Studies
نوفمبر 2022

الرموز الثقافية والاجتماعية في الفن السعودي

ينطلق البحث من منطلق فلسفي يؤمن بقدرة الفن على التعبير عن روح المجتمع وهاجسه عبر التاريخ، عن الحس المشترك الذي يحمله الأفراد اتجاه المعاني، ويركز على تجليات الرموز الثقافية الاجتماعية في فن الرسم التشكيلي والشعر، كيف يعبر كل منهما عن الرمز وكيف تتقاطع وتتناقض الدلالات، نحو قراءة بحثية تأملية لحياة الرموز في المجتمع السعودي.

مصدر الصورة:
قد تواجه بعض المشاكل في التصفح عبر الجوال عند وجود جداول في المنشور، ولتصفح أفضل ؛ ننصحك بالتصفح عبر شاشة أكبر أو التصفح بعرض الشاشة.

موضوع الورقة البحثية:

تعد هذه الورقة استكمالاً لبحث سابق يدرس طبيعة العلاقة بين المجتمع والفنون وكان أحد أهدافها الوصول للرموز الاجتماعية والثقافية التي تجسدها أعمال الفن التشكيلي بأسلوب مباشر أو غير مباشر، وقد تم حصر خمسة رموز ظهرت كعناصر مكونة لموضوع العمل الفني وهي (النخلة، الحمامة، الجمل، التفاحة، البرقع)، إلا أن حدود البحث السابق توقفت عند حصر هذه الرموز دون الخوض في تحليلها وسبر أغوار دلالاتها.

إن الرموز الاجتماعية والثقافية تعبّر عن جوهر المجتمع وتاريخه الاجتماعي الثقافي، وهي تُمظهر للهاجس الذي يدور في الحس الجمعي المشترك، وتصنع له قيمة ومكانة بين الناس. وحين نتأمل الرموز الاجتماعية والثقافية نلمح بوضوح دورة حياتها، بدءًا من ولادة الرمز وارتباطه بالأحداث التي تشكّله وتضخه بالقيمة عبر الزمن.

في هذه الورقة نتناول هذه الرموز الخمسة بالتفسير والتحليل، وذلك بالتوليف بين نوعين من الخطاب: الخطاب البصري المتمثل في الفنون التشكيلية، والخطاب الشفهي المتمثل في الشعر؛ و هذان النوعان من الخطاب الإنساني يعبّران عن نظرة أفراد المجتمع إلى الحياة، وكيفية إدراكهم العالم من حولهم، وتشكيلهم المعاني المرتبطة بالرموز، ومن ثَمّ تبّنيها في هذا الخطاب الذي يعدّ استكناهًا للهاجس الاجتماعي واستبطانًا للثقافة.

هدف الورقة البحثية:

  1. تحليل الرموز الاجتماعية والثقافية في الفنون (الفن التشكيلي والشعر).
  2. استعراض وسرد التاريخ الاجتماعي المرتبط ببعض الرموز الاجتماعية والثقافية عبر الخطاب البصري (الفن التشكيلي) والخطاب الشفهي (الشعر).

أسلوب البحث:

يعد هذا البحث من البحوث الوصفية التحليلية التي تعتمد على توظيف أدوات التحليل بأسلوب سردي من خلال التوليف بين الفنون البصرية والشفهية (التشكيل والشعر)  من خلال التنقيب عن الرمز في أعمال الفن التشكيلي وفي القصائد الشعرية و رصده في العمل، ثم  قراءة الرمز في العمل التشكيلي وتوليفه مع النص الشعري، وربطه بالسياق الاجتماعي والثقافي لمحاولة فهم واستنتاج الدلالة وهذا الأسلوب السردي يتناسب مع طبيعة الموضوع وأبعاده النظرية.

الأداة المستخدمة:

بالنظر لنوعية الموضوع المطروح سيتم استخدام أداة تحليل الخطاب؛ لكونها تحقق الهدف الأساس للبحث، وذلك بالاستعانة بالمواد البصرية (أعمال الفن التشكيلي)، والشفهية (قصائد الشعر) كوسيط للتحليل، حيث تم حصر بعض أعمال الفن التشكيلي، وعددٍ من القصائد التي تحقق أهداف البحث – سابقة الذكر-  بطريقة العينة القصدية، رغم وجود تحدٍّ فيما يتعلق بتوثيق الشعر الشعبي السعودي وتبويب القصائد بالشكل الذي يمكّن الباحث في المجال من الوصول إليها  وفق الموضوع أو الفترة الزمنية، وهو ما جعلنا نلجأ إلى التنقيب في القصائد وتصنيفها  بما يحقق غرض البحث.

دَوْرَةُ حياة  الرموز  في المجتمع السعودي:

تعد الرموز السمة الفريدة التي تميز الجنس البشري عن غيره من الكائنات الحية، فقد اختص وحده بقدرته على خلق الرموز  و تقديرها، ثم استخدمها  للتعبير عن بعض المسائل أو الأمور التي يصعب التعبير عنها حرفياً بصراحة ووضوح في الشعر والفن (أبو زيد، 4، 1985).  ويمكن القول: إن الرموز يمكن أن تقف كبديل عن شيء آخر أو تحل محله أو تمثّله، بحيث تكون هناك علاقة بينهما، علاقة الملموس بالمجرد، على اعتبار أن الرمز هو شيء له وجود "حقيقي" مشخص، ولكنه يرمز إلى فكرة أو معنى مجرد، كأن يرمز الميزان للعدالة، والحمامة إلى السلام (كودون، 671، 1979). والتحليل للخطاب ليس منفلتاً من الموضوعية إلى العشوائية لاستكناه المضمون (الهواوشه، 217، 2018) بل يخضع لمحددات تضمن حيادية الباحث وسلامة التحليل وموضوعيته قدر الإمكان.  

