ريمانْ من ريمانْ حتى جَدِّهْ التالي
يا راكبْ أَربعْ حيلْ منْ سِرّْ جروان | أَصايلٍ من قاطعاتْ الرّهادِ
منْ طيِّبَاتْ الهجنْ زيناتْ الأَلوان | يُعْنا لأبوهنْ في ليالْ الهدادِ
من ساسْ شقرا يا بَرازْ مسيّسهْ | شقرا ومِركيها على شقرانِ
هجنٍ عراميسٍ خَواتٍ ولايف | بناتْ الأَرقبْ وأُمّهِنْ بنتْ شَقْران
وإِجمالًا فأَسماء الفحول التي نسبت إِليها النجائب كثيرة يصعب حصرها وربما شاعت بعض الأَسماء لدى قبيلة ولم تشع عند أُخرى، وقد يشيع أَسماء أُخرى عند أَكثر من قبيلة بسبب انتقالها إِليهم بالشراء أَو الإِهداء، أَو أَحيانًا بالكسب عن طريق الغزو والغارات التي كانت سائدة بين القبائل.
والنجائب الأَصيلة المشهورة: عُمانيات وحرائر، وموطن العمانيات جنوب شرق جزيرة العرب. أَمَّا الحرائر فالشهرة لحرائر شمال الجزيرة وتكثر حرائر الشمال مع قبائل الشرارت، وبني عطية، والحويطات؛ حتى لربما نسبت إِليهم نسبًا مباشرًا فوصفوا النجيبة بأَنَّها شراريَّة كقول موهق بن عجاج:
تكفى يا ابنْ زيدْ أَبا حمرًا شراريَّة | عطاكْ الاوّلْ وصلْ واَبا العطا الثاني
أَو وصفوا النجيبة بأَنَّها بنت الحويطي كقول حيَّاد بن نقي الغنَّامي:
ما يُوصلِهْ كُودْ سِمْرَاعٍ منْ الجيش | بنتْ الحويطيْ وسِرّْ الباطنيَّه
والباطنية من النجائب العُمانية المنسوبة إِلى منطقة الباطنة من عُمان ولها صفات أَخص من مطلق العُمانيات.
ومن النجائب الشهيرة عند متأَخري العرب التيهيات وواحدتها تِيهيَّة وقيل إِنَّها منسوبة إِلى وادي التيه في سيناء بينما يذكر بعض العلماء أَنَّ أُصولها من السودان <span class="tooltip">(58)<span class="tooltiptext"> خطط الشام ، محمد كرد علي، مكتبة النوري، دمشق 188:4. </span></span>، وهي سلالة مهجنة تعد من أَجود النجائب.
كل ما قدمناه هنا متعلق بأُصول النجائب التي تُركب عند السفر والمغازي وهي قليلة جدًّا، وباهظة الثمن موازنة بعامة الإِبل التي يقتنيها العرب وغرضهم الأَوَّل أَلبانها. وحلائب الإِبل لم يكن أَمر تسلسلها النَّسَبي منظورًا إِليه كما هو اليوم وإِنَّما كانت تنسب إِلى مالكيها بما عليها من الوسوم التي تشير إِلى أَهلها فيقال: إِبل عَبسيَّة، وإِبِل كلابيَّة...إلى غير ذلك، ومنه قول مسافر العبسي:
عبسيَّة لم ترعْ طَلْحًا مُجْعَما | وَلم تواضعْ عُرفُطا وسَلَما
لَكِنْ رَعَينَ الحزمَ حَيْثُ ادلَهما | بقلاً تعاشيب ونَورًا تَوْأَما <span class="tooltip">(59)<span class="tooltiptext"> تهذيب اللغة 222:3.</span></span>
وهذا ما استمر عليه العرب إِلى عهد قريب ومن شعر متأَخري العرب قول مقبول بن السندي العطاوي ناسبًا الإِبل نسبًا مباشرًا إِلى الوسم الذي وسمت به:
نجعناه باذوادٍ تدوسْ الوسومْ اَجهال | عليها المطارقْ وَسْمْ أَهلها عَطَاويَّة
ولم يظهر الاهتمام الكبير بأَنساب إِبل الاقتناء إِلَّا حديثًا بعد أَن ارتفعت أَثمان بعضها وتجاوزت بمراحل بعيدة النجائبَ التي لم يعد لها وظيفة إِلَّا المشاركة في رياضة سباقات الهجن.
وضع العرب للإِبل أَسماء حسب أَعمارها، وحسب مراحلها العمرية، فهناك اصطلاحات للحساب بالسنة، واصطلاحات أُخرى لتوصيف المرحلة العمرية فإذا تجاوزنا الفروق اليسيرة بين ما في كتب الأَوائل وبين الشائع في بيئات الإِبل في جزيرة العرب فإِنَّ العرب إِذا قالوا: جِلَّة الإِبل أَو مَسَانّها عُلِم أَنَّها من الثَّنيِّ والثَّنِيَّة فما فوق، وإذا قالوا: دِّقَّة <span class="tooltip">(60)<span class="tooltiptext">ضبطت في معاجم اللغة الدُّقة بضم الدال بمعنى صغار الإِبل، ونص الزبيدي في تاج العروس على ضمها 301:25 ، أَمَّا في لغة أَهل الإِبل والناس اليوم فهي بالكسر، وكسرها يتوافق مع المقابلة بين دِق وجِل، كقول العرب المنقول في معاجم اللغة: ما له دِق ولا جِل، بالكسر، و«دِّقَّة» هنا ضد «جِلَّة».</span></span>الإِبل أَو حَشْوها فهي ما دون الثَّنيِّ والثَّنيَّة إِلى المفرود <span class="tooltip">(61)<span class="tooltiptext"> ربما أَطلقوا القعود والبكرة على المولود حديثًا، فسأَلوا من ولدت ناقته: هل جاءت ناقتك بقعود أَم بكرة.</span></span>، ثم يفرقون بين الذكور والإِناث، فذكور الحشو قعدان وقعادين وواحدها قعود، والإِناث بكار وبكرات وواحدتها بكرة، أَمَّا إذا أَثْنَيا فالذكر جمل، والأُنثى ناقة وإِذا كبُرا وشاخا فالذكر هِرْش والأُنثى فاطر.
أَمَّا التسميات المرتبطة بعدد السنين أَو بسقوط الأَسنان فلا فرق بين الذكور والإِناث إلا بأَداة التأنيث، ونبدأَ بِعَدِّ المرتبط بالسنين سنة بسنة:
ثم يبدأ بعد الإِجذاع العد بسقوط الأَسنان:
ومع نهاية الإِسداس ينتهي العد بسقوط الأَسنان ويبدأ العد بفَطر الناب وانفطار الجلد عنه والعرب المتأَخرون يقولون لما بعد السديس:
« وبعد ذلك يشق الأَسيود وهو ناب صغير حالك السواد عند ظهوره، وبعد ذلك يبدأ يتحول إلى اللون الأَشقر، فيستدل بذلك اللون على أَنَّ البعير قد بلغ منتصف العمر تقريبًا. ثم يبدأ ينمسح هذا اللون الأَسود ويتحول هذا السن الأَسود إِلى اللون الأَبيض، ويعني ذلك أَنَّه بدأ في الكبر والتهرش» <span class="tooltip">(62)<span class="tooltiptext"> الإِبل، علي بن محمد الحبرتي ص 56.</span></span>.
ويسمُّون الأُنثى بعد ظهور الناب فاطرًا، ويتكرر هذا كثيرًا في شعر العرب المتأَخرين خاصة في وصف النجائب أَو مخاطبتها أَمَّا الذكر فيقولون: شاقّ الناب وربما قالوا باقِل أَيضًا.
أَمَّا كلام المتقدمين عن مرحلة ما بعد السديس فمنه ما جاء عند الثعالبي: «فإذا كان في التاسعة وفطر نابه فهو بازل. فإذا كان في العاشرة فهو مخلف. ثم مخلف عام. ثم مخلف عامين فصاعدًا. فإذا كاد يهرم وفيه بقية فهو عَود. فإذا ارتفع عن ذلك فهو قحْر. فإِذا انكسرت أَنيابه فهو ثِلْب. فإذا ارتفع عن ذلك فهو ماجٌّ لأَنَّه يمج ريقه ولا يستطيع أَن يحبسه من الكبر. فإِذا استحكم هرمه فهو كحكح» <span class="tooltip">(63)<span class="tooltiptext"> فقه اللغة وسر العربية للثعالبي80.</span></span>.
اندثر استعمال بعض الأَلوان للإِبل وبقي في الماضي ولم يعد مستعملًا، وتغيرت إِطلاقات بعض الأَلوان عن الذي نجده في تراثنا المكتوب فمن الأَلوان المندثرة: جمل أَورق وناقة ورقاء، وأَعيس وعيساء وأَكلف وكلفاء وآدم وأَدماء وأَرمك ورمكاء وجَوْن وجَوْنة وهِجان وكُميت.
ومن أَسماء الأَلوان التي توارثها أَهل الإِبل ووجدناها عندهم تعني لونًا غير الذي وصفه أَئمة اللغة الأَصفر؛ فهو في كتب اللغة البعير شديد السواد الذي اصفرَّت أُذناه ومحاجره وآباطه وأَرفاغه، وهو عند أَهل الإِبل اليوم ما كان أَصفر خالصًا أَو أَصل لونه الصفرة وإِن داخله بعض اللون الداكن.
ومثله الأَصهب الذي جاء عند العلماء المتقدمين أَنَّه البعير الأَبيض الذي يخالط بياضه حمرة بينما الأَصهب من الإِبل عند العرب المتأَخرين يطلق على الأَقل سوادًا من فئة الإِبل المجاهيم (السود) ويكون في لونه حمرة لا تلاحظ إِلَّا عند الاقتراب.
ونجد اللون الأَدهم معدودًا في كتب التراث من درجات أَلوان السواد بينما الشائع في مجتمعات أَهل الإِبل أَنَّه من درجات أَلوان الحُمْرَة، ويقابله من أَلوانها ما يسمِّيه علماء اللغة الأَكلف.
ولذلك سنقتصر على أَسماء الأَلوان الشائعة التي توارثها أَهل الإِبل واستقر عليها أَمر أَكثر الناس منذ عدة قرون مؤكدين أَنَّ هذه الأَزمنة التي جعلت أَسماء تختفي وأُخرى تتغيَّر أَوجدت أَيضًا كثيرًا من أَسماء الأَلوان الجديدة التي لا ندري متى ولدت؟ وأَين نشأَت؟ لكننا نعلم من واقعنا الذي نشاهده أَنَّها نشأَت في بيئات مختلفة في جزيرة العرب وكُتِبَ لبعضها الشيوع وبقي بعضها في بيئته الأُولى لم يتجاوزها إِلَّا يسيرًا.
