تعد الهدية أحد أهم أشكال التفاعل الاجتماعي التي تحمل معها معاني اجتماعية واقتصادية كثيرة، ويوجد حولها تراث كبير في الأحكام الدينية والأنثروبولوجيا والأدب؛ إلا أنها تحمل معها مضامين اجتماعية وثقافية متعارفًا عليها، وتعبر عن تعاقد اجتماعي ضمني ملزم أدبيًّا، ولكنه غير مكتوبٍ.
والهدية شكل من أشكال العطايا المادية المجانية التي تنطوي على تبادل رمزي، له منافع معنوية رمزية ومادية، وهي بهذا التعريف الواسع تشترك مع مفاهيم: الهبة، والصدقة، والوصية، والمنحة، والكرم، والضيافة.
تكاد تجمع الدراسات حول الهدية في الشعوب القديمة والبدائية على أنها ظاهرة بشرية عامة، وبداخلها رموز ومعانٍ اجتماعية واقتصادية.
يهدف هذا البحث إلى التعرف على ثقافة الهدية في المجتمع السعودي وتحولاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مع مقدمات تاريخية وفلسفية، واتبع البحث المنهج الاستطلاعي الذي يهدف إلى التعرف على واقع الهدية والتحولات التاريخية لها، والمنهج التحليلي الذي يهدف إلى التعرف على القوانين الاجتماعية التي تنظّم ظاهرة الهدية، مع إجراء بعض المقابلات الإثنواعرافية مع عينة من أفراد المجتمع.
يركز هذا البحث على التالي:
تعتبر الهدية تفاعلا اجتماعيًّا ثانويًّا، وتكون مصاحبة للتفاعل الاجتماعي العام والرئيسي؛ إلا أن تأثيرها كبير في المجتمع، وهي أحد المعايير التي تقاس بها الروابط الاجتماعية في المجتمع.
وقد تعمق مفهوم الهدية فلسفيًّا بعد دراساتها الأنثروبولوجية والاجتماعية منذ مطلع القرن العشرين؛ إذ حلَّل مارسيل موس ظاهرة تبادل الهدايا وتملكها بطرق مجانية وظاهرها المحبة، إلا أنها ملزمة وواجبة الرد في مناسبات أخرى، وبالتالي فثقافة الهدية تتقاطع مع فلسفة الأخلاق والاقتصاد.
ودرس مالينوفسكي في كتابه "أبطال غرب المحيط الهادي" (1922) ظاهرة الكولا Kula، لدى سكان تروبريان، ولاحظ أنهم يتبادلون أساور صدفية مقابل عقود أثناء الاحتفالات الكبرى، وكانت الهدايا تدور في اتجاهين، ومن يحصل على هدية فإنه يحتفظ بها مدة وجيزة، ثم يهديها، ويرى أن هذه العملية تعيد تنظيم الشبكات الاجتماعية وتراتبيتها، كما يمكن أن تكون الهدية عبارة عن دعوة للعشاء، مقابل دعوة يتلقاها ممن دعاهم <span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">فيليب لابورت- تولرا وجان. بيار فارنييه، إثنولوجيا أنتروبولوجيا، ترجمة مصباح الصمد، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 1، 2004، ص 303</span></span>.
ويمكن ملاحظة ظاهرة الكولا في ثقافة كثير من المجتمعات العربية، ونلحظ في المجتمع السعودي عملية تدوير هدايا لحوم الأضاحي في موسم عيد الأضحى.
وأضاف عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو عنصر الفارق الزمني بين الهدية أو الهبة وزمن ردها؛ إذ من الواقع المسلم به اجتماعيًّا في جميع المجتمعات تقريبًا منع رد الهدية في الحال؛ لأنَّه سوف يعد رفضًا لها، ووظيفة الفارق الزمني هي إقامة عازل بين الهدية وردها، والسماح للفعلين أن يبدوا أفعالًا فردية دون رابط بينهما؛ إذ من النادر عدم تلقي الرد أو ما قد يسمى نكران الجميل، فالتشويق وعدم اليقين يعملان على وجود هذا الفارق الزمني بين اللحظة التي نعطي فيها، واللحظة التي نتلقى رد العطاء فيها<span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext">بيار بورديو، أسباب عملية: إعادة النظر بالفلسفة، بيروت: دار الأزمنة الحديثة، ط 1، 1998، ص 209.</span></span>.
ويمكن إضافة عنصر آخر، وهو عنصر التبرير الخفي داخل الهدية؛ حيث تقع مواقف اجتماعية قد تهدد العلاقات بالتصدع مما قد يلحق الأذى بسمعة أحد الأطراف، ويصعب مع الموقف إعادة بناء الجدل حوله بعد انتهائه وتفرق الأطراف، فتكون الهدية أحد اشكال تبرير الخطأ أو إعلان حسن نوايا.
ويمكن دراسة ظاهرة الهدية في ضوء نظرية الاقتصاد المجاني؛ وذلك لأنها تؤكد على عدم انفصال ما هو اجتماعي عما هو اقتصادي، وما يدفعه الشخص من هدايا مادية، سوف تعود إليه إما بعوائد مادية، وإما بأساليب معنوية ترفع من مكانته الاجتماعية، مما يسهم في رفع مكانته الاقتصادية، بامتلاكه قيم الثقة والكرم والبذل والعطاء.
وتعد الهدية أحد الآداب الإسلامية، وتندرج ضمن قواعد السلوك وآدابه، على المستويين الرسمي والشعبي؛ وذلك لأنها تعزز أواصر العلاقات، وترمم الجفوة والقطيعة.
وتتسم الهدية بالثبات والديمومة والاستقرار في المجتمع، وتكاد تكون الهدية هي القيمة الاجتماعية الوحيدة تقريبًا التي بدأت مع بداية حياة الإنسان على الأرض ولم تتوقف حتى الآن، كما أنها تتسم بأنها تُقدَّم من جميع طبقات المجتمع ويستلمونها، سواء طبقات الأغنياء أو الفقراء، وتتسم بأنها موجهة للأحياء والأموات، والذكور والإناث، والصغار والكبار، والسليم والمريض. وكل هذه السمات تدعو للتساؤل عن سر بقائها وانتشارها وعالميتها، وسر ضعف الكتابة عنها كموضوع اجتماعي.
ترد الصورة الذهنية، المتمثلة في الانطباعات والتصورات الأولية، عن الهدية في التراث العربي والإسلامي في سياق إيجابي، وتحث النصوص الدينية على الهدية، وأنَّها من أسباب التواصل الاجتماعي وتحسين المزاج العام، ويشتهر في هذا المجال حديث نبوي ينص على "تهادوا تحابوا" <span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext"> أبو بكر، أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الكبرى، تحقيق عبدالله بن عبدالمحسن التركي، السعودية: مركز هجر للبحوث والدراسات الإسلامية، ط1 ، 2011، ج 12 ص 296</span></span>. وقد كان لهذا الحديث فاعلية كبيرة في سلوك المسلمين، من خلال تنشيط السوق الاجتماعي والاقتصادي للهدايا.
ويؤكد الشعر العربي بكثافة على قيم البذل والعطاء بلا مقابل، مما يعني أن العطاء من المال والجاه تحول إلى مبدأ في ذاته، ولا يحتاج إلى تبرير؛ لأن معانيه واضحة لجميع فئات المجتمع، ولأن عوائد العطاء ستكون مادية للمعطى إليه، ومعنوية للمعطي.
ويشير التراث الأدبي إلى أنَّ الهدية وسيلة للتماسك الاجتماعي. جاء في كتاب "المحاسن والأضداد" المنسوب للجاحظ: "والهدية تجلب المودة، وتزرع المحبة، وتنفي الضغينة؛ وتركها يورث الوحشة، ويدعو إلى القطيعة؛ والهدية تصيِّر البعيد قريبًا والعدو صديقًا، والبغيض وليًّا، والثقيل خفيفًا...
إذا أردت قضاء الحاج من أحدٍ | قدِّم لنجواك ما أحببت من سببِ
إن الهدايا لها حظٌ إذا وردت | أحظى من الإبن عند الوالد الحدبِ <span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext">( ) عمرو بن بحر الجاحظ، المحاسن والأضداد، بيروت: دار ومكتبة الهلال، 1423هـ، ص 319.</span></span>
ويقول شاعر:
إنَّ الهدية حلوة | كالسحر تجتلب القلوبَا <span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext"> ابن قتيبة الدينوري، عيون الأخبار، بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ، ج 3 ص 42.</span></span>
ويؤكد بعض الكرماء أن هداياهم تكون من زوائد المال، وليست من أصل المال، يقول يزيد بن حبناء التميمي:
ولا تعذليني في الهدية إنَّما | تكون الهدايا من فُضول المغانمِ<span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext">أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، الوحشيات، وهو الحماسة الصغرى، تحقيق عبد العزيز الميمني الراجكوتي، مصر: دار المعارف، ط 3، ص 11.</span></span>
وثقافة الإهداء من المال الزائد، دون تكلف، كانت أحد أهم الأصول الثقافية في المجتمع العربي، واستمرت حتى ما قبل عصر التقنية والإعلام الجديد الذي مارس الضغوط الناعمة على الشعوب، وحول الهدايا إلى استهلاك مادي، ومادة للتصوير والفرجة.