ترتبط الرموز بالطقوس، حيث يرى دوركايم أن القيم تنشأ من الممارسات الاجتماعية، ولا سيما طقوس المجتمع واحتفالاته، وتؤكد هذه الطقوس النظام الاجتماعي وتعززه وتؤدي دوراً أساساً في تأسيس النظام المقدس وكل ما هو ذو قيمة، مع ما يوازي ذلك من الانتساب إلى المجموعة، والأدوار الاجتماعية، وأنظمة المراتب، والتسلسل الهرمي، كما يرى دوركايم أن الطقوس تتعلق بالتقليد، وهي بمثابة مؤسسة محافظة بطبيعتها، توحد الناس في مجموعة، وتشجعهم على النظر إلى الماضي للاقتداء والاهتداء به (ستيفنسن، 2021). بإسقاط هذا الفهم والمنظور للرموز على المجتمع السعودي نجد أنها  قابلة  للمعالجة بحكم احتفاظها بنفس الخصائص العامة للرمز، فمجموعة الرموز (النخلة، البرقع، الحمام، الجمل، التفاحة)، ترتبط بهوية المملكة العربية السعودية ومجتمعها بشكل متفاوت ، إلا أنها تظل أشياء مجردة اكتسبت قيمة ودلالة رمزية ومعنى؛ نتيجة للظروف التي ظهرت فيها  وللحوادث والشواهد التاريخية التي ارتبطت بها.

لماذا الفن تحديداً؟

ﻷن الفن فعل اجتماعي، تعد الفنون شكلاً من أشكال التعبير الإنساني، وتحاول تجسيد عدد من الرموز والمعاني ذات الدلالات الاجتماعية المستلهمة من الواقع، حتى وإن أخذت طابعاً خيالياً فهي ليست منفصلة عن الواقع الذي يعيشه الفنان أو المؤلف - تشكيلياً  كان أو شاعراً- بشكل كلّي؛ لأن الواقع الذي يعيشه يدفعه إلى ابتكار عوالم أخرى في أعماله، كما يعد الفن سجلاً يوثق تاريخ المجتمعات، بما فيه من أحداث ووقائع وحمولات رمزية ذات دلالة تحمل معنى مشتركاً بين أفراد المجتمع.  وﻷن الفن ليس فعلاً عشوائيا، إنما له دوافع وله أهداف يسعى لها الفنان من لحظة اختيار موضوع منتَجه -لوحة أو قصيدة - واستلهامه من الواقع أثناء تجسيده للرموز والمعاني، وإنتهاء  بعرضه على العامة ليتذوقوا الجمال الكامن في المنتَج.  لذلك يمثّل الفن مصدر من مصادر المعرفة الاجتماعية الوجودية، ومن استحقاقها الذاتي، وهي ليست أقل من معرفة العلم الاجتماعي، وهذا مفاده أنه توجد أشياء معينة يمكن للفن أن يخبرنا بها عن المجتمع يعجز العلم الاجتماعي عن القيام بها، فالروايات والمسرحيات والأفلام والرسوم التشكيلية تنقل إلينا أشياء مختلفة عن الحياة الاجتماعية، فالمعرفة التي يتمكن الفن من نقليها إلينا عن معنى حياتنا في المجتمع فريدة (هارينغتون،2014) لذلك فإنّ السلوك الفني كفعل اجتماعي يمكن اعتباره – بالنسبة للفنان- وسيلة وغاية في نفس الوقت، وسيلة للتعبير عن الرموز والمعاني، وغاية تخدم الفن لأجل الفن ذاته.

أما على صعيد الخطاب الشفهي فاللغة في أصلها نظام رمزي، كما أنها فرع من الأصل الذي هو قدرة الإنسان الفريدة على الترميز، والقدرة على إضفاء المعاني على الأشياء، ويحيلها إلى رموز بما تحمله من قيم ومعانٍ، وتكتسب الأشياء معانيها من نظرة الناس إليها حسب اختلاف استخدامها وأهميتها في حياة الناس أثناء تفاعلهم بعضهم مع بعض؛ لذلك تختلف من شخص لآخر ومن ثقافة إلى أخرى، فالبعير والنخلة عند العربي لهما من المعاني ما لا يمكن أن يدركه أو يحيط به مواطن من اليابان أو الصين أو كندا (الصويان، 2013). وفيما يتعلق بالعلاقة بين الشعر الشعبي النبطي والشعر الفصيح فإننا ننطلق من فكرة أنّ كليهما سلوكٌ لغوي، قد يتغيّر مع مرور الزمن، ولا يثبت على حال، وهو تغير تدريجي غير محسوس ودائم ومستمر بفعل عوامل تاريخية وحضارية تؤثر على القواعد النحوية والصرفية والصوتية، وهذا التغير في اللغة محكوم بنظام، وعليه نستطيع رد العامي إلى الفصيح (الصويان، 2000). لا سيّما وأنّ الشعر الفصيح والشعر الشعبي النبطي كليهما يعبران عن الهاجس الاجتماعي المتصل بالرموز الثقافية في الحياة الاجتماعية.

الرموز في الفنون السعودية والحياة الاجتماعية:

تتشكل ذات الفنان السعودي بشكل تدريجي منذ ولادته من خلال تفاعله مع محيطه الاجتماعي الذي يلعب دوراً بارزاً في تشكيل الخلفية الاجتماعية والثقافية له طوال حياته، وهو ما يسهم بشكل فعّال في رسم ملامح صورة الذات لديه، الذات بنوعيها: الفردية، والثقافية، وهو ما ينعكس بشكل واضح في أعماله حينما يستعين بتلك الرموز كموضوعات تشكّل عمله الفني أو كأدوات يستعين بها لإنجاز منتَجه (لوحة أو قصيدة).

وباعتبار الفنان فاعلاً اجتماعيّاً يتشرّب ثقافته، ويعبّر عنها بشكل واعٍ وغير واعٍ، مباشر وغير مباشر، فنجده يعبّر عن هذه الرموز ويستخدمها ضمن عمله لأسباب مختلفة، فنجده مرة يستعين بها للتعبير من خلالها، أو بناء موضوع عمله، أو لعرض ذاته، وهذا يحيلنا لسؤال جوهري: ما الذي يدفع الشاعر لنظم قصيدة؟ والفنان لرسم لوحة؟  ولأي مدى تخدمه وتسانده هذه الرموز؟

بالطبع لا يمكن أن تكون هناك إجابة واحدة ومحددة، فلكل فنان فلسفته في التعبير، إلا أننا لا يمكن أن نحيّد تأثير الحياة الاجتماعية على مسار الحالة الإبداعية والإلهام الذي يعتري الفنان لينتج منتَجه الفني.