ولا يمكن لنا الحديث عن الأَلوان قبل الإِشارة إِلى أَن الإِبل أَصبحت بعد مهرجانات المزاين تنقسم في صفاتها الجسدية إِلى ضربين رئيسين وهما: الإِبل السود وهي إِبل الجزء الجنوبي من صحراء جزيرة العرب الذي يمتد من سهول شرق الحجاز مرورًا بوسط وجنوب نجد ووادي الدواسر، ثم جزء من الدهناء وجميع الربع الخالي والمناطق الداخلية للمنطقة الشرقية والأَصل فيها أَنَّها أَكبر أَجسامًا وأَضخم، وأَحَدُّ آذانًا وأَقوم، وأَعرض أَخفافًا وأَطول أَذيالًا. ثم الإِبل غير السود وهي متعددة الأَلوان وهي إِبل وسط وشمال نجد إِلى أَقاصي شمال وشمال شرق جزيرة العرب والأَصل فيها أَنَّها أَصغر أَجسامًا، وأَصغر آذانًا مع ارتخاء، وأَصغر أَخفافًا، وأَقصر أَذيالًا.
وجرى عرف الناس أَنَّهم يقسمون الإِبل باعتبار اللون إِلى مجاهيم وواحدتها مجهم وهي السود، ومغاتير وواحدتها مغتر وهي البيض، ثم شعل وواحدتها شعلاء، وصفر وواحدتها صفراء، وحمر وواحدتها حمراء.
أَمَّا إِذا قسموها باعتبار الصفات الجسدية فإِنَّهم يقسمونها إِلى مجاهيم من جهة، ومغاتير من جهة أُخرى فيدخلون جميع الأَلوان غير السود تحت اسم المغاتير لاتفاق هذه الأَلوان جميعًا في الصفات الجسدية، واختاروا جمعها تحت اسم المغاتير لأَنَّها الأَشهر والأَظهر في مقابلة المجاهيم، ثم يخصُّون الحُمر بزيادة تفصيل لانقسامها إِلى أَنواع عدة.
المجاهيم (الملح):
وواحدتها مجهم ويقال لها الملح والواحدة ملحاء ولا يختلف تصنيف المجاهيم باعتبار اللون ولا المواصفات الجسدية فإِذا أُطلق هذا الاسم فهو يدل دلالة مباشرة على لون السواد وعلى المواصفات الجسدية المعروفة للإِبل السود.
وكل مجهم ملحاء وهي سوداء بالضرورة فإِذا زاد سوادها حتى يكون حالكًا فهي سوداء غرابيَّة والقطيع سود غرابيَّات أَمَّا إِذا قل سوادها عن سواد الملحاء المعتاد ورُئي في لونها حمرة عند الاقتراب فهي صهباء والقطيع صهب وهذه الأَلوان خاصة بالمجاهيم فلا يقال غرابيَّة ولا صهباء إِلَّا للناقة الملحاء.
وقد يوجد في المجاهيم نوق مفردة تغلب الصفرة أَو الحمرة أَو الزرقة على لونها فيقال: صفراء مجاهيم، وحمراء مجاهيم، وزرقاء مجاهيم ولكن لا يوجد في المجاهيم قطيع (رعية) تسمَّى الصفر ولا الحمر ولا الزرق؛ لأَنَّ هذا اللون الذي داخل سوادها لم يخرجها عن جنس المجاهيم (الملح) ومواصفاتها ولا عن لون السواد.
المغاتير:
وتنقسم المغاتير سابقًا باعتبار اللون إلى ما يمكن جمعه في ثلاثة أَقسام:
أما التقسيم الحديث للمغاتير باعتبار الجنس والمواصفات الجسدية فلا ينظر فيه إِلى اللون فيدخل تحته الأَلوان التالية:
الحمر:
<span class="tooltip">(64)<span class="tooltiptext">جميع صور المجاهيم المتقدمة منقولة عن كتاب: الإِبل أَسماؤها أَوصافها طباعها، فوزان بن حمد الماضي، دارة الملك عبد العزيز.</span></span>
العربي والإِبل قرينان فلا تكاد الإِبل تذكر إِلَّا ذُكر العربي والعكس بالعكس، فمنذ استأَنسها وهي قسيم حياته ولزيمه الذي لا يفارقه فهي حاضرة معه منذ أَن يولد بل وقبل أَن يولد؛ فمهر أُمِّه قبل أَن تكون أُمَّه كان من الإِبل، والجمل الذي نقلها إِلى بيت أَبيه من الإِبل، وعمود غذائها إِلى أَن ولدته كان من حليب الإِبل، وعياب تخزين التمر والطعام في بيتها كانت من جلود الإِبل، والروايا التي يستجلب بها ماء الشرب من جلود الإِبل وتأَتي أَيضًا محمولة على ظهور الإِبل، بل إِنَّ بعض البيوت التي تسكن تكون من جلود الإِبل والسيور التي تُشَدُّ بها بعض أَدوات العربي كانت من جلود الإِبل ومن بعض عصبها كذلك، وأَكبر الدلاء والغروب التي يستخرج بها الماء من الآبار من جلود الإِبل، والسَّانِيَة التي تسقي زرعه إِن كان صاحب زرعٍ منها، وإِذا أَراد السفر انتخب من إِبله نجيبة، وإِن أَراد الغزو على قبيلة معادية شد على ظهور نجائب الإِبل وغرضه كسب حلائبها، ويستبسل ويخاطر بحياته لحمايتها إِذا غزاها الغازون، أَمَّا طعامه الذي يستجلب من القُرى فعلى ظهور زواملها، والضيافة التي يقدمها لضيوفه من حليبها أَو لحمها، وأَنفَس عطاياه وهداياه كانت منها، ثم دِيَته إِن قُتِل أَو دِيَة غيره إِن قَتَل كانت منها فهي معه قبل أَن يولد ومعه بعد موته ومعه بين الميلاد والموت فأَيَّة ملازمة تفوق هذه الملازمة؟
إِنَّ هذا الحضور العجيب للإِبل في حياة العربي تجلَّى في شخصيته وطبيعته النفسية، وفي لغته قبل ذلك ومعه وبعده، فأَلفاظ الإِبل والأَلفاظ التي نشأَت بالتفاعل بين الإِبل والعربي والصحراء لا تكاد تحصى كثرة –كما سبق أَن بيَّنَّا- ومنها ما يستخدمه الناس وأَكثرهم لا يعلم أَنَّ أَصل إِطلاقه كان للإِبل، فـكم استعملنا لفظ «الحنين» وعبرنا به عن خليط من مشاعر الشوق والأَسف على شيء فات أَو مضى؟ ونحن لا نعلم أَنَّ أَصل استعماله كان لترجيع الناقة صوتها إِثر ولدها فتوسع العرب في استعماله واستعير للإِنسان وكم استعملنا لفظ «زميل» أَي من يكون معك في العمل والوظيفة؟ ولم نعلم أَنَّ أَصل الزميل هو العديل الذي يكون حمله مع حملك على بعير واحد، وهو أَيضًا الرديف الذي يركب خلف راكب الراحلة، ومثل ذلك قولنا: تَسَنَّم فلان المجد، أَي صار إِلى أَعلاه، وهو مأخوذ من سنام البعير وهو أَعلى موضع في جسده، وأَمثال ذلك كثير في اللغة <span class="tooltip">(65)<span class="tooltiptext">انظر في ذلك: تعميم الدلالة في أَلفاظ الإِبل، عبد الرزاق بن فراج الصاعدي، مجلة الدارة العدد 1- السنة 23- 1418هـ ص 99.</span></span>.
أَمَّا إِذا نظرنا إِلى التأثير المتبادل في الطبائع بين الإِبل وبين العرب رأَينا ما يلفت الأَنظار ويستدعي العجب فإِذا نظرت إِلى شراسة الجمل إِذا غضب وشدة بطشه، ورأَيت في حال آخر وداعته ولينه ومطاوعته حتى للطفل استحضرت عندئذٍ قصصًا كثيرة وأَشعارًا تملأ دواوين العربية ترى العربي فيها في حالي نقيض فهو غاية اللين، وغاية الدمويَّة في آن ولكن إِذا علمت أَنَّ العربي مرهف الحسِّ واضح يحب الوضوح والجمل مثله فإِن لاينته ورفقت به سار معك على ما تريد وإِن خاشنته كان أَشد منك خشونة وأَقسى وأَصلب. وأَمرُ العربي والجمل كما قال ذو الإِصبع العدواني <span class="tooltip">(66)<span class="tooltiptext"> المفضليات، المفضل الضبي، دراسة وتحقيق أَحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف-القاهرة، الطبعة السادسة 160.</span></span>مخاطبًا بعض قومه وقد أَساءوا إِليه:
يا عَمرُو إِن لا تَدَع شتمي وَمَنقَصَتي | أَضربكَ حَيثُ تَقولُ الهامَةُ اِسقُوني
عَنّي إِلَيكَ فَما أُمِّي بِراعِيَةٍ | تَرعى المَخَاضَ ولا رأييْ بمغبونِ
إِنِّي أَبِيٌّ أَبِيٌّ ذو مُحافَظَةٍ | وابن أَبِيٍّ أَبِيٍّ من أَبِيِّينِ
لا يُخرِجُ الكَرهُ مِنِّي غَيرَ مَأَبِيَةٍ | وَلا أَلينُ لِمَن لا يَبتَغي ليني
ويقول قبل ذلك:
لو تشربون دَمِي لم يرو شاربُكُم | ولا دماؤكمُ جمعًا تُرَوُّيني
ثم بعد كل هذا وغيره مما تضمنته القصيدة يختم بهذا البيت الذي يجسد فرط حِسِّ العربي وقوَّة استجابته للمؤثرات الخارجية فهو غاية العنف والخشونة وغاية السماحة واللين والعربي والجمل في هذا سواء:
يا عَمرُو لو لِنتَ لي أَلفَيتَني يَسَرًا | سَمحًا كَريمًا أُجازي مَن يَجازيني
وإِذا نظرت إِلى صفة أُخرى عُرِف بها العربي واشتهرت حتى صارت ميزة من ميزات العرب وهي الغيرة الشديدة على النساء التي من مظاهرها تفاخرهم المفرط بالأَنساب رأَيت العرب أَيضًا يضربون المثل بغيرة الجمل فيقولون: أَغيَر من جمل، وأَغيَر من الفحل <span class="tooltip">(67)<span class="tooltiptext"> انظر مجمع الأَمثال، أَبو الفضل أَحمد بن محمد الميداني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت 66:2.</span></span> والجمل في موسم تزاوج الإِبل لا يدع جملًا آخر يقترب من قطيعه فما إِن يراه إِلَّا انطلق هاجمًا عليه قبل أَن يداخل الرعية وربما قتله في بعض الأَحيان.
