Articles
فبراير 2024

قراءة رولان بارت للقراءة

لم يجرؤ الناقد الفرنسي على الخوض في ميتا-القراءة هذه، وإقامة «نظرية للقراءة» إلا بعد أن أخذ الإعلان عن «موت المؤلف»، يفرض نفسه. وقد كان هو نفسه من مشيعي جنازة هذا «المؤلف». فلم يكن من الغريب إذن أن «يولد» القارئ على أنقاضه، إذ كان من المستحيل أن نرى في القراءة فعلا بحق من غير أن تتهاوى السلطة التي كانت تدَّعي الهيمنة على النصّ. وقد كان يلزم، من أجل ذلك أوّلا، إعادة النظر في مسألة دلالة النص، والطّرَف الذي يتمكَّن منها.

مصدر الصورة:
قد تواجه بعض المشاكل في التصفح عبر الجوال عند وجود جداول في المنشور، ولتصفح أفضل ؛ ننصحك بالتصفح عبر شاشة أكبر أو التصفح بعرض الشاشة.

«أكثر الكتب إفادة هي تلك التي يُنجِزُ القرّاءُ أنفُسُهم نصفَها» فولتير

«لولا وجه اللّعب الذي تتّخذه الكتابة، لما كتبت. ما جدوى الكتابة إذا لم نلعب في الوقت ذاته بالكلمات والصّور والذّاكرة؟» ع. كيليطو موضع أسئلة حوار مع أمينة عاشور، ترجمة ع بنعبد العالي، ص7

لم يكن رولان بارت، وهو من أوائل النقاد الذين أولوا عنايتهم للقارئ، لم يكن، في البداية، من الذين يؤمنون بإمكانية قيام نظرية في القراءة. فقد سبق له أن كتب: «لست متأكدًا ما إذا كان من الضّروري إقامة نظرية في القراءة، ربما ليست القراءة، أصلا، سوى حقل متعدّد من الممارسات المتنوّعة المشتّتة التي تترتّب عنها نتائج لا يمكن اختزالها، وربما ليست قراءة القراءة، ميتا-القراءة، سوى شتات من الأفكار والتخوّفات والرّغبات والمتع والضّغوط التي ربّما يكون من الأنسب الحديث عنها جرعة جرعة».

لم يجرؤ الناقد الفرنسي على الخوض في ميتا-القراءة هذه، وإقامة «نظرية للقراءة» إلا بعد أن أخذ الإعلان عن «موت المؤلف»، يفرض نفسه. وقد كان هو نفسه من مشيعي جنازة هذا «المؤلف». فلم يكن من الغريب إذن أن «يولد» القارئ على أنقاضه، إذ كان من المستحيل أن نرى في القراءة فعلا بحق من غير أن تتهاوى السلطة التي كانت تدَّعي الهيمنة على النصّ. وقد كان يلزم، من أجل ذلك أوّلا، إعادة النظر في مسألة دلالة النص، والطّرَف الذي يتمكَّن منها.

والحقيقة أن انتزاع دلالات النصّ من يد الموقّع عليه، ومن ذهنه وتحريره من سلطته (Auteur, autorité)، قد بدأ يظهر منذ بدايات القرن الماضي. فكان بول فاليري قد قام ضد ذلك السعي وراء اعتبار مُوقّع العمل هو المدركَ الوحيدَ للمعنى، كتب: «ليس هناك معنى حقيقي للنص، ولا سلطة للمؤلف عليه. فمهما كان ما يريد قوله، فإنّه قد كتب ما كتب. فما إن يُنشر النصُّ حتى يغدو مثل جهاز يمكن لكل منا أن يستعمله حسب هواه ووفق الوسائل التي يتوفر عليها، وليس من المؤكد أن واضع الجهاز قد يستعمله أحسن مما سيستعمله غيره...وهكذا يستمر العمل الأدبي في الوجود من حيث إنّه قادر على أن يظهر على غير ما وضعه مؤلفه».

كان هذا النقد تمهيدا للطريق إلى أن تصبح القراءة هي الفضاء الوحيد الذي تتحقق فيه الدلالات المتعددة للنص. سيكتب بارت: «النصُّ وليد كتابات متعددة، تنحدر من عدة ثقافات فتدخل في حوار وتُقلد بعضها وتدخل معه في جدال. لكنّ هناك موقعاً يتجمع عنده هذا التعدّد، هذا الموقع ليس هو المؤلف، كما قيل حتى الآن، وإنما القارئ». القارئ هو الذي يفعل في النص. وهذا القارئ متعدد. وللنصّ قراء متعددون، لا يعني ذلك فحسب أن هناك أفرادا مختلفين يمكنهم أن يقرؤوا النص ذاته، وإنما أيضا، وعلى حد تعبير.بارت، «كون كل جسم قارئ ينطوي على إيقاعات مختلفة من الذكاء للتفاعل مع النصّ حسب الأوقات وحسب الصفحات».

