من (وأَذِّن في النَّاس) الآية: النداء، إلى (لبَّيكَ اللهم لبَّيك): الاستجابة، وما بينهما من شعائر. ومن (القدوم) إلى (الوداع)، وما بينهما من شعائر ومناسك؛ تقتضي وحدة الزمان والمكان والحركة، ووحدة اللباس واللسان؛ تأصيلًا لقيمة المساواة بين الحجيج ضيوف الله، على أرض الله وفي بيته المعظَّم وفي أيامه المصطفاة. ولا سلطان على تلك الشعائر إلا بمقتضيات النَّص القرآني الكريم، والسُّلوك النبوي بوصفه تمثيلًا لمدلولات النداء الإلهي، وبوصف التمثيل نهجًا يُقتفى ونموذجًا للاقتداء، وسُننًا وشرائع تُتَّبع. وبوصف (الحج) الركن المقدس الذي لا مجال فيه لاختلاف الممارسة الدينية بين الحجيج بمذاهبهم كافة، الذين يقصدون البيت الحرام والمشاعر المقدسة كل عام لأداء الفريضة، في مساحة من وجوب الاقتداء وحتميته، والتَّأسِّي بالرسول المعلِّم الهادي صلى الله عليه وسلم محبّةً والتزامًا، ينهلان من ركائز الخطبة النبوية العظيمة في حجة الوداع ومحدِّداتها ومعانيها الثَّرَّة، وفي ذروتها: (البلاغ) الذي أشهدَ الرسولُ عليه الصَّلاة والسَّلام اللهَ تعالى على إيصاله إلى الأُمَّة.
إلى مساحة (افعل ولا حرج) الحديث، تأسيسًا لقيمة السَّعة، وتعظيمًا لمبدأ التيسير، في محفلٍ تتأطر فيه الشعائر الدينية بوحدة المظهر والمخبر: أقوالًا وأفعالًا ولباسًا ولسانًا كما قدَّمنا، وجميعها تُبرزُ اكتناز شعائر الحج بفيضٍ من الرَّمزيات، بدءًا من الطَّواف والسَّعي وانتهاءً بهما. وما بين البدء والنهاية من مناسك منضبطة التواقيت الزمانية والمكانية، ثم عظمة النتيجة التي هي مُنتهى أمل المسلم الحاج: (رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) الحديث. ثُمَّ ما قبل البدء من مُقدِّمات الاستعداد والتهيؤ للرحلة العظيمة، حيث التقاليد والموروثات الثقافية المتنوعة لأجناس المسلمين، بمختلف أقطارهم وحضاراتهم وبيئاتهم، وكلها تحفل بكل ما يعظِّم من جلال الشعيرة وقدسيتها في وجدان المسلمين. ويحفظ لها فرادتها وعظمتها، ومكانتها في ذاكرة الحاج وسيرة حياته.
(ليشهدوا منافع لهم) الآية، ومن مجموع هذه المعطيات والنتائج تتأتَّى (ثقافة الحج) وتتعالى قيمتها الرمزية، التي يمكن تلمُّسها أيضًا في ما تحفل به رحلة الحج، خلال مدة الإقامة في المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، منذ بدايات شهر ذي القعدة، إلى ما بعد (الثالث عشر) من شهر ذي الحجة، حيث رحابة الزمن وحفاوة المكان بقيم الحج العظمى، ومن بينها (المنافع) التي يشهدها الحاج خلال تلك المدة ويهبها من وجهٍ، ويدركها من وجوهٍ أخرى. ورحلة الحج هي رحلة العمر، ورحلة الحياة الفريدة التي قد لا تتكرر. وليس ما قبلها كما بعدها. ولكونها فريدةً لا تتكرر.. ما يضيف إلى خصائصها، وعظمتها، مزيدًا من الرِّفعة والأهمية.