ومن أَظهر صفات العرب صفاء الذهن وقوة الذاكرة؛ حتى أَنَّ علومهم وشعرهم وأَخبارهم، ثم بعد ذلك كتاب الله الذي نزل في أَرضهم وهدي نبيهم الذي أُثر عنه. كلها كانت تعتمد على قوة الذاكرة والحفظ والإِبل في هذا مضرب المثل؛ فالإِبل مهما بعد عهدها ومهما طالت المسافات بينها وبين أَرضها الأُولى فإِنَّها لا تنساها أَبدًا وتنتجع لها من أَبعد المسافات ولا تخطئ الموضع أَبدًا، وتعرف موارد المياه التي سبق أَن شربت منها؛ فإِذا عُمِّي على القوم وكَلُوا الأَمر إِلى الإِبل فأوردتهم المياه. والجمل خاصة لا ينسى من أَساء إِليه حتى قيل في المثل: أَحقد من جمل <span class="tooltip">(68)<span class="tooltiptext"> جمهرة الأَمثال، أَبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري، دار الفكر، بيروت 343:1.</span></span>.
والعرب إِذا أَرادت مدح رجل بتفرده بشدة الصبر وتحمل الأَعباء والقيام بمهمات الأُمور دون قومه وقبيلته شبهته بالجمل وإِذا أَرادت أَن تصف أَقصى الحنين قالت: أَحَنّ من شارف <span class="tooltip">(69)<span class="tooltiptext"> نفسه ونفس الصفحة.</span></span>، وهي الناقة المُسِنَّة.
ولا تأنف العرب أَن تُشَبَّه بالإِبل في سياق المدح؛ لأَنَّ نظرتها للإبل مختلفة في كل شيء؛ حتى أَنَّها استعملت بعر الإِبل ووظفته وانتفعت به فكانت الجَلَّة مما تستوقد العرب به إذا عُدِم الحطب بل إِنَّ البعر مما استعملوه في بعض أَلعابهم.
إِنَّ هذا التمازج بين العربي والإِبل وَلَّد أُلفة وعلاقة لا يكاد يوجد لها شبيه بين جنسين بشري وحيواني، وتَولَّد عن هذه العلاقة محبة العربي للإبل التي أَصبحت أَحاديث تروى وأَشعارًا تكتب. ولو اعتبرنا ما حدث قديمًا وليد حاجة، وحُبَّ ضرورة فَرَضَه احتياجُ عرب الجزيرة لهذا الحيوان فإنَّ ما شوهد من تعلق كثيرٍ من العرب بالإبل حتى بعد استغنائهم عنها في عصر الآلة يجعلنا نتوقف طويلًا مع هذه العلاقة الوجدانية التي لن يفهمها إِلَّا من فهم العرب فهمًا يقوم على تحليل حياتهم في بيئتها الأَصلية ولا يقف على ظواهر المرويَّات والأَخبار والأَشعار معتمدًا على معان لغوية تحتمل أَكثر من معنى. وصدق المتنبي حين قال:
لا تَعذُلِ المُشتاقَ في أَشواقِهِ | حَتّى يَكونَ حَشاكَ في أَحشائِهِ <span class="tooltip">(70)<span class="tooltiptext"> انظر شرح معاني شعر المتنبي، إِبراهيم بن محمد بن زكريا الزهري أبو القاسم ابن الإِفليلي، تحقيق مصطفى عليان، دار الرسالة، بيروت، الطبعة الأُولى 1412هـ 136:2.</span></span>
إِنَّ العلاقة الوثيقة بين العربي والإِبل تظهر أَوَّل ما تظهر في شعره الذي هو صورة ناطقة لحياته فقد فاضت دواوين شعراء العربية منذ عُرِف شعر العرب إِلى اليوم بذكر الإِبل؛ فأَينما توجَّهتَ في شعر العرب وجدت الناقة أَو وجدت بعض آثارها فالقصيدة القديمة التي لا تذكر فيها الإِبل لن تعدم أَن تجد فيها أَلفاظًا كثيرة منقولة عن معناها الأَصلي المتعلق بالإِبل.
إِنَّ أَشهر شعراء العربية امرؤ القيس، وأَشهر شعره وشعر العرب معلقته وقد ذكر في الخمسة عشر بيتًا الأُولى أَصنافًا من الإِبل عند العرب إِمَّا تصريحًا وإِمَّا إشارة <span class="tooltip">(71)<span class="tooltiptext"> انظر ديوان امرئ القيس بشرح محمد بن إِبراهيم الحضرمي، تحقيق أَنور أَبو سويلم وآخرين، دار عمار، الأُردن، عمان، الطبعة الأُولى 1412ه الصفحات 30 ـــ 40 .</span></span> ؛ فذكر جِمال الأَحمال التي تنقل البيوت والأَثاث والأَطفال والعجزة في قوله:
كَأَنِّي غَداةَ البَينِ يَومَ تَحَمَّلوا | لَدَى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنظَلِ
وذكر الرواحل التي تُمتطى للسفر بعد ذلك مباشرة فقال:
وُقوفًا بِها صَحبي عَلَيَّ مَطِيَّهُم | يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَمَّلِ
ثم ذكر ما تركبه النساء وتوضع عليه مراكبهن من هوادج وغيرها فقال:
تَقولُ وَقَد مالَ الغَبيطُ بِنا مَعًا | عَقَرتَ بَعيري يا اِمرَأَ القَيسِ فَاِنزِلِ
فاستعرض لنا امرؤ القيس من غير أَن يقصد إِلى ذلك أَنواع ما يركب من الإِبل عند العرب كل ذلك في الربع الأَوَّل من قصيدته.
وهذا التقسيم يخص ما يركب وبرغم أَنَّه من جنس الإِبل إِلَّا أَنَّ العرب إِذا أَطلقت لفظ الإِبل فهي لا تعني إِلَّا الرعايا من الإِناث وفحلها الذي يُستبقى لغرض التلقيح والإِنتاج في وقت التزاوج فإِذا قال العربي: إِبلي فهو لا يعني المركوب وإِنَّما يعني المحلوب. والإِبل هي التي تُرعى ويبحث لها عن الخصب، وينتجع إِلى مواقع المطر من أَجلها يقول الطفيل الغنوي:
أَرى إِبِلي لا تُنكَعُ الوِردَ خُضَّعًا | إِذا شُلَّ قَومٌ في الجِوارِ وَصَعصَعوا
تُراعي المَها بِالقَفرِ حَتّى كَأَنَّما |إذا أَبصَرَت شَخصًا مِنَ الإِنسِ تَفزَعُ
إلى أَن يقول:
إِذا ساقَها الراعي الدَثورُ حَسِبتَها | رِكابَ عِراقِيِّ مَواقيرَ تُدفَعُ
مِنَ النَيِّ حَتّى اِستَحقَبَت كُلَّ مِرفَق | رَوادِفَ أَمثَالِ الدِلاءِ تَنَعنَعُ <span class="tooltip">(72)<span class="tooltiptext"> ديوان طفيل الغنوي شرح الأَصمعي، تحقيق حسان فلاح أوغلي، دار صادر-بيروت 120 وما بعدها.</span></span>
فإِبل الطفيل إِذا وردت لم يعجلها أَحد، ولم يُفعل بها كما يفعل بإِبل أَقوام لا منعة لهم اعتادت إِبلهم أَن تطرد عن الماء قبل تمام ارتوائها أَمَّا إِذا صدرت فإِنَّها توغل في مراعيها بعيدًا عن المياه واجتماع الناس فترتع في مراتع وحوش الصيد التي لا يصل إِليها الرعاة الآخرون إِمَّا خوفًا من الغزاة أَو تكاسلًا عن الذهاب بعيدًا عن المياه حتى أَنَّها لبعد عهدها بالناس أَصبحت تستوحش منهم وتباعدها هذا في طلب المراعي التي لم تكثر فيها الرعايا جعلها سمانًا كبيرة الأَسنمة كأَنَّها جمال محملة بالأَحمال.
والإِبل (الحلائب) هي التي يقصد إِليها الغزاة، وهي التي يفتخر العرب بالدفاع عنها فهذا الطفيل يفخر بأَنَّ إِبله الكثيفة العدد كلها بنات فحل واحد لا أَخلاط فيها، ويرمي من ذلك إِلى أَنَّه أَحسن رعايتها فلم يدخلها فحل ليس منها، وقام على حمايتها فكثرت ولم يؤخذ منها شيء ونجد ذلك في مثل قوله:
إِذا وَرَدَت ماءً بِلَيلٍ كَأَنَّها | سَحابٌ أَطاعَ الريحَ مِن كُلِّ مَخرِمِ
تَعارَفُ أَشباهًا عَلى الحَوضِ كُلُّها| إلى نَسَبٍ وَسطَ العَشيرَةِ مُعلَمِ
غَنمِنا أَباها ثُمَّ أَحرَزَ نَسلَها | ضِرابُ العِدى بِالمَشرَفِيِّ المُصَمِّمِ
وَكُلُّ فَتىً يَردي إِلى الحَربِ مُعلَمًا | إِذا ثَوَّبَ الداعي وَأَجرَدَ صِلدِمِ <span class="tooltip">(73)<span class="tooltiptext"> نفسه ص 108 وما بعدها.</span></span>
ومن الإِبل تكون الحلوبة يقول ذو الخِرَق الطُهَوي:
لَمَّا رَأَتْ إِبِلي جاءَت حَلوبَتُها | هَزلى عِجافًا عَلَيها الريشُ وَالوَرَقُ
قَالَت أَلا تَبتَغي مالًا تَعيشُ بِهِ | مِمّا تُلاقي وَشَرُّ العيشَةِ الرَمَقُ <span class="tooltip">(74)<span class="tooltiptext"> الأَصمعيات، عبد الملك بن قريب الأَصمعي، تحقيق أَحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف –مصر، الطبعة السابعة 1993م ص 124.</span></span>
أَمَّا الأَصناف التي ذكرها امرؤ القيس فهي المركوبات وشعر العرب يفيض بذكرها؛ فالجمال التي ذكرها ولم يصرح بها وإِنَّما اكتفى بقوله: «تحمَّلوا» نجدها في شعر الشعراء الذين يذكرون التفرق والارتحال. ولا يربطون الارتحال بذكر الإِبل إنما الحديث كله عن الجمال خاصة ومن أَمثلة ذلك قول ذي الرُّمَّة:
أَيّامَ هَمَّ النَجمُ بِاِستِقلالِ | أَزمَعَ جيرانُكَ بِاِحتِمالِ
وَالبَينُ قَطَّاعٌ قُوى الوِصالِ | وَقَرَّبوا قَياسِرَ الجِمالِ <span class="tooltip">(75)<span class="tooltiptext"> ديوان ذي الرُّمَّة 272:1 وما بعدها. </span></span>
ومثله قول أَبي وجزة السعدي:
كَأَنَّهُم يَومَ ذي الغَرَّاءِ حينَ غَدَت | نُكبًا جِمالُهُمُ لِلبَينِ فَاِندَفَعوا
لَم يُصبِحِ القَومُ جيرانًا فَكُلُّ نَوى | بِالناسِ لا صَدعَ فيها سَوفَ تَنصدِعُ <span class="tooltip">(76)<span class="tooltiptext"> شعر أَبي وَجْزَة السعدي، صنعة وليد السراقبي، مجلة معهد المخطوطات العربية الجزآن الأَوَّل والثاني 1410 ص 58.</span></span>
ومثله قول المتوكل الليثي:
رَدَّ الخَليطُ جِمالَهم فَتَحَمَّلوا | لِلبَينِ بَعدَ الفَجرِ والآصالِ <span class="tooltip">(77)<span class="tooltiptext"> شعر المتوكل الليثي، د. يحيى الجبوري، نشر مكتبة الأَندلس-بغداد 187.</span></span>
والجمال هي التي توضع عليها مراكب النساء من الهوادج وغيرها يقول كُثَيِّرُ عَزَّة:
رَأَيتُ جِمالَها تَعلو الثَنايا | كَأَنَّ ذُرى هَوادِجِها البُروجُ <span class="tooltip">(78)<span class="tooltiptext"> ديوان كُثيِّر عزَّة 189.</span></span>
وشعر العرب في هذا المعنى كثير جدًّا والحديث كله عن جمال وأَحمال وضعائن وارتحال وحدوج وهوادج ولا يرد في سياق مثل هذا أَنَّهم ارتحلوا على الإِبل أَو حملوا على الإِبل؛ لأَنَّ الإِبل إِذا أُطلقت فهي الحلائب ولا يعنون بها الجمال.