الدلالات الثقافية والاجتماعية للرموز في الفنون السعودية:


النخل: تجذّر الحياة والعلو اللانهائي:

A picture containing textDescription automatically generated
لوحة (1)

يمكن أن نعد النخل في الثقافة السعودية الرمز الأكثر التصاقاً بالثقافة السعودية المحلية على وجه الخصوص؛ لكونه المورد الأكثر وفاءً في حياة الإنسان السعودي، حيث تحمّل بإمكاناته الطبيعية شظف العيش في الصحراء، وكان رغم الشح والجفاف سخياً في عطائه المتجدد، ورافداً مهماً لدفع البدوي إلى الصمود والبقاء، ولم يتوانَ الآخر في مبادلة الوفاء بالوفاء، فلم يقتصر النخيل على مدّه بالفيء والطعام  والزاد له ولقطعانه من الحيوانات  فحسب، بل دعمه لابتكار أدواتٍ لنمط عيش أسهل من خلال جذوعه وسعفه، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في  أساليب ممارسة الحياة اليومية للسعوديين القدامى، بدءاً من طراز العمارة والبناء، وانتهاء بفرشها بخوص الحصير والمخارف المتدلية على الجدران، وهي بذلك حققت الأمن الغذائي له وجعلت من كيانها تعبيراً عن هويته.

هذا الارتباط بين الإنسان السعودي والنخلة شكّل إرثاً من القصص والشواهد على مر الزمن، أعطى للنخلة مكانتها وقيمتها، وفي لوحة (1) للفنان عبدالله الشيخ (من إنتاج سنة 1986م) ظهرت النخلة كأحد العناصر الأساسية في اللوحة التي كانت تعبّر عن ارتباط شريكين (رجل وامرأة)، وهما يرتديان زيّاً أنيقاً، وكأنه يُشير إلى الفرح في ليلة مقمرة مستعيراً رسوخ النخيل ومتانة جذوره وقدرته على الصبر والتحمل في أصعب الظروف إبان إعلان رباطهما المقدّس كزوجٍ وزوجة.

كما ظهر النخيل في تجسيد البُعد البانورامي للقرية في أعمال عدد من الفنانين مثل لوحة (2) للفنانة فوزية عبداللطيف (من إنتاج سنة 1989م)، وعمل آخر لوحة (3) لفنان لم يُعرف اسمه، وعند التأمل في اللوحتين يمكن أن نلمح أنهما يُشيران بريشتيهما إلى النخيل كمركز للتحضر في المجتمعات الصغيرة، باعتبار أنّ الزراعة هي الشريان لأي تجمع إنساني إلا أنّ الفنان السعودي هنا اختزلها في النخلة التي تعد أهم ما يعرف في بيئته الصحراوية الشحيحة، وفي هذا السياق نورد ما قاله الشاعر ناصر العريني:

وادي حنيفة مد حبل الرجا به | جمّه على الطبه يخضه عسيبه

حتى النخل يشتاق حي مشى به | بأطراف سبحاته تنوح الربيبه <span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">الأدب الشعبي في جزيرة العرب، عبدالله بن خميس (1982)، ص 249.</span></span>

لوحة (2)


لوحة (3)


يصف الشاعر في هذين البيتين مدى رجاء الناس بوادي حنيفة كمجرى للحياة قديماً، ويوجز جريان الماء حتى يصل للبئر أو كما اسماه باللهجة المحلية "الطبه"، واللافت هنا هو اعتقاد الشّاعر في الشعور الذي تحمله النخلة تجاه الحياة  في قوله "حتى النخل يشتاق" ثم قوله "حي مشى به" مشيراً إلى الماء الحي، وتزامن نوح الحمائم مع الجريان، وفي الشعر الفصيح يتفق معه في نفس المعنى الشاعر سعيد بادويس حيث يقول:

للنخيل قرًى لم تكن..
ولي الماء
أضفرته ساعدي
واتكأت على جدول من زمرد <span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext"> ديوان نكهة الموت المصفى، سعيد بادويس (2010)، ص65.</span></span>

وكأنه يؤكد على أسبقية وجود النخل بالنسبة للقرى في قوله: "للنخيل قرًى لم تكن" ثم يقول: "ولي الماء" الذي يرمز للحياة وسرها، فوجود النخيل نواة تشكل الحياة الاجتماعية في المجتمعات المحلية، وكرم عطائها المتجدد أسهم بشكل كبير في وجود الممارسات المرتبطة بها حسب المواسم، وما يرافقها من طقوس لتلقيح الفسائل والتسميد والتشذيب وجني الثمار.

كما يمكن أن نلمس بأن النخلة دائماً كانت توحي بالشموخ والعلو، علاوة على الثبات، فهي تُلهم الفنانين بأن يستعيروا   تشبيهاتهم من علوها وثباتها، يقول الشاعر فهد عافت:

باشت الغيد زيدي مشيتك بخترة

لأجل أطاول بحرفي شامخات النخيل

شاعر تلمّس ايدينك على دفتره

تغرق في أوسط أوزانه بحور الخليل <span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext"> الموسوعة العالمية للأدب العربي، أعمال الشاعر فهد عافت </span></span>

كذلك نجد في الشعر الفصيح قول الشاعر جاسم الصحيح:

سفحنا عصارة أعمارنا
نتسلق نخل الحياة
ولم نتعلم من النخل
فكرته في الصعود إلى ذاته
في أعالي الجريد
الا أيها النخل
يا شاعرا يتبوأ قامته في العلو المديد
اتيناك من قبضة الزمن العسكري

تطاردنا في دروب الوعود عصًا من وعيد <span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext"> ديوان تضاريس الهذيان، جاسم الصحيح (2020)، ص 74.</span></span>

ينظر الشاعر إلى النخل كامتداد غير منتهٍ، مستنكراً عدم اقتباسنا منه (فكرة الصعود إلى الذات)، ثم يخاطبه مباشرة مؤكداً مكانته العالية، وهو يشتكي له زمنه المستبد، مستلهماً منه الصمود والكمال، رمزية الكمال هذه عبّر عنه الشاعر محمد يعقوب أيضاً حيث قال:

فرح طفولي
كآخر حبة في علبة الدنيا
ونخلٌ كاملٌ <span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext"> ديوان مقام نسيان، محمد إبراهيم يعقوب (2019)، ص 39. </span></span>

ويقول:
النخل قال
بما يرتل جذعه
ما لم نقله لمريم العذراء <span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext"> ديوان مقام نسيان/ محمد ابراهيم يعقوب (2019)، ص 117.</span></span>

وبهذا يمكن القول: إن النخلة ظلّت راسية بالأرض وبوجدان الإنسان السعودي منذ زمنٍ بعيد، حاضرة في ذهنه وفي أرضه كما في مائدته، رمزاً لمترادفات عديدة من الصمود في البدء إلى التجذّر في العلو.


