ورد في السيرة الذاتية لفرانكو زيفيريلي التي تم تجسيدها في فيلم سينمائي بعنوان "شاي مع موسوليني" مشهد يعبر عن مدى لهفة السيدات الإنجليزيات في الحفاظ على مقتنيات متحف أوفيزي في فلورينس أثناء الحرب العالمية الثانية، ثمة ما يجعل هذا المشهد من المشاهد الممتلئة بعدد من التناقضات التي تبدو محزنة ومبهجة في آنٍ، سيدات في العقد الثالث وما فوق يقمن بصنع حاجز بشري أمام الألمان، بعد أن أحاط الجنود برج فلورينس بالديناميت استعدادًا لتفجيره، ونجحن في التخلص منهم. هن -من حيث المبدأ- يدافعن عن متحف إيطالي على أرض إيطالية، وهن من الرعايا الإنجليز الذين أحبوا الفن والحياة والدفء في إيطاليا، إذ لم تكن أرضهم ولا تاريخهم. وهذا ما قد يدفع للسؤال عن دوافع السيدات التي لم تعلن في الفيلم أو المذكرات، ولكن يمكن أن تستنبط من السياق الدرامي، وهي دوافع متعددة، فمنهن من تحافظ على المتحف؛ لأنها فنانة، تهتم باللوحات، وتقضي وقتًا طويلًا في مشاهدتها ومحاولة تقليدها برسومات موازية، ولكن الأغلب كن يدافعن عن المتحف؛ لأنه مكان يلتقين فيه بغض النظر عن اهتماماتهن، لقد كان المتحف بمنزلة ملتقًى اجتماعيٍّ لهن.
لعل من الطريف اللافت أن هذا المشهد حمل في طياته عدة تساؤلات حول أهمية المتحف في تاريخ الإنسانية، الأمر الذي حثني على كتابة هذه السطور.
خزائن الدهشة:
يبدو أن ولع المجتمعات الإنسانية بالاستعراض لم يتوقف عند حدود بناء القصور والمعابد وزخرفتها، ولكنه امتد إلى تشييد المقابر ودفن المقتنيات مع أصحابها. فيعتقد أن أول متحف في العالم هو متحف أنيغالدي نانس في عهد الحضارة البابلية، تحديدًا في العراق في أور، سنة 530 قبل الميلاد. كان التنسيق الدقيق للمقتنيات بصورة توحي أنها مصفوفة من أجل العرض، هذا بالإضافة إلى العثور على عدد من المقتنيات التي تنتمي إلى حقب زمنية أقدم من الحضارة البابلية؛ مما دعا المؤرخين وعلماء الآثار إلى الاعتقاد بأنه أول متحف في التاريخ، فالطبقات الحاكمة في الحضارات القديمة، كانوا يجمعون الآثار والفنون والكنوز ويعرضونها في أماكن خاصة. على سبيل المثال، في الحضارة الفرعونية كانت هناك مجموعات من الآثار الملكية والفنون المعروضة في الأقصر والكرنك وغيرها من المعابد والقصور. وعند الإغريق كذلك في أثينا ودلفي وأوليمبيا.
في القرون الوسطى، تشكلت متاحف في أوروبا لعرض المخطوطات النادرة والكتب والأعمال الفنية. ولكن لابد من الإشارة إلى أن ما تم اعتباره تاريخيا متحفًا لا يعكس الصورة الحديثة للمتحف، فالمتحف في القرون الوسطى هو مجموعات خاصة يُحتفظ بها في حيز مكاني محدد كان يطلق عليه (خزائن الدهشة)، وكانت النخب وحدها التي يسمح لها برؤية هذه القطع أو المخطوطات أو ( خزائن الدهشة)، أما المتحف بصورته الحديثة المؤسساتية فلم يعرف إلا في القرن السادس عشر بعد الثورة الفرنسية، حين فتحت أبواب اللوفر للجماهير من عامة الشعب لعرض المقتنيات الملكية والمجموعات الأثرية، ورغم أن متاحف بريطانيا تزامنت في نشأتها مع اللوفر إلا أنها كانت تقتصر آنذاك على النخب فقط، خوفًا من عبث العامة بالمقتنيات، ولم تفتح أبوابها للشعب إلا في القرن التاسع عشر، ومن المعروف أن أغلب المتاحف في أوروبا تتسم بطابع كولونيالي في تجميعه وعرضه بعض الآثار العائدة إلى الدول التي كانت تمثل مستعمرات لها.