أَمَّا النجائب التي تركب للغزو والسفر فعامَّة شعر العرب المحفوظ الذي يطلق عليه الكثيرون «وصف الإِبل» ليس إِلَّا فيها وإِذا عرفنا مفهوم الإِبل عند العرب علمنا أَنَّ هذا الإِطلاق يحتاج إِلى تقييد حتى يتوافق مع مرادات العرب.
إِنَّ من أَشهر وأَجود ما وصفت به الراحلة النجيبة ما جاء في معلقة طرفة بن العبد عندما وصف راحلته في ثلاثين بيتًا استوعب فيها الراحلة جسدًا وصورةً، وأَشار في أَثناء ذلك إلى الراحلة الكائن الحي الذي يحس ويستجيب ويتفاعل.
فطرفة يضع في معلقته وصفة طبية للدواء الناجع الذي تطرد به الهموم مبتدئًا بتطبيق ذلك على نفسه شارعًا في رحلة السفر ورحلة الوصف بقوله:
وَإِنِّي لَأُمضي الهَمَّ عِندَ اِحتِضارِهِ | بِعَوجاءَ مِرقالٍ تَروحُ وَتَغتَدي
أَمونٍ كَأَلواحِ الإِرانِ نَصَأتُها | عَلى لاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهرُ بُرجُدِ
جُماليَّةٍ وَجناءَ تَردي كَأَنَّها | سَفَنَّجَةٌ تَبري لِأَزعَرَ أَربَدِ
تُباري عِتاقًا ناجِياتٍ وَأَتبَعَت | وَظيفًا وَظيفًا فَوقَ مَورٍ مُعَبَّدِ
تَرَبَّعَتِ القُفَّينِ في الشَولِ تَرتَعي | حَدائِقَ مَوليِّ الأَسِرَّةِ أَغيَدِ
فما ترك صفة يراها جمالًا وكمالًا في الراحلة إلَّا ذكرها؛ فهي ضامر البطن بالغة النشاط (عوجاء) وهي سريعة المشي (مرقال) تصل في سيرها العشي بالصباح لا ينقطع نشاطها وهي مأمونة العثار (أَمون) كأَنَّ جنبيها أَلواحٌ ممتدة وهي تضاهي الجِمال ضخامة وجسامة (جُماليَّة) مكتنزة اللحم صلبة (وجناء) تباري وتساير في طريقها نجائب يضاهينها سرعةً ونشاطًا ولكي يجعل السامع يدرك سر سِمَنها وقوتها ونشاطها أَشار إِلى الموضع الذي قضت فيه ربيع سَنَتِها وخَصَّ الموضع (القفين) وهو في حزن بن يربوع؛ لأَنَّه من أَصلح المواضع في الربيع، ثم أَخذ في وصف راحلته مبتدئًا بذيلها إِلى أَن بلغ منخريها مستكملًا كل وصف ذاهبًا في ذلك بعيدًا بطريقة لا يستطيعها إِلَّا من عرف الراحلة وخبرها، ثم يختم رحلة هذا الوصف التي استوعبت ثلث قصيدته تقريبًا بقوله:
عَلى مِثلِها أَمضي إِذا قالَ صاحِبي | أَلا لَيتَني أَفديكَ مِنها وَأَفتَدي <span class="tooltip">(79)<span class="tooltiptext"> ديوان طرفة بن العبد شرح الأَعلم الشنتمري، تحقيق درية الخطيب ولطفي الصقال، إِدارة الثقافة والفنون–دولة البحرين، المؤسسة العربية-بيروت-لبنان ص 28 وما بعدها.</span></span>
لم يكن طرفة مبتدعَ وصف الراحلة يقينًا ولكنَّه ممن كُتِب لوصفه السيرورة والشهرة والشعراء قبله وبعده أَكثروا في هذا الغرض؛ فرأَينا الراحلة في صور شتى وفي أَحوال متعددة وإِن كان كثير منهم يشير إِلى أَنَّ ركوب النجيبة مدعاة لطرد الهموم وذهابها فهذا المٌثَقِّب العبدي يجرد من نفسه شخصًا يخاطبه:
فَسَلِّ الهَمَّ عَنكَ بِذاتِ لَوثٍ | عُذافِرةٍ كَمِطرَقَةِ القُيونِ <span class="tooltip">(80)<span class="tooltiptext"> ديوان شعر المُثَقِّب العبدي، عني بتحقيقه وشرحه والتعليق عليه حسن كامل الصيرفي، جامعة الدول العربية، معهد المخطوطات العربية 1391هـ - 1971م ص 165 والبيت في قصيدة على نفس البحر والقافية للشماخ الذبياني، ديوان الشَّمَّاخ بن ضرار الصحابي الغطفاني بشرح أَحمد الأَمين الشنقيطي، طبعة 1327هــ ص 92. </span></span>
وبمثل قوله قال بشر بن أَبي خازم:
فَسَلِّ الهَمَّ عَنكَ بِذاتِ لَوثٍ | صَموتٍ ما تَخَوَّنَها الكَلالُ <span class="tooltip">(81)<span class="tooltiptext"> ديوان بشر بن أَبي خازم الأَسدي، تحقيق مجيد طراد، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأُولى 1415هـ ص 118.</span></span>
أَمَّا امرؤ القيس فيتساءل:
فَهَل تُسلِيَنَّ الهَمَّ عَنكَ شِمِلَّةٌ | مُداخِلَةٌ صُمُّ العِظامِ أَصوصُ <span class="tooltip">(82)<span class="tooltiptext"> ديوان امرئ القيس، تحقيق عبد الرحمن المصطاوي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية 1425هـ ص 117.</span></span>
وبتسليتهم تسلَّى عَبيد بن الأَبرص:
لَولا تُسَلِّيكَ جُمالِيَّةٌ | أَدماءُ دامٍ خُفُّها بازِلُ <span class="tooltip">(83)<span class="tooltiptext"> ديوان عبيد بن الأَبرص، تحقيق وشرح حسين نصار، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأَولاده بمصر، الطبعة الأُولى 1377هـ. 1957م ص 98.</span></span>
وهذه السلوة التي يجدها العربي ابن البيئة الصحراوية في ركوب النجيبة وقطع الفيافي الخالية على كورها لم تنقطع بل بقيت مع العرب في جزيرتهم مستمرة تتكرر في كل أَنحائها إِلى أَن حلت وسائل النقل الحديثة محل النجائب. فهذا مسحل بن صقر بن جويعد قُبيل توحيد المملكة لم يجد ما يتفرج به همه بعد أَن فقد أَحب أَبنائه إِليه إِلَّا دعاء الله وركوب «فاطره»:
ما اَخبلكْ يا خابرْ الدنيا وتَرْفَاها | لو بَرَّتْ الحيّْ بالأرزاق ممنونهْ
العَينْ جيتْ أَعَذِلْها وانتثرْ ماها | والقلبْ جيتْ أعْذِلِهْ واِنْبَاحْ مكنونهْ
ولولا ركوبيْ على الفاطِرْ ومَسْراها | لَأَطِقّْ مثل الدِّعَيْسْ الِّـيْ يعيدونهْ
لَكَنّْ وَسَّعْ فَامانيْ ضربْ يمناها | يومْ القمرْ حالْ زَبْرْ المزْنْ من دونهْ
يا اللهْ يا عالمْ الدنيا وبَلواها | اِكتبْ لنا جنَّةْ الفردوسْ مضمونهْ
فركوب الفاطر (الراحلة) هنا كان تسلية حقيقية خفَّفت من أَلم الحزن وأَوجاع الفراق؛ فالدموع المنهمرة والقلب الذي باح بسرِّه لمن حوله لم يخفِّفا شيئًا من الأَلم بينما ركوب راحلته التي استجابت له فتدَّرَّعت ظلمة الليل الذي غاب قمره خلف السحاب المتراكم وكانت كلما خَبَطَت بيدها الأَرض توسِّع من ضيق صدره ولولا ذلك لكان مصيره مصير الدّعيس الذي يذكر الناس أَنَّه مات لفرط الحزن والهمِّ.