يوضح بارت موقفه هذا في المقدمة التي كان قد وضعها لدراسته لقصة الكاتب الفرنسي بلزاك، التي نشرت في كتاب تحت عنوان S/Z. سنة 1970: «إن هذه "الأنا" التي تقترب من النصّ، هي قبل ذلك نسيج من النصوص والشفرات التي لا تعدّ ولا تحصى. أو بتعبير دقيق: إنها شفرات ونصوص لا نتبين أصلها». كل قارئ يكثف في شخصه تاريخ قراءات وخزانة نصوص لا نستطيع أن نقف لها على منطلق، ولا أن نحدّد لها أصلا، ولا أن نعيّن لها بداية. وهكذا يبدأ التعدد عند القارئ ذاته، وهذا حتى قبل أن تبدأ القراءة، وقبل «الاتصال» بالنص وتفحّص معانيه.ٍ ليس بعيدًا أن يدفعنا تفحّص المعاني هذا إلى قراءة النصّ وإعادة قراءته. إلا أن ذلك لا يكون قط لإيقاف مدّ إنتاج الدلالات. ذلك أنّنا إذ نعيد قراءة النصّ، فليس للحصول على النصّ «الحقيقي»، وبلوغ المعنى النهائي، وإنّما لملاحقة النصّ المتعدّد، الشبيه بنفسه والجديد في الآن ذاته».

بهذا المعنى تغدو إعادة القراءة إعادة إنتاج للنصّ، وتوليدًا لا يتوقف لمعانيه. كتب بارت في المقدمة المشار إليها: «إن إعادة القراءة، وهي عملية منافية للتقاليد التجارية والأيديولوجية لمجتمعنا التي تلح على "التخلص" من القصة بمجرد استهلاكها ( " التهامها" ) للمرور إلى قصّة أخرى، وشراء كتاب آخر، إنّ هذه العملية مسموح بها فقط لبعض الفئات الهامشية من القراء ( الأطفال، والعجزة والأساتذة ). ونحن نقترحها هنا دون تردد باعتبارها الوحيدة القادرة على إنقاذ النص من التكرار (إن أولئك الذين يهملون إعادة القراءة سيضطرون إلى قراءة القصة نفسها في كل الكتب)، إنها تضاعف النص في اختلافه وتعدديته: إنها تخرجه من دائرة الكرونولوجيا الداخلية التي ترتّب الأمور حسب القبل والبعد، لتعثر فيه على الزمن الأسطوري الذي لا قبل له ولا بعد». إنها ترفض الادعاء الذي يحاول أن يجعلنا نعتقد أن القراءة الأولى «هي أول قراءة، وأنها قراءة ساذجة ومثيرة لن يكون علينا فيما بعد سوى "شرحها" ومنحها صبغة ثقافية».

حينئذ ستغدو القراءة إعادة إنتاج للنص، ستغدو كتابة ثانية، فـ «بقدر ما يكون النصّ متعددا، على حد قول بارت، بقدر ما تكون كتابته لاحقة لقراءته». كما أن القارئ سيصبح منتجا للنص وليس مجرد متلقّ له: و«رهان العمل الأدبي (رهان الأدب باعتباره اشتغالا)، كما يؤكد صاحب لذة النص، هو أن يجعل من القارئ منتجا للنص لا مجرّد مستهلك».

لا يعني هذا بطبيعة الحال أن كلّ قارئ هو على هذه الحال، فمن القرّاء من لا «يتسلح» بقراءات سابقة، فيكتفي بالخضوع للنماذج المكرورة، والقوالب الجاهزة و«كلمات الأمر». قراءة من هذا النوع يصفها بارت بكونها «قراءة ميتة» غير مولّدة. وهي تتولد عن الفصل الذي كرسته المؤسسة الأدبية، ودروس تاريخ الأدب وكتبه المدرسية، بين الإنتاج والاستهلاك، بين الكتابة والقراءة، بحيث غدا الأدب موسوما «بطلاق فظيع أقامته تلك المؤسسة الأدبية بين صانع النص ومستعمله، بين مالكه وزبونه، بين مؤلفه وقارئه». هذه المؤسسة هي التي كرّست مفهوم الكتاب الوحدة، الكتاب المنغلق على ذاته، وهي التي سنَّت نوعا من «أخلاقيات القراءة» كي تلزم القارئ باحترام حدود النص، ومعاملته بأمانة علمية ونزاهة أخلاقية، تقديسا لـ«روح النص»، واقتصارا على المعاني التي أودعها إياه مؤلفه بعد أن دارت بخَلَده وجالت في فكره.

لكن، هناك من حسن الحظّ قراءات أخرى، يدعوها بارت «القراءات الحيّة» «المنتجة لنص يتناسب مع كتابة افتراضية للقارئ». وهي تقوم ضدّ القراءة كاستهلاك. هي ما يدعوها بارت «لعبا»: «القراءة ليست استهلاكا وإنما هي لعب (وهذا اللعب هو بؤرة الاختلاف)». ووحده هذا «اللعب» يمكّن القارئ من أن «يصل كليا إلى سحر الدال ولذة الكتابة»، وحده بإمكانه أن يجعل القارئ يلاحق النصّ في حركته فيقف على تعدديته، علّه يتبين الخيط الذي يسري في الكتاب، ولا أقول بين دفتيه، ذلك الخيط المتقلّب والممتدّ الذي يسعى المؤلف إلى أن يحصر أطرافه ويلمّ شتاته تحت عنوان استراتيجي موحِّد، على غرار ما يفعل الشاعر عندما يجمع قصائد دونت متناثرة في ديوان يحمل عنوانا بعينه، أو ما يقوم به مؤلف القصص القصيرة عندما يضم مجموعته تحت عنوان بعينه.

اطّلع على منشورات أخرى

تم تسجيلك .. ترقب ضوء معرفة مختلفة!
عذرًا، أعد المحاولة