ويؤكد البعض أن قيمة هديته في رمزيتها، فقد أهدى أبو تمام إلى الحسن بن وهب قلمًا، وكتب إليه:
قد بعثنا إليك، أكرمك الله | بشيء، فكن له ذا قبول
لا تَقسْهُ إلى ندى كفك الغَمْر | ولا نيْلك الكثير الجزيل
واغتفر قلة الهدية مني | إنَّ جهد المقلّ غير قليل <span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext"> ابن قتيبة الدينوري، عيون الأخبار، مرجع سابق، ج 4 ص 36.</span></span>
والمعنى الرمزي في الهدية، هو العنصر الثقافي الأساسي الثاني في الثقافة العربية، والتي بدأت تتآكل في السنوات الأخيرة.
تؤكد القيم الاجتماعية للهدية في الثقافة العربية، أنها تكتسب الديمومة وتتوارثها الأجيال دون تغيير في شكلها أو معانيها، وقد انعكس التراث العربي الكبير عن معاني الهدية ومبرراتها الأخلاقية على الشعوب العربية حتى ما قبل عصر الإعلام وتطبيقات التواصل.
تطور نظام الهدايا الدبلوماسية والسياسية عبر العصور من خلال مراحل أساسية، ويمكن تقديم عرض موجز لكل مرحلة، كما يلي:
ترد الهدية على المستوى الدبلوماسي قبل الإسلام بسياق مختلف، يذكر القرآن الكريم عن ملكة سبأ أنَّها ردت على رسالة النبي سليمان عليه السلام بهدية، ﴿وَإِنِّي مُرۡسِلَةٌ إِلَیۡهِم بِهَدِیَّةࣲ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ یَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ، فَلَمَّا جَاۤءَ سُلَیۡمَـٰنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالࣲ فَمَاۤ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَیۡرࣱ مِّمَّاۤ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِیَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ﴾. ويؤكد هذا المشهد أنَّ الهدية كانت وسيلة استطلاع دبلوماسية، وقد ردَّها سليمان؛ لأنه يدرك المغزى السياسي لها.
وقد كشفت دراسات التاريخ القديم عن هدايا متبادلة بين ملوك آشور في العراق، وحكام الشرق الأدنى القديم في مصر والشام، تتمثل في قطع من حجر لازورد أو قوالب من ذهب، وغالبها لأغراض سياسية، إما لمنع هجمات متوقعة، وإما لاحتواء ملوك <span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext"> عبدالغني غالي فارس، الهدايا المتبادلة ما بين ملوك آشور وسائر حكام الشرق الأدنى القديم: دراسة تاريخية تحليلية، العراق: جمعية المنتدى الوطني لأبحاث الفكر والثقافة، حولية المنتدى، العدد 40، تشرين الأول 2019م، ص 223</span></span>.
وهي تكشف أن الهدية ظاهرة اجتماعية واقتصادية ودبلوماسية موغلة في القدم، وراسخة في كل العصور وبين جميع الشعوب، وتحقق معاني سريعة التأثير.
أسس النبي صلى الله عليه وسلم لثقافة الهدية، ووسع مجالاتها حتى إنه أهدى ملوك عصره، وتقبل هداياهم مثل: النجاشي والمقوقس وملك الروم <span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext"> عبدالحافظ الكبيسي، الهدايا التي أهداها الملوك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، العراق: مجلة العلوم الإسلامية، العدد 11، عام 2015، ص 258- 272</span></span>، وصارت الهدايا راسخة في الثقافة الإسلامية والعربية على المستويين الشعبي والرسمي.
ومن الهدايا الدبلوماسية الشهيرة في سنة 338هـ وردت رسل قسطنطين بن ليون ملك الروم إلى الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، فتأهب الناصر لورودهم، وأمر أن يتلقوا أعظم تلق وأفخمه، وأحسن قبول وأكرمه، فوصل رسل ملك الروم حائرين مما رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان ودفعوا كتاب ملكهم، وبالغ الناصر في إكرام الرسل، ثم صرف هؤلاء وبعث معهم وزيره هشام بن هذيل بهدية حافلة ليؤكد المودة ويحسن الإجابة <span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext"> صلاح الدين المنجد، رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة، ج2، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1947، ص 125، 126</span></span>.
ويظهر من سلوك الخليفة الناصر مراسم دبلوماسية متعارف عليها عند تسلم الهدية، وردها بهدية مماثلة أثناء استقبال الهدية.
نظّم السلوك الدبلوماسي في العصر الحديث عمليات الإهداء وقبول الهدايا، وجعلها في حدود رمزية ضيقة، منعًا لأي مباهاة أو تأثير في العلاقات الدبلوماسية والشخصية.
كما استقرت الأعراف الدبلوماسية على قبول الهدايا الرمزية، وعلى تقديمها بهدف توثيق الصداقة، ويعد تقديم الهدايا الثمينة مستهجنًا وتحظره غالبية الدول، وتحتم على مسؤوليها إعادة الهدايا الثمينة إلى خزينة الدولة، كما يمنع تقديم الهدايا النقدية في العرف الدبلوماسي، ويعد سلوكًا مستهجنًا وإهانة من المعطي للمتلقي <span class="tooltip">(11)<span class="tooltiptext"> أحمد جمعة، قواعد اللياقة والمجاملة في العمل الدبلوماسي، الرياض: المعهد الدبلوماسي، ص 94</span></span>.
ومن الأعراف الدبلوماسية أن يتبادل السفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي الهدايا الرمزية فيما بينهم في المناسبات السعيدة لبلدانهم، ويحرص سفراء الدول الآسيوية على تقديم المشغولات اليدوية في تراثهم، وجرت عادة السفراء السعوديين تقديم التمور مع دخول رمضان للسفراء المسلمين <span class="tooltip">(12)<span class="tooltiptext"> أحمد جمعة، قواعد اللياقة، مرجع سابق، ص 96</span></span>.
ومن أبرز ما يمكن مراعاته أن تكون الهدايا في مغلف خاص، ومعها بطاقة لكتابة عبارات تحية وتمنيات بالخير، وتتسم بأنها قصيرة وتكتب بخط اليد، لجمال وقعها في النفس، وتصمم المؤسسات الرسمية والدبلوماسية أغلفة للهدايا بحيث تحمل هوية الدولة أو المؤسسة.
وتعنى إدارة المراسم في كثير من الدول بوضع نظام للهدايا وتلقيها والتعامل معها، وتحديد الهدايا الشخصية التي تكون من حق رجالات الدولة أن يحصلوا عليها.
عرفت الدبلوماسية السعودية نظام الهدايا منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود؛ حيث كان يستقبل الوفود، ويمنحهم الهدايا، ويتبادل الهدايا مع رؤساء الدول المجاورة، ومع أمراء البلدان وشيوخ القبائل، واستقرت هذه التقاليد الدبلوماسية لدى أئمة الدولة السعودية الأولى والثانية من بعد الإمام محمد.
ويمثل عصر الملك عبدالعزيز مرحلة تحول أساسية في نظام الهدايا الملكية الدبلوماسية؛ وذلك بسبب استقرار المملكة سياسيًّا واقتصاديًّا وإعلان توحيدها ودخولها في منظومة الأمم المتحدة. وقد وثق الرحالة والمستشارون والأخبار الصحفية بعض مواقف هدايا الملك عبدالعزيز للملوك والرؤساء.
يذكر الزركلي، مستشار الملك عبدالعزيز، أنه ما وفد على الملك قاصد ولا زائر، من أبناء الصحراء أو من رؤساء الدول، إلا حباه منحة أو أهدى إليه هدية تتناسب مع صفته في المجتمع، وأكثر ما تكون الهدية نقدًا من المال، أو "بقجة" تتضمن كسوة كاملة تتكون من: عباءة وعقال مقصب وزبون وغترة من شال كشميري وساعة ذهبية وقد يضاف إليها الخنجر، ويضاف للكبراء، سيف مرصع، وهدايا النساء كسوة وعقد من اللؤلؤ وبعض الحلي والمجوهرات <span class="tooltip">(13)<span class="tooltiptext"> خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، بيروت: دار العلم للملايين، ط 5، 1992، ج 4 ص 1426</span></span>.