و(المنافع) المتوخَّاة من الفريضة، التي اتفق المفسرون على أنها تشمل الديني والدنيوي، الروحي والمادي، ومعانيها في الحج الذي تشهد مواسمه جوهر تلك (المنافع). أَوَّلها العلم والمعرفة والاكتشاف التي تفتح لها رحلة الحج آفاقًا فسيحة تغذيها التجربة، وتحفُّها المتعة، وتصقلها الممارسة التي يقوم بها الحاج العالم والمُتعلِّم خلال مدة الإقامة في المدينتين المقدستين، وتفاصيل الحياة المؤقتة فيهما، والركون إلى ردهات الحرمين، بكل ما فيهما من مكونات مقدَّسة، كعبة وصحن ومطاف، ومقام وصفا ومروة، وأروقة، وروضة شريفة، وباحات ترشح بأنسام الطُّهر والنُّور، والذِّكْر والذِّكرى، على نحو ما حفلت به كتب الرحلة للحج من تجاريب وسِير العلماء، الذين أتاحت لهم تلك الرحلة تعزيز شرف القصد الرئيس: الحج، بفضيلة طلب العلم، والجلوس إلى علماء الحرمين، والأخذ عنهم، ونيل إجازاتهم، والشهادة لطلبة العلم بالمعرفة والكفاءة للقيام برسالة العلم، وإيصاله للناس. ومن أولئك العلماء، من كان في أصل تكوينه ومُقامه أو مجاورته في أحد الحرمين؛ حاجًّا. اختار شرف الإقامة واستوطن إحدى المدينتين، واكتسب مشروعية الانتساب لسلالة العلم في أحد الحرمين الشريفين وفضله. وكان العلم؛ عطاءً وأخذًا تلقِّيًا وتصديرًا، مسوِّغ تلك المشروعية، وعنوانها الدَّال على أهليَّة صاحبه.
وقد حفلت مُدوَّنة الرحلة الى الحجاز بقصد الحج؛ بكمٍ زاخرٍ من النماذج التي تُصوِّر فيما تُصوِّره، كيف آلت رحلة الحج؛ إلى رحلة للعلم. وكيف استوطن الحُجَّاج العلماء إحدى المدينتين لنيل شرف المجاورة، وكيف صار غير العلماء منهم من طلبة العلم؛ علماء بعدما أخذوا العلم عن علماء الحرمين الشريفين، فازدهرت تعددية المذاهب الفقهية، وتأصَّلت تقاليد الحلق العلمية في الحرمين، وتنوعت طرائق التعليم وسننه ومناهجه. وتكاثرت مدارسه؛ تُغذِّيها أصول المشارب المكانية للعلماء المهاجرين في قواعد تكوينهم العلمي، وعاداتهم الاجتماعية، وحتى سمتهم الشكلي الخَلقِي، ولباسهم. وكان موسم الحج يمثِّل لحجَّاج شمال غرب أفريقيا-مثلًا- مناسبة للقاء أحد أبرز علماء المسجد النبوي الشريف، في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الهجري الرابع عشر، العلَّامة الشيخ ألفا هاشم، الفُوتي مولدًا ونشأةً، المدني هجرةً ومُقامًا (ت 1349ه-1931م)، وكانت داره تغصُّ بالعلماء وطلبة العلم الأفارقة الذين يقصدونه خلال موسم الحج للاستفادة من علمه وفقهه. وكان ذلك التقليد الثقافي دأب عديد من حجَّاج الأقطار الأخرى، الذين يتَّصلون بنسبٍ أو سببٍ ببعض علماء المسجد النبوي خلال تلك المدَّة. وكانت حالهم مع علماء المدينة حينها، كحال الحجَّاج الأفارقة مع الشيخ ألفا هاشم.