2- الحمام: سلامٌ فوق السطوح، ووفاءٌ يطلّ من النوافذ:

لوحة (4)

يقف الحمام على السطوح كشاهد على التمرحل التاريخي للمجتمع السعودي على مدى عقودٍ من الزمن، كانت الحمامة حاضرة بألفة في زوايا النوافذ ولوحات الفن والقصائد، وهي التي كانت رديفة للشجن، ومرسولاً للحنين والسلام بين الأحبة.

كما يمكن اعتبار الحمام الطائر الأقرب للإنسان السعودي بحكم وداعته وإمكان تدجينه واستئناسه في المنازل. وبالملاحظة العابرة يمكن إدراك أن علاقة البشر بطائر الحمام تجلّت بشكل واضح في الشعر أكثر منها في أعمال الفن التشكيلي، فقد اعتاد الشعراء على مخاطبة الطيور بشكل مباشر ومناجاتها والبوح لها بما تكنه صدورهم، وقول ما لا يمكن قوله للناس القريبين حولهم؛ ونلمح هذا في عمل يحمل عنوان "سارحة" للفنان عبدالله العتيق لوحة (4) والتي تصوّر فتاة تتأمل الأفق وتظهر من فوقها حمامة تقف على سطح المنزل المجاور.  وهذا ربما لأن الشاعر أكثر اتصالاً بالأفق في استحضاره للصور والمعاني البلاغية من الفنان التشكيلي الذي يعتمد على التجربة الحسية؛ لذلك لم يلفته هذا الطائر ليكون موضوعاً لعمله مثل الشاعر -هذا افتراض-، وفي افتراض آخر قد يكون لاحتمالية كثافة النصوص الشعرية والإنتاج الشفهي في الفن السعودي مقارنة بالإنتاج البصري، والافتراض الأخير المحتمل أن الحمامة – كعنصر فني – تُلهم الشاعر لبناء العمل الفني (القصيدة)، فهي تتموضع كطرف أساس في الفعل الخطابي، بالإضافة للدور الوظيفي الذي تؤديه في موضوع القصيدة، وهي بذلك تعد موضوعاً  من ناحية، وعنصراً داعماً ومعززاً لبناء الموضوع من ناحية أخرى، ويظهر ذلك بوضوح في أبيات للشاعر النبطي محمد السديري في ذكره للحبيبة:

بحق الحب سيري يا حمامة

لطيف الرّوح وهاتي لي سلامه

وودي له تحيات المودة

على الطاير وهاتي لي كلامه

ثم يكمل:

دهاني ما دهى مجنون ليلى

على فرقاه صابتني ندامة

رعا الله من سقاني وداده

بصوت الوجد نوحي يا حمامة  <span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext"> موسوعة الشعر العربي، أعمال لشاعر محمد السديري</span></span>

يمكن رصد أفعال الأمر الموجهة للحمامة (سيري، هاتي، ودي، نوحي) ووظيفتها الواقعية في النص، ورغم ذلك فقد تتجاوز وظيفة طائر الحمام كونه مرسولاً وساعياً لإيصال الرسائل وحاضناً لها، ليكون طائراً مغنيّاً ونائحاً تطرب لصوته المسامع،  وارتبط صوته مرة بالفرح والغناء والهديل، ومرةً بالحزن والنّوح، وقد نُظمت أبيات من الشعر اعتاد الفلاحون على ترديدها وقت الحصاد، حيث ينتظمون في صفٍّ للعمل قعوداً وبأيديهم المناجل (بن خميس، 1982) وينشدون:

ناح الحمام بعاليات المقاصير

وأهل الهوى طربين ما يسمعونه

ذكرتني يا الورق لا ذكرك خير

غرو كما لدن المطارق قرونه  <span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext"> الأدب الشعبي ، عبدالله بن خميس (1982)، ص 416. </span></span>

أما الشاعر نمر بن عدوان فجاء وصفه للحمام فريداً ومختلفاً، فهو لم يناجها ولم يتخذها مرسالاً، بل شبه حزنه الصامت وأنينه على فراق زوجته بحزن الحمام الذي يفقد خليله على أثر رمية من هاوٍ للقنص، وكأنه هو الذي يتعرّض هذه المرة للقنص من أقداره؛ فيعزّي نفسه قائلاً:

وإلاّ فونّة راعبي الحماما

غاد ذكرها والقوانيص يرمون

تسمع لها بين الجرايد حطاما

ومن نوحها دلّى الحمايم ينوحون

عليك ياللي شرب كاس الحماما

صرف بتقدير من الله ماذون <span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext"> الادب الشعبي ، عبدالله بن خميس (1982)، ص 142.</span></span>

أما الشاعر محمد بن لعبون فهو يرى أن الحمام قد يكون أكثر وفاء من صاحبه للمكان الذي هو فيه، ولعله من القلة الذين وصفوا صوت الحمام في حالة البهجة فيقول:

يفزّ القلب فيها للصباحة

إلى قامت حمامتها تغني

توصيني لأهلها بالنياحة

ياعود أن الحمامة خير مني  <span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext"> الادب الشعبي ، عبدالله بن خميس (1982)، ص200. </span></span>

ومما لا يخفى أن صوت الحمام يملك سحراً ووقعاً على مسمع ومشاعر الشعراء، فيقول الشاعر عمر الغفيلي:

لي زمان بسجعت الورق الحمام

هدلته جنبي ترجعني ورى  <span class="tooltip">(11)<span class="tooltiptext"> ديوان غريم البعد، عمر الغفيلي، ص32. </span></span>

ويشاركه الشعور عبدالكريم الحوشاني، حيث يقول:

حمام يبهج الناظر مطوّق

سجع لحنه على درب السلامة

سمعته وأثر بقلبي وحرّق

شعرت بوحشة المغرم وآلامه <span class="tooltip">(12)<span class="tooltiptext"> ديوان الحوشاني ، عبدالكريم بن محمد الحوشاني، ص 144.</span></span>