وكان الملك عبدالعزيز يحتفظ في القصر بكمية من اللؤلؤ والجواهر الأخرى والسيوف والخناجر المرُصّعة بالأحجار الكريمة لتقديمها إلى الضيوف البارزين، فعلى سبيل المثال، بعد معركة السبلة بقليل، وصل إلى الرياض وفد من شيوخ الكويت برئاسة الشيخ أحمد الجابر الصباح، كانوا قد أتوا لتهنئة الملك على انتصاره في تلك المعركة الحاسمة، وكان موظفو الديوان ينتظرون بأنفاس محبوسة كيف سيعالج جلالته الموقف الحرج؛ لأن الخزينة كانت مُرهَقة، لكن دهشة الجميع تجاوزت الحدود حين رأوا الضيوف يغادرون محملين بأسخى الهدايا. فقد استطاع الملك بطريقة ما أن يزوّدهم جميعاً بسيارات وسيوف مطليّة بالذهب والفضة ومبالِغ من المال <span class="tooltip">(14)<span class="tooltiptext"> محمد المانع، توحيد المملكة العربية السعودية، ترجمة عبدالله الصالح العثيمين، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1415، ص 241</span></span>.
ووجد في تركة الرئيس الأمريكي روزفلت بعد وفاته هدايا كان يعتز بها، عبارة عن سيفين مرصعين بالجواهر، أهداهما إليه الملك عبدالعزيز، ويقدر مبلغ أحدهما بمئة ألف دولار، يذكر الزركلي أن كامل الهدية كانت سيفين، أحدهما بالجوهر والآخر مذهب، وكسوة مكونة من بشت وغترة وعقال، وسبع كسوات مثلها وبعضها مزود بخنجر مذهب، وبعضها مزود بساعة جيب ذهبية، وصرتين كبيرتين من المال لمرافقيه <span class="tooltip">(15)<span class="tooltiptext"> خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة، مرجع سابق، ج 3 ص 1167</span></span>.
كذلك فقد قدم للملك فاروق عند لقائه به في رضوى سيفاً ملكياً وخنجراً عربيين مرصعين بالجواهر الكريمة <span class="tooltip">(16)<span class="tooltiptext"> اجتماع رضوى التاريخي، "أم القرى" ع 1040، س 21، ص 1.</span></span>، وأهدى تشرشل رئيس وزراء بريطانيا؛ سيفاً وخنجراً فاخرين مطعمين بالذهب، ومرصعين بالأحجار الكريمة، منقوشين بنقوش فنية جميلة، كما قدم إلى تشرشل ملابس عربية جميلة، وعباءة ثمينة في حقيبة من الجلد؛ ثم قدم تشرشل هدية للملك عبدالعزيز تتمثل بصندوقين من العطر الشذي الفذ، المستخلص من أفضل الخلاصات العطرية المركزة من العنبر، والياسمين والمسك، وكل صندوق به ست زجاجات من تلك العطور، وقدم الصندوقين هدية للملك عبد العزيز الذي تقبلها بقبول حسن <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext"> عبد الرحمن محمد موسى الحمودي، الدبلوماسية والمراسم السعودية، دار الراية الشرقية، ط4، د.ت، ج 1 ص 183. </span></span>.
وتنبع هدايا الملك للشخصيات السياسية من هوية المجتمع السعودي؛ وذلك لأنها معدة للذكرى والحفظ في المتاحف الرسمية ومقتنيات رؤساء الدول، ومن كسوة مناسبة للاستخدام، أما الشخصيات الرسمية، فتكون هداياهم سيوفا عربية مطرزة بالجواهر أو الذهب.
وكان من أطرف الهدايا التي تقبلها الملك عبدالعزيز، أنه عندما التقى الرئيس روزفلت، وكان مقعدًا على كرسي متحرك، وكان الملك عبدالعزيز في أواخر عمره، ويعاني من المشي، فأهداه روزفلت كرسيًا متحركًا، فوجد الملك فيه راحة، ولم يتركه حتى أثناء تنقله داخل قصره، وإذا احتاجه قال: هاتوا الحصان، واستمر معه الكرسي من عام 1364هـ/ 1945م حتى وفاته <span class="tooltip">(18)<span class="tooltiptext"> خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة، مرجع سابق، ج 4 ص 1437</span></span>.
استمر نظام الهدية في إدارة المراسم يعمل وفق التقاليد الملكية المتوارثة في نظام الهدية، حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز؛ حيث قدم الهدايا لرؤساء الدول الذين زاروا المملكة، ويقدم هدايا سنوية تعرف بهدية خادم الحرمين الشريفين للحجاج المغادرين.
وقد توجت التقاليد الملكية في الهدايا بصدور نظام أساسي للهدية في صفر 1437هـ/ نوفمبر 2015، بعد أن وافق مجلس الوزراء على قواعد تنظيم قبول المسؤولين في الجهات الحكومية للهدايا التي تقدم إليهم في الزيارات والمناسبات الرسمية.
للمجتمع السعودي رصيد كبير من ثقافة الهدية، وتكاد تصل مجموع المناسبات العامة والخاصة، التي جرت العادة في الثقافة السعودية أن تقدم فيها الهدايا إلى أكثر من ثلاثين مناسبة في العام، إضافة إلى الهدايا بلا مناسبة، ومن أشهرها الهدية الموسمية المعروفة بالصوغة، وهي تقدم في قماش بداخله مستلزمات للاستخدام اليومي وكالعطور والأقمشة، وإذا كانت في رمضان فتسمى صوغة رمضان، وتشمل سجادة ومصحفًا وأدوات ذات روحانية دينية، وهكذا صوغة العيد وبقية المناسبات، وانعكس كثير منها في الأشعار والأمثال الشعبية، وقد استحدثت أشكال من الهدايا الغربية؛ مما ضاعف من عدد المناسبات التي تقدم فيها الهدايا وتقام من أجلها الحفلات الخاصة.
وتتفق الثقافات الفرعية السعودية في هدايا المناسبات العامة والخاصة؛ ولكنها تختلف في أسمائها ومحتواها. وترتبط الهدايا إما بزمن، كالأعياد ودخول رمضان ومواسم قطف الثمار والتمور، أو بحدث، كالعودة من سفر أو زواج أو الانتقال لمسكن جديد أو شفاء من مرض أو ترميم تصدع في العلاقات أو نجاح في التعليم أو الوظيفة.
وتتميز منطقة الحجاز بثقافات فرعية متأثرة بالروح الدينية، ووجود الحرمين الشريفين؛ حيث يصنع الأهالي الحلوى، ويوزعونها في رمضان والأعياد وفي محرم، خاصة في المدينة المنورة بتأثير من الهجرة النبوية إليهم.
ويشتهر في المنطقة الشرقية وبلدان الخليج هدية النقصة من طبخة الفطور في رمضان، وهي عادة متوارثة وراسخة في ثقافة الشعوب، وتكون على شكل مقاسمة الجيران والأقارب مما يمتلكون من هدايا سفر، أو وجبات منزلية في موسمي السفر والصوم.
توجد مناسبات اجتماعية كثيرة، يتأكد فيها تقديم الهدايا التزامًا بقواعد السلوك وآدابه، وقد عاش المجتمع بمجموعة مناسبات محدودة العدد، ثم توسعت المناسبات مع توسع مدارك الإنسان والانفتاح الاجتماعي وسيادة عصر الاستهلاك، إلا أن الهدايا في المجتمع التقليدي لها أسماء خاصة بكل منطقة.
ويمكن أن نفهم حجم تماسك الأسرة السعودية والتحولات التي طرأت عليها من نظام الهدية فيها، من خلال تكثيف المعاني لجميع المناسبات الزواجية وتوثيقها بالهدايا؛ وذلك لأن الهدايا الخاصة بالأسرة هي الأكثر عددًا من بين هدايا جميع المناسبات الاجتماعية.
فالهدية، وإن تنوعت اسماؤها، واختلفت مناسباتها، وبدت بشكل مكلف على الزوج؛ إلَّا أنها تنطوي على تنظيم اجتماعي يملأ كثيرًا من الفراغات، ويقلل حجم المشكلات العائلية، بل قد تنشأ مشكلات عائلية في حال الإخلال بنظام الهدية.
ومن أهم القوانين الاجتماعية للهدية أن من يقدم هدية يعرف أنها ستعود إليه، ولكن المؤكد أنه من المحرم توضيح هذا السر الشائع، وينبغي أن يبقى مضمرًا <span class="tooltip">(19)<span class="tooltiptext"> بيار بورديو، أسباب عملية، مرجع سابق، ص 215.</span></span>.
وتشدد الثقافة السعودية على نوع الهدايا؛ بحيث يكون مناسبًا لعمر الشخص المهدى إليه وجنسه والمناسبة التي تقدم فيها، وأن الرجال يهدون الرجال، ولا يهدون النساء إلا من يجمع بينهم صلة قرابة، كما أن النساء يهدين النساء وأقاربهن من الرجال.