إِنَّ التسلية من الهم التي وجدها شعراء العرب في ركوب الراحلة تشير إِلى أُمور كثيرة من الأُلفة والإِحساس الذي تظهره نجائب الإِبل تجاه أَصحابها وهذا منثور في كثير من شعرهم وسنشير إِلى صورة واحدة فقط ولعلها تكون اللّمحة الدَّالَّة؛ فقد تكرر في شعر العرب نوم العربي على ذراع راحلته فإِذا أَعياه طول السفر أَناخها لترتاح وتوسد يدها ونام وقد صور لنا الشعر هذا المشهد كثيرًا ومن ذلك قول الشَّمَّاخ بن ضرار وقد انتهى به المسير إِلى فلاة واسعة ليس بها إِلَّا هو وراحلته التي أَعياها المسير كما أَعياه فكانت عونًا له في تخفيف تبعات السفر في ابتداء الرحلة وفي استكمالها:
وَخَرقٍ قَد جَعَلتُ بِهِ وِسادي | يدَيْ وَجناءَ مُجفَرَةِ الضُلوعِ <span class="tooltip">(84)<span class="tooltiptext"> ديوان الشَّمَّاخ 58.</span></span>
أَمَّا زهير بن أَبي سُلمى الذي اجتاز أَرضًا مخوفة لا يجرؤ على اجتيازها إِلَّا قوم مخصوصون من أَهل الشجاعة فقد اقتطع من ليله المخيف دقائق معدودة ليرتاح ويريح راحلته وكانت دقائق نومه القليلة متوسدًا يد راحلته:
وَتَنوفَةٍ عَمياءَ لا يَجتازُها | إِلَّا المُشَيَّعُ ذو الفُؤادِ الهادي
قَفرٍ هَجَعتُ بِها ولَستُ بِنائِمٍ | وَذِراعُ مُلقِيَةِ الجِرانِ وِسادي
وَعَرَفتُ أَن لَيسَت بِدارِ تَئِيَّةٍ | فَكَصَفقَةٍ بِالكَفِّ كانَ رُقادي <span class="tooltip">(85)<span class="tooltiptext"> ديوان زهير 50.</span></span>
أَمَّا جرير فيقول: إِنَّ سفره ومبيته على غليظ الأَرض وقد توسد ذراع راحلته الخفيفة أَو كاد عوَّضه عن توسد المعصم الذي زيَّنته أَساور العاج مشيرًا بذلك إِلى امرأَة:
أُنيخَت رِكابي بِالأَحِزَّةِ بَعدَما | خَبَطنَ بِحَورانَ السَريحَ المُخَدَّما
وَأُدني وِسادي مِن ذِراعِ شِمِلَّةٍ | وَأَترُكُ عاجًا قَد عَلِمتِ وَمِعصَما <span class="tooltip">(86)<span class="tooltiptext"> ديوان جرير 1080:3.</span></span>
كانت الإِبل الركن الأَهمَّ في حياة العربي فكما كانت الناقل كانت الغذاء كذلك فغذاؤه الأَوَّل قبل لحمِها حليبُها فهو طعام الصباح وطعام العشي، وهو طعام الطفل الصغير والمرأَة المرضع والشيخ الكبير الهرم، وعليه المعتمد في جزء كبير من ضيافة العربي وكرمه الذي تغنَّى به الشعر فالراكب العابر صباحًا يُبَادَر بالصبوح، والعابر عشيًّا يُبَاشَر بالغبوق، وكانت وصايا الكرماء: اصبحوا الراكب واغبقوا الراكب وعشُّوا الضيف <span class="tooltip">(87)<span class="tooltiptext"> على هذه الأَلفاظ خرِف النمر بن تولب العكلي رضي الله عنه.</span></span>. وربما خَصَّص الفارس من العرب ناقة أَو ناقتين لفرسه فلم تُحلبا إِلَّا لها فتشارك بذلك الأَبناء في زادهم. فحليب الإِبل غذاء الإِنسان وغذاءٌ أَيضًا لنفيس الحيوان.
فالناقة منذ أَيامها الأُولى بعد الولادة تكون مهيأَةً للحلب فتعطي صاحبها من الحليب أَكثر مما تعطي حوارها. فمن حليبها يشرب العربي ويُقِيت ويُضيِّف، فيتقَوَّى به، وتُبنى أَجساد الأَبناء عليه، وبه يَتَّقي الذَّمَّ ورذيلة البخل.
والعرب ينظرون لحليب الإِبل نظرة إِجلال فقيمته الغذائية في نظرهم كبيرة؛ حتى إِنَّ متأَخري العرب يقولون: «حليب الإِبل يَدخل ولا يُدخل عليه»، أَي أَنَّ الشخص إِذا شرب منه اكتفى به ولا يستحسن أَن يتناول شيئًا بعده. أَمَّا إِذا أَراد تناوله بعد طعام آخر فلا بأس، ويرون أَنَّه يقوم مقام الأَكل والشرب، وأَنَّ الإِنسان يستطيع الاكتفاء به، ويرى متأَخرو العرب كذلك أَنَّه «المُشبع المُروي المُقيت» أَي تجد بعده الاحساس بالشبع، ويقوم مقام الماء فيذهب عنك الظمأَ، وهو قوت وغذاء تام تقتات به وتعيش عليه.
ولفرط إِجلال العرب لحليب الإِبل فإِنَّهم كما يرون أَنَّ منعه بخل وشحٌّ يلام فاعله يرون بيعه والمتاجرة بإِسقاء الناس الحليب عيبًا فاضحًا ودناءة لا تليق بمن فيه بقيَّة مروءة.
أَمَّا لحم الإِبل فهو خير لحم تأكله العرب ومع ذلك فلم تكن كل الإِبل تُنحر فقد جرت عادة العرب أَن لا ينحروا ابتداءً إِلَّا ذكور الحشو خاصة، ولحمها أَلذ لحوم الإِبل أَمَّا الإِناث فلا ينحرون إِلَّا كبيرة السِّنِّ أَو ما عرض لها كسر أَو مرض أَما البكار فلا تنحر وإِنَّما تُستبقى للنتاج؛ لذلك كانوا يقولون لمن نحر بكرته لقد اعتبطها يعني نحرها شابَّة من غير علة، ويسمَّى لحم كلِّ ما نُحر من الإِبل من غير علة عبيط ولحم ما نحر بسبب كالكسر أَو المرض لحم عارضة، ويسمُّون كل منحور من الإِبل جَزورًا، ذكرًا كان أَو أُنثى والجمع جُزُر.
وكان أَهل الإِبل من العرب الذين لا غَنَم لهم فيذبحونها ولا بالقرب منهم فيشترونها يُضيِّفون بأَلبان الإِبل، وكان في ذلك كفاية أَمَّا إِذا لم يكن في إِبلهم ما يحلب فإِنَّ الكرماء منهم كانوا يعمدون إِلى ما ينحر منها فينحرونه يقول الأَخطل التغلبي:
وَإِنِّي لَحَلَّالٌ بِيَ الحَقُّ أَتَّقي | إِذا نَزَلَ الأَضيافُ أَن أَتَجَهَّما
إِذا لَم تَذُد أَلبانُها عَن لُحومِها | حَلَبنا لَهُ مِنها بِأَسيافِنا دَما <span class="tooltip">(88)<span class="tooltiptext"> ديوان الأَخطل، شرح وتصنيف وتقديم محمد مهدي ناصر الدين، دار الكتب العلمية ص 314.</span></span>
فإِذا لم يكن في مجمل إِبله من اللبن ما يحلب للضيف فإِنَّه سينحر منها عوضًا عن ذلك.
والعرب بالجملة كانت تفضل لحم الإِبل وتأكله أَكثر من سائر اللحوم؛ حتى ظن الناس أَنَّ العرب أَوَّل من أَكله، أَو أَنَّه لا يأكل لحم الإِبل إلَّا هم. والصحيح أَنَّ أَوَّل من أَكل لحم الإِبل الهنود، وأَنَّ كثيرًا من الشعوب القديمة كانت تأكل لحوم الإِبل كذلك <span class="tooltip">(89)<span class="tooltiptext"> انظر الثقافة التقليدية 379:6.</span></span>.
والعرب يرون تفوق الإِبل على سائر الأَنعام في كل شيء، فهي ليست غذاء وحسب، بل إِنَّها دواء أَيضًا، فحليب الإِبل كان مما يتداوى به العرب، فلما جاء الإِسلام أَقرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم التداوي بأَلبان الإِبل وأَبوالها؛ ولذلك بَوَّبَ الإِمام البخاري في صحيحه بقوله «باب الدواء بأَلبان الإِبل» <span class="tooltip">(90)<span class="tooltiptext"> صحيح البخاري، أَبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق مصطفى ديب البغا، (دار ابن كثير دار اليمامة) دمشق، الطبعة الخامسة 1414هـ 2153:5.</span></span>، وفي ترجمة أُخرى «باب الدواء بأَبوال الإِبل» <span class="tooltip">(91)<span class="tooltiptext"> نفسه ونفس الصفحة.</span></span>، وفي الحديث الصحيح الذي أَورده البخاري في البابين المذكورين ثبت أَمر الرسول صلى الله عليه وسلم للعرنيين بالتداوي بأَلبان الإِبل وأَبوالها، وقد نُقل تداوي جماعة من السلف بهما في بعض الآثار <span class="tooltip">(92)<span class="tooltiptext"> انظر المصنف، أَبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأَعظمي، المجلس العلمي-الهند، توزيع المكتب الإِسلامي-بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ. 1983م 377:1 و 498:8.</span></span>. وعندما شاع علم الطب في العصر العباسي رأَينا مشاهير الأَطباء يؤكدون في كتبهم على الفوائد الطبية لأَلبان الإِبل وأَبوالها فهذا ابن سينا يقول متحدثًا عن لبن الإِبل: «واعلم أَنَّ هذا اللبن شديد المنفعة فلو أَنَّ إِنسانًا أَقام عليه بدل الماء والطعام لشفي به. وقد جرب ذلك منه قوم دفعُوا إِلى بلاد العرب. فقادتهم الضرورة إِلى ذلك فعوفوا. وأَلبان اللقاح قد تستعمل وحدها وقد تستعمل مخلوطة بغيرها من الأَدوية ...» <span class="tooltip">(93)<span class="tooltiptext"> القانون في الطب، الحسين بن عبد الله بن سينا، وضع حواشيه محمد أَمين الضناوي 544:2.</span></span>، ويقول عن أَبوال الإِبل: «أَنفع الأَبوال بَول الجمل الأَعرابي وهو النجيب» <span class="tooltip">(94)<span class="tooltiptext"> نفسه 412:1.</span></span>، أَمَّا العرب في صحراء جزيرتهم فلم ينقطع تداويهم بأَلبان الإِبل وأَبوالها إِلى اليوم.
وقد تحدث الكثيرون من أَهل التخصصات العلمية في كليات الزراعة وعلم التحاليل والمختبرات وغيرها عن الخصائص العلاجية لأَلبان الإِبل وأَبوالها وأَثبتوا من خلال المعامل والبحوث العلمية صحة الكثير مما توارثه العرب في هذا الأَمر، وما يزال البحث مستمرًا في الجزء المتبقي من هذا الموروث.