وعند مقارنة الشعر النبطي بشعر الفصحى نلمح كثافة وجود الحمام في النص الشعري النبطي عنه في الشعر الفصيح، وقد يعزى ذلك إلى أن الشعر الفصيح أكثر استجابة للمعاصرة في موضوعات الشعر، بالإضافة إلى أن هناك أساليب في الشعر النبطي درج عليها الشعراء في ابتداء قصائدهم والانتهاء منها، فنجد البعض منهم يفتتح القصيدة بالدعاء والصلاة على نبيه محمد، والعكس، فقد ينتهي في قصيدته بالسلام على النبي وهكذا، فقد كانت مخاطبة الطيور بشكل عام والحمام خاصة أحد أساليب نظم القصيدة وبنائها، وهذا ما تحرر منه شعراء الفصيح، يقول الشاعر محمد يعقوب:

تورطت في التاريخ

ترساً وآلة

وأي سلام

لم تخنه حمامة! <span class="tooltip">(13)<span class="tooltiptext"> ديوان مقام نسيان ، محمد إبراهيم يعقوب (2019)، 72.</span></span>


لوحة (5)

نلمح هنا أن الشاعر استعار رمزية الحمام في الثقافة العالمية وليست المحلية والتي تشير إلى السلام، وقد اتفقت هذه الرمزية مع الرمزية في لوحة (5) بعنوان "السلام" للفنان (محمد عاصم جاها من إنتاج 1982م) تجسد حماماً أبيض طائراً ويظهر خلفه مئذنة مسجد في إشارة إلى ارتباط الدين الإسلامي بالسلام.

تميل القصائد في الشعر الفصيح إلى الغوص في الرمزية بشكل أعمق من الشعر النبطي، وبنظرة عامة يمكن القول: إن رمزية الحمام ارتبطت في الثقافة السعودية بأكثر من دلالة، مرةً بالنوح والحزن، ومرةً بالوفاء، ومرةً تميزت بكونها مصدراً للطرب وسحر الصوت، كما لا يمكن أن نغفل الدور الذي تؤديه رمزية الحمامة على المستويين: الفني من ناحية قدرتها على أن تصبح موضوعاً يدعم القصيدة بالفكرة والمفردات والضمائر، والدور على المستوى الواقعي كساع لتوصيل المراسيل.


3- التفاح: إثم الفولاذ:

يمكن -من الوهلة الأولى- إدراك أن رمزية التفاح لم ترتبط بشكل مباشر بالثقافة السعودية المحلية،  ونحن هنا لا نحاول أن نوجد علاقة بين رمزية التفاح وبين الثقافة السعودية بقدر السعي لفهم سبب وجود هذه الرمزية في أعمال الفن السعودي والسياق الثقافي الاجتماعي الذي أتت فيه.

تعد ثمرة التفاح من الثمار التي حظيت بقيمة رمزية على مستوى الثقافة الإنسانية جمعاء، لارتباطها ببدايات الخلق والتكوين البشري والصراع الوجودي الأول للإنسان؛ لذلك حضرت التفاحة في نصوص الكتب المقدسة والأساطير والقصص الكلاسيكية وفي كافة أشكال الفنون الإنسانية.

تُشير رمزية التفاح في الثقافات الإنسانية إلى العديد من المعاني، فحواء أغوت آدم بتفاحة؛ فكانت الخطيئة الكبرى للإنسان بالخروج من بستان الجنة إلى جحيم الأرض، أما عالم الفيزياء إسحاق نيوتن فقد اكتشف قانون الجاذبية وهو يتأمل تفاحة تسقط، أما في الخيال العربي الشعبي فإن للتفاح فوائد لا تحصى  ومنها جاءت بعض الأمثال من قبيل " التفاح يفوح ويرد الروح إلى الروح"(بوحوش، 2016) .

C:\Users\master\Desktop\الأطروحة\بعد الاعتماد\أرقام الحالات المدروسة\064.png
لوحة (6)

C:\Users\master\Desktop\الأطروحة\بعد الاعتماد\أرقام الحالات المدروسة\050.png
لوحة (7)

أما حضور التفاح في الفن السعودي فيمكن أن نلحظه في عمل (لوحة6) للفنانة (دنيا العظمة من إنتاج سنة 1992م) يجسد امرأة ملتفة بالسواد وتتدلى بجانبها تفاحة، الوضعية التي تجلس بها المرأة وكأنها منكسرة، وفي حالة من اليأس والانكفاء على الذات، على النقيض من العمل الثاني (لوحة 7)  للفنان (فهد الحجيلان من إنتاج 1999م) الذي يجسد وجه امرأة محاطة بالأغصان الخضراء، وتلف رأسها مجموعة أغصان وبجانبها تظهر تفاحة، وربما يكون من الصعب معرفة قصة كل امرأة، بل ويمكن رواية أكثر من قصة مزعومة للنساء في هذه الأعمال، لكن ما يمكن أن نتفق عليه هو أن ثمرة التفاح ارتبطت  بالمرأة بشكل أو بآخر رغم اختلاف وضعية كل واحدة منهن داخل العمل الفني، وكأن ثمة علاقة خفيّة وقصة ارتباط مفترضة سلفاً.

وربما نتمكن من تحسّس هذا الارتباط الخفي بالنظر إلى رمزية التفاح من منظور الخطاب الشفهي، ففي الشعر النبطي يقول فهد عافت:

عزيز القوم ذل بلعبة الغفران والتفاح

ولا سائل رب العباد يجيك ما جاني

ولاني طالب إلا ليا مني بكيت ارتاح

ولاني طالب إلا أن انت ماتشمت بوجداني  <span class="tooltip">(14)<span class="tooltiptext"> الموسوعة العالمية للأدب العربي، أعمال الشاعر فهد عافت</span></span>

وفي قصيدة أخرى  بعنوان "رحلة الغفران تفاحة" للشاعر نايف صقر:

على هونك ترفّق ياشتاي البارد الكذّاب

تراها قفلتين، الطعنتين ان قلت ذبَاحة

بشوفك، بلمحك، بتذكرك لاغابوا الغيّاب

وأبصرخ من حشاي ورحلة الغفران تفاحة  <span class="tooltip">(15)<span class="tooltiptext"> جريدة الرياض، خزامى الصحاري، قصيدة منشورة للشاعر</span></span>

يتفق كلا الشاعرين على ارتباط التفاح بإرث ذنب قديم وغفران معلّق، ويتأكد ذلك  في الشعر الفصيح  حيث يقول الشاعر جاسم الصحيح:

هل نتحاشى السقوط

بمصيدة الذنب ثانية؟

والتورّط في إثم تفاحنا من جديد؟

ثم يعود ليقول:

سئمنا المتاهة في جنة العصر

ضقنا بفردوسنا الاصطناعي

حيث الحضارة أفعى

وحواء ترسانة للخطايا

وآدمنا الآن يأكل تفاحة من حديد  <span class="tooltip">(16)<span class="tooltiptext"> ديوان تضاريس الهذيان، للشاعر جاسم الصحيح. 2020، ص 75.</span></span>

أما الشاعر محمد إبراهيم يعقوب فاستعار رمزية التفاح في شعره ليعبر عن السر الذي تكتنفه هذه الفاكهة بقوله:

ما خلف تفاحنا حزن

نفض به سر الوجود

وميراث نخلخله

ثم يعود ليقول:

ما يضمر التفاح

قبل سقوطه

مدّ طليعي إلى عشتار <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext"> ديوان مقام نسيان، للشاعر محمد إبراهيم يعقوب، 2019، ص128</span></span>

بشكل عام تشير رمزية التفاح في الفن السعودي شكلاً وشعراً إلى القصة القديمة للبشرية وبداية الحياة على الأرض، حيث أشارت الروايات القديمة إلى أن تلك الثمرة التي يرجّح أنها ثمرة تفاح كانت هي المنعطف في مصير البشرية، فارتبطت في أذهان المبدعين بالذنب والخطيئة والعصيان الأول، وتجلّى ذلك بشكل واضح في أعمالهم.

  1. الإبل: رحول الجَمَال:


لوحة (8)

لم يحظَ حيوان في شبه الجزيرة العربية بالتقدير مثلما حظيت الإبل بذلك، ونحن لن نسرف في تعليل أهمية هذا المخلوق في حياة الإنسان السعودي في البادية؛ لافتراض بديهيتها، بل الكشف عن المعنى الذي تحمله هذه العلاقة والرمزية المنبثقة منها.

تأخذ الأبل تسميات عدة بحسب جنسها وعمرها وفصلها، وتُنطَق الأبل "بلْ" أحياناً، وعبارة "وخذت البل" شائعة تعني أن الإبل تم الاستيلاء عليها، فمسمى (البعير) يُطلق على الإبل أياً كان جنسه، وتُطلق لفظة (الجمل) على البعير الذكر الذي يتراوح عمره بين ست سنوات وعشرين سنة، و(الناقة) وجمعها نياق تستعمل عند الحديث عن النوق المكتملة النمو أي من عامها الخامس وصاعداً، ومنذ السنة التي تحمل فيها الناقة تسمى (خلفات)، وغيرها من التسميات التفصيلية (الزيدان، 1997).

إن المتوغّل في الثقافة المحلية يعرف جيّداً أنّ علاقة الإنسان السعودي بالإبل لا تشبه غيره من الدواب، ليس ذلك لقدم تاريخها فحسب، بل لطبيعة هذا الحيوان وتعبيره عما يكنّه من شعور لصاحبه وتفاعله معه؛ لذلك جاءت العناية من قبل صاحبه مختلفة، وتبدأ العلاقة بين الإبل وصاحبها منذ ولادتها  أو منذ بدء وقت تطبيعها، والمقصود بتطبيع الناقة تطويعها، والتي يمكن تسميتها بـ "طقوس التطبيع"، حيث يقوم صاحبها بمجموعة من الممارسات التقليدية التي تهدف بشكل رئيس إلى إخضاع هذا المخلوق، وجعله تحت تحكّم صاحبه، تبدأ من ربطها وتقييدها ثم تجويعها وضربها بالسوط ضرباً خفيفاً لتنبيهها على سلوكيات غير محبّذة للتوقف عنها، وتعويدها على مجموعة من الأوامر اللفظية، وتستمر هذه الطقوس عدة أسابيع، وغالباً لا يرى الجمل أحداً يقترب منه في فترة التطويع غير صاحبه.  

ويمكن لصاحب الإبل توجيه الأوامر إليها بمجموعة أصوات تفهمها، فيقال لتهدئتها (هيء، هيء) ولإناختها (إخ، إخ، إخي)، وإذا أراد أن يسوقها قال: (حيت)، أما إذا أراد أن تقرب يديها إلى بعضها ليقيدها قال: (سك، سك)، ويقال لها أحياناً ألفاظٌ عادية مثل: تعالي، خذي، الخط(الحشاش، 2010).

وعندما نلتفت إلى الفنون لقراءة هذا المعنى الرمزي لوجود الإبل كرمز اجتماعي في المقام الأول وثقافي في المقام الثاني، نلمح بوضوح ما تحمله هذه العلاقة الموغلة في القدم بين الإنسان السعودي والإبل، ففي (لوحة 8) (للفنان ناصر الضويحي) يصور فيها راعياً مع إبله، وكأنه يمثّل قول الشاعر الشعبي خلف بن هذال:

البل لها في مهجة القلب منزال

منايح القصار سفن الصحاري

لقيت في الوحدة سكون ووسع بال

بعيد ما عندي من الهم طاري  <span class="tooltip">(18)<span class="tooltiptext">جريدة الرياض، أعمال منشورة للشاعر، العدد 15174</span></span>

A picture containing textDescription automatically generated
لوحة (9)

الشعور بالبهجة والاكتفاء الذي يشعر به الإنسان بالقرب من الإبل في الأبيات السابقة يؤكدها الشاعر فراج القحطاني في أبياته التي نظمها:

 دنوا ذلولي تراني ضايق بالي

ذلولي اللي مديد العصر يطربها  <span class="tooltip">(19)<span class="tooltiptext"> الموقع الرسمي للقبيلة، أعمال الشاعر.</span></span>

وقد كان جمال الإبل ملهماً للشعراء في سرد أوصافها بدقة، حيث يقول الشاعر:


أنا هوا قلبي مجاهيم اسناع

الناس دايم تختلف في نظرها

لها مهادل والخشم طوله ذراع

كنها تعاين في النجوم وقمرها

وأذن كما الشنصوب وعيون وساع

كبار مواطيها طوال شقرها <span class="tooltip">(20)<span class="tooltiptext"> المرقع الرسمي للقبيلة ،أعمال الشاعر.</span></span>

لوحة (10)

هذا الجمال في الإبل لم يلفت إلهام الشعراء فقط، بل حتى الفنانين التشكيليين، ففي ( لوحة 9)بعنوان (الجمل والجمال من إنتاج سنة 1987م) للفنانة سونيا فريد، تجسد فيه امرأة بدوية يظهر خلفها الجمل، تجمع ملامحها بين الصرامة والجمال.كما عبّروا أيضاً عن سباق الهجن في أعمالهم، وهي تعد من الرياضات الصحراوية التي تعزز المنافسة ليس بين المشاركين فقط، بل وتعبّر أيضاً عن الطبقية في المجتمع، حيث إن غالبية الهجن المشاركة تنحدر من سلالة أصيلة، وهي بذلك تعزز التنافسية الاجتماعية بين فئات المجتمع، كما هو واضح في لوحة بعنوان سباق الهجن  للفنان (خالد العويس من إنتاج 1989م).