ويفضل الرجال الهدايا البسيطة وغالبها تستخدم في تقديم الذات، مثل الخاتم والساعة والقلم والكبك والعطور والمسبحة؛ بينما تفضل النساء العطور والذهب، وقد ظهر سوق اقتصادي كبير يتمثل في شركات متخصصة في تجميع هدايا متنوعة وذات أسعار مناسبة وبأغلفة أنيقة، وتبيعها عبر مواقع الإنترنت وتوصلها باسم المهدي إلى المهدى إليه.
وعند مقابلة عينة من الشباب السعودي، وسؤالهم عن أهم المناسبات التي يحرصون على تقديم الهدية فيها، مع ذكر السبب. جاءت إجابات متنوعة، كما يلي:
يقول محمد (32 سنة): "أحب أن أهي أنواع القهوة والشاي وقطع الأنتيك، أما المقربين جدًا، فتكون لهم هدايا مختلفة، مثل: حجز لتجارب جديدة كالهايكنج، وورش العمل، وتذاكر حفلات فنية، وتذاكر سفر وفنادق. وأحب أهدي أيضًا الأشياء التي تزيد قيمتها مع الوقت ولا تنسى. وقد قررت مؤخرًا التوقف عن إهداء الورود، لأنها غالية الثمن ومؤقتة وليس لها داعي؛ ولذلك أزعل إذا أهداني أحد ورد، لأنه يتكلف فيها، ولا تسعدني".
ويقول إبراهيم (37 سنة): "أحب أهدي الأشياء البسيطة، بحسب الشخص، ولكني أتجنب إهداء الورد والشوكولاتة، لأن الورد يذبل بسرعة والشوكولاتة تذوب مع حرارة الجو ويفسد شكلها".
ويقول علي (39 سنة): إنه يحرص على إهداء "كل صديق يحقق نجاح مشكوك فيه، مثل التقدم المهني وفتح فروع لمحلاته، أو الحصول على موافقات وتراخيص، أو تجاوز عثرات ومديونيات، فهذه كلها تستحق الاحتفال والهدية، وغالبًا ما تكون الهدية وجبة عشاء أو كيك وحلوى".
ويقول عبدالرحمن (56 سنة): إنه يفضل أن يهدي "شنطة فيها عود ودهن عود ودهن ورد، وسجادة صلاة بلجيكية سميكة، وقماش صوف فاخر غير موجود في السوق، وأي أدوات مفيدة وصناعتها قوية أو فكرتها ذكية، والفكرة هي أن تبقى الهدية ذكرى جميلة لأطول مدة ممكنة، ولا يتحقق ذلك إلا بالندرة والتميز والقيمة. وقد اتجهت مؤخرًا للبحث عن شتلات زراعية نادرة وتقديمها كهدايا لمحبي الزراعة المنزلية؛ وذلك لأنها تلفت الانتباه".
ويقول حمد (34 سنة): إنه يحرص كثيرًا على هدية الزواج، "لأنها مرحلة فارقة في العمر، ويتبعها تكاليف كثيرة، ولذلك أفضل أن أدفعها نقدًا، وفورًا لعدم احتمال التأجيل"
ويلحظ من مضمون رؤية كثير من الشباب السعودي للهدية تأثره بالعولمة، والاتجاه نحو اتخاذ قرارات فردانية تلائم ظروفه الخاصة، وبيئته المحيطة به، ولم يعد كثير منهم منصهرًا في التقاليد الاجتماعية المتعلقة بالهدية. وحتى من هم فوق عمر الخمسين عامًا تغيرت رؤيتهم لمضمون الهدية.
ومن أبرز تقاليد هدايا المجتمع السعودي في مختلف المناسبات العامة والخاصة ما يلي:
اعتاد كثير من الناس قبل الزواج، وقبل توثيق عقد الزواج، المعروف بالخطوبة أو الخِطبة، أن يقدم الزوج المفترض هدايا للزوجة أثناء الخطبة، وهي المرحلة التي يحصل فيها الشاب على الموافقة الشفهية من أهل الزوجة.
وتعارف المجتمع على أنها هدايا تقدم بصفة شخصية وودية، وإذا تعثر مشروع الزواج قبل إتمامه فإنَّه لا يترتب عليه أي التزامات قانونية ولا اجتماعية؛ وذلك لأن العقد لم يوثق رسميًّا والمهر لم يدفع، والفتاة عند أهلها.
تعد الملكة بداية دخول العلاقة الرسمية، ويتم فيها توثيق عقد الزواج ودفع المهر، واعتادت الأسر أن يكون بين الملكة والدخول بالزوجة أثناء حفل الزفاف مدة زمنية متفاوتة، بحسب الاتفاق. وأثناء هذه المدة يقدم الزوج مجموعة هدايا لزوجته، ولأمها ووالدها بمناسبة عقد القران على الزوجة رسميًّا، وهي تعني التقدم العملي في إتمام الزواج.
وقد كانت الهدايا في السابق تقتصر على الأقمشة والعطور للزوجة ووالدتها وقريباتها من الدرجة الأولى والثانية، وإذا تعثر إتمام الزواج؛ فإن الزوج ينسحب بصمت، ولا يطالب بقيمة هداياه لسيادة ثقافة الترفع والتعفف والانفصال بالمعروف.
ولكن السنوات الأخيرة شهدت توسع الأزواج بتقديم هدايا حديثة وفاخرة وباهظة الأثمان، بشكل مكلف، ويفوق قدرات كثير من الأزواج المحتملين، مع اقتصارها على أهل الزوجة أو والديها. وفي حال تعثر مشروع الزواج وفسخ العقد؛ فإنه يُسمح للزوج أن يسترد المهر المدفوع والموثق رسميًّا، أما الهدايا فقد تتسبب في نزاع بين الأسرتين، ما بين إلزامية رد الهدية أو التنازل عنها وديًّا، أو تفصل في ذلك المحكمة. وقد نص نظام الأسرة الأخير على أن جميع الهدايا المقدمة أثناء الخطبة أو ما قبل الزواج هي ملك للزوجة، ولا يجب عليها ردها في حال تعثر الزواج.
تسمى هدية الزواج عانية، ورفدة أيضًا بحسب المنطقة، وهي مأخوذة من الإعانة والرفد، وتقدم من الأقارب والأصدقاء ومن بعض الضيوف المدعوين للزوج بوصفه الشخص الذي يتحمل تكاليف الزواج كاملة.
وتتبع مناطق المملكة وقبائلها عادات متنوعة في هدية الزواج، وقد مرت جميعها بتاريخ من التحولات واختلاف المعاني الرمزية للهدية. فقد كانت الهدية تقتصر على خروفين يقدمان للعريس؛ وذلك لأنه يتكفل بإقامة وليمة العشاء لجميع المدعوين من الرجال والنساء، وكانت الخراف "الذبايح" تسد عجزًا كبيرًا في ميزانية الوليمة.
وقد كانت الأفراح تقام في أراضٍ واسعة في الحي نفسه، وما على الداعي إلا أن يرصَّ الأرض، ويفرشها بالسجاد البسيط، ويتفق مع متعهد لتركيب الإنارة، وإحضار طباخ وقهوجية مع معداتهم لإصلاح القهوة والشاي والعشاء في الموقع نفسه.
بعد بروز ظاهرة قصور الأفراح المتخصصة في إقامة الولائم وتجهيز الأماكن للزواجات، انتهت فكرة تقديم الخراف بصفتها هدايا، واستبدلت بمبالغ نقدية تعادل قيمة خروفين في الغالب، وهي تقدم بطريقة شخصية وسرية، بمعنى أن تكون في ظرف يدخل بجيب المتزوج أو يسلم بيده بسرعة وخفة أثناء السلام عليه وتهنئته. أما في جنوب المملكة فقد جرت عادة بعض القبائل أن تقدم الهدية للمتزوج على شكل مبلغ نقدي جماعي باسم القبيلة، ومعه بيان بأسماء المهدين وأمام كل اسم المبلغ الذي قدمه.
وتوجد أشكال متنوعة في هدايا الزواج، مثل: الهدايا التي تقدم للزوجة بعد الخطبة أو الملكة، وبعد الزواج، والهدية التي يقدمها الزوج لزوجته بعد الملكة، وصباح الزواج.
هدية اعتاد المجتمع قديمًا أن يقدمها الزوج لزوجته في صباح اليوم التالي من زواجه. وقد تنطوي على رمزية التقبل وبداية تعايش مبني على الود؛ وذلك لأنَّ من عادات المجتمع في الأجيال السابقة أن الزوج لا يعرف زوجته، ولا يرى وجهها إلا في ليلة الزواج؛ إذ كانت ترتيبات الخطبة والزواج تتم بالوكالة عبر الأم والأخوات غالبًا.