وقد لخصَتْ بعض الدراسات المعاصرة شيئًا مما توصلت إِليه الأَبحاث العلمية في الفوائد العلاجية لأَلبان الإِبل فمما جاء في ذلك <span class="tooltip">(95)<span class="tooltiptext"> النقل التالي عن كتاب التداوي بأَلبان الإِبل وأَبوالها سنة نبوية ومعجزة طبية، شهاب البدري يس، الطبعة الأُولى 1424هـ ص 37.</span></span>:
إِضافة إِلى ذلك فإِنَّ لحليب الإِبل فوائد طبية تتلخص في الآتي:
أَمَّا أَبوال الإِبل فهناك عدد من الدراسات والبحوث التي أَكدت فعاليتها الطبية ونجاحها في معالجة العديد من الأَمراض الباطنية والجلدية وغيرها. وقد استطاعت الباحثة منال القطان استخلاص مستحضر طبيٍّ من أَبوال الإِبل لعلاج أَكثر من مرض في آن، وقد أُطلق على هذا المستحضر اسم (أ_وزرين) وتقول عنه الدكتورة أَحلام العوضي المشرفة على البحث: «إِنَّه غير مكلف ويسهل تصنيعه، ويعالج الأَمراض الجلدية، كالإِكزيما، والحساسية، والجروح، والحروق، وحب الشباب، وإِصابات الأَظافر، والسرطان، والتهاب الكبد الوبائي، وحالات الاستسقاء، بلا أَضرار جانبيَّة» <span class="tooltip">(96)<span class="tooltiptext"> العلاج بأَبوال وأَلبان الإِبل بين العلم والخرافة، (كتاب إلكتروني) الباحثون المسلمون، الطبعة الثالثة 1437هـ ص 44.</span></span>.
عرف العربي وسائل النقل التقليدية قديمًا واستعملها كغيره من الشعوب، وتشير نقوش جنوب الجزيرة إِلى أَنَّ الحمار كان أَقدم وسائل النقل التي استعملها العربي في نقل بضائعه بين اليمن وبين الدول المحاذية لجزيرة العرب من الشمال مرورًا بنجد أَو الساحلين الغربي والشرقي، ثم تلا ذلك استعمال البغال والخيل إِلَّا أَنَّ هذه الحيوانات لم تكن ذات كفاءة عالية لأَداء هذه المهمة، فمع ما تعانيه من مشقة في اختراق صحراء الجزيرة؛ لحاجتها المستمرة للماء والطعام، كانت قليلة الأَحمال أَيضًا، فأَثَّر ذلك سلبًا على العمل التجاري.
ولـمَّا أَن دخلت الإِبل مجال النقل التجاري أَحدثت نقلة كبيرة جدًّا، فالجمل يحمل في الغالب أَكثر من ضعف حمولة البغل الذي يُعدُّ أَكبر تلك الحيوانات قدرة وأَكثرها حمولة، فقد كان الجمل يقطع المسافات الطويلة بالأَحمال الكبيرة في زمن قصير موازنة بحيوانات النقل الأُخرى من غير أَن يحتاج لشرب الماء أَو الطعام، فكان بحق الوسيلة التي أَحدثت ثورة ليس فقط في تجارة العرب بل في التجارة العالمية، فأَشهر طريقين تجاريين عرفهما التاريخ: طريق البخور الذي يخترق جزيرة العرب متجهًا إِلى مصر والشام والعراق، وطريق الحرير الذي عُرف به الصينيُّون، وكلاهما ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالإِبل.
وقد استعمل العربي الإِبل في ارتحاله وتنقله المستمر في طلب الماء والكلأ اللذين كان عليهما قوام حياته وحياة مواشيه؛ فقد كانت الجمال القويَّة الشديدة وسيلته إِذا أَراد الارتحال لنقل البيت وما تحته من أَثاث، ونقل الأَطفال والنساء وكذلك كبار السن والعجزة، وكانت هذه الجمال وسيلته لنقل الطعام الذي يمتاره من القرى التي يُستجلب منها التمر والبُرُّ وسائر الأَطعمة، وكانت نجائب الإِبل وسيلة العربي في سفره وغزوه عند قطع المسافات الطويلة، كما كانت وسيلته للنجاة والهرب.
وقد كان بعض العرب يقتني الجمال ليؤجرها في نقل بضاعة أَو طعام أَو غيره، ويقال لصاحب هذه الجمال: جَمَّال، ويسمَّى الجماعة منهم جَمَّالة كما يقال لأَصحاب الحمير: حمَّارة ولراكبي الخيل خيَّالة.
عرف العرب السباقات قديمًا فكانوا يستبقون على الخيل ونجائب الإِبل والأَخبار في هذا مشهورة وخاصة في الخيل، وجاء الإِسلام ورأَينا إِقرار ذلك في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وفي سيرته القوليَّة والفعليَّة؛ فقد جاء في الحديث الصحيح كما في مسند أَحمد وغيره عن أَبي هريرة رضي الله عنه «قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: لا سَبَقَ إلَّا في خُفٍّ أو حافر» <span class="tooltip">(97)<span class="tooltiptext">مسند الإمام أَحمد، أَحمد بن محمد بن حنبل، تحقيق أَحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأُولى 1416هـ. 1995م 390:8.</span></span> والخُفُّ كناية عن الإِبل.
وقد سابق صلى الله عليه وسلم بناقته العضباء وهي من نجائب الإِبل وسُبِقَت، وكان المعروف عنها السبق دائمًا؛ ففي الحديث الصحيح: «عن أَنس قال: كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تُسمَّى العضباء، وكانت لا تُسبَق، فجاء أَعرابيٌّ على قعود له فسبقها، فاشتدَّ ذلك على المسلمين، وقالوا: سُبِقت العضباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ حقًّا على الله أَن لا يرفع شيئًا من الدنيا إِلَّا وضعه» <span class="tooltip">(98)<span class="tooltiptext"> صحيح البخاري 2384:5.</span></span>.
وفي قول أَنس رضي الله عنه: «وكانت لا تُسبَق» دليل على أَنَّ العضباء شاركت في أَكثر من سباق قبل ذلك وأَنَّ المعتاد من حالها دائمًا السَّبْق والتقدم على غيرها من النجائب وهذا يعني تعدد السباقات وتكررها.
والرِّهان الذي أَباحه الرسول صلى الله عليه وسلم في سباق النجائب كان معروفًا في العرب؛ ففي شرح المَعَرِّي لقول المتنبي:
لا ناقَتي تَقبَلُ الرَديفَ وَلا | بِالسَوطِ يَومَ الرِّهانِ أُجهِدُها
يقول أبو العلاء: «والرِّهان: أَكثر ما يذكر في الخيل، وقد كانوا يستبقون على الإِبل فيراهنون» <span class="tooltip">(99)<span class="tooltiptext"> اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي، أَبو العلاء أَحمد بن عبد الله المعرِّي، تحقيق محمد سعيد مولوي، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، الطبعة الأُولى 1429هـ. 2008م ص 402.</span></span>.
ولم يزل سباق نجائب الإِبل شائعًا في العرب لم ينقطع سواء ما كان بِرِهان أَو من غير رِهان والأَخبار المرويَّة في هذا كثيرة إِلَّا أَنَّ هذه السباقات غير منتظمة في الغالب وبأَعداد محدودة.
وما قدمناه هنا يشير إِلى أَنَّ المسابقات كانت تنحصر في سرعة العَدْو فقط وهذا أَمر خاص بالنجائب (الهجن) دون عموم الإِبل وما قرأنا أَو سمعنا عن تنظيم مسابقة للإِبل في غير السرعة فلم نَرَ فيما بين أَيدينا من المصادر، ولم نسمع من أَخبار متأَخري العرب أَنَّهم أَجروا مسابقات في جَمَال الإِبل سواء المركوب منها أَو المحلوب على أَنَّنا يجب أَن لا نغفل أَنَّ العرب كانوا يحرصون على وجود كثيرٍ من المواصفات الجَماليَّة في المركوب من نجائب الإبل خاصة؛ أَمَّا الحلائب فقد كان اهتمامهم مُنصَبًّا على وفرة حليبها وطبعها عند الحلب، وسِمَنها، ولا يكادون ينظرون لأَمر شكلها الخارجي إِذا كانت سمينة غزيرة اللبن.
إن أَوَّل ما يلفت أَنظارنا في الحديث عن الإِبل وفكرة الجَمَال قول الله جل وعلا: ﴿والأَنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع ومنها تأكلون(5) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون(6) ﴾ ]النحل[.
وقد جاء عند اللغويين أَنَّ الأَنعام عند الإِطلاق يقصد بها الإِبل، ويصح أَن تدخل البقر والغنم معها في ذلك؛ أَمَّا إِذا أُفرِدت البقر أَو الغنم فلا يقال لهما أَنعام، بينما إِذا أُفردت الإِبل جاز إِطلاق الأَنعام عليها.
والجَمال المذكور في الآية المنسوب إِلى أَهل الأَنعام حيث يتجَمَّلون به ويُشَاهد عليهم ويباهُون به مُتسرِّب إِليهم من الجَمال الذي يرونه ويستشعرونه في إِبلهم، وجمال الإِبل -كما يقرره أَهل التفسير- لا يخرج عن الذي أَشرنا إليه في المبحث السابق من أَنَّ العرب عند نظرهم إِلى غير النجائب من الإِبل لا ينظرون إلَّا إِلى الضروع والأَلبان والسِمَن، ولا يولون الصورة والصفات الأُخرى كثير اهتمام كما يفعلون مع النجائب، قال الإِمام الطبري في تفسير الجَمال هنا نقلًا عن قتادة: «قال: إِذا راحت كأَعظم ما تكون أَسنِمَة، وأَحسن ما تكون ضروعًا» <span class="tooltip">(100)<span class="tooltiptext"> تفسير الطبري، محمد بن جرير الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر، التربية والتراث 170:17.</span></span>، وقال ابن الجوزي مبيِّنًا سر تقديم الرواح في الآية مع كونه متأَخرًا، مؤكدًا على علَّة جمال الإِبل في هذه الحال: «فإن قيل: لم قدَّم الرَّواح وهو مؤخَّر؟ فالجواب: أَنَّها في حال الرواح تكون أَجمل لأَنَّها قد رعت، وامتلأَت ضروعها، وامتدَّت أَسنمتها» <span class="tooltip">(101)<span class="tooltiptext"> زاد المسير في علم التفسير، جمال الدين أَبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأُولى 1422هـ 551:2.</span></span>.