كما حفلت المنتديات الأدبية الأهلية بالمدينة المنورة، خلال المدَّة نفسها، وما بعدها، بالأدباء والمثقفين من الحجَّاج، كما هو شأن (نادي الحفل الأدبي)، الذي أسَّسَه الأديب المدني عبدالقدوس الأنصاري، مع ثلة من رفاقه من أدباء المدينة سنة (1355ه-1936م)، وكان من بين دواعي إنشائه؛ استثمار وجود المثقفين من الحجَّاج، لإلقاء المحاضرات الأدبية والثقافية، والحوار مع أدباء المدينة في ذلك العهد، في شؤون الأدب والثقافة وقضاياهما.
وكذلك (نادي جماعة المحاضرات) الذي أسَّسَه الصَّحفي الرائد والأديب المدني عثمان حافظ، سنة (1356ه-1937م) بالمدينة المنورة، لتنشيط الحركة الأدبية وللاستفادة من الحجَّاج العلماء والأدباء إبان إقامتهم بالمدينة المنورة. وقد حفل الناديان بعديد من المناشط الأدبية، والمحاضرات والمراجعات المهمة، وارتبطا بصلاتٍ جيدة مع المثقفين من الحجَّاج. وكانت جريدة المدينة المنورة، حفيَّة بنقل أنشطة الناديين خلال موسم الحج، في أعدادها الصادرة آنذاك؛ إذاعةً وترويجًا ونشرًا.
ومن مظاهر ثقافة الحج أيضًا؛ تقاليد الحياة الاجتماعية وأنظمتها في المدينتين المقدستين وحاضرتهما جُدَّة، وألوان التبادل الثقافي وصُوَره والتعامل اليومي وشؤونه بين الحجَّاج وسكان المدينتين، التي تزخر مُدوَّنات تاريخهما وسير أعلامهما وأسفار الحياة الاجتماعية فيهما وتحولاتها؛ بفيضٍ من الصُّور والحكايات والمرويَّات والوقائع والأحوال، التي تُصوِّر في مجملها؛ تجلِّيات العلاقات والروابط الإنسانية بين المكوِّنين: الحُجَّاج، وسكان المدينتين، وتكشف مظاهر ثقافة الحج وتأثيراتها فيهما.
وليس ببعيدٍ عن تلك الثقافة ما ألِفَته أذهان سكان المدينتين، من أن ثمة حيزًا مكانيًا في كلٍّ منهما يُعرَفُ بــ (مدينة الحجاج)، وهي وإن كانت مكانًا ومكوِّنًا تنظيميًا إداريًا تتطلبه مدة إقامة الحجَّاج في إحدى المدينتين؛ إلا أنها تشي ببعدٍ حميم؛ فكأنما قاسم الحجَّاجُ السكانَ مساحة مدنهم، وصار لهم حيزٌ معروفٌ معتبرٌ فيها. مما يضاعف من قيمة ومعنى وإنسانية الانتماء، المنضوي تحت جلال الفريضة، وعالميتها. ولعل في قَصْرِ أنشطة تلك المدن وحركة الحياة فيها على موسم الحج الطويل، الذي يبلغ فعليًّا وتنظيميًا نحو (أربعين) يومًا أو يزيد، ما ينبئ بما يرشح عن ثقافة الحج من قيم ومُثُل وحيوات. فـــ (مُدُن الحجَّاج) المعهودة ذهنيًا وواقعيًا في المدينتين المقدستين وحاضرتهما جُدَّة، والمعروفة كحيِّزٍ محدَّد؛ لا تحيا إلا بوجود الحجاج، حيث تدبُّ فيها الحركة، وتعجُّ بالنشاط، وتحفل بالحجَّاج في جميع شؤونهم، وإذا ما انتهى الموسم وآب الحجيج إلى بلادهم؛ ركنت –مدن الحجاج- إلى الصمت والوحشة؛ حتى تُستأنَف حركة الحجيج فيها إبان مواسم الحج. فأضحى الحج هنا، مُحرِّكًا للحياة وباعثًا لها وحفيًّا بها في المكان.