والصباحة من الهدايا المعروفة في المجتمع التقليدي، وقد اندثرت الآن، أو انخفض الاهتمام بها كثيرًا.
جرت العادة الاجتماعية أن تكون هدايا المواليد من التقاليد النسائية، وتقدم أثناء زيارة الأم بعد تعافيها من آلام الولادة، وتسمى هدية الأم بعد ولادتها في المنطقة الجنوبية "الخرس"، وغالبًا ما تتضمن مأكولات مناسبة لتقوية الجسد مع مبلغ من المال أو هدية.
وغالبًا ما تكون هدية تناسب نوع المولود، أو مبلغا ماليًّا يوضع على لفافة الجنين أثناء السلام عليه. وينبغي على الزوج أن يقدم هدية لزوجته بمناسبة سلامتها بعد وضع المولود، وتسمى "الرفاعة"، وهي تعبير عن الشكر؛ لأن الله تعالى رفع صحتها بالعافية. وقد كانت مخاطر الولادة عالية قبل انتشار الطب الحديث، حيث كانت تتم في المنازل وبطرق بدائية من قبل خبيرات بجهود ذاتية.
وينبغي أن تبقى المرأة في سريرها أو بيتها أربعين يومًا تسمى عدة النفساء، حتى وإن تعافت بعد أيام قليلة، وذلك بحسب العرف الاجتماعي والفتوى الدينية التي تحدد مدة النفساء، وفي أثناء هذه المدة تستقبل الضيوف وهداياهم.
من تقاليد الثقافة السعودية أن يسمي الأب ابنه المولود على شخصية مرموقة في محيطه الاجتماعية أو على شخص له أفضال عليه، وفي هذه الحالة يتعين على الأب أن يقيم مأدبة رسمية تسمى "تمايم"، وهي عبارة عن خروفين للمولود الذكر وخروف واحد للمولود الأنثى، ثم إذا جلس الضيوف على الغداء أو العشاء، يصيح في الحضور بالنص التالي: "سموا الله يحييكم، على تمايم ولدي فلان، وسميته على فلان بن فلان"، ثم ينهال المدعوون بالدعاء له ببركة مولوده والثناء على الشخص المسمى عليه، ويتعين على المسمى عليه أن يقدم هدية فاخرة لوالد الطفل فيما بعد بمدة وجيزة.
بعد مضي أربعين يومًا من الولادة، يتوجب على المرأة أن تعيد تأهيل ذاتها لممارسة حياتها الطبيعية، ويستقبلها الزوج بهدية تسمى "الطلاعة"، وذلك تقديرًا لجهودها في الالتزام برعاية المولود، وترضية للمتاعب التي تعرضت لها أثناء الحمل والولادة.
اتجهت الأجيال الجديدة إلى استبدال هدية الطلاعة برحلة سفر مع الزوجة.
وتسمى رضوة: هدية يقدمها الزوج لزوجته إذا غضبت عليه، وغالبًا ما يكون الغضب مرتبطًا بزواجه من أخرى، وقد تزيد قيمته إلى أطقم من الذهب، بحسب تعقد المشكلة أو المطالبة بالترضية، وخاصة إذا كانت المفاوضات بين الزوجين والزوجة مغادرة بيتها إلى بيت أهلها.
تعرف النزالة، بأنها هدية مادية أو نقدية تسلم للشخص الذي انتهى من بناء مسكن أو شرائه، وغالبًا ما يكون استنزف ميزانيته واقترض، فيسهم الرجال في مساعدته، وتسهم النساء في مساعدة زوجته بهدايا تخص المطبخ أو الأساسيات، ولا تقدم هدية النزالة لمن يسكن مستأجرًا، لعدم تحقق عنصر التكلفة المادية المرهقة.
جرى العرف الاجتماعي أن القادم من السفر يأتي بالهدايا للأهل والأصدقاء، وتحمل الهدايا ثقافة المجتمع الذي قدم منه، وفي المقابل، يقام له حفلة ترحيب، ثم اتخذت مؤخرًا أشكالًا أكثر خصوصية بين الأقارب أو بين الأصدقاء، وذلك لظهور وسائل اتصال وتواصل جعلت من السفر متعة، ووسعت من شريحة المسافرين، بحيث لا يكاد يعده البعض سفرًا يتطلب منحه الاهتمام الذي كان في السابق.
ويبدو أن تحولات القيم الرمزية في هدية السفر أفقدتها عنصر الدهشة، ولم تعد تحمل معها المعاني المرفقة بها من المحبة وكسب الود والمفاجأة، وتحولت إلى طقوس اجتماعية معتادة.
يقول محمد (العمر 46 سنة، ومن هواة السفر وشراء الهدايا) أنه توقف في السنوات الأخيرة عن شراء هدايا السفر بسبب أن السفر صار سهلًا، وأكثر الناس تسافر لكل مكان تقريبًا، كما أن بروز ظاهرة شركات البيع عبر مواقع التواصل، وشركات التوصيل للمنازل صار ميسرًا من حيث اللغة وسهولة الإجراءات وتنوع أشكال سداد المستحقات، وبالتالي صار كثير من المسافرين لا يقتني الهدايا إلا في ثلاث حالات هي: إما توصية محددة، أو إذا سافر لبلد يشتهر بمنتج شعبي، مثل حلويات البحرين وبقلاوة ومعمول من بلدان الشام (الأردن وسوريا ولبنان)، أو الاتصال بمن يهمه إهداؤهم وسؤالهم عن تحديد هديتهم التي يرغبون بها.
وتشتهر منطقة نجد والأحساء بجودة التمور، وهي أهم هدية يمكن أن يحملها معه السائح، بل يحرص كثير من السعوديين على أخذ تمور سعودية معهم للبلدان التي يسافرون إليها إذا كانوا سيقابلون أشخاصا يعرفون قيمة التمور السعودية والمعمول بالتمر. والطريف أن لتمور منطقة نجد شهرة تجاوزت الحدود منذ أكثر من ألف عام؛ حيث يذكر ابن الفقيه تميّز منطقة اليمامة بالحنطة والتمر، وأنها من أثمن الهدايا التي تقدم للخلفاء والأمراء: "وأما حنطتهم فتسمّى بيضاء اليمامة، يحمل منه إلى الخلفاء، وأما تمره فلو لم يعرف فضله إلا أن التمر ينادى عليه بين المسجدين: يمامي اليمامة، يمامي اليمامة، فيباع كل تمر ليس من جنسه بسعر اليمامي" <span class="tooltip">(20)<span class="tooltiptext"> أحمد بن محمد الهمداني، المعروف بابن الفقيه، البلدان، تحقيق يوسف الهادي، بيروت: عالم الكتب، ط 1، 1996، ص 87</span></span>.
ويقول سليمان (العمر 52 سنة ومن هواة هدايا السفر) أنه لم يقطع عادة هدايا السفر منذ أكثر من ثلاثين عامًا؛ ولكنه إذا سافر في السنوات الأخيرة يتصل بالأصدقاء والأهل من المقربين ويطلب منهم تحديد هداياهم، حتى تكون ملائمة لهم ولا تفقد الفرح بها، بعد أن فقدت عنصر الدهشة.
يعكس هذا المصطلح الشعبي النادر الاستخدام نوعًا من الهدايا اليومية والتي لا تدخل ضمن الهدايا التعاقدية، مثل العطايا متناهية الصغر، وتتم بصفة يومية ودائمة وقيمتها النقدية قليلة.
ومن أبرز أمثلة الثقافة السعودية في هذا المجال، أن الأسر يرسلون إلى جيرانهم بعض الأطباق من الأغذية والحلويات المصنوعة في المنزل أو التي جاءتهم بالشراء أو الهدية، من مبدأ التشارك مع الجيران، فيرد الجيران أطباق جيرانهم بعد يوم أو أيام وهي مملوءة بأطعمة من صنعهم، وهذا يسمى في العرف الشعبي "مزارق طيب"، ويقصد به التسابق في الإهداء ورد الإهداء.
وقد أعاد المجتمع إنتاج هذه العادة في لقاءات الشباب في المطاعم والمقاهي؛ حيث يتسابق بعضهم على دفع تكاليف الفاتورة، إما دون علم بقية الحضور، أو يبادر بالدفع، أو حتى يتكفل بدفع فاتورة طاولة أخرى يجلس بها أحد معارفه، كما أعادوها في تبادل هدايا المشروبات والحلويات في العمل، وهذه القيم الثقافية تعتبر "مزارق طيب".
تقدم بعض العادات صدقات تهدى لموتاهم، مثل: صدقة الأربعين، وتتضمن ذبح خروف وتوزيع لحمه على الفقراء بعد مرور أربعين يومًا على وفاة أحد الوالدين، والمناسبة الثانية تتضمن دعوة للسحور في منتصف رمضان تسمى عشاء الوالدين المتوفين. وأضيف مؤخرًا عادة تقديم هدية في عيد الأم، وتوزع صدقة عن الأم المتوفاة.