لقد كان الحديث في إِرثنا الثقافي عن الهيئة الخارجية للناقة ووصفها والوقوف على التفاصيل الدقيقة في صورتها منحصرًا على نجائب الإِبل المُعدَّة للسفر والغزو، وهي التي يصفها شعراء العرب المتقدمون والمـتأَخرون ويذكرونها ويكثرون في نعتها وتصوير رحلاتهم وسفرهم عليها، ولم تتجه الأَنظار إِلى مواطن الجمال في عامة الإِبل من غير المركوب إِلَّا في العقود الأَخيرة، على أَنَّنا على يقين أَنَّ نواة هذا الأَمر بدأَت مبكرًا في عهد المؤسس -رحمه الله- فقد عُرف عن الملك عبد العزيز اهتمامه البالغ بنوادر الإِبل وتخصيصها بمزيد رعاية، وتمييزها عن غيرها، وورث عنه أَبناؤه الملوك ذلك، فحب الإِبل والحرص على نوادرها معروف في أَبناء المؤسس، ومن نوادر إِبل الملك عبد العزيز «الشّرْف» التي توارثها أَبناؤه الملوك، ومما يحسن ذكره أَنَّ الشّرْف اليوم إِبل سمو ولي العهد الأَمير محمد بن سلمان حفظه الله فهو يمتلكها ويمتلك اسم «الشّرْف» رسميًّا.
ورغم تداول الأَخبار عن حرص الملوك منذ عهد المؤسس على نوادر الإِبل والحديث المتكرر عن ذلك إِلَّا أَنَّ الشغف بجمالها بقي نخبويًّا غير شائع في مجتمعات أَهل الإِبل ولم يشع إِلَّا متأَخرًا بعد وجود «المزاينات»، ولكنه قفز قفزات لافتة في زمن قصير وذلك بعد إِنشاء نادي الإِبل الذي يقوم بالإِشراف العام عليه سمو ولي العهد الأَمير محمد بن سلمان حفظه الله، فقد صار الحديث عن جَمال الإِبل اليوم حديثًا متكررًا على أَلسنة الكثيرين حتى من غير المهتمين بقطاع الإِبل.
تعتبر جائزة الملك عبد العزيز التي كانت تقام في أُمِّ رقيبة بقرب حفر الباطن تحت رعاية الأَمير مشعل بن عبد العزيز رحمه الله أَشهر وأَكبر مسابقات جمال الإِبل منذ تشكيل أَوَّل لجنة تحكيم لها عام 1422ه، وقد شجع الأَمير مشعل «المزاينات» التي كانت تقام سواء الفردي منها أَو القبلي واستمرت المسابقات بجهود فردية. وعندما تولت الدولة رسميًّا تنظيم الجائزة الأَهم والأَكبر أَسندتها إِلى دارة الملك عبد العزيز واختارت لذلك موقعًا ثابتًا «الصياهد» ونفذت الدارة النسخة الأُولى من مهرجان الملك عبد العزيز للإِبل عام 1438ه/2017م وفي 26 من شهر شوال من نفس العام الهجري 1438ه صدر الأَمر الملكي الكريم بإِنشاء نادي الإِبل وأَن يكون صاحب السمو الملكي الأَمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد مشرفًا عامًّا على النادي والشيخ فهد بن فلاح ابن حثلين رئيسًا لمجلس الإِدارة، وتولَّى النادي منذ ذلك الحين مسؤولية القيام بفعاليات المهرجان وعلى رأسها مسابقات جَمَال الإِبل فبدأَ بالنسخة الثانية لتتوالى النسخ بعد ذلك.
وإِذا أَردنا النظر إِلى جَمال الإِبل الذي تُشَّكل له اللجان وتتوافد لمشاهدة عروضه الجماهير، وتصرف عليه الجوائز الكبيرة وجدناه يقوم على معايير تعارف عليها أَهل الإِبل وعشاقها؛ فالناقة التي لا يَرى غيرُ المهتم كثيرَ فرق بينها وبين سائر الإِبل يراها أَهل النظر والمعرفة بالإِبل ثروة جمالية ومالية ولربما بيعت بالملايين بينما تباع أُخرى لا تختلف عنها في نظر من لا يعلم ببضعة آلاف.
وقد حاولنا تحديد معايير الجمال كما يراها ملاك الإِبل والمشاركون في لجان تحكيم المسابقات، فصممنا استبانة تحدد مواطن الجمال في الناقة ابتداء برأسها وانتهاء إِلى ذيلها، وقسمنا جَمَال الناقة إِلى ثلاثة محاور: الرأس، والرقبة، والجسم (الوِسْرَة)، ولكل واحد من هذه المحاور مجموعة عناصر تُخَصُّ بمزيد نظر وتدقيق؛ فتسعة عناصر للرأس، وأَربعة للرقبة، واثنا عشر عنصرًا للجسم، وحاولنا إِعطاء كل عنصر درجة أَهميَّة على هذا النحو: «مهم جدًّا»، «مهم»، «غير مهم»، «غير مهم مطلقًا»، وقمنا بتحكيم محتوى هذه الاستبانة من أَهل الخبرة والمعرفة بالإِبل، ثم حكمناها بعد ذلك تحكيمًا أَكاديميًّا. ووفقًا للمستجيبين من الملاك ومحكمي المسابقات الذين بلغ عددهم ثلاثة وأَربعين فقد ظهر لنا بعد تحليل استجاباتهم أَنَّ الجميع متفقون على أَنَّ المحاور الثلاثة داخلة كلها في حقل «مهم جدًّا»، ووجدنا أَنَّ الفوارق في أَهميَّة المحاور الثلاثة ضئيلة جدًّا وخاصة بين محوري الرأس والرقبة، وجاء ترتيب المحاور على هذا الشكل: الرأس، ثم الرقبة، ثم الجسم (الوسرة)
أَمَّا في ترتيب العناصر الداخلية لكل محور فقد وجدنا أَنَّ جمال الرأس يكون أَوَّلًا في ضخامته ومقومات الضخامة تكون ابتداء في «الخد العريض» و«اللحي الطويل»، ثم «اللحي الطافح» وهو أَن يكون الحنك الأَسفل مرتفعًا حتى كأَنَّ الناقة تنظر إِلى أَعلى، ويأتي «العرنون المقوس» بنفس درجة أَهميَّة ضخامة الرأس والعرنون هو الموضع الذي يكون فوق أَنف الناقة مباشرة، ثم يتبع ذلك في الأَهميَّة على التوالي: «الأذن الحادة الواقفة في المجهم» ثم «الأذن الصغيرة النايمة في المغتر» ثم «السبال الطويلة» وهي الشفتان، ثم «الرثمة العريضة» وهي الأَنف والشفة العليا.
وفي محور الرقبة وجدنا أَهميَّة العناصر تترتب كالتالي: «الرقبة الطويلة» ثم «ارتفاع مطلع الرقبة» أَي أَن يكون مطلع الرقبة من الغارب، ثم «الرقبة المعتدلة» أَي الممتدة إِلى الأَمام في ارتفاع، ثم «الرقبة الدقاقة (النحيلة)».
أَمَّا محور الجسم (الوسرة) فقد جاءت النتائج كالتالي: «السَّناد» وهو أَن يكون الغارب (الجزء الواقع أَمام سنام الناقة) مرتفعًا عن العيز (الجزء الواقع خلف السنام)، ثم يأتي «الغارب الطويل»، ثم «السنام الفاهق» أَي المتأَخر إِلى الخلف، ثم «الجنب الطويل» ثم «الخُفّ الكبير في المجهم» ثم «العرقوب الهَزَع» وهو أَن يكون العرقوب بارزًا إِلى الخارج والساق بخفِّه متقدمًا إِلى الداخل، ثم يأتي «النحر الوسيع» و«الذيل الطويل في المجهم» بنفس المتوسط الحسابي، ثم «الذيل القصير في المغتر» ثم «السنام الضخم المعتدل» ثم «الوبرة القرطاء» أَي المعكرشة التي تكون على شكل حلقات، ثم أَخيرًا «الخف الصغير في المغتر».
وعلى ما قدمناه فأَهم العناصر التي توضع عليها معايير جَمَال الناقة خمسة وعشرون عنصرًا موزعة على المحاور الثلاثة: الرأس والرقبة والوسرة.
بعض الأَعضاء المذكورة في معايير الجمال <span class="tooltip">(102)<span class="tooltiptext">الصورة هنا ليست أنموذج الجَمَال، وإنما الغاية منها معرفة المواضع التي يكثر الحديث عنها عند تحديد جمال الناقة.</span></span>
صورة ضوئية لاستبانة معايير جمال الإِبل
سبق لنا أَن أَشرنا إِلى أَنَّ السباق على نجائب الإِبل أَمر متوارث في العرب منذ عصور ما قبل الإِسلام، وأَخباره ترد عرضًا سواء في المكتوب أَو المنقول مشافهة ولم تكن – فيما نعلم- رياضة منتظمة يحتشد لها الناس ويجتمعون، وقد وُجِد في العصر الحديث بعض السباقات الجماهيرية التي كان سباق الهجن من فعالياتها وأَشارت إليه بعض المراجع ووصفته بالناجح كالسباق الذي أُقيم في مدينة بريدة في 24/5/1389ه <span class="tooltip">(103)<span class="tooltiptext">تذكرة أُولي النهى والعرفان بأَيام الله الواحد الديان وذكر حوادث الزمان، إِبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأُولى 1428هـ 2007م 111:6.</span></span>.
وجاء في وكالة الأَنباء السعودية نقلًا عن المشرف العام على ميادين الهجن بالجوف أَنَّ أَوَّل سباق للهجن بالمملكة كان في منطقة الجوف عام 1383ه <span class="tooltip">(104)<span class="tooltiptext"> موقع وكالة الأَنباء السعودية بتاريخ 16/ 11/ 1443هـ.</span></span>.
أَمَّا أَشهر السباقات الرَّسميَّة في المملكة العربية السعودية فهو السباق الذي كانت انطلاقته الأُولى في الجنادريَّة بالرياض عام 1393ه بتوجيه من الملك فيصل رحمه الله وكان بتنظيم رئاسة الحرس الوطني وإِشرافها بالتعاون مع نادي الفروسيَّة واستمر هذا السباق بعد ذلك ثم حظي باهتمام كبير وتشريف ورعاية من الملك فهد وولي عهده آنذاك الملك عبد الله رحمهما الله وصار يقام مصاحبًا للمهرجان الوطني للتراث والثقافة، ولم يغب بعد ذلك.