الذاكرة الجماعية:
يمكن اعتبار المتحف محفزًا قويًا للذاكرة الجماعية للأمة. فزيارة المتحف قد تثير العواطف، وقد ينقل الجو العام للمتاحف عددًا من التصورات المفاهيمية عبر لغته الخاصة. فزائر المتحف مدرك تمامًا أن ما يراه في الغالب هو تجسيد للماضي، إلا أنه يتطلب منه منظورًا اجتماعيًا يساعده على أن يدرك أن هذا التجسيد جزء من سرد معين، وليس مجرد واقع ماضٍ.
لقد سعت المتاحف منذ تأسيسها إلى تجسيد الذاكرة الجماعية، الماضي المشترك للأمة. فالجماعة تحتاج إلى ماضٍ مشترك يجمعها، وتقوم السرديات التاريخية في المتاحف بتلبية هذه الحاجة. فالتاريخ والماضي ليسا مجرد مسألة فردية أو مجموعة فردية، بل هما مفتوحان للجميع.
فضلاً عن ذلك، يعمل المتحف على فهم السياقات الثقافية التي تم صنع المقتنيات التاريخية فيها، فعندما تنظر إلى هذه العناصر التاريخية، ستشعر بالزمان والمكان والمجتمع خارج الذاكرة الفردية. وهذا يؤدّي دورًا مهمًا في تحديد ذكريات المجتمع لماضيه الجماعي، وممارساته الاجتماعية، ومواقفه ومعتقداته. فالمتاحف لا تقدم التاريخ للذاكرة الجمعية، بل تقدم ما هو أهم، وهو رصد التغيرات التاريخية، فالمتحف يعكس صورًا سردية، ولكل زائر سرديته الخاصة وطرقه المختلفة للتعبير عنها.
إجمالًا، فإن المتحف ليس مجرد مكان لعرض المقتنيات التاريخية، بل هو مساحة تفاعلية تسهم في بناء الذاكرة الجماعية، وتعزز الوعي بالماضي الجماعي للأمة. فعندما نزور المتحف، سنشعر بالانتماء والتواصل مع الماضي، وسنكتسب فهمًا أعمق للثقافة والتاريخ والهوية الوطنية.
زوار أم جمهور: خطاب التواصل.
اتجهت المتاحف في العصر الحديث إلى الاستثمار في المجتمع لجذب مختلف فئاته، والتغلب على الصور النمطية التي وصمت المتحف بأنه مؤسسة ثقافية تتسم بالنخبوية، فالفكرة السائدة عن جمهور المتاحف أنهم في الغالب من المهتمين بالشأن الثقافي أو السياح الذين يحاولون استكشاف ثقافة مجتمع ما. ومن الملاحظ أن اتجاه المتاحف نحو تعزيز خطاب الاتصال بالمجتمع، انتقل بالمتاحف -بمختلف أنواعها سواء الوطنية التاريخية أو الفنية- من عالم العزلة النخبوية إلى عوالم متنوعة تجعلنا نستحضر صورة السيدات في المشهد الذي ذكرته في المقدمة. ومما يستثير الانتباه أن مفردات مثل: "الجمهور" و "الزائر" قد حل محلها مفردة "المجتمع" في أغلب خطابات المتاحف سواء كانت للإعلان عن برامج تعليمية أو تثقيفية أو مبادرات مجتمعية؛ حيث تسعى المتاحف لأن تكون أكثر ترحيبًا وشمولية وذات صلة مع قضايا اجتماعية كالتنوع الثقافي والاستدامة، هذا بالإضافة إلى خلق مساحات للحوار والنقاش والتأمل.
صناعة المتاحف:
تاريخيًا، كانت الانطباعات الأولية للمتاحف تستمد من زيارة المتحف نفسه، حيث الردهة ومتجر الهدايا والمقهى والمعارض هي ما تشكل رأي الزائر. أما اليوم فقد أصبح الوجود الرقمي للمتاحف يعزز واقعها، فقبل رؤية المتحف على أرض الواقع، تصلنا الصور والإعلانات في الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي.
فلم يعد المتحف مجرد حيز مكاني مزود بإضاءة وتهوية محدودة، ويضم مجموعة من اللوحات والتماثيل والمقتنيات الأثرية، فالمتاحف في العصر الحديث دخلت ضمن نطاق العلوم الهندسية والعلوم الإنسانية، من حيث البناء والتهوية والإضاءة التي تتحدد من خلال دراسات قبلية وبعدية مرتبطة بنمط المتحف وسيكولوجية الزوار، هذا بالإضافة إلى أن علم المتاحف أخذ في الازدهار متجهًا نحو الأبحاث الاجتماعية والنفسية.
في النصف الثاني من القرن العشرين، شهد علم المتاحف في أوروبا تغيرات كبيرة ومهمة. خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية، لقد كان هناك اهتمام متزايد بتوسيع النطاق الاجتماعي والثقافي والتكنولوجي للمتاحف، حيث تحولت المتاحف من مجرد مؤسسات تعرض الأعمال الفنية والتاريخية إلى مؤسسات تعمل على توفير تجربة ثقافية شاملة ومثيرة للزوار.
في الوقت الحاضر، تواجه المتاحف تحديات المجتمع الاستهلاكي عالميًا، حيث يبحث الناس عن تجارب جديدة ومبتكرة. ومع ذلك، ما يزال للمتاحف دور أساس في الحفاظ على التراث وتعزيز الذاكرة الجماعية، إضافة إلى ذلك، تسعى المتاحف أيضًا إلى إيجاد طرق جديدة لتحقيق الاستدامة المالية وتطوير علاقاتها بالجمهور والمجتمع. إذ اتجه تصميم صالات العرض في المتاحف بما يوائم عادات الاستهلاك والديناميكيات الاجتماعية والثقافية للمجتمع المعاصر، فقد تم تصميم المعارض بشكل تفاعلي وجاذب للزوار؛ مما يسمح لهم بالمشاركة والتفاعل بشكل فعال في العروض المختلفة عن طريق تضمين التكنولوجيا بشكل واسع في تصميم التجارب المتحفية الحديثة. باستخدام الوسائط المتعددة والتقنيات التفاعلية مثل الشاشات اللمسية، والواقع الافتراضي، والواقع المعزز، والأجهزة الذكية، وتطبيقات الهاتف المحمول، هذه التقنيات تساعد على جذب انتباه الزوار وتوفير تجربة فريدة وممتعة.
تسعى المتاحف إلى التواصل مع المجتمع عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية. وتقوم المتاحف بإنشاء محتوى رقمي مثير ومشاركات متنوعة لجذب الجمهور وتوسيع نطاق تأثيرها. ويتم توفير الوصول إلى المعارض والمجموعات المتحفية عبر الإنترنت؛ مما يسمح للجمهور العالمي بزيارة المتاحف عن بُعد واستكشاف محتواها.
لقد قامت العديد من المتاحف بتجربة أساليب جديدة لجذب الجمهور خلال جائحة كوفيد-19، فعلى سبيل المثال، أطلق متحف بلاك كانتري الحي في إنجلترا حسابًا على تيك توك. ومنذ عام 2020، نما عدد متابعيه إلى أكثر من 1.3 مليون متابع، وحصل على 21.9 مليون إعجاب. تصل مقاطع الفيديو التعليمية التي تضم ممثلين يؤدون شخصيات تاريخية إلى جمهور عالمي. كما تمنح المتحف وسيلة جديدة لتحقيق مهمته في توعية الجمهور بتاريخه.
بهذه الطرق، تعمل المتاحف على تحويل نفسها من مجرد مؤسسات ثقافية تعرض الأعمال الفنية والتراث إلى مراكز ثقافية متكاملة تعمل على توفير تجربة شاملة ومثيرة للزوار والمجتمع بوجه عام.
أخيرًا، هناك عدد من الأسئلة التي انطلقت من مذكرات زيفيريلي، فالأسئلة المؤرقة، قد لا تجد إجابات وافية، وأحيانا تدفعنا إلى قبول جماليات أرق التساؤل، لقد كان مشهد دفاع السيدات وحمايتهن لمتحف يوفيزي وبرج البلدية، دافعًا لي للتساؤل، حول قيمة المتحف ومحوريته في الحياة الاجتماعية.
فالمتحف ظاهرة إنسانية، وأوشك أن يتجاوز هذا الحد إلى اعتباره ضرورة إنسانية، محملة بالتجارب التفاعلية والاستجابات العاطفية كالدهشة، والإلهام، وتبادل الآراء والتفسيرات التي تعزز التجربة العامة، وتسهم في بناء التفضيلات الفردية والذوق الشخصي لأعمال فنية معينة وتفضيلات جمالية متنوعة وهوية ثقافية لمجتمع ما.