من تراث الحجاز أنه سواء أوصى الميت بصدقة أم لم يوص فإنك تجدهم يذبحون الذبائح في رمضان صدقة عن آبائهم أو أمهاتهم، وقد يفضلون الجمعة من رمضان وخاصة آخر جمعة، ويسمونها "اليتيمة"، وتجعل هذه الذبائح وليمة يدعى إليها الجيران، ويتعهد من غاب من الأطفال والنساء بغرفة ترسل إليه. فإذا فرغوا من الأكل قالوا: عسى موتاكم في الجنة، أو تقبل الله حسناتكم <span class="tooltip">(21)<span class="tooltiptext"> عاتق البلادي، المرجع السابق، ص193</span></span>.
وهذه العادات أصبحت الآن محدودة الانتشار في المجتمع السعودي، وقد أسهمت الفتوى الدينية في تحريمها والحد من انتشارها.
يلحظ أن هدايا الأسرة تتمركز حول الزوجين، وأنها أحادية الاتجاه، إذ تقدم غالبًا من الزوج إلى زوجته، ولا تفرض العادات الاجتماعية أي قيود إلزامية على الزوجة لتقديم هدايا إلى الزوج؛ إذ ينظر إلى المرأة بوصفها عنصرًا ضعيفًا لا يستطيع العمل والكسب، وهي تنطوي على ذكورية المجتمع، بما تحمله من معاني التفوق وتحمل المسؤوليات، وله حق تقدير أتعاب المرأة في رعاية البيت والتربية. وقد ساعدت المرأة على تكريس هذه الفكرة وتكيفت معها.
استمر نظام هدايا الزوج لزوجته حتى الآن، إلا أن بعض المعاني الرمزية التي نشأت معها قد زالت وبقي السلوك مستمرًا، كما أسهم صعود دور المرأة في المجتمع ووجود مصادر دخل مالي خاص بها، في تحمل أدوار جديدة في تقديم الهدايا للزوج والأبناء والبنات.
ازدهرت فكرة الهدية في المجتمع بعد زيادة الانفتاح، وشكّلت سوقًا اقتصادية جديدة في قطاعات: الورد، والشوكولاتة، والتغليف. وتدل فكرة التوسع الشعبي في كثرة الاحتفالات التي توزع فيها الهدايا على حب الحياة، مثل: أعياد الميلاد والترقيات أو الحصول على وظائف أو تخرج من الدراسة.
هدايا عيد الفطر تكون غالبًا للأطفال وتسمى "عيدية"، أو يقدمها الأب لأسرته، وهي من أشكال إشاعة الفرحة في المجتمع. وقد أخذت مؤخرًا أشكالًا واسعة؛ حيث تعمد الأسر إلى تجهيز مئات العلب البسيطة وبداخلها هدايا من حلوى ومبلغ نقدي صغير، وتوزع على الأطفال في ساحة مصلى العيد بعد انقضاء الصلاة والخطبة.
أمَّا هدايا عيد الأضحى، فهي عبارة عن قطع من لحم الأضحية تقدم للأقارب والجيران.
ارتبطت هدايا زيارة المريض بالورد والشوكولاتة، وقد تحولت إلى سوق اقتصادية كبيرة، من خلال كثافة محلات الورد والشوكولاتة المحيطة بالمشافي، وبالمتاجر الصغيرة بممراتها. وتوسعت هذه السوق لتشمل أشكال التغليف والماركات العالمية. وتعد غرف المرضى المليئة بالورد والشوكولاتة من معايير التقدير للمريض، وهي تضفي بهجة اجتماعية قد تخفف من معاناة المرض.
يقدم هذا النوع من الهدايا غالبًا بعد إنجاز المهام للتعبير عن الشكر والامتنان لمن بذل جهودًا في تذليل الصعاب للآخرين، وقد يقدم قبل طلب إنجاز الحاجة من أجل رفع احتمالية الاهتمام بها وإنجازها.
تمثل هدايا المحبة، الهدايا التي تقدم بين وقتٍ وآخر بلا مناسبة، ولا ينتظر مهديها الرد، ولا يتوقع متلقيها أن لها أبعادًا ذات مصالح، وهذا هو الشكل المتسامي بالذات من أنواع الهدايا.
كان الاحتفال بعيد الميلاد من المسائل المحسومة بالتحريم الديني، ومن ثَمَّ بالرفض الاجتماعي، إلا أن انتشاره مؤخرًا جعل بعض المفتين يتسامحون في رفضه دينيًّا، وصار كثير منه يقام في المطاعم والمقاهي العامة، أو الشاليهات أو في المنازل، وتسهم المطاعم والمقاهي بإضفاء أجواء أعياد الميلاد من خلال تشغيل أغنية عيد الميلاد في سماعات المحل بصوتٍ عالٍ، مع اصطفاف النادلين وقدومهم لطاولة الاحتفال يصحبون الشموع والكيكة. ثم تنتهي غالبًا بتصفيق الحضور في الطاولات المجاورة، وتنتهي اللحظة غالبًا باندهاش المحتفى بها من المفاجأة، ويعتريها نوع من الخجل لإضفاء طابع نجاح المفاجأة لصديقتها أو صديقاتها الذين عليهم تقديم هديتهم بعد انتهاء الفعاليات. وقد ارتبطت باحتفالات المرأة، ثم دخلت مجتمع الذكور.
موعد موسمي في كل يوم 14 فبراير، وقد ارتبطت هدية عيد الحب، وتعرف بعيد العشاق والفلنتاين، بتقديم الورد الأحمر ودمية دب بلون احمر والشوكولاتة على شكل قلب.
دخلت ثقافة الاحتفال بعيد الحب في المجتمع السعودي بشكل واضح بعد عام 2000م، ولكنه يتم بطرق خجولة وسرية، لرفض المجتمع له، وشهدت السنوات الأخيرة توسعًا في الإعلان عنه، مثل غيره من الأعياد الجديدة على المجتمع.
يعد النجاح في الدراسة أو الحصول على شهادات عليا أو ترقيات في العمل أو الحصول على وظائف من أهم أسباب التحولات في حياة الإنسان. وقد كانت تمر بالاكتفاء بتبادل عبارات التهنئة، ثم صارت مناسبة ذات أهمية تستحق أن تخلَّد بهدايا واحتفالات تكريمية للمحتفى به.
وكانت هدايا التعليم تكاد تكون مقتصرة على التخرج من الجامعة؛ وذلك لما تحمله من معاني "طقوس العبور" والتي يعبر فيها الإنسان من مرحلة أساسية إلى مرحلة أساسية أخرى، مثل عبور الشاب من مرحلة التعليم إلى مرحلة الوظيفة، ثم مرحلة الزواج، وتحمل مسؤوليات جديدة لم تكن ملقاة على عاتقه من قبل.
وقد توسعت هدايا النجاح الدراسي وصارت تقدم لكل من تخرج من مرحلة دراسية، حتى وصلت إلى هدايا التخرج من التمهيدي، وهي مرحلة ما قبل الابتدائي، وتحول كثير منها إلى طقوس تقام لها الحفلات الخاصة.
من الثقافة السعودية الراسخة أن تقدم الهدايا الخيرية للصالح العام، أو للمحتاجين، وتكون على شكل وصايا وأوقاف.
وتعد منصة إحسان أضخم منصة لجمع التبرعات لأغراض الأعمال الخيرية، وهي تتلقى الصدقات والزكاة والتبرعات من الأفراد والشركات، وقد ابتكرت المنصة فكرة الإهداء، وتتضمن أن يتبرع شخص بمبلغ نقدي لأعمال خيرية أو رعاية أسر فقيرة وأيتام مثلًا، ثم يحدد شخص آخر ليكون مبلغ التبرع والعمل الخيري هدية له، وترسل منصة إحسان للشخص المهدى رسالة تخبره بأن شخصًا ما، قد تبرع بمبلغ نقدي وجعل ثوابه لك.
أسهمت فكرة الهدية الخيرية في نشر ثقافة الإهداء والتبرع بمبالغ بسيطة بسهولة، وزادت من رفع مستويات الشعور بالآخرين، وتذكّر الأصدقاء والأقارب بهدايا رمزية لا تذهب لهم، وإنما تذهب باسمهم للمحتاجين.
يعتبر التماسك القبلي أحد أهم محددات هوية القبيلة، وبالتالي فإن قيم البادية تلزم بالتعاون المادي والمعنوي، وأن يساعد بعضهم البعض، ويبدو أن هذه القيم نابعة من طبيعة الترحال المستمر، مما يتطلب المساعدة من أجل البقاء، وقد استمرت قيم التعاون في القبائل في جميع المناسبات، حتى بعد استقرارهم، باعتبارها قيمًا متوارثة وأساسية.