وهناك العديد من السباقات التي كانت تقام في مناطق المملكة وهي سباقات سنوية مستمرة منها سباق الهجن بالطائف ويقام في الصيف لاعتدال درجات الحرارة بالمنطقة، وسباق الهجن بتبوك ويقام غالبًا في شهر أُكتوبر، وسباق الأَمير محمد بن سعود الكبير للهجن ويقام في شهر سبتمبر ويشمل جميع مناطق المملكة.
ومما تجدر الإِشارة إِليه أَنَّ السباقات التي تُنظَّم محليًّا في المدن والمراكز كانت تقام في جميع ميادين المملكة بشكل شبه مستمر <span class="tooltip">(105)<span class="tooltiptext"> غالب المعلومات من مقال: سباقات ومزاين الإِبل، د.خالد التركي، مجلة العلوم والتقنية، ربيع الآخر 1425 العدد السبعون ص4.</span></span>.
وفي سياق تطوير هذه السباقات أُنشِئ الاتحاد السعودي للهجن عام 2018م لينظم ويشرف على هذه الرياضة العريقة ومن أَكبر سباقاته مهرجان ولي العهد للهجن الذي يقام في الطائف وينطوي على أَكثر من مسابقة ويستمر أَكثر فصل الصيف، ثم كأس الاتحاد السعودي للهجن الذي يقام في نجران في شهر أُكتوبر، ثم يليه كأس اللجنة الأُولمبية والبارالمبية السعودية الذي يقام في تبوك في نوفمبر، ثم يليه كأس وزارة الرياضة الذي يقام في محافظة الأَحساء في شهر ديسمبر، ثم جائزة الملك عبد العزيز لسباقات الهجن الذي يقام في الصياهد في شهر يناير متزامنًا مع مهرجان الملك عبد العزيز للإِبل، وسوف تقام اعتبارًا من شهر يناير 2023 بطولة دوري هجَّان موزعة على تسع مناطق من المملكة ومضافًا إِلى ما تقدم فهناك مارثون يوم التأسيس، ومارثون اليوم الوطني ويقامان بالتزامن مع الاحتفالات الوطنية بهذين اليومين.
ونشير أَخيرًا إِلى أَنَّ هذه الرياضة تقدمت تقدمًا كبيرًا جدًّا على جميع المستويات خلال الخمس سنوات الأَخيرة ومن المظاهر الجليَّة لهذا التقدم أَنَّه أُنشئ فيها الاتحاد العربي للهجن، والاتحاد الآسيوي للهجن، والاتحاد الدولي للهجن التي سيكون لها مجتمعة الأَثر الفعال في نقل هذه الرياضة الأَصيلة إِلى العالمية.
الإِبل جزء من الثقافة الأَصيلة للمجتمع السعودي، لا يماري في ذلك عاقل، وهذا من المعلوم بالضرورة لكل من لديه معرفة بالعرب وأَرض العرب ويضاف إِلى ذلك ما بينَّاه من الالتصاق الوثيق بين الإِبل وبين أَصل الجنس العربي، فكيف إِذا كان هذا العربي لا يزال يعيش في موطن العرب وموطن الإِبل الأَوَّل، ولا يزال يراها في غدوِّه ورواحه؟
إِنَّ المنطق السليم يقتضي أَلَّا تذوب هذه الثقافة والمعرفة وأَن تبقى حيَّة في الأَجيال المتعاقبة التي لا تزال ترى الناقة في غالب الطرق التي تخترق المملكة في جميع الاتجاهات إِلَّا أَنَّ الواقع يقول غير ذلك فقد رأَينا كثيرًا من الناس –متأَثرين بثقافة مستوردة- يسمُّون الناقة جملًا فنسمع ونقرأ: حليب الجمل وحليب الجِمال؛ لأَنَّهم لا يعلمون أَنَّ الجمل لا يطلق في لغة العرب ولا موروثنا الثقافي إِلَّا على الذكر فقط، وأَنَّ إِطلاق الجمل على جنس الإِبل وافد إِلينا لا نعرفه ولا تعرفه لغة العرب ورأَينا بعض اللافتات على الطرق السريعة تقول: معبر جِمال وهي تعني معبر إِبل، ورأَينا غالب أَبنائنا يصيبهم الفزع إِذا اقتربوا من الناقة أَو اقتربت منهم أَمَّا اصطلاحات الإِبل وما يتعلق بها فهي عند كثير من الناس أَشبه بالأَلغاز.
إِنَّ هذا الواقع الجديد الطارئ على بيئة الإِبل الأَصليَّة استوجب وجود برامج وفعاليات حيَّة تبعث في نفوس الناشئة شيئًا من معارف آبائهم عن هذا الحيوان الذي ارتبط بهذه الأَرض في تاريخها القديم والحديث على السواء.
ولا شك أَنَّ المسابقات التي بدأَت بمجهودات فردية من بعض الأَمراء ثم بعض الأَعيان ثم «المزاينات» القبلية نشرت شيئًا من الوعي ولكنه كان محدودًا إِذا ما وازنَّاه بالنقلة الكبيرة التي حدثت عندما تبنت الدولة هذا القطاع رسميًّا وبشكل كامل فأَنشأَت لذلك «نادي الإِبل» لتكون أُولى مهمَّاته الإشراف على مهرجان الملك عبد العزيز للإِبل وتنظيم مسابقات «المزاين» التي كانت أَهم فعاليات المهرجان.
ولم تكن المسابقات مجرد جوائز وفوز ناقة على ناقة، بل كانت إحياءً لثقافة، وإِشاعة للغة واصطلاحات لم تكن تُسمع إِلَّا في بيئة شبه مغلقة واستطاعت بعد التغطيات الإِعلامية وإذكاء روح المنافسة بين الملاك أَن تجتذب إِليها الجماهير من قطاعات وخلفيات متنوعة من المجتمع، فرأَينا الشباب والكهول والشيوخ، ورأَينا من حيث المستويات التعليمية الأَكاديمين ومتوسطي التعليم وأَشباه الأُميين، ورأَينا أَصحاب رؤوس الأَموال يستثمرون في قطاع الإِبل ويضخون عشرات الملايين بشكل لافت ومع العمل المكثف رأَينا مسابقات المهرجان تضاهي في جماهيريتها وحضورها مباريات كرة القدم.
لقد أَصبحنا مع هذا الاهتمام القوي، وهذه الجماهيرية والتفاعل الكبير من أَفراد المجتمع نسمع ونقرأ بشكل متكرر عبارات مثل: «منقيَّة» و«فرديَّة» و«متن» و«بكرة» و«قعود» و«ذود»... الخ وصارت هذه الكلمات وأَخواتها من المستعملات الدارجة في لغة الكثير من الإِعلاميين، وأَصبح الناس يتابعون أَخبار بعض المنقيَّات ويحرصون على الحضور في موعد عرضها.
ومع هذه الحشود صرنا نرى الاحتفالات الكبيرة التي يقيمها المُلَّاك احتفاءً بجماهير منقياتهم ودخل الشعر على الخط ليكون له حضوره أَيضًا فبدأ الشعراء يتسابقون في وصف المنقيَّات فأَوجد ذلك مسابقة أُخرى بين الشعراء في تجويد شعرهم وإِتقان صنعتهم الفنَّيَّة في الوصف وانتقل ذلك إِلى مربَّع آخر وهو مربَّع الإِنشاد، فصار المنشدون يتبارون في أَداء القصائد الجيدة فأَكسب هذا الحراك ثقافة الإِبل انتشارًا واسعًا، فمن لا يصل إليه الإِعلام يصل إِليه الشعر ومن لا يصل إِليه الاثنان يصل إليه الإِنشاد.
ومع انتشار هذه الثقافة استصحبت معها قيَمًا كثيرة ارتبطت بالإِبل منذ عرفها العربي؛ فقيمة الكرم لا تكاد تنفك عن الإِبل، والفروسية ارتبطت بها كذلك، والشجاعة أُخت الفروسية؛ لذلك كثر في شعر المنقيَّات الحديث عن الكرم والشجاعة والبطولات والتاريخ.
في ختام هذا البحث الذي تتبع فيه الباحث بعضًا من أَهم القضايا المتعلقة بالإِبل –فيما يرى- فمن المعنى اللغوي للفظ إِبل مرورًا بأَثر الإِبل في لغة العرب وآدابها إِلى الوقوف على بعض خصائص الإِبل في أَصواتها وسيرها إِلى الإِعجاز في خلق الإِبل، ثم وقف على أَنواع الإِبل وأَقسامها عند العرب قديمًا وحديثًا، ثم تحدث عن أَهمية الإِبل في حياة العرب، والعلاقة الوثيقة بين العربي والإِبل، ثم عمَّا حظيت به الإِبل من اهتمام كبير في هذا العصر، ثم وقف على قضية جَمال الناقة ومعايير هذا الجَمال من وجهة نظر ملَّاك الإِبل ومحكمي مسابقات الجَمال، ولم يغفل عند الحديث عن المسابقات الوقوف على شيء من تاريخ سباقات الهجن وواقعها اليوم؛ وهي الرياضة التي عرفت قبل المنافسات حول جمال الناقة بزمن طويل.
وقد حاول الباحث في هذا البحث المختصر معالجة ما تقدم من قضايا بأُسلوب سهل –قدر المستطاع- واضعًا في الحسبان القارئ البعيد عن عالم الإِبل الذي يرغب في بعض المعرفة التفصيلية عن هذا الحيوان.
وإِنَّ من أَبرز ما أَكَّد عليه البحث قضية التفريق والفصل التام بين حلائب الإِبل ونجائبها، وبين مصطلح الجِمال والإِبل، والتأَكيد على أَنَّ هناك خلطًا كبيرًا وتعميمًا عند كثير من الناس –وخاصة في الكتب- بين النجائب وعموم الإِبل؛ فتنزَّل صفات النجائب وخصائصها على العموم، وأَكَّد البحث على أَنَّ الإِبل إِذا أُطلقت عند العرب فإِنَّ المقصود بذلك ابتداء ما يقتنى للحلب وما لم يكن كذلك فإِنَّهم يصفونه بوصفه الذي تفرد به، فيسمون النجائب والزوامل والسواني...
ومما عمد إِليه الباحث الإِشارة إِلى ما حدث من اندثار لبعض المصطلحات والأَلفاظ المتعلقة بالإِبل وما طرأَ من استعمال أَلفاظ لم تشر إِليها كتب اللغة كما تعمَّد كثرة الاستشهاد بشعر متأَخري عرب الجزيرة على كثير من المعاني والأَلفاظ والقضايا المتعلقة بالإِبل التي احتاج إِلى تقريرها بمثل هذه الاستشهادات آملًا أَن يضيف هذا الجهد شيئًا إِلى عمل السابقين والله المستعان وعليه التكلان.