وفي وصف عمق شعور الإبل بالإنسان يُقال: إن الابل تهتز للغناء وتأخذها نشوة عجيبة يُستغرب وجودها في الحيوان، ولولا أنني شاهدت هذا الشيء وعرفته أيام كانت لي على ظهورها أطوار وأدوار لما صدقت. فمثلاً يأخذ السرى من الركب مأخذه، وتتراقص أعنقهم على ظهور المطي نعاساً، ثم ينفرط عقد الركب، ويتباعد ما بين حباته ثم يمد أحدهم صوته مغنياً فيجاوبه آخر وآخرون، وسرعان ما تجد هذه الإبل المنبثة هنا وهناك تأرز إلى هذا الصوت، وتسيل أعناقها نحوه، شاء راكبوها أم أبوا حتى تلتئم وقد تلامست جنوب هذه الإبل ودنا كلٌّ من صاحبه ليشعر أنه فوق سفينه يحركها النسيم (بن خميس، 1982).


لوحة (11)

جسدت الفنانة فاطمة المحسن في( لوحة11) بعنوان (بث تجريبي من المستقبل) من إنتاج سنة 2018م هذه الحالة من الطرب التي تعتري الجِمال، حيث صوّرت جملاً يشارك راقصة بالية في مزيج غير معتاد بين ثقافتين، يعبّر كل عنصر في اللوحة عن ثقافة ما و تظهر الفتاة بزي الرقص وشعرها الأشقر المسرّح، بينما نقوش محلية على جسد الجمل، هذا التجسيد للمعاصرة يحيلنا  إلى مفهوم التثاقف وهي عملية تبادل عناصر الثقافة أثناء التقاء ثقافتين لا تمت إحداهما للأخرى بصلة  ورغم أن التثاقف يتمثّل تحديداً في تبنّي الممارسات الثقافية إلا أن هذا العمل يتوقف عند عرض التقاء الثقافات وكأنها في محفل ثقافي يمثّل الجمل فيها انتماءه.

وبهذا نتلمّس العلاقة المتينة بين الإنسان السعودي والإبل، فهي ليست مجرد علاقة إنسان بحيوان بل علاقة تبادلية تقوم على الطاعة والإخلاص والوفاء، ولعل قصة ناقة ابن ضويحي التي باعها ثم عادت له بعد أشهر قاطعة مسافة طويلة بحثاً عن صاحبها السابق ومنزله شاهد على وفاء هذا المخلوق. كما تُعطي الإبل الوجاهة الاجتماعية لصاحبها فينظر لها كمعيار لتقييم الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها الشخص، فيرتفع صيت الرجل بقدر ما يملك منها ويرتفع قدر المرأة كلما زاد عدد رؤوس الإبل في مهرها.

5- البرقع: الحكايا التي لم تُروَ:

عُرف البرقع على أنه غطاء للوجه تظهر منه العينان، وقد عم استعماله في معظم البلدان العربية وتعددت ألوانه وأشكاله وأساليب زخرفته (البسام وصدقي، 304، 1999).  ويمكن ملاحظة أن غطاء الوجه والرأس بشكل عام والبرقع بشكل خاص قد تأثر  بالتحولات المعاصرة،  وطرأ على شكله الخارجي تغييرات بسيطة لا تلغي جوهره وغايته، بخلاف تنوّع شكله تبعاً  للنطاق الجغرافي/ الثقافي، وبالعودة إلى أعمال الفن التشكيلي ومجموعة القصائد نجده متجسداً بشكله التقليدي وروحه الأصيلة.


لوحة (12)

يحمل البرقع الذي تضعه المرأة على وجهها أبعاداً في دلالاته الرمزية، فنجده يشير ببعده الديني إلى الغاية الشرعية، وهي إسدال المرأة الغطاء على الوجه اتباعاً للأمر الرباني والتوجيه الإلهي في القرآن الكريم، أما عن دلالة البرقع في البعد الاجتماعي فقد تميزت به النساء، حيت تتميز نساء كل قبيلة بشكل البرقع الخاص بها والخامات المصنوعة منه وأسلوب التطريز، وهو ما يميّزها عن نساء القبيلة الأخرى.  وفي الوقت الحالي يمكن النظر إلى البرقع في بعدٍ ثقافي، حيث يشير إلى الأصولية والعودة إلى التراث.

لقد كان الحجاب بشكل عام موضوعاً للشعر ،وليس البرقع على وجه الخصوص، مثل القصيدة الشهيرة  للشاعر مسكين الدارمي التي قال فيها:

قل للمليحة في الخمار الأسودِ

ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبّدِ

قد كان شمّر للصلاة إزاره

حتى قعدتِ له بباب المسجدِ

ردّي عليه صلاته وصيامه

لا تقتليه بحق دين محمدِ  <span class="tooltip">(21)<span class="tooltiptext"> الديوان، العصر الأموي، أعمال الشاعر مسكين الدارمي.</span></span>

وقد اختلفت أساليب ارتداء غطاء الوجه عند العرب والبدو في الجزيرة العربية، كما اختلفت أسماؤه، بين الشيلة والبرقع واللثام والنقاب،  ولعل أشهر الأبيات المعاصرة التي نظمها الشاعر خالد الفيصل:

ماهقيت أن البراقع يفتنّني

الين شفت ضبا النفود مبرقعاتي

من لحظني بس أهوجس به وأوني

ما تركني هاجسي لو بالصلاة <span class="tooltip">(22)<span class="tooltiptext"> المكتبة الرقمية التفاعلية للشاعر خالد الفيصل، القصائد الشعرية.</span></span>