وعند القبائل الحجازية الرفائد والمنائح والعرايا، حيث إذا افتقر شخص منهم أمدوه برؤوس من الغنم والإبل حتى يصير له حلال مثلهم، وهذه يسمونها الرفائد، واحدتها رفدة. أما إذا لم يرفدوه أو كانت غنمه "مجنبة" أعطوه منائح، والمنيحة شاة أو ناقة تعطى للفقير ونحوه يحتلبها حتى تفرز ثم يعيدها إلى صاحبها. وإذا حلَّ فصل الصيف يُعطى من ليس له نخل عرية، وهي النخلة يجني رطبها عامه ذاك. وقد يؤذن له بأن تكون عرية لمدة من الزمن أو دائمة <span class="tooltip">(22)<span class="tooltiptext"> عاتق بن غيث البلادي، الأدب الشعبي في الحجاز، مكة المكرمة: دار مكة، 1402، ص 183</span></span>.
لا يقتصر دور الهدية على تمتين الروابط الاجتماعية، بل يشمل أيضا تحديد التراتب الاجتماعي داخل القبيلة، خصوصا بالنسبة للزعماء والقادة الذين يحرصون أشد الحرص على الظهور بمظهر الكريم الجواد الذي لا يقيم وزنا للمال، حتى يتسنى له التميز عن بقية أفراد القبيلة، فالتبذير والإفناء للمال أو الهدايا لا يكون عبثيا، وكما قال موس فمن خلال الهبات تترتب بين القادة وأتباعهم علاقات هرمية، فالعطاء يعني إظهار التفوق وعلو المكانة والأهلية للقيادة <span class="tooltip">(23)<span class="tooltiptext"> ايت العسري عادل، نظام الهبة في الأدب العربي القديم مقاربة سوسيولوجية لقصيدة المدح، مجلة جامعة القدس المفتوحة للبحوث الإنسانية والاجتماعية، مج 3، ع 57، 2021، ص70</span></span>.
أجريت دراسات أنثروبولوجيا كثيرة على نظام الهدية لدى قبائل كثيرة في أمريكا اللاتينية والصين والهند وغيرها، وأعطت نتائج تؤكد أنَّ عادات القبائل في أمريكا اللاتينية وتقاليدها لا تختلف كثيرًا عن عادات القبائل العربية، من حيث إنَّها عقد ضمني ملزم أخلاقيًّا، وأن سمعة الشخص تكون عرضة للخدش في حال إخلاله بتنظيم الهدية. وتعد دراسة مارسيل موس المترجمة بعنوان "بحث في الهبة: شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة" أهم دراسة اجتماعية عن الهدية لدى القبائل القديمة. ومن أبرز النتائج التي توصل إليها: أن كل هدية يجب أن تقبل دائمًا، بل وتمتدح <span class="tooltip">(24)<span class="tooltiptext">مارسيل موس، بحث في الهبة: شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ص 138.</span></span>.
ومن عادات القبائل البدوية في السعودية أن تقدم الهدايا بشكل منضبط وملزم في مسائل الزواج، وفي قضايا الصلح وإنهاء الخلاف بين القبائل التي تتطلب دفع مبالغ مالية. ونظرًا إلى كثرة معدل المناسبات الاجتماعية التي تتكرر في تقديم الهدية النقدية، وزيادة متطلبات تقديم الهدايا نتيجة للتماسك الاجتماعي الكبير، ولحاجة أفراد القبائل بعضهم إلى بعضٍ لاحتمالية تعرض أي منهم إلى الظروف ذاتها، ما يتطلب منهم الإنفاق المستمر في جميع المناسبات؛ فإنَّ هذا شكل عائقًا أمام تراكم الثروة بين أفراد القبائل، وقلل من أعداد الأثرياء بينهم.
تكشف الهدية عن أهم تفاعل اجتماعي وتبادل رمزي بين الأفراد؛ وذلك لأن تقديم الهدية في المناسبات للآخرين، يتوجب على الآخرين معرفة جميع من قدم الهدايا. ومن لم يقدم الهدايا في مناسباتهم، وذلك لردها لهم بحسب ما قدموه، فمن يقدم هدية تساوي ألف ريالٍ مثلًا، سوف ترد له هدية تساوي قيمة الهدية التي قدمها، وتزيد أو تنقص تبعًا لهذا القانون.
أما الذين لا يقدمون هدايا فإنهم في الغالب لن يحصلوا على هدايا في مناسباتهم من الأفراد الذين لم يسبق أن تلقوا منهم هدية، وإن حصل وقدموا هدية، فإنهم يخبرون المقربين أنهم قدموها تفضلًا، وأنهم لم يتلقوا هدايا منه في مناسباتهم. وهذا الإخبار يعد الثمن الذي سوف يدفعه من سمعته الذي تلقى الهدية ولم يسبق أن أهدى.
ويلحظ وجود جوانب خفية مضمرة داخل نظام الهدية؛ حيث يقع بعض الأشخاص تحت ضغط السمعة وحماية المكانة، حتى لا يتعرض للهمز واللمز بسبب عدم تقديمه هدية في مناسبة داخل محيط بيئته، أو ضآلة قيمة الهدية.
تفسر نظرية التبادلية في علم الاجتماع نظام الهدية بشكل دقيق، فهي تبين أن الهدية تقع في سياق منظومة الحقوق التي يحصل عليها الفرد، مقابل الواجبات التي عليه أن يؤديها، وتتم بشكل ودي، ولكنها تزيد من الود والتماسك الاجتماعي إذا كان العطاء موازيا للأخذ. وقد تتوتر العلاقات وتكون مكلفة اجتماعيًّا إذا أعطى أحد الطرفين أكثر مما يأخذ. ويرى بيتر بلاو أن الطرف المعطي يكون دائمًا في موقع القوة والتفوق الاجتماعي على الطرف الذي يأخذ.
وفق هذا التنظيم فإن الهدية عقد ضمني إلزامي وقسري في نظام التبادل الاجتماعي الرمزي. ويؤكد مارسيل موس أنَّ الهدية التي لا يرد عليها بالهدية ما زالت تجعل متقبلها في وضعية دونية <span class="tooltip">(25)<span class="tooltiptext">مارسيل موس، بحث في الهبة، مرجع سابق، ص 217.</span></span>.
ومن المرجح أن صعود فكرة المادية المتخفية بغطاء المحبة، ثم رسوخها ضمن العادات والتقاليد في كثير من شعوب العالم، تكشف عن حاجة الإنسان لتقدير ذاته من خلال العطاء والأخذ دون مقابل ودون شرط، إلا أن الرقابة الصامتة على سلوك المتلقي للهدايا دون تفاعل منه بالرد والإهداء، سوف يجعله مادة للانتقاد، مما يعرضه للخروج من دائرة الإهداء، ويقلل من أهمية مناسباته.
يمكن تقسيم الهدية إلى قسمين هما: الجانب الشكلاني وجانب المعنى، فكل هدية شكلانية مثل: سيارة أو ساعة أو مواد غذائية مميزة، يكون معها معانٍ اجتماعية مرفقة بها، مثل: الحب والتواصل والترضية.
ويقصد بالثقافة: أسلوب الحياة المتمثل في قواعد السلوك وآدابه، وتكمن الهوة الثقافية في أن المجتمع توسع في استهلاك أنواع الهدايا المعروفة في الغرب وبعض البلدان العربية، ولم يستقطب معها الثقافة المرفقة بها.
يمكن ملاحظة نماذج من الهوة الثقافية في نظام هدايا الناس العاديين والفقراء الذين اشتهروا فجأة وانهالت عليهم الثروة من الإعلانات المكثفة على متابعيهم؛ حيث تحولت الهدية إلى نظام للتصوير والفرجة بشراء سيارات فاخرة وتقديمها للزوجة أو الأصدقاء، ورغم أن كثيرا منها مشاهد تمثيلية، إلا أنها تنطوي على هوّة ثقافية لا أخلاقية، وانتزاع المعاني الرمزية واستبدالها بمعاني الاستهلاك المادي.
في مقابلة مع خالد (العمر 30 سنة، وهو قريب من مجتمع مشاهير تطبيقات التواصل)، أفاد بأن الهدايا الفاخرة التي تقدم للمشاهير، إما أن تكون معارة ومشروطًا إعادتها للشركة المالكة أو لصاحبها، أو تكون هدية حقيقية ومتفقًا عليها مسبقًا، وغالبًا ما تجرى بروفات تصويرية لإعلان الهدية وإظهار عنصر الدهشة قبل تصويرها رسميًا وبثها.