كما عرفت المدينتان المقدستان مهنًا وحِرفًا خاصَّة بالحج كالطّوافة والدِّلالة، التي تجاوز عمرها خمسة قرون، ويتقاسم أربابها رفادة الحجَّاج، وفق تقسيمات وأنصبةٍ متعارف عليها، وتحظى بالتراضي الجمعي من الطرفين، وتمارس الأسر المكيَّة المهنة الأولى رجالًا ونساءً، وتقوم الأسر المدنيَّة بالمهنة الثانية رجالًا ونساءً. والمقوِّم الرئيس في المهنتين خدمة الحجاَّج وإرشادهم وإعاشتهم. وللمهنتين أنظمة مرعيَّة، وتقاليد متَّبعة، والتزام بأهدافهما. ولم يعدم مجتمعا مكة والمدينة، أُسرًا كانت تقوم بتلك المهن خارج إطارها التنظيمي، ورشحت عن ذلك أمثلة نبيلة في التعامل مع الحجيج، كأن يترك المكي أو المدني نُزُله لكي يسكنه الحاج، مبتغيًا من ذلك القربة لله، والحفاوة بضيوفه.
وللحج أسواقه وبضاعته وسِلْعَته الموسمية الرائجة، ومقتنياته وتذكاراته الخاصة به دون غيره، والتي حفلت بهما المدينتان المقدستان. ولتلك الأسواق نُظُمها ومحتوياتها، التي كان لكل بلدٍ مسلم فيها إسهام، كما أن لكل صنفٍ من أطعمة الحج وأشربته مذاقًا ورائحةً ولونًا. ومن يُطالع معجم المطبخ الحجازي، لابد أن يتذوق أثرًا من آثار الحج في ذلك المطعم أو المشرب أو ذاك، والذي رسخ واندمج وائتلف بالمعهود من صنوف الأطعمة والأشربة الرائجة في الإقليم.
ثمَّ اللغة التبادلية، التي يزخر قاموسها بهجين من المصطلحات، لوَّنتها ألسنة الحجيج، وصاغتها ألسنة أهل المدينتين، فأضحت مساحة التقارب والتفاهم بين الألسنة المختلفة واسعة، وعلى قدرٍ من الأُلفة والشعور بالانتماء للمكان من ناحية، ومن ناحية أخرى شرف الرحلة إلى الحج ومعانيها، التي لا تنتهي بانتهاء النُسُك وأداء الفريضة، بل تنمو وتتسامى بتتابع الأزمنة، وتراكم التجارب وتواليها، والطيف الواسع من أجناس الحجَّاج ومواطنهم وثقافاتهم، والبيئات الحضارية التي ينتمون إليها.
وتتعاضد تلك العوامل لإفراز مزيد من العادات والأحوال والأفكار والقيم والمصطلحات، تكسو جانبًا من جوانب الحياة في المدينتين، منتميةً إلى ثقافة الحج التي كان قدر المدينتين المقدستين احتواء محفلها الأعظم، ومعايشة مظاهرها، وأُلفة مواسمها، والإسهام في تشكيلها والإضافة إليها والإفادة منها.
ومحصلة القول مما تقدَّم، فإنَّ الحج الفريضة والشعائر والمشاعر والمنافع، قد ألقى بظلاله الندية على الحياة في المدينتين المقدستين، وعلى أهلهما وسكانهما، وأضاف إلى ثقافتهم الأصلية طرفًا من مجموع ثقافات الحجَّاج، وخصائص الحضارات والبيئات التي ينتمون إليها، بل جعل لنماذج من تلك الثقافات: لسانًا وطعامًا وشرابًا ولِباسًا وطِباعًا، مكانًا ومكانةً معتبرين، أصبحا من العلامات الراسخة الواضحة، على خريطة العمران البشري في المدينتين المقدستين خاصَّة، وفي الحجاز عامَّة.