لوحة (١٣)


لوحة (١٤)


A picture containing decoratedDescription automatically generated
لوحة (١٥)

ويقول الشاعر الشعبي سعيد بن مانع:

البراقع عمرها ما غطت القلب وحنينه

والليالي عمرها ما غطت بروق السحايب <span class="tooltip">(23)<span class="tooltiptext"> شبكة البراري، الشعر، أبيات لشاعر سعيد بن مانع.</span></span>

أثناء دراسة البرقع كرمز ثقافي واجهنا تحدياً في الوصول إلى القصائد التي تتضمن هذا الموضوع في الشعر الشعبي، وبالمجمل هناك تحدٍّ كبير في هذه المسألة، وهو توثيق الثقافة الشعبية بأسلوب منهجي يسهل على الباحث أو الدارس الوصول إلى وحدة التحليل، ذلك أنها حتى وإن وُثّقت فهي لم تصنّف وفق موضوعات، مما يتطلب التنقيب في الشعراء والقصائد، وهو ما أوصلنا إلى مجموعة من الأبيات المتناثرة التي لم يُعرف قائلها:

الحلا اللي من ورى البرقع تخبى

من يلومك لا بغيتي تسترينه

***

يا لابس البرقع على المهل برفوق

ارفق على قلبي تراني معنّى

وبالنظر إلى الفنون السعودية نلمح غزارة الأعمال الفنية التي عبّرت عن غطاء الوجه بشكل عام والبرقع بشكل خاص كرمز اجتماعي ثقافي، خصوصاً دأب الفنانين المتواصل في التعبير عن التراث والثقافة المحلية سواء في الخطاب البصري والشفهي؛ مما أسهم بشكل كبير في توثيق الهوية المحلية.

أخيراً، يمكننا القول أنه بالإمكان دراسة الفن السعودي خارج إطار التقييم الجمالي، وتفسير الفن خارج إطار الجماليات وهذا ما أكده هيبو ليت تاين أن الفن والأدب يتغيّران تبعاً للأعراق والبيئة والزمن التي ينشآن فيها وهو مايؤكد على ضرورة معرفة السياق والمناخ الأخلاقي وصورة العادات والعقلية السائدة في المجتمع في تلك الآونة والتي تحدد العمل الفني (ابينيك،2011). كما يمكن القول أن الرمز شيء اجتماعي، ولكن ليس كل شيء اجتماعي رمزاً، فيمكن استخدام الزهور في تحضير العقاقير أو تحضير الطعام أو في الزينة أو للشم، ولكن بالإمكان تحويلها إلى رمز، وتقديمها إلى من نحب للتعبير عن المشاعر، كذلك الحمام يمكن النظر إليه كمصدر من مصادر اللهو والتسلية ،أو كطعام فاخر، أو كوسيلة لبعض الرسائل، أو كرمز للسلام، ويقاس على ذلك أشياء كثيرة، وهذه الرموز تستمد معانيها من خلال تعامل أفراد المجتمع معها، هذا التفاعل هو الذي يولّد الرموز، ويضفي عليها المعاني، ويعمل على تغييرها أو استبدالها بغيرها (الصويان، 2013).

إذن فإن السياق الاجتماعي والثقافي الذي يحيط بالرموز يلعب دوراً كبيراً في تشكّله وبقائهِ، وهنا نلفت النظر إلى أهمية التوثيق لتاريخ الفنون السعودية، وإعادة صياغة سردية تاريخ الفن السعودي بأسلوب موضوعي ممنهج؛ ليكون مادة خامًا للدراسة والنقد والتحليل.

المراجع والمصادر

الكتب والأبحاث:

أبو زيد ، أحمد (1985) الرمز والأسطورة والبناء الاجتماعي. المجلس الوطني للثقافة والفنون الآداب.

اينيك، نتالي (2011) سوسيولوحيا الفن. مركز دراسات الوحدة العربية.بيروت

بادويس، سعيد. (2010). نكهة الموت المصفى. الطبعة الأولى.

البسام، ليلى و صدقي (1999) منى "تشابه الملابس النسائية الشعبية في الوطن العربي" مؤتمر آفاق الاقتصاد المنزلي وتحديات القرن الواحد والعشرون في حماية البية وتنمية المجتمع، كلية الزراعة، جامعة الاسكندرية.

بوحوش، محمد (2016) هاجس التجاوز والتحديث في الشعر السعودي المعاصر: محمد خضر أنموذجاً. مجلة المسار.

الحشاش، عبدالكريم (2010) تطبيع الإبل. أرشيف الثقافة الشعبية للدراسات والبحوث

الزيدان، عبدالله (1997) الإبل في حياة الرولة. دارة الملك عبدالعزيز.

ستيفنسن، باري. (2021).الطقوس. كلمة. أبو ظبي

السليمان، عبدالرحمن. (2018) تشكيل. دار الفيصل الثقافية. الرياض.

الصحيح، جاسم (2003). نحيب الأبجدية. مطبوعات نادي الطائف الأدبي.

الصحيح، جاسم (2020) .تضاريس الهذيان. دار تشكيل للنشر والتوزيع. الرياض.

الصويان، سعد (2000).الشعر النبطي وجذوره الفصيحة دراسة تاريخية لغوية مقارنة. الرياض

الصويان، سعد. (2013).ملحمة التطور البشري. مدارك. دبي.

كودون، أي جي ، (1979) الرمز والرمزية. قاموس مكتبة تيرمس. لندن.

موزل، أليوس. (1944). الإبل في حياة الرولة. دارة الملك عبدالعزيز. الرياض.

هارينغتون، أوستن (2014) الفن والنظرية الاجتماعية. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت

الهواوشة، محمد (2018) تحليل الخطاب الشعري. العلوم الإنسانية والاجتماعية. العدد2

يعقوب، محمد. (2019). مقام نسيان. الانتشار العربي. لبنان.

المراجع الالكترونية:

موسوعة الأدب العربي

جريدة الرياض

الموقع الرسمي لقبيلة الدواسر

صحيفة الجزيرة العدد 12460

موقع الديوان ، العصر الأموي

المكتبة الرقمية التفاعلية للشاعر خالد الفيصل

شبكة البراري

موقع الشعر العربي

اطّلع على منشورات أخرى

تم تسجيلك .. ترقب ضوء معرفة مختلفة!
عذرًا، أعد المحاولة