وهذا السلوك الذي يسعى، دون وعي منه، إلى تسليع الهدية، وتحويلها إلى مظهر استهلاكي، مما يزيد الضغوط على من يقدمون هدايا رمزية، سوف يرفعون الكوجيتو الجديد "أنا أهدي ببذخ، إذن أنا موجود".
وأبرز ما يمكن ملاحظته في ظاهرة الهوة الثقافية، أن الهدايا الباذخة من محدثي النعمة، تؤكد على أن رأس مالهم المادي مرتفع، ورأس مالهم الثقافي منخفض، وإذا اختل مستوى التجانس بين ضخامة ثروته وضحالة ثقافته، سوف تزيد الهوة الثقافية اتساعًا، ويفقد الإنسان ذو المال المرتفع والثقافة المنخفضة هويته، مما يجعله يعمق التركيز على المادية والاستهلاك، وتكون هي هويته الجديدة، لتمكنه من تحقيقها، وإخفاقه في تحقيق المستوى الثقافي الموازي لثروته.
كما أن كثرة محلات الورود والشوكولاتة أسهمت في تأسيس ثقافة مادية للهدية غير مناسبة، مثل حشو باقة الورد بعملات نقدية مزخرفة من فئة خمسمئة ريال؛ فالورد هو قيمة رمزية بذاته، ولا ينبغي تحويله إلى قيمة مادية، وقد انتشر في تطبيقات التواصل مقطع فيديو لشخص وجد في سلة المهملات باقة ورد مزروعًا بداخلها مبلغ نقدي كبير وموزع بشكل فني، مما يؤكد أن ثقافة إهداء الورد ما تزال مشحونة بهوّة ثقافية بين من يهديها ومن يتلقاها.
ومن مظاهر الهوّة الثقافية في هدايا المريض والمولود، كثافة تقديم الشوكولاتة؛ بحيث يصبح منزل السيدة أم المولود معرضًا لسلال من الشوكولاتة، وتتمايز بالعلامات التجارية، حتى صارت العين لا تقع إلا على الشركة المنتجة ومستوى عالميتها، بينما كانت النساء يقدمن في السابق هدايا مواليد واحتياجاته للإسهام في تحمل بعض الاحتياجات لتأثيث نظام كامل من غرفة المولود الجديد.
إن إظهار الثراء لا يعني رفع كلفة الهدية، ولا يعني انعكاسها المادي على المهدي والمهدى إليه، وإنما يكمن جوهر الهدية في أن تبقى في إطارها الودي والرمزي الذي يحمل معه معاني اجتماعية وثقافية راسخة في المجتمع.
وتؤكد الهوة الثقافية في الهدايا مستوى تسليع الهدية واستلاب المعاني الرمزية والاجتماعية مقابل المعاني الاستهلاكية المرتبطة بالثمن المادي، والتصوير والفرجة في تطبيقات التواصل التصويرية مثل سناب شات وتيك توك.
توسعت الهدايا بشكل كبير، ودخلت في جميع المناسبات، بما في ذلك المناسبات التي جرى العرف الاجتماعي ألا تقدم فيها الهدايا، وتتطلب التحولات في مفهوم الهدية، وضع نظام أخلاقي يضمن احترام متلقي الهدية، ولا يضغط على مقدمها، وتنبع من ثقافة المجتمع وتعزز هويته.
ونظرًا لتأثر ظاهرة الهدية بالعولمة، وفقدان كثير من التقاليد الاجتماعية لدورها السابق، ولعدم وجود اتفاق ضمني للهدية، كما هو الحال في الأجيال السابقة؛ فإن هذا التباين الثقافي والتغير الاجتماعي السريع يتطلب معه ملء الفراغ بمنظومة قيمية جديدة ومكتوبة، وتكون مستمدة من قيم المجتمع وتقاليده.
ويمكن اقتراح مصفوفة من القيم المتعلقة بالمهدي ومتلقي الهدية وشكل الهدية ومعانيها وردها، وقد جمعت نماذج منها من مصادر مختلفة، ومن الأعراف الدبلوماسية، ومن ملاحظات الباحث الاجتماعية، ومن مجموعة مقابلات مع عينة من أفراد المجتمع:
تمثل هذه الآداب العامة وقواعد السلوك المقترحة، محاولة لوضع دليل استرشادي قيمي، بهدف الحد من انفلات الضبط الاجتماعي في الهدية، وتغليب الجوانب المادية والفرجة فيها، على الجوانب المعنوية والمعاني الرمزية المتمثلة في مشاركة أفراح الآخرين وإشعارهم بوجودهم قربهم في أفراحهم وأحزانهم.
تؤكد ثقافة الهدية في المجتمع السعودي، على الآتي:
تنطوي الهدية على تنظيم اجتماعي معقد، وتؤدي أدوارًا كبيرة في ملء الفراغات في العلاقات الاجتماعية، حتَّى وإن بدت عادات اجتماعية مألوفة، وهي تقدم على ثلاثة مستويات: إما لتحقيق مصلحة متوقعة، وإما رد لهدية، أو توقع ردها، وإما للمحبة الخالصة والتسامي بالذات عن تحويلها إلى منفعة.
مِن جودة الحياة أن تتوسع فكرة الهدية، ويزيد ارتباطها بالاحتفالات الصغيرة والكبيرة، فكلما زادت المناسبات التي تحتفل فيها الأسرة والأصدقاء والأقارب وزملاء العمل، زاد مستوى جودة الحياة، وارتفعت قيم المجتمع الصحي وقيم الإنجاز والمعنويات العامة.
في الهدية نظام معقد من القيم ولكنه متماسك؛ حيث إن تكثيف المعنى في الهدية، كما هو الحال في معنى التحية والرد عليها، يبقي على قيم زيارة المريض والأقارب وكبار السن، وقيم حضور مناسبات الزواج والولادة والنجاح وبقية مناسبات الآخرين ومشاركتهم الفرحة وتقديم هدايا رمزية لإعلان التماسك الاجتماعي، والإصرار على عدم التهاون في التقليل من معاني التسامي والنبل المتمثلة في حضور مناسبات الآخرين. ويمكن أن يشمل نظام الهدية كلًا من: الضيافة وردها، ومشاركة رمزية للطعام مع الجيران وردها، وهي تقاليد شعبية راسخة ولها معانٍ رمزية كبيرة، إلا أنها بدأت تندثر.
نظرًا لضخامة حجم موضوع الهدية، وشموله لجميع مناطق المملكة وثقافاتها الفرعية، ولوجود تاريخ طويل للهدية في كل منطقة، وتنوع المناسبات والمسميات، مع ضآلة حجم توثيق تاريخ الهدية في المجتمع السعودي، فإنه يمكن اقتراح ما يأتي:
أبو بكر، أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الكبرى، تحقيق عبدالله بن عبدالمحسن التركي، السعودية: مركز هجر للبحوث والدراسات الإسلامية، ط1، 2011.
أحمد بن محمد الهمداني، المعروف بابن الفقيه، البلدان، تحقيق يوسف الهادي، بيروت: عالم الكتب، ط 1، 1996.
ايت العسري عادل، نظام الهبة في الأدب العربي القديم مقاربة سوسيولوجية لقصيدة المدح، مجلة جامعة القدس المفتوحة للبحوث الإنسانية والاجتماعية، مج 3، ع 57، 2021.
بيار بورديو، أسباب عملية: إعادة النظر بالفلسفة، بيروت: دار الأزمنة الحديثة، ط 1، 1998.
أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، الوحشيات، وهو الحماسة الصغرى، تحقيق عبد العزيز الميمني الراجكوتي، مصر: دار المعارف، ط 3.
خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، بيروت: دار العلم للملايين، ط 5، 1992.
صلاح الدين المنجد، رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة، ج2، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1947.
عاتق بن غيث البلادي، الأدب الشعبي في الحجاز، مكة المكرمة: دار مكة، 1402هـ.
عبد الرحمن محمد موسى الحمودي، الدبلوماسية والمراسم السعودية، دار الراية الشرقية، ط4، د.ت.
عبدالغني غالي فارس، الهدايا المتبادلة ما بين ملوك آشور وسائر حكام الشرق الأدنى القديم: دراسة تاريخية تحليلية، العراق: جمعية المنتدى الوطني لأبحاث الفكر والثقافة، حولية المنتدى، العدد 40، تشرين الأول 2019م.
عمرو بن بحر الجاحظ، المحاسن والأضداد، بيروت: دار ومكتبة الهلال، 1423هـ.
فيليب لابورت- تولرا وجان. بيار فارنييه، إثنولوجيا أنتروبولوجيا، ترجمة مصباح الصمد، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 1، 2004.
ابن قتيبة الدينوري، عيون الأخبار، بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ.
مارسيل موس، بحث في الهبة: شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة، بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
محمد المانع، توحيد المملكة العربية السعودية، ترجمة عبدالله الصالح العثيمين، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1